Site icon فريق اللاهوت الدفاعي

بضعة اعتراضات – سي إس لويس

بضعة اعتراضات – سي إس لويس

بضعة اعتراضات – سي إس لويس

بضعة اعتراضات – سي إس لويس

هذه المقالة هي جزء من كتاب “المسيحية المجردة” لسي أس لويس، ولقراءة كل مقالات الكتاب مفرغة على موقع فريق اللاهوت الدفاعي فإضغط هنا:http://goo.gl/hy23Rm ولقراءة المقالة السابقة إضغط هنا: http://www.difa3iat.com/31113.html/

ما دامت تلك الحقيقتان هما الأساس، فخيرٌ لي أن أتمهل قليلاً لترسيخ هذا الأساس قبل متابعة الموضوع. فإن بعض الرسائل التي تلقيتُها تبين أن عدداً كبيراً من الناس يستصعبون فهم ماهية قانون الطبيعة البشرية هذا، أو القانون الخُلقي، أو قانون السلوك اللائق، فهماً صحيحاً.

مثلاً، كتب بعضُهم إليّ قائلين: “أليس ما تدعوه القانون الخلقي هو الغريزة التي تدعونا للانخراط في جماعة ما؟ أو لم تتطور غريزتنا هذه كغيرها من غرائزنا الأخرى تماما؟” إنني لا أنكر أنه قد تكون لدينا غريزة اجتماعية. ولكنها ليس ما أقصده القانون الخلقي. فنحن جميعاً نعرف حقيقة الشعور بحفز الغريزة: محبة الأم، أو الغريزة الجنسية، أو غريزة طلب الطعام. فمعنى ذلك أننا نشعر برغبة أو ميل شديدين للتصرف بطريقة معينة. وبالطبع أننا نشعر أحيانً شعوراً قوياً بذلك النوع من الرغبة في مساعدة شخص آخر؛ وما من شك في أن تلك الرغبة ناشئة من الغريزة الاجتماعية.

غير أن الشعور برغبة في المساعدة يختلف عن الشعور بوجوب المساعدة، سواءً أردت أم لم تُرد. افترض أنك سمعت استغاثة من انسان في خطر. فمن المحتمل أن تشعر برغبتين: أحداهما الرغبة في المساعدة (بدافع من الغريزة الاجتماعية)، والأخرى رغبة في الابتعاد عن الخطر (بدافع من غريزة حماية الذات). إلاّ أنك ستجد في داخلك، فضلاً عن هذين الحافزين، شيئاً ثالثاً يقول لك إن عليك تلبية الرغبة في المساعدة وتنحية الرغبة في التهرب. فهذا الشيء الذي يحكم بين غريزتين والذي يقرر أيهما يجب أن يُشجع، لا يمكن هو ذاته أن يكون أيّاً منهما.

وفي وسعك أيضاً أن تقول إنّ ورقة اللحن التي تقول لك في لحظة محدّدة أن تعزف نغمة معينة على البيانو دون غيرها هي نفسها إحدى النغمات على لوحة المفاتيح. فالقانون الخلقي يقول لنا أي نغم تعزف. أما غرائزنا فلا تعدو كونها المفاتيح.

وهناك طريقة أخرى للتيقُن بأن القانون الخُلقي ليس مجرد واحدة من غرائزنا. إذا تضاربت غريزتان، ولم يكن في ذهن المخلوق أيُّ شيء سوى هاتين الغريزتين، فبديهي أن الغريزة الأقوى بين الاثنتين يجب أن تسود. ولكن في تلك اللحظات التي فيها نكون أكثر وعياً للقانون الخلقي، يبدو عادة أنه يُملي علينا مسايرة أضعف الحافزين. فمن المحتمل أنك ترغب في السلامة أكثر بكثير من الرغبة في مساعد من يغرق، إلاّ أن القانون الخُلقي يقول لك إن عليك أن تساعده رغم ذلك.

ومن المؤكد أنه غالباً ما يقول لنا ان نحاول جعل الحافز الصحيح أقوى مما هو بطبيعة الحال! أعني أننا غالباً ما نشعر بأن من واجبنا حفز الغريزة الاجتماعية، بإيقاظ تخيلاتنا وحثّ إشفاقنا وما إلى ذلك، بحيث يكون لدينا وقود كاف للقيام بالأمر الصائب. ولكن من الواضح أننا لا نتصرف بدافع الغريزة حين نُصمم أن نجعل غريزة ما أقوى مما هي فعلاً. فالشيء الذي يقول لك: “إن غريزتك الاجتماعية في سُبات، فأيقظها!” لا يمكن أن يكون هو بعينه الغريزة الاجتماعية. كما أن الشيء الذي يقول لك أيّ نغم في البيانو يجب أن يُعزف أعلى لا يمكن أن يكون هو نفسه ذلك النغم.

وإليك طريقة ثالثة لإدراك الأمر. لو كان القانون الخُلقي واحدة من غرائزنا، لكان ينبغي لنا أن نكون قادرين على الإشارة إلى حافز ما في داخلنا يبقى دائماً ما ندعوه “الخير” أو “الصواب” متناغماً كل حين مع قاعدة السلوك السويّ. ولكننا غير قادرين على ذلك. فليس بين غرائزنا واحدة لا يمكن للقانون الخُلقي أحياناً أن يطلب منا قمعها، ولا واحدة لا يمكن له أحياناً أن يطلب منا تنشيطها. وإنها لغلطة أن نعتقد أن بعضاً من حوافزنا، كمحبة الأم أو حُب الوطن مثلاً، صالحة بعضاً منها، كغريزة الجنس أو الدفاع عن النفس، سيئة.

فكل ما نعنيه هو أن المناسبات التي فيها ينبغي كبح غريزة الدفاع الداعية إل كبح محبة الأم أو حب الوطن. غير أن هناك أوضاعاً يكون فيها من واجب الرجل المتزوج أن ينشط حافزة الجنسي ومن واجب الجندي أن يحفز غريزته القتالية. وهناك أيضاً مناسبات فيه ينبغي كبح محبة الأم لأولادها، أو محبة الإنسان لوطنه، وإلاّ أدّتا إلى الإجحاف بحق أولاد الآخرين أو أوطانهم. فبالمعنى الحصريّ، ليس هناك حوافز صالحة أو سيئة بصورة ثابته.

ولنفكر مرة أخرى في البيانو، فليس فيه نوعان من النغمات، “صالحة” و”سيئة”، بل إن كلّ نغمة بمفردها تكون صائبة مرة وخاطئة مرة أخرى. وليس القانون الخُلقي غريزة واحدة أو مجموعة غرائز بل هو شيء يُوجد نوعاً من النغم (النغم الذي ندعوه الخير أو السلوك السليم) بواسطة توجيه الغرائز توجيهاً صحيحاً.

وعلى فكرة، هذه النقطة ذات نتائج عمليّة عظيمة. فأخطر شيء قد تفعله هو أن تأخذ أي حافز من حوافز طبيعتك الخاصة وتُقيمه على أنه الأمر الذي ينبغي أن تخضع له وتتبعه مهما كان الثمن. فليس بين غرائزنا أيّة غريزة واحدة لن تُحيلنا شياطين إذا نصّبناها على أنها مرشدتنا المطلقة. ولعلك تحسب أن حب الإنسانية مأمون على وجه العموم، غير أنه ليس كذلك. فإذا اسقطت العدل والإنصاف، فستُلفي نفسك حتماً ناقضاً للاتفاقيات ومزوراً للبينات في المُحاكمات “حُبّاً بالإنسانية”، وتصير في نهاية المطاف إنساناً قاسياً وغادراً.

وقد كتب إليّ آخرون يقولون: “أليس ما تدعوه القانون الخُلقي مجرد عُرف اجتماعي، شيئاً نكتسبه من طريق التربية؟” فأظن أن ها هنا سوء فهم. إذ إن أولئك الذين يطرحون هذا السؤال يُسلمون بداهة في العادة بأنه إذا تعلّمنا أمراً من أهلنا ومعلُمينا فلا بد إذاً أن يكون ذلك الأمر مجرد اختراع بسري. إلاّ أن واقع الحال هو خلاف هذا طبعاً. فجميعنا تعلّمنا جدول الضرب في المدارس. والولد الذي نشأ وحده في جزيرة مقفرة لن يعرفه.

ولكن المؤكد أنه لا يترتب على ذلك أن جدول الضرب مجرد عرف بشري، شيء اصطنعه البشر لأنفسهم وكان يمكن أن يجعلوه مختلفاً لو شاءوا! فأنا أوافق تمامً على أننا نتعلم قواعد السلوك السوي من الوالدين والمعلمين، والأصدقاء والكتب، مثلما نتعلم أيّ أمر آخر. ولكن بعض الأمور التي نتعلمها هي مجرد أعراف أو اصطلاحات كان يمكن أن تكون مختلفة (فكثيرون مثلاً يتعلّمون التزام الجهة اليُمنى من الطريق، ولكن كان يمكن أيضاً أن تكون القاعدة التزام الجهة اليسرى كما في بعض البلدان) في حين أن بعض الأمور الأخرى التي نتعلمها، كالحساب أو الرياضيات، هي حقائق. إنما المسألة هي: إلى أية فئة ينتمي قانون الطبيعة الإنسانية؟

لدينا سببان للقول إنه ينتمي إلى الفئة التي تنتمي إليها الرياضيات. أما أول السببين، كما قلت في الفصل الأول، فهو وجود اختلافات بين المفاهيم الأخلاقية في زمان ما وبلد ما وتلك التي في زمان وبلد آخرين، إنما الفوارق ليست كبيرة بالحقيقة (أو على الأقل ليست كبيرة كما يتصور معظم الناس)، ويمكنك أن تُميّز القانون عينه سارياً بينها جميعاً؛ في حين أن الأعراف أو الاصطلاحات المجردة، كقانون السّير وصنف الثياب التي يلبسها الناس، قد تختلف إلى أي حد.

وأما السبب الثاني، فهو هذا: عندما تفكّر في هذه الاختلافات بين أخلاقيات شعب وأخلاقيات شعب آخر، فهل تحسب أن أخلاقيات شعب بعينه أفضل أو أسوأ من أخلاقيات شعب آخر؟ أو لم يكن أي من التغييرات تحسيناً؟ إن كان لا، فلا يمكن عندئذ طبعاً حصول أي تَرق خُلقي. فالترقي لا يعني مجرد التغيير، بل التغيير نحو الأفضل. ولو لم تكن مجموعة من المفاهيم الخُلقية أصح أو أحسن من أية مجموعة سواها، ما كان معنى لتفضيل أخلاقيات التمدن على أخلاقيات التوحش، أو الأخلاقيات المسيحية على الأخلاقيات النازية.

وفي الحقيقة طبعاً أننا جميعاً نؤمن أن بعض الأخلاقيات أفضل من غيرها. ونحن نعتقد حقاً أن بعض الأشخاص الذين حاولوا تغيير المفاهيم الخُلقية في عصرهم كانوا ما يمكن أن ندعوه مُصلحين أو روّاداً، أشخاصاً فهموا النظام الخُلقي بشكل أفضل مما فهمه معاصروهم. حسن جداً إذاً، فحالما تقول إن مجموعة من المفاهيم الخُلقية يمكن أن تكون أفضل من أخرى، تكون في الواقع مُخضعاً كلتيهما لمعيار ما، وقائلاً إن احداهما توافق ذلك المعيار على نحو أقرب مما توافقه الأخرى. غير أن المعيار الذي به يُقاس شيئان هو شيء مختلف عن كلتا المجموعتين.

فأنت إنما تقارن المجموعتين كلتيهما في الواقع بنظام خلقي حقيقي مُقراً بأن هنالك ما هو صواب حقيقي بصرف النظر عمّا يعتقده الناس، وأن بعضاً من مفاهيم الناس أقرب من سواها إلى ذلك الصواب الحقيقي. أو لنُعبر عن ذلك بهذه الطريقة: إذا كان ممكناً أن تكون مفاهيمك الخُلقية أصح، ومفاهيم النازيين الخلقية أقل صحة، فلابد من وجود شيء ما، نظام خُلقي من نوع ما، حتى تُقارن صحتهما به. فالسبب الذي من أجله يمكن أن تكون فكرتك عن نيويورك أصح أو أقل صحة من فكرت عنها إنما هو وجود نيويورك في مكان فعليّ، قائمة بمعزل عما يفكر فيه كلانا تماماً.

وإذا كان ما يعنيه كلانا حين يقول “نيويورك” مجرد “المدينة التي أتصورها في ذهني الخاص”، فكيف يُعقل أن يكون واحدٌ منا حائزاً أفكاراً أصح من أفكار الآخر؟ عندئذ لا تقوم أبداً مسألة الحق أو الباطل. وعلى المنوال عينه، إذا كان القانون السلوك السليم يعني ببساطة “أي أمر يصدف أن تقره كل أمة”، فلا يكون أيّ معنى للقول إن أمة بعينها كانت أقرب إلى الصحة فيما تٌقره من أية أمة أخرى، ولا يكون كذلك أيضاً أي معنى للقول إنه يمكن للعالم على الإطلاق أن يصير أفضل أو أسوأ على الصعيد الأخلاقي.

وهكذا أخلص إلى القول إنه وإن كان الاختلاف بين مفاهيم الناس فيما يتعلق بالسلوك اللائق يحملك غالباً على الظن بعدم وجود قانون سلوك طبيعي حقيقي إطلاقاً، فإن الأمور التي لا بد لنا من التفكير فيها من جهة تلك الفروقات تُثبت العكس تماماً رغم كل شيء. إنما أقول كلمة واحدة قبل الختام. لقد قابلت أشخاصاً يُضخمون الفروقات، لأنهم لم يميزوا بين فوارق الأخلاقيات وفوارق الاعتقادات بشأن الحقائق.

فإن رجلاً قال لي، مثلاً: “قبل ثلاث مئة سنة كان الناس في إنكلترا يُعدمون الساحرات، فهل كان ذلك ما تدعوه قانون الطبيعة الإنسانية أو السلوك السويّ؟” ولكن المؤكد أن سبب عدم إعدامنا نحن للساحرات هو كوننا لا نعتقد وجود ساحرات فعلاً. ولو كنا نعتقد ذلك، لو كنا حقاً نحسب أن هنالك قوماً طوّافين قد باعوا أنفسهم لإبليس فآتاهم قوات خارقة مقابل ذلك فمضوا يقتلون جيرانهم أو يدفعونهم إلى الجنون أو يتسببون بسوء الأحوال الجوية، لاتفقنا كلنا حتماً على أن أولئك الدجالين الأردياء يستحقون عقوبة الإعدام، إن كان ثمة من يستحقها! وليس ها هنا اختلاف في المبدأ الخلقي، بل إنما الاختلاف هو حول واقع الحال.

ولربما كان في عدم تصديق وجود الساحرات تقدم عظيم في مجال المعرفة. إنما ليس من تقدم خُلقي في عدم إعدامهن عندما تعتقد فعلاً أنهن موجودات. فأنت لا تدعو إنساناً “رقيق القلب” لأنه كف عن نصب أفخاخ للفئران إذا كان قد فعل ذلك لأنه كان يعتقد جازماً أن ليس في بيته فئران!

وإلى المقال التالي: حقيقة القانون – سي إس لويس

بضعة اعتراضات – سي إس لويس

Exit mobile version