101 عام على المذابح الأرمنية وما بقى للأحفاد يرووه لنا
101 عام على المذابح الأرمنية وما بقى للأحفاد يرووه لنا
تدق أجراس الكنائس الأرمنية غدًا الجمعة، الرابع والعشرين من نيسان 2016، 101 مرة إحياءً لذكرى المجزرة التي ارتكبتها الدولة العثمانية بحق الأرمن في أعقاب الحرب العالمية الأولى.
حجم الخلاف المستمر منذ مئة عام على تسمية تلك الأحداث بين «الإبادة» و«تداعيات للحرب العالمية»، يعكس الخلاف في الأراء السياسية حولها. ففي الوقت الذي يتمسك به الأرمن بلفظة «الإبادة» لوصف أحداث قتل جماعية قضت على مليون ونصف شخص بحسبهم، يتمسك الأتراك بنفيهم للحدث معتبرينها «تبعات تراجيدية للحرب العالمية الأولى» بحسب وصف رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان في نيسان من العام الماضي، عندما قدم تعازيه وأسفه لأبناء الضحايا الأرمن. إلا أنّ أردوغان بدا أكثر عنفًا هذا العام تجاه مصطلح الإبادة، إذ وجهتهديدًا مباشرًا لمستخدميه في ذكرى المئوية، ونفذ تهديده باستدعاء سفير تركيا في الفاتيكان إثر تأكيد البابا فرانسسيس بإن ما حدث يرقى للإبادة.
من وجهة نظر الأتراك، لا تخرج حقيقة ما جرى عن سياق التطورات التي أدت للحرب العالمية الأولى، التي شكل معها الأرمن خطورة على وحدة أراضي الدولة العثمانية، في ظل وجود نشاطات انفصالية من قبل قوى أرمنية بدعم من روسيا ودول التحالف، بحسب ما جاء في كتاب تهجير الأرمن 2014-2018، الذي لا ينفي صدور أمر حكومي عثماني بتهجير الأرمن من بعض المناطق.
أما الأرمن، ممن نجوا من المجزرة يصفون ربيع 1915، بأنه محاولة إبادة لهم، أعدم فيها الجيش العثماني الرجال ودفع النساء والأطفال والعاجزين من الرجال باتجاه الصحراء السورية فيما سمي بـ«مسيرات الموت»، دون مأكل أو مشرب، مع مطاردات لهم تسببت بمزيد من الضحايا، ليصل الآلاف منهم إلى سوريا ولبنان، ومن هناك رحل بعضهم للأردن وفلسطين خلال موسم الحج المسيحي.
في الأردن، يقدر الأب في الكنيسة الأرمنية هايكازون يغيايان أعداد الأرمن حاليًا بنحو 5000 أرمني في مختلف مناطق المملكة، تعيش 50-60 عائلة منهم في حي الأرمن في الأشرفية بعمان، حيث تقع كنيسة الأرمن الكاثوليك.
يروي العديد من الأرمنيين القاطنين في مناطق مختلفة من عمّان، وهم من الجيل الثالث للمذبحة، قصة أجدادهم أو أبائهم الذين نجوا ونجحوا في الوصول لسوريا ومنها لدول أخرى. بعضهم عاد لأرمينيا ليتعرف على بلده ويتعمق في تاريخه أكثر، وآخرون بقوا في عمان، يتكلمون الأرمنية ويحاولون الحفاظ على هويتهم.
تصف مَرال نيرسسيان توثيق تاريخ الأرمن في الأردن بأنه «ضعيف» مقارنة بغيره من الدول التي يعيش بها الأرمن، معتبرة أن نسبة كبيرة من الأرمن في عمّان متعلّقون بمدنهم التي قتلوا وهجّروا منها، ويحرصون على حفظ التاريخ.
من روى قصة أجداده، رواها كما سمعها، وإن احتوت على فجوة في المعلومات أو عدم وضوح في بعضها، لكنه يتمسك بعبارة «هذا ما سمعناه» كي يوّرث القصة للجيل القادم.
رفض والد إليزابيث مارجيان أن يروي لأبنائه أي من القصص عن المجازر المرتكبة بحق الأرمن في تركيا، «عشان ما نزعل»، تقول إليزابيث ذات الـ 92 عامًا والمولودة في الكرك.
إليزابيث سمعت القصة من زوجها حنا آرتين، الذي كان رفيق والدها، ويكبرها بـ23 عامًا، ذلك أنه كان حريصًا على سرد القصة لها ولأبنائهم الثلاثة دائمًا. «بالليل، بالسهرة كان يضل يحكيلنا حكاية الأرمن، ويحكيلنا خلوها حلق بذانكم واحكوها لأولادكم عشان ما ينسوا»، تقول إليزابيث.
تصف إليزابيث زوجها بـ«الحوربجي»، إذ كان من الفدائيين الأرمن وقام بقتل جندي تركي عام 1915، فقبض عليه الفرنسيون في لواء الاسكندرون الذي كان تحت سيطرتهم حينها، وحكم عليه هو ورفيقه بالسجن لمدة 40 عامًا.
بعد فترة قصيرة من صدور الحكم، استطاع حنا آرتين ورفيقه الهرب من السجن، لكن الفرنسيين طاردوهما واستطاعوا اصابتهما، فقتل رفيقه بينما وقع هو أرضًا غارقًا بدمائه، حسبما تروي إليزابيث عن زوجها المتوفى.
نجح حنا آرتين في الهرب من الاسكندرون إلى الأردن عبر سوريا، حيث تزوّج إليزابيث، ابنة رفيقه، وهي في الـ19 من العمر بينما كان هو يفوق الـ42 عامًا، وعمل مع والدها كمزارع في الكرك، حيث كانت إليزابيث تساعدهما. «كنت ألبس المدرقة لما أنزل على الأرض، ولا شو أنزل بالفستان ويحكوا الأرمنية نازلة بالفستان؟».
إليزابيث تعلّمت الأرمنية من أبنائها، إذ أن عائلتها لم تكن تتحدث الأرمنية في المنزل بل التركية، ودرست هي في مدرسة داخلية في عين كارم تعلمت فيها اللغة الفرنسية. لكنّها بعد أن انتقلت مع زوجها وأبنائها إلى حي الأرمن في جبل الأشرفية في عمّان، درس أبناؤها في مدرسة «يوزبيشيان كولبينكيان» التي أنشأتها كنيسة الأرمن الكاثوليك في الحي بهدف تعليم اللغة والتاريخ والدين إلى جانب المناهج المقررة من وزراة التربية والتعليم.
توفي حنا آرتين في 1974، دون أن تحتفظ إليزابيث بصورٍ له، باستثناء واحدة معلقة على الحائط الرئيسي لمنزلها الكائن في حي الأرمن.
في غرفة جلوس مصممة على الطراز الأرمني، استضافتنا آني قراليان مع والدة زوجها تاكوهي بالنيان، لتروي كل منهما قصة رحيل عائلتها إثر مذبحة الأرمن عام 1915.
بلغة عربية غير متقنة، سردت تاكوهي قصة والدها مِهران، الذي خرج من مدينة إيرزروم شمال تركيا مع والدته وأخواته. وفي طريقهم إلى سوريا، ماتت الأم، فقاموا بدفنها أسفل شجرة توت في مشهد لن ينساه مِهران الذي كان يبلغ من العمر خمس سنوات آنذاك. «المشهد ما كان بروح من عين والدي، كل ما بحكي هاي السيرة وببكي»، تقول تاكوهي.
شقيقتا مِهران اللتان كانتا جميلتين جدًا، رمتا بنفسيهما في نهر الفرات خوفًا من الاغتصاب، حسبما روى مهران لابنته، وبذلك وصل وحيدًا إلى دار أيتام في حلب، حيث علم بمقتل والده وشقيقه على أيدي الأتراك في أيرزروم.
بقي مهران في حلب ثمانية أعوام ثم ذهب لفلسطين ثم بيروت حيث توفي عام 2002 عن عمر يناهز 92 عامًا.
تزوجت تاكوهي في بيروت وجاءت مع زوجها إلى الأردن إثر الحرب الأهلية اللبنانية. ابنها ميرو تزوج من آني قراليان في بيروت أيضا وقدما إلى عمّان لاحقا، حيث بنى الأخيران منزلهما الأرمني الطابع.
تاكوهي باليان تروي قصة والدها مهران.
آني قراليان صممت منزلها في عمان ليعكس الهوية الأرمنية. آني المتمسكه بهويتها الأرمنية، والقلقة على لغة المهاجرين الأرمن بعدما صنفتها منظمة اليونسكو كواحدة من اللغات المتوقع اندثارها خلال 100 عام القادمة، حَرِصت على تصميم بيتها بحسب الطراز الأرمني، حيث الأرضية والجدران الخشبية، مع المعلقات المختلفة التي ترمز جميعها لأرمينيا، سواء النحاسيات التي رُسم عليها الثوب الأرمني المختلف حسب كل منطقة، أو اللوحات ذات الرموز الدينية المسيحية، أو الصور الطبيعية لأرمينيا الملتقطة بعدسة «ميرو» زوجها، أو بالخرائط التوضيحية التي تقارن بين المدن التي سكنها الأرمن في تركيا تاريخيا وبين حدود أرمينيا حالياً.
مع كل هذا الاعتزاز بالهوية والتاريخ الأرمني، روت آني قصة جدها والد أمها، الناجي الوحيد من عائلته:
في الساعة 5.30 صباح يوم في عام 1915، طرق الأتراك باب منزل الجد الأكبر لآني، طالبين منهم الخروج من المنزل، فخرجت العائلة كاملة، الأب والأم وأربعة أبناء ذكور وفتاة، بما فيهم جد آني الذي كان يبلغ من العمر حينها 13 عامًا. قتل الجنود الأتراك أفراد العائلة جميعًا، باستثناء جدّها وشقيقته. «جدي كان حجمه صغير وهذا ساعده مايبين انه ما مات لأنه وقع تحتهم ففكروه مات وراحوا».
خطف الأكراد الذين كانوا برفقة الجنود الأتراك شقيقة جدها، بحسب آني، «كان يبكي دايما ويحكي اختي خطفوها الأكراد».
تكمل آني القصة بأن جدّها هرب وحده، وانضم إلى قافلة أوصلته إلى دير الزور حيث احتضنته عشيرة «عنزة» السورية وأطلقت عليه اسم عبده، وقاموا بوضع «الشحبار» على وجهه لإخفاء ملامحه الشقراء، وألبسوه عقال.
لاحقت أحب عبده ابنة شيخ العشيرة، فخاف من تبعات هذا الحب ومن إجباره على الزواج منها وتغيير دينه، فعزم على الهرب من العشيرة، وقبل رحيله شاهدته الفتاة وهو يجلس بالقرب من النار ويقوم بتجهيز حصانه، فوضعت الجمر على يده لكي تترك علامة عليها داعية الله ألا يتزوج، «حكتله انشالله ما بتتجوز بالمرة واذا اتجوزت ما يجيك أولاد»، ورحل على حصانه إلى ضيعه اسمها ريحانية وتزوج وعاش في حلب إلى أن توفي عام 1963.
آني تنتظر «اعتراف الأتراك بما فعلوا حتى ترتاح أرواح أجدادي» على حدّ قولها، مطالبة العالم بممارسة الضغوط على تركيا لدفعها للاعتراف، متمنية عودتها لمشاهدة مدن أجدادها بشرط، «إنه تكون بلادنا مع الأرمن، أما انها تكون مع الأتراك وأنا أرجع؟ لأ أبدا … بخاف!»
جوزيف يبريم ساركيس محسرجيان، وفي أقصى يسار الصورة يظهر جده ساركيس. صورة وحيدة يحتفظ بها أحفاد ساركيس ماحسرجيان له، التقطت عام 1901 في أورفا من قبل أقارب جاؤوا من الولايات المتحدة لزيارتهم، كانت الإثبات الوحيد الناجي من المذبحة الذي يربط ساركيس بأولاده ووالديه. عاد الأقارب إلى الولايات المتحدة وانقطع الاتصال بهم قبل أن يتم «تظهير» ذلك الفيلم.
تجلس الحفيدة شوغيك إلى جانب والدها جوزيف لرواية قصة الجد الأكبر ساركيس، حيث تسرد التفاصيل مع مداخلات هنا وهناك من والدها جوزيف الذي يبلغ من العمر 86 عامًا.
شوغيك تروي القصة مع والدها جوزيف. كان ساركيس ماحسرجيان فدائيًا من أروفا، متزوج ولديه ولد وبنت. عام 1915، حاصر جنود من الجيش التركي المنزل الذي كان فيه ساركيس ورفاقه الثوار، ولأنهم لم يملكوا أسلحة يستطيعون المقاومة بها، قاموا بإشعال الحطب ليقتلوا أنفسهم قبل أن يلقي الجنود القبض عليهم، وماتوا جميعًا بهذه الطريقة.
هربت زوجة ساركيس مع طفليها يبريم وييفيا، إلّا أن يبريم أجبر للانضمام للجيش العثماني «تبعًا لسياسة التجنيد الإجباري التي اتبعها العثمانيون»، فيما ذهبت الأم وييفا إلى الصحراء في طريقهم الى سورية، حيث التقتا هناك بمجموعة من الأشخاص، أعجب اثنان منهما بييفا فتنازعا عليها، قبل أن يحسم كبير تلك العائلة الأمر بضربة سيف.
«أجا كبيرهم وقسم يفييا نصين، حكالهم مش هاي اللي عاجبتكم؟ يلا كل واحد يوخذ نص.. همه هيك حكولنا القصة، ما بنعرف كيف هيك صار همه هيك حكولنا»، تروي شوغيك.
بعدما انتهت الحرب العالمية الأولى ذهب يبريم، الذي ساعدته خدمته في الجيش بالنجاة من المجزرة، إلى يافا، وهناك تزوج جدة شوغيك، وفتح مطعمًا أرمنيًا أسماه «آرارات» على اسم الجبل المقابل لدولة أرمينيا حاليا، وأنجبا والدها جوزيف عام 1929.
عام 1948 قدمت العائلة إلى عمان إثر النكبة وسكنت في حي الأرمن في الأشرفية، حيث توفي جدها يبريم عام 1971، فيما عمل جوزيف وإخوته بصياغة الذهب إلى الآن.
وبعد عدة سنوات، في عام 1956 زار أحد أقارب العائلة أصدقائه في امريكا، ليفاجأ بصورة ساركيس من أروفا لديهم، ليحضر الصورة إليهم إلى عمّان.
تقول شوغيك إن الذكرى المئوية تعطيها «القوة والاستمرار، وتزيد من اصرارها على مهمة الحفاظ على التراث واللغة الأرمنية وإيصال الرسالة للأجيال القادمة والحفاظ عليها»، دون أن تمانع من زيارة بلدة والدها أورفا للتعرف عليها من باب الفضول، وإن كانت تحت السيطرة التركية، «الحقائق الي لازم نتعايش معها (..) على أرض الواقع الآن بأنه هاي الاراضي مع تركيا، وممكن أحب ازورها عشان عندي فضول اشوف دار جدي».
تقرأ مرال مذكرات جدها فارتان نيرسسيان التي كتبها ليدوّن ما شاهده أثناء المذبحة ورحلته من بلدته زيتون حتى وصل القدس. هذه المذكرات احتفظ بها فارتان في درج مغلق ولم يعلم أحد بوجودها الا بعد وفاته في حادث سير في القدس عام 1973.
مرال حريصة على جمع الوثائق المتعلقة بهجرة الأرمن من تركيا، سردت لنا هي ووالدها نيرسيس قصة جدّها، إلا أن إجادتها للغة العربية مقارنة مع والدها جعلتها تدير الرواية وتترجم المذكرات المكتوبة بالأرمنية للعربية.
قبل يوم واحد من عيد الفصح في عام 1915 توجه فارتان، الذي كان في الرابعة من العمر، إلى بلدة مجاورة لبلدته زيتون، حيث تقيم خالته وشقيقه، للاحتفال بالعيد، لكنه شعر بفقدان بهجة العيد بسبب توتر الأوضاع السياسية في القرى. وفي اليوم التالي للعيد عاد فارتان لبلدته، حيث دخل مئات الأتراك لزيتون مع أسلحتهم بهدف قتل الأرمن.
شقيق فارتان الأكبر تناول سلاحه وطمأن العائله بأن الوضع غير مقلق وخرج لمقاومة الأتراك، حيث لحقه الجميع طالبين منه العودة دون فائدة، بعدها تجمع باقي افراد الأسرة للتوجه لمحطة القطار لمغادرة زيتون حفاظا على حياتهم، إلا أنهم اضطروا للنزول من القطار في الصحراء السورية وأُجبروا على المشي دون مأكل ومشرب، فمات عدد كبير منهم.
يذكر فارتان في مذكراته مشهد موت شقيقته الصغرى التي كانت رضيعه حينها، بأنه لاحظ سكونها وعيناها مفتوحتان فلجأ لأمه التي عرفت أنها قد ماتت.
فارتان يصف كيف عذّب الأتراك اللاجئين الأرمن وخاصة الفتيات، ويصف أصوات بكاء الأطفال بسبب الجوع، فيما بقي مشهد انتحار أم وابنتها عالقا بذهنه، بعدما ربطتا شعرهما ببعضه البعض وانتحرتا بالقفز من صخرة عالية خوفًا من الاغتصاب.
بعد أن وصلت العائلة إلى اللاذقية استجابت للمعلومات التي تحدثت عن عودة آمنة للأرمن إلى بيوتهم، فعادت الأم وفارتان وشقيقه إلى زيتون في عام 1919، حيث عاشوا فترة من الهدوء قبل أن يعود العنف والقتل ضد الأرمن.
ماتت أم فارتان وهي تحاول الدفاع عن منزلها في زيتون، وهرب هو وشقيقه، إلا أنه فقده مع الأحداث وانضم الى شخصين من البلدة هاربين إلى سوريا.
وصل فارتان إلى لبنان وأدخل هناك لدار الأيتام، ومع إعادة توزيع الأرمن في دور الرعاية المختلفه وجد نفسه في دير الأرمن في القدس، حيث بقي وتزوج وأنجب بعدد إخوته أربعة أولاد وثلاث بنات.
نيرسيس، والد مرال، كان في القدس عند وفاة والده، وجاء لعمان لأغراض الدراسة والعمل ولا يزال يقيم فيها، حيث يشغل حاليا وظيفة مستشار في إحدى شركات الصناعات الدوائية، إلى جانب شغله منصب سكرتير الطائفة الأرمنية في الأردن.
والدة مرال، هيلين، تروي قصة خالها، الذي افترق عن عائلته بعد هربهم من اسطنبول، إذ بقي مع المربية اليونانية التي هربت به إلى اليونان، وفشلت كل مساعي العائلة لإيجاده لاحقًا.
لوسي كهفيجيان تروي قصة جدها. «في الطريق، وضعت والدة جدي ابنها الأصغر الذي لم يتجاوز عمره تسعة شهور على ضفاف النهر، واستمرت هي بالمسير برفقة أشقائه الآخرين، على أمل أن يجد أحدهم الطفل الرضيع ويعتني به، بعدما عجزت هي عن العناية به من حيث المأكل والمشرب».
تحفظ لوسي كهفيجيان قصة جدها يغييا والد أمها جيدًا، فهو رواها بتفاصليها لأبنائه وأحفاده، واصفًا فيها رحلة اللجوء هربًا من المذبحة في أورفا باتجاه ماردين، بعدما أخذ الأتراك كل الرجال وهربت النساء لسوريا ولبنان، وفق ما روى.
يغييا، الذي سمّي عبده لاحقًا، رحل مع أمه وإخوته وأخواته عام 1915 ، باستثناء الأخ الأكبر والأب اللذين بقيا في أورفا، المدينة الأم للعائلة، ليقُتلا لاحقًا على يد الجيش العثماني.
الابن هاروت دوّن رواية يغييا وأصدرها في كتاب يوّثق جانبًا من لجوء الأرمن عقب المجزرة، صدر في كندا قبل شهرين.
تسرد لوسي عن جدها أنه وأثناء مسير الناجين باتجاه مدينة ماردين في جنوب الأناضول، كان الجنود العثمانيون يأخذون مجموعات صغيرة ويغتصبون النساء منهم ثم يقتلونهم وسط الصحراء. كان ذلك أمام مرأى التجار الأكراد المارة الذين أظهروا بعض التعاطف، ما دفع والدة يغييا لتسليمه لأحد الأكراد على الطريق. يذكر يغييا، الذي كان عمره خمس سنوات حينها، ما قالت له أمه في تلك اللحظة بعدما قبلته «تذكرني دائمًا، فأنا سأبقى معك وسأراك لاحقًا».
«الكردي الذي لم يكن لديه أي أبناء ضمّ جدي، ووضع رأسه باتجاه صدره وركض مسرعًا بعيدًا، حتى لا يسمع جدي صوت أمه وأخواته بعدما هجم الأتراك عليهن ودوى صوت صراخهن»، تقول لوسي.
ظل يغييا في بيت الرجل الكردي لأسبوعين أحسن وزوجته معاملته خلالهما، قبل أن يأتي جنود أتراك للبلدة للبحث عن الأطفال الأرمن. عندها خافت المرأة الكردية على يغييا وعلى بيتها، فباعته لرجل آشوري وزوجته مقابل قطعتين ذهبيتيين، اللذين سمّياه عبده كي لا يقتله الأتراك.
في منزل العائلة الأشورية، تعرض يغييا لسوء المعاملة، إذ اصطحبه الرجل معه للعمل في الحدادة وكلما تعب يغييا ضربه على رقبته قائلًا «أنت كسلان، دفعت عليك قطعتين ذهبيتيين وأنت كسلان». ليبقى هناك لأربعة أشهر، قبل أن يُطرد من المنزل. «بكى جدي وانتظر أن يدخل للمنزل مجددًا دون فائدة»، تقول لوسي، ليتشرّد هناك لأربعة أعوام، عاد بعدها إلى أورفا بمساعدة منظمات إغاثة.
في أورفا، أودع يغييا في ميتم، هناك سألوه عن اسم عائلته الذي لم يكن يحفظه، فاكتفى بالإجابة «لا أعرف، لكن والدي كان تاجر قهوة»، فأعطوه اسم «كهفيجيان»، الذي بقيت العائلة تحمله حتى اليوم. لاحقًا، تم توزيع أطفال الميتم بين سوريا ولبنان، فأُرسل يغييا إلى مدينة جبيل في لبنان، ومكث فيها حتى سن السادسة عشرة، ثم أرسل للناصرة حيث تعلم التصوير وبَرِعَ به، قبل أن ينتقل إلى القدس ليعمل لدى «الأخوين حنانينا» في مهنة التصوير.
عندما أتم يغييا عامه الثامنة عشرة حاول البحث عمّن تبقى من عائلته، فراح يبحث عن شقيقته آزنيف الناجية الأخرى من العائلة، ووجدها لاحقًا في حلب، لتروي له قصة خطفها من قبل الأتراك وهروبها لحلب وزواجها هناك.
في القدس، تزوج يغييا من ابنة مسؤول دار الأيتام الخاصة بالأرمن، وأنجبا ثلاث فتيات وولدين. وتوفي في عام 1987 في القدس محطته الأخيرة.
عائلة يغييا في القدس.
لوسي قدمت إلى الأردن لزيارة شقيقتها المتزوجة في عمان عام 1986 والتقت بزوجها الحالي نيشان، فتزوجت واستقرت، فيما بقي أفراد أسرتها في القدس لغاية الآن.
تشعر لوسي بحجم العذاب والألم الذي واجهه أجدادها في المذبحة كلما حلّت الذكرى، متمنية العودة والعيش في أرمينيا «بلدها». «لو أتيح لنا في أرمينيا ما يتاح لنا هنا، لعشنا في بلدنا أرمينيا، لكن ليس في أورفا. أروفا عند الأتراك الآن ولن أعيش عندهم. ما من أرمني سيود أن يعيش في بلدته بين الأتراك».
مقابل لوسي جلست حماتها سيربوهي إسكندر تيسان، تشاهد صور جدتها أم والدها التي حملت اسمها، مستذكرة ما أخبرتها إياه أمها عن جدتها ورحلة قدومها للأردن.
سيربوهي إسكندر تيسان تروي قصة جدتها. سيربوهي الجدة هي أول أرمنية وصلت إلى الأردن هاربة من ديرتيون برفقة شقيقة زوجها وأولادها الأربعة سيرًا على الأقدام بحسب ما تؤكد حفيدتها التي تتم عامها الـ78 غدًا، في ذكرى المجزرة.
تنقل سيربوهي عن جدتها الأحداث التي شاهدتها خلال الهجرة، إلا أن قصة رمي الفتيات لأنفسهن في النهر بعد أن اغتصبهن جنود أتراك أو خوفًا من الاغتصاب هي أكثر القصص التي تكررت على مسمع سيبروهي الحفيدة، فترويها بغصة وتختمها «البنات رموا أنفسهن حتى صار لون النهر أحمر كالدم».
سكنت سيربوهي الجدة في منطقة سقف السيل في عمان، وباعت الشاي والقهوه للإنفاق على أبنائها وشقيقة زوجها التي تزوجت لاحقا من شخصٍ عربي، دون أن تعرف أية أخبار عن زوجها.
سربوهي الحفيدة تحمل صورة سربوهي الجدة. بعد ثلاث سنوات عادت الجدة إلى بلدتها دورتيون إثر ما أشيع من معلومات حول إمكانية عودة الأرمن لديارهم بأمان، فعادت سيربوهي وأبنائها لمدينتهم للبحث عن زوجها، إلاّ أنها تفاجأت هناك بوجود أتراك في منزلها وفي بيّارات الحمضيات التي كانت تملكها الأسرة، فعلمت بمقتل زوجها خلال المجزرة وسيطرة الأتراك على أملاكهم، لتعود إلى عمان للمرة الثانية والأخيرة عام 1922، حيث استقرت إلى أن توفيت.
تتناول سيربوهي الحفيدة صورة أخرى، لجدها إسكندر والد أمها، «الفدائي» الأرمني الذي كان لا يزال «عريسًا» سنة المذبحة حيث كانت أمها فيرونيكا لا تزال ابنة عام واحد. يظهر إسكندر في زيّ عسكري في الصورة التي تحملها حفيدته سيربوهي، إذ استدعى عمله المقاوم للأتراك لحماية للأرمن أن يبقى بعيدًا عن عائلته لفترة، لذا أرسل زوجته وابنته إلى منزل والده في لواء الإسكندرون لحمايتهن، ثم انضم لهن لاحقًا وبقيت العائلة هناك حتى عام 1923.
في ذلك العام رحلت العائلة إلى لبنان، إثر نصيحة من صديق تركي لإسكندر أبلغه أن حكومة بلاده «لا تريد ترك أي أرمني في البلد»، فخاف إسكندر ورحل.
عام 1935 تزوجت فيرونيكا، أم سيربوهي من شخص يحمل ذات اسم والدها، إسكندر، وأنجبا سيربوهي عام 1937، دون أن تذكر الأخيرة أية ابتسامة لأمها طوال فترة حياتها. كان ذلك يستدعي سؤالها دومًا «ماما ليش ما بتضحكي؟» تقول سيبروهي، فتجيبها أمها «كيف بدي أضحك؟ إحنا عندنا ألم!».
في عام 1948 عاد الجد الفدائي إسكندر إلى أرمينيا، وزارته حفيدته سيربوهي في عام 1972، قبل أن تزوره آخر مرة العام الماضي عندما زارت قبره في أرمينيا.
تذكر سيربوهي حياة عائلتها في عمان، حيث عمل والدها خياطًا خاصًا للملك طلال، الذي كان يوكل مهمة فتح عروات البدل لسيربوهي مقابل «شلن»، وهو مبلغ مالي كبير حينها، «كان ثمن رطل لحم» بحسبها.
لاحقًا، تزوجت سيربوهي من هارتيون، الذي كان والده نيشان فدائيًا آخر فقد أسرته في تركيا، وتوفي منتظرًا أية معلومة تدله على عائلته.