قانون الطبيعة الإنسانية – سي إس لويس
قانون الطبيعة الإنسانية – سي إس لويس
هذه المقالة هي جزء من كتاب “المسيحية المجردة” لسي أس لويس، ولقراءة كل مقالات الكتاب مفرغة على موقع فريق اللاهوت الدفاعي فإضغط هنا:http://goo.gl/hy23Rm وللإنتقال للمقالة التالية، إضغط هنا: http://www.difa3iat.com/31115.html
لا شك أنّنا كلنا سمعنا ناساً يتخاصمون. وأحيانً يبدو ذلك سخيفاً، وفي أحيان أُخرى مُزعجاً جداً. ولكن كيفما بدا الأمر، أعتقد أننا نتعلّم شيئاً بالغ الأهمية من الإصغاء إلى الأمور التي يقولونها. فهم يقولون أقوالاً كهذه: “ماذا يكون وقع الأمر عليك لو عاملك أي إنسان بالمثل؟” “دعه وشأنه، إنه لا يسبّب لك أيّ أذى!” “ماذا ينبغي لك أن تندفع للجلوس قبل غيرك؟” “أعطني جزءاً من برتقالتك، فأنا أعطيتك جزءاً من برتقالتي!” “هيّا، فأنت وعدتَ بهذا!” إن الناس يقولون أقوالاً كهذه كل يوم، سواء كانوا متعلّمين أو أُميّين، كباراً أو صغاراً.
ولكن ما يعنيني بشأن هذه الأقوال هو أنّ الشخص الذي يقولها لا يعني فقط أنّ تصرف الشخص الآخر لا يرضيه فعلاً، بل ينطلق أيضاً من معيار للسلوك يتوقّع من الآخر أن يعلم به. ثمّ إن الشخص الآخر نادراً جداً ما يجيب: “تباً لمعيارك!” بل إنه في كل حين تقريباً يحاول أن يُبين أن ما كان يفعله لا يخالف المعيار حقاً، أو إذا خالفه فلعذر خاص.
فهو يزعم أنّ في هذه الحالة المعينة سبباً خاصاً يضطر من احتل المقد أولاً إلى التخلي عنه، أو أنّ الأمور كانت مختلفة تماماً لما أُعطي جزءاً من البرتقالة، أو أنّ أمراً طارئاً يحول دون وفائه بوعده. وبالحقيقة، يبدو على أكثر ترجيح كما لو كان في ذهن كلا الطرفين قانون ما، أو قاعدة إنصافٍ أو سلوك لائق أو مفهوم أخلاقي، أو ما شئت أن تسميه، توافقا عليه فعلاً. وهما توافقا بالفعل، ولو كان غير ذلك، لتقاتلا كالوحوش، إنّما لم يكن في إمكانهما أن يتخاصما، بالمعنى البشري للكلمة. فالخصام معناه محاولة إثباتك أن الشخص الآخر على خطأ.
ولن يكون لذلك أيً معنى إلا إذا كنتما، أنت وهو، على توافقٍ ما بشأن ماهيّة الصواب والخطأ؛ تماماً كما لا يكون أيُّ معنى لقولك إن لاعب كرة قدم قد ارتكب خطأ، إلاّ إذا تواجد توافق ما على قواعد لعبة كرة القدم.
وقد درج الناس على تسمية ذلك القانون أو تلك القاعدة بشأن الصواب والخطأ “قانون الطبيعة”. أما اليوم، فعندما نتكلّم عن “قوانين الطبيعة” نعني عادة أموراً مثل الجاذبية أو الوراثة أو قوانين الكيمياء. ولكن لما دعا المفكّرون الأقدمون الصواب والخطأ “قانون الطبيعة”، فإنما قصدوا في الحقيقة قانون الطبيعة الإنسانية.
وكانت الفكرة أنه كما يتحكّم قانون الجاذبية بجميع الأجسام، والقوانين البيولوجية بالكائنات الحية، فكذلك تماماً للمخلوق المسمى إنساناً قانونه الخاصّ؛ ما عدا هذا الفرق الأساسي: أنّ الجسم لا يستطيع أن يختار خضوعه لقانون الجاذبية أو عدم خضوعه له، ولكن الإنسان يستطيع أن يختار إما الخضوع لقانون الطبيعة الإنسانية وإما عدم الخضوع له.
وفي وسعنا التعبير عن ذلك بطريقة أخرى. إن كل إنسان، في كلّ لحظة، مُخضع لبضعة قوانين مختلفة، ولكن بين هذه القوانين واحداً فقط له الحرية بألا يخضع له. فمن حيث كونه جسماً، هو مُخضع للجاذبية ولا يستطيع ألا يخضع لها: فإن تركته بلا سند في قلب الهواء، لا يكون له أيُّ خيار في أمر السقوط، مَثَله مَثَلُ الحجر تماماً. ومن حيث كونُه كائناً حيّاً، هو مُخضَعٌ لقوانين بيولوجيّة شتّى لا يمكنه ألاّ يخضع لها، مَثلُه مثل الحيوان تماماً. ذلك أنّ القانون المقتصر على طبيعته الإنسانية، القانون الذي لا يتشارك فيه مع الحيوان أو النبات أو الأشياء غير العُضوية، هو القانون الذي يستطيع عدم الخضوع له إذا أراد.
وقد دُعي ذلك القانون “قانون الطبيعة” لأنّ الناس اعتقدوا أنّ كل امرئ يعرفه بالطبيعة ولا داعي لتعليمه إياه. وهم لم يقصدوا بالطبع أنّه لا يمكن أن تجد فرداً غريباً هنا أو هناك لا يعرف ذلك القانون، تماماً كما تجد قلّة من الناس مصابين بعمى الألوان أو غير قادرين على التمييز بين الألحان. ولكن بالنظر إلى الجنس البشري عموماً، اعتقدوا أن الفكرة البشرية بشأن السلوك اللائق بديهية لدى الجميع. وفي يقيني أنهم كانوا على حق.
ولو لم يكون، فعندئذٍ يكون كلُّ ما قلناه عن الحرب عديم المعنى. فأي معنى يكون للقول إنّ العدو على خطأ إلا إذا كان الصواب أمراً حقيقياً يعرفه النازيون جوهرياً كما نعرفه نحن البريطانيين تماماً، وكان ينبغي أن يعملوا به؟ ولم لم يكن لديهم أدنى فكرة عما نعنيه نحن بالصواب لما كنّا نلومهم على سلوكهم أكثر من لومنا لهم على لون شعرهم، مع أنن ربما اضطُررنا لمحاربتهم على كل حال.
في علمي أن بعض الناس يقولون إنّ فكرة قانون الطبيعة أو السلوك اللائق، تلك المعروفة عند جميع البشر، ليست سليمة. وذلك لأن الحضارات المختلفة والعصور المختلفة كانت لديهم نُظم أخلاقية مختلفة.
ولكن ذلك غير صحيح. فلطالما وجدت اختلافات بين أخلاقيات البشر، ولكنّها لم تبلغ حدّ الاختلاف الكلي قط. فإذا تكلف امرؤ مشقة المقارنة بين التعاليم الأخلاقية، مثلاً، عند قُدامى المصريين والبابليين والهندوسيين والصينيين واليونانيين والرومانيين، فإن ما يستوقفه حقاً هو كيفية مشابهة تلك الأخلاقيات بعضها لبعض ولأخلاقياتنا نحن.
وقد أشرت في ملحق كتاب آخر عنوانه “إبطال الإنسان” (The Abolition of Man) إلى جملة من البيّنات المؤكدة لهذا الواقع، إلاّ أنني هنا اكتفي بأن أطلب من القارئ التفكير بما قد يعنيه نظام أخلاقي مختلف كلياً: فكر في بلد يُمتدح فيه الناس لفرارهم من ساحة المعركة، أو يشعر المرء فيه بالفخر والخيلاء لخيانة جميع الذين عاملوه ألطف معاملة. ولك كذلك أيضاً أن تُفكر في بلد يكون فيه حاصل جمع اثنين مع اثنين خمسة. فقد اختلف الناس في تحديد مَن ينبغي لك أن تعاملهم معاملة غير أنانيّة: عائلتك الخاصة أو إخوانك المواطنون أو الناس أجمعون.
غير أنهم توافقوا دائماً على أنه ينبغي لك ألاّ تضع نفسك في المقام الأول. فالأنانية لم تُمتدح يوماً. وكذلك اختلف الناس فيما يخصُ كم زوجة ينبغي أن يتزوّج الرجل، واحدة أو أكثر، غير أنهم توافقوا دائماً على أنه لا ينبغي للمرء أن يحوز أيّة امرأة جذبه إليها هواه.
غير أنّ الأمر اللافت للنظر حقاً هو هذا: كلّما وجدت إنساناً يقول إنه لا يؤمن بصواب وخطأ حقيقيين، فستجد ذلك الإنسان نفسه يتراجع عن هذا بعد هُنيهة. فهو قد ينقض وعده لك، ولكنّ إذا حاولت نقض وعدٍ وعدتُه به فإنه سيشتكي قائلاً: “ليس هذا من العدل والإنصاف!” قبل أن يُتاح لك قول كلمة واحدة. قد يقول أهل بلدٍ ما إن المعاهدات لا تهمّ، إنما لا تكاد تمضي دقيقتان حتّى يُفسدوا دعواهم وحديثهم بقولهم إنّ المعاهدة المعنّية التي يريدون نقضها معاهدة غير عادلة.
ولكن إذا كانت المعاهدات لا تهم، وإذا لم يكُن من شيء مثل الصواب والخطأ، وبعبارة أُخرى: إذا كان قانون الطبيعة غير موجود، فما الفرق بين معاهدة عادلة وأخرى غير عادلة؟ ألم يكشفوا حقيقة أمرهم ويُثبتوا أنهم مهما قالو فهم يعرفون قانون الطبيعة، مَثلُهم مَثل غيرهم تماماً؟
يبدو إذاً أننا مُرغمون على الإيمان بوجود معيار حقيقي للصواب والخطأ. وقد يكون الناس أحياناً مخطئين بشأنهما تماماً كما يغلط بعضهم في حساب الجمع. غير أنهما ليسا مجرد مسألة ذوق ورأي، مثلهما مثل جدول الضرب.
وإن كنا قد اتفقنا على هذه النقطة، أنتقل الآن إلى النقطة التالية، وهي هذه: ليس أحد منا يعمل حقاً بقانون الطبيعة. فإذا كان بينكم أيّةُ استثناءات، فإنني أعتذر إليهم. وخير لهم أن يقرأوا أيّ كتاب آخر، لأن أيّ شيء ممّا سأقوله لا يعنيهم. فها أنا الآن أتوجّه إلى الكائنات البشرية العادية أي إلى الباقين جميعاً:
أرجو ألاّ تُسيئوا فهم ما سأقوله. إنني لست أعظ، ويشهد الله أنني لا أتظاهر بكوني أفضل من أي شخص غيري فأنا إنما أحاول لفت أنظاركم إلى حقيقة واقعة، وهي أننا، هذه السنة أو هذا الشهر أو على الأرجح هذا اليوم، قد أخفقنا نحن أنفسنا في ممارسة نوع السلوك الذي نطلبه من غيرنا. وربما يتوافر لدينا كل نوع من الأعذار، ففي تلك المرة التي فيها قسوتِ على أولادكِ كنت مرهقة ومنهكة. وتلك العملية شبه المشبوهة التي أجريتها في مجال العمل والمال، تلك التي كدت تنساها، حصلت حين كنتَ في ضائقة مالية خانقة.
وما وعدت بأن تفعله للعجوز الفلاني ولكنك لم تفعله قط، ما كنت لِتَعد به قطعاً لو علمتَ كم سيكون انشغالك رهيباً. أما تصرفك مع زوجتك (أو تصرفك مع زوجك) أو أختك (أو أخيك)، فما كنت لأعجب منه لو علمت أي درجة من الاستفزاز قد يبلغون، وعلى كل حال، مَن أنا يا تُرى؟ أليس مثلي مثلكم تماماً؟ أعني أنني لا أنجح إلى التمام في مراعاة قانون الطبيعة. وحالما يقول لي أحد إنني لا أراعيه، يجول في ذهني خيطٌ من الأعذار بطول ذراع! والسؤال حالياً ليس عن كونها أعذاراً جيدة، بل بيت القصيد أنها برهان آخر على مدى العمق الذي به نؤمن بقانون الطبيعة، أحببنا ذلك أم كرهناه.
فإذا لم نكن نؤمن بالسلوك اللائق، فلماذا نهتم كثيراً بتقديم الأعذار عن سوء تصرفنا؟ إنما الحق أننا نؤمن بالاستقامة كثيراً، ونحسُّ حُكم القانون يلحُّ علينا كثيراً، حتى لا نُطيق مواجهة حقيقة كوننا مخالفين له، فنحاول تالياً إزاحة المسؤولية بعيداً عنا. فأنتم تلاحظون أننا من أجل سلوكنا السيئ وحده نقدم تلك التفسيرات كلها. وطبعنا السيئ فقط هو ما نسوّعه ونبرره بكوننا متعبين أو قلقين أو جائعين؛ أما طبعنا الحسن فنبقيه لأنفسنا.
هاكم إذاً النقطتين اللتين أردت تأكيدهما. الأولى أن لدى الكائنات البشرية، في أنحاء الأرض كلها، تلك الفكرة الفريدة بأن عليهم أن يتصرفوا بطريقة معنية، وليس في وسعهم حقاً التخلص من هذه الفكرة. والثانية أنهم بالحقيقة لا يتصرفون بتلك الطريقة. فهم يعرفون قانون الطبيعة، ويخالفونه. هاتان الحقيقتان هما أساس كل تفكير جليّ واضح في أنفسنا وفي العالم الذي نعيش فيه.
وإلى المقال التالي: بضعة اعتراضات