أزمة التأويل في المسيحية الغربية
في القرون الأخيرة، انكسرت رؤية التأويل الآبائية بعاملين: الإصلاح والتنوير. الإصلاح، كحركة احتجاج على الانتهاكات والتمزقات المُلاحظة في تقليد المسيحيّة الغربيّة، وضع المبدأ الأساس للـ “الكتاب وحده (sola scriptura)، وتالياً رفض بشكل مبدئي التوافق (interdependence) بين الكتاب المقدس والتقليد. نحن الآن نعرف، بالطبع، أنّ المبدأ الكتابيّ البروتستانتيّ هو دفاعي وتصحيح للمغالاة في التقليد ولا موقع له بذاته.
فلا الكتاب ولا الإيمان ولا النعمة ولا المسيح له موقع كل بذاته. الأولية نعم أم التفرد فلا. السبب بسيط وهو ضرورة وجود الإنسان المتلقّي وضرورة التفسير اللتين تقودان المفسّر بشكل حتميّ إلى اكتساب تقليده في التفسير بجهد متواصل، عن وعي أو من دونه.
المصلحون برفضهم سلطة الكنيسة من جهة، وبتشديدهم بشكل مزدوج من جهة أخرى على sola scriptura وحق الأفراد بالتفسير، خلقوا تقليداً جديداً بالواقع تقاليد تفسيرية كثيرة كما تطورت التجزئة في التيار البروتستانتيّ.
بالطبع، الكنيسة الغربية في العصور الوسطى كانت أصلاً قد خرقت التوافق بين الكتاب المقدس والتقليد في ترجيحها كفة التقليد ما خنق صوت الكتاب. يصبح هذا التوافق غير مقنع وبلا معنى في الممارسات عندما تنأى معتقدات الكنيسة، سواء الشرقيّة أو الغربية، وممارساتها عن شهادة الكتاب وتفقد التوافق معه.
لقد تفكّر اللاهوتيون الأرثوذكس فيما إذا كان ممكناً لحركة الإصلاح أن تتمّ في المسيحية الشرقية. من منظار أرثوذكسي، موقف الإصلاح في التأويل جذّاب ولكنه غير متوازن. من جهة أخرى، واضح أن لوثر وكالفن سجلا عودة إلى التأويل الآبائي الكلاسيكي[1].
واستعادا سلطة الكتاب ومركزيته في حياة الكنيسة وثبّتا الهدف المركزي ككتاب ووحدته التي حدّداها في المسيح. لقد شدّدا على أوليّة قراءة الكتاب في إطاره على ضوء الكتاب نفسه. وكشفا عن تفاعل بي الروح والحرف، بين النظرية المجردة والحكمة الروحية، على أساس ضرورة مقاربة سر الله بإيمان وصلاة من دون إمكانية تحويله إلى نظام فكريّ. لقد اعترفا بمبدأ التكيّف وطوراه، أيّ أن الكتاب، إلى جانب وجهه الموحى به، يعكس أيضاً المحدوديات البشريّة.
من جهة أخرى، أدّى رفض سلطة الكنيسة في أمور الإيمان إلى أزمة في التأويل، هذه السلطة لا يُعبر عنها بحكم بابويّ بل بالمجامع التمثيلية التي تعلن التمييز العقائدي لكلّ الكنيسة. مبدأ “الكتاب وحده” وحق التفسير الشخصي الملازم له، يدقّان إسفيناً بين سلطة الكتاب والتقليد اللاهوتيّ الموحد للكنيسة، وبهذا يخلقان مأزقاً في التأويل. مشكلة التأويل، التي يُعبر عنها بتعابير بروتستانتية بشكل مميّز، نشأت كمشكلة لاهوتية وكنسيّة عسير المعالجة.
يُظهر تاريخ البروتستانتية بشكل واضح أن التقاليد البروتستانتية المخلفة أسّست رؤاها التي عبرها قرأت الكتاب من دون أن تجد طريقة للحفاظ على الوحدة في التنوع. إعادة اكتشاف الإصلاح للكتاب مرحب بها، لكن الموقف العقائدي على أساس “الكتاب وحده” يثير كثيراً من المشكلات. المبدأ الكتابيّ بدون توازن مع مبدأ كنسي ينقلب على نفسه ويصبح غالباً للكنيسة. إنه يدمر كل إمكانيّات وجود علم تفسير شامل، إذ في غياب سلطة تفسيريّة عليا يصبح التفسير الشخصي الحاكم الأعلى.
يظهر التنوع التفسيري والتشوش في البروتستانتية عبر التطورات التاريخية فيها، بما فيها التقليدية، الطهريّون، الروحيّون، الألفيّون، التقويّون كما الفرق المعاصرة والجماعات المتعصبة.
لقد انكسرت الرؤية التفسيريّة الآبائية بطريقة أخرى وأكثر جذريّة مع التنوير، عبر تأثيره على الدراسات اللاهوتية والكتابيّة البروتستانتية[2]. يستند كل من العقلانيّة التنويرية الناشئة والنقد الكتابي إلى مبدأ التناظر العلميّ. وبوجه خاصّ، أثار تلاقيهما مسألة التأويل بشكل مختلف وأكثر جذريّة. بالسابق، تركّزت هذه المسألة على موضوع الكشف الكنسي أو الفردي كحكم نهائي. الآن، تحولت مسألة التأويل إلى موضوع الوحي أو العقل كمقياس نهائي في هذا العلم.
في تراث التنوير، وبخاصة المنطق غير الملجوم الذي حذّر منه لوثر بشكل لافت للنظر، أدت عملياً إلى رفض سلطة الكتاب المقدس الموحى بها بالكامل. “فضح” لاسنغ (Lessing) الزيف الذي في الحقائق الرئيسية في الكتاب لأنه كان “رجلاً متنوراً من القرن الثامن عشر” وقد رأى صورة بشعة وخندقاً بين ادعاءات الوحي في الكتاب والتفكير الجديد عند أمثاله.
مع تقدم العلوم ونشوء النقد التاريخي مقلداً الطريقة العلمية وعلمنة الحضارة الغربيّة، أدى التكيف التدريجي مع فكر التنوير إلى تقويض سلطة الكتاب المقدس بشكل تدريجي وافتتح “أزمة مبدأ الكتاب بين البروتستانت”[3].
لتأثير التنوير التفسيري على البروتستانتية نتائج محطمّة. فقد ظهرت تشقّقات عميقة بين البروتستانت المحافظين والليبراليّين، وتالياً برزت الفروقات تبعاً لدرجة قبول التفكير الجديد أو رفضه. من جهة، التقليد الديني الغربي، عبر نظراته الصلبة وتحكمه السلطوي في المجتمع، غذّى التساؤل الجديد حول السلطة والرغبة في التحرير. من جهة أخرى، تشكّلت المجادلة الكتابية بين المحافظين والليبراليين، بحسب[4] Walter Brueggnam، في فئات الدقّة العلميّة أو التاريخية التنويريّة، التي كانت غريبة عن الكتاب وعن التقليد الآبائي الكلاسيكيّ.
فيما يشترك الطرفان ضمنياّ بالافتراضات ذاتها، استفاض أحدهما بالاستنساب في سلطة الكتاب بينما استفاض الطرف الآخر بجعلها مطلقة. لقد برز التنوع الضمنيّ أو الظاهريّ فيما تحوّلت البروتستانتيّة بشكل مخيف إلى مجموعات أصولية، محافظة أو إنجيلية، وليبراليّة مع فروقات بينها[5]. يصعب جداً تقويم النتائج بدقّة، منها الاتهامات التي وجّهها كارل بارث وغيره إلى الليبراليين بالهرطقة[6]. كما أن منها أسئلة حول قدرة البروتستانتية على الحياة ومستقبلها في العالم الحديث وما بعد الحديث[7].
قد يظن البعض أنه كان بإمكان البروتستانت الليبراليّين أن يقدموا علم تفسير متكامل على أساس الفكر النقديّ، لكن هذا لم يتم. على العكس، هناك تحلّل افتراضيّ في التأويل عند تقليد البروتستانت الليبراليّين حيث تحوّلت فردية الإصلاح إلى شكل أكثر وحشيّة من الفردية التي في تشديد التنوير على العقل المستقلّ (العقل وحده)[8]. في السابق مزّقت كنيسة القرون الوسطة التكافل المتبادل بين الكتاب والكنيسة، إلا أنّ الإصلاح قام بالأمر ذاته بطريقة معاكسة. لاحقاً، توصّل طغيان الكنيسة إلى طغيان الأكاديميا على صوت الإنجيل[9].
من الواضح أنه إذا تم وضع خندق ليسنغ البشع بين الفكرين الكتابي والمعاصر بتعابير واقعيّة، فلن تكون هناك أي طريقة منطقيّة لردم الهوة بسبب وجود رفض مسبق لما قد يتم برهانه. لقد جعل الإصلاح مسألة التأويل عسيرة المعالجة برفضه الأساس الكنسيّ لمصلحة الأساس الكتابيّ. وجعل التنوير هذه المسألة أكثر عسراً في المعالجة برفض الأساس الكتابيّ ذاته، أي الوحي والإيمان كطريقتين أمينتين للمعرفة، لمصلحة العقل المستقل على أنه المقياس لكي حقيقة.
يجب أن نشير إلى أن التنوير في تأثيره على التأويل، يوجه ليس فقط العلماء البروتستانت بل أيضاً الكاثوليك بقدر ما يقعون تحت تأثير افتراضاته المسبقة عن وعي أو عن غيره.
عمل بعض كبار علماء التفسير في التقليد الليبراليّ أمثال F. Schleiermacher، R. Bultmann، على ردم الهوّة المفتَرَضة بين الكتاب والفكر الحديث، غير راضين بأن يقوم المتطرفون من العقلانيّين برمي الإنجيل بين ركام الميثولوجيا القديمة. هذه الجهود الاستثنائيّة، المثيرة للإعجاب فكرياً والمشجعة بحد ذاتها، لم تؤدِّ إلى نتائج ملزمة ولا دائمة لأن هؤلاء وهبوا الكثير من الأرضية الفلسفّية للتنوير.
فبعد أن تنازلوا عن النظرة المسيحيّة الكلاسيكيّة التي تقول أنّ الإنجيل يقدّم معرفة كافية وحقيقيّة عن الله وأهدافه، عجزوا عن إظهار الفرق بنظريات لاحقة في التأويل. انقاد هذه النظريات والاقتراحات الجديدة على يد H. Gadamer، P. Ricoau، D. Tracy يعوض التعادل من طريق التأكيد على أهميّة حوار بين التأويل وموضوع الكتاب اللاهوتيّ[10].
على أيّ حال، في التقليد الليبراليّ عينه، تبدو هذه الاقتراحات الإصلاحية وكأنها تمنح وزناً زائداً لما سمّي “المسافة”، لا الثقافيّة فقط إنّما اللاهوتية أيضاً، بين الكتاب المقدّس والفكر الحديث، وهذا ما يفترض أنّه المسألة الأولى في التأويل. وما يزال هناك إبهام غير مقبول حول حقيقة الكتاب ومقاربة التأويل المعياريّة له. هذه الاقتراحات المحسّنة مقنعة كنظريّات ابيستيمولوجيّة، لأنها تشرّع ديناميكيّات تحوّل المعنى بعبارات بشريّة عقلانيّة.
مع ذلك، لا تعطي انتباهاً كافياً لسلطة الكتاب الإعلانية في علاقته مع الكنيسة، كما لدور الإيمان والروح القدس كعنصرين أساسيّين في تلقّي رسالة الكتاب المقدس الخلاصيّة وتفعيلها.
لقد تابع الليبراليّون أنفسهم التساؤل حول مجمل مشروع النقد الكتابيّ والتأويل الظاهر والمخبّأ فيه[11].
في السنوات الأخيرة، تتابعت دراسة نظرات مختلفة في هذا العلم، بعضها مترابط والبعض الآخر لا. تتمثّل إحدى مجموعات الجهود المختلفة في “النقد الأدبيّ الحديث”، كالبنيويّة والقصصيّة وتلك الموجّهة نحو القارئ، على مثال السابقين في دراسة الأدب[12]. هدفهم هو منح نوع من استقلال النص عن الكتاب واستعادة معنى الكتاب كأدب دينيّ في محيد القرّاء المعاصرين. مجموعة أخرى من الجهود يمثّلها الفكر الأنثويّ والفكر التحرريّ تدعى “التأويل التأييدي” بسبب تأصّله الإيديولوجيّ في الصراعات المعاصرة السياسيّة والاقتصادية والاجتماعية[13].
تسعى كلّ هذه المقاربات بطرائقها الخاصّة إلى تقريب المسافة المفترضة بين الكتاب والقارئ المعاصر، ولكن بمعزل عن اهتمام التنوير بالتحقيق العلميّ للحقيقة. مع هذا، ما زالوا يعملون على، إما أوليّة العقل وإما اهتمامات أيدولوجيّة معاصرة، بهدف تحصيل أيّ معنى مناسب قد يجدونه في الإنجيل، معتبرين أنّ سلطته الثقافية ثابتة كأحد الروائع الكلاسيكية أو كمصدر تاريخيّ لقيم متعددة.
لقد أُضيفت الآن هذه الاتجاهات الجديدة إلى التعدديّة في التأويل. قيمتها هي في أنّها تصحيحيّة أكثر منها تصويريّة. فيما يبقى تأثيرها الدائم متوقّعاً، لم تقدّم أي نظرة متكاملة في التأويل. كالجهود الليبراليّة السيزيفوسيّة السابقة، تبدو هذه الاتجاهات وكأنها تدفع إلى أعلى الجبل بنسخة معدّلة من إبيستيمولوجيا التنوير، إلى أن تعود صخرة التأويل لتتدحرج مجدّداً إلى أسفل.
[1] D. H. Kelsey, “Protestant Attitudes Regarding Methods of Biblical Interprctation, “in Scripture, ed, by F. E. Greenspahn, pp. 134-141: D. G. Bloesh, Holy Scripture, pp. 192-195, and Donald K. Mckim, “Biblical Authority and the Protestant eformation, “ABD, Vol. 5, PP. 1032-1035.
[2] See the relevant remarks and bibliography on the academic use of Scripture and biblical scholarship in Chapters Two and Five.
[3] The expression is W Pannenbcrg’s, a chapter title in his Basic Questions in Theology, Vol. 1, trans. G. H. Kehm (Philadelphia: Westminster, 1970), p. 1. For a sketch of the complex story of how Scripture’s authority was both overemphasized and then undermined by developments chiefly among Protestants, see H. G. Revendow, “Biblical Authority in the Wake of the Enlightenment,” ABD, Vol 5 pp. 1035-1049.
[4] Walter Brueggemann, “Biblical Authority in the Post- Critical Periok, “ABD, Vol. 5, p. 1050.
[5] For a typology of current Protestant approaches to Scripture, see D. H. Kelsey, “Protestant Attitudes Regarding Methods of Biblical Interpretation, “in Scripture, ed. F. E. Greenspahn, pp. 151-161. For the commonalities, diversity, and dynamics among Evangelicals, see Mark A. Noll, Between Faith and Criticism, pp 142-185
[6] Cited with approval by Carl E. Braatcn, a mainline Lutheran, in his “Response to Manfred K. Bahmann, “LF2S (3, 1994), p. 11. Of course. Fundamentalists and Evangelicals consistently view liberal Protestantism as heresy. Gordon D. Fee, Gospel and Spirit, takes into view heresies by conservatives as well and writes the following: “To put it baldly, where there is no appreciation for tradition… [that is, “historic orthodoxy,” p.25], Protestantism has spawned a mass of individual heresies, all vying for center stage as the single truth of God, ” p.80.
[7] For a recent discussion from an Evangelical perspective, see Alister McGrath’s, Evangelicalism dr the future of Christianity (Downers Grove: InterVarsiry Press, 1995), who perceives that the future belongs to Evangelicalism by its stand on enduring scriptural values, whereas liberal Protestantism has enfeebled itself by its very accommodation to rapidly changing culture.
[8] As Reflected in the accounts afHans W. Frei, The Eclipse of Biblical Narrative: A Study in Eighteenth and Nineteenth Century Hermeneutics (New Haven: Yale University Press, 1974) and David H. Kelsey, The Uses of Scripture in Recent The Ology (Philadephia: Fortress, 1975).
Dennis Nineham, The Use and Abuse of the Bible (New York: Harper & Row, 1977) seems to debunk all hermeneudcal attempts by conservative and liberal Protestants alike as futile and useless in demonstrating any authoritative relevance of the Bible for the present. He Opts for a view of the Bible as a document of the ancient past whose world view canot be genuinely recovered in modern society.
[9] W. Brueggemann, “Scriptural Authority in the Post-Critical Period, “ABD, Vol. 5, p. 1053.
[10] For a concise presentation of these new proposals, see David Tracy’s contribution in part 2 of the revised and enlarged edition of A Short History of the Interpretation of the Bible by R. M Grant and D. Tracy, pp. 153-187.
[11] For Example, P. Stuhlmacher in his Historical Criticism and Theological Interpretation of Scripture, M. Hengel in his reflection on the same topic in Acts and the History of Early Christianity, pp. 127-136, and B. S. Childs in his several books.
See also the manifesto by P. C. Mcglasson, Another Gospel with a supportive foreword by B. S. Childs. Of course, the critiques from conservative Protestants continue unabated as reflected in the works of C. H. Pinnock, D. G. Blocsch, D. A- Carson, J. D. Woodbridge, J. I. Pacher, and others.
From the Roman Catholic Side, Raymond Brown in his many works has strongly supported historical biblical criticism as the primary took for biblical study; however, he has also on the one hand rejected its Enlightenment rationalistic freight and on the other hand supported, while qualifying, the interpretive authority of the magisterium.
See especially R. Brown, Biblical Exegesis and Church Doctrine, where he both answers traditionalists and critiques radicals, as he carves out a “centrist position” in line with and officially supported by the Church.
[12] See T. J. Keegan, Interpreting the Bible and E. V. McKnight, Post-Modern Use of the Bible.
[13] A strong challenge is presented by Elisabeth Schiissler Fiorenza, “Toward a Feminist Biblical Hermeneutics: Biblical Interpretation and Liberation Theology, “in A Guide to Contemporary Hermeneutics, ed. D. K. Mckim (Grand Rapids: Eerdmans, 1986), pp. 358-381. See also her books bread Not Stone and Searching the Scriptures: A Feminist Introduction.