التأويل Hermeneutics: الإيمان والعقل والكنيسة
تحديد العبارات:
كيف يُقرأ الكتاب المقدّس ويُفسَّر؟ كيف يتأكّد القارئ أنّه يستوعب المعنى الصحيح مع اعتبار الوجهين الإلهيّ والبشريّ والطرائق المختلفة التي بها تمّ تلقّي الكتاب واستعماله؟
عندما يتكلّم واعظ ما او معلّم او كاهن على نصّ او موضوع كتابيّ، كيف لنا أن نعرف أنّ التعليم أو العظة يستندان إلى تفسير مقبول؟ ما هو الدور الذي لعلماء الكتاب أن يقوموا به في استعمال الكتاب المقدّس كنسيّاً؟ كيف تتمّ مواجهة تعدّدية آرائهم؟ ألا يستطيع المسيحيّ العاديّ أن يقرأ الإنجيل ببساطة ويطبقّه في حياته كما يفعل الكثير من المسيحيّين؟ أليس ممكناً إضافةً إلى هذا يكون للإنجيل أكثر من معنى عند أشخاص مختلفين؟
عندما تُطرَح أسئلة مثل هذه، يدخل المرء في حقل التأويل Hermeneutics وهو فرع له مستلزماته من العوامل المعقّدة. مهمّة التأويل هي بالتفسير الكتابيّ وضرورته وطريقته. هذه المهمة ممكن أن تصبح بسرعة مجرّدة كونها تتضمّن أبعاداً كثيرة، بما فيها النظريّات الفلسفيّة في المعرفة والألسنيّة[1]. التعبير التقنيّ مشتقّ من الكلمة اليونانيّة α’ɩεѵημρέ التي يمكن ترجمتها بالتفسير أو الشرح أو الترجمة.
من وجهة نظر إيتيمولوجيّةـ تشتقّ هذه الكلمة من اسم ςήμρΕ (هرماس) رسول الآلهة والمتحدّث باسمهم في الميثولوجيا اليونانيّة القديمة. وكما كان هرماس، هكذا α’ɩεѵημρέ هي عمليّة استيعاب المعنى ونقله. مفهوم الكاتب التفسيريّ، وعلى درجات مختلفة من الوضوح والكمال، مُدَّخَر في ما يكتبه.
بعد هذا يأتي القرّاء إلى النصّ، وأيضاً على درجات مختلفة من الوضوح والكمال، يسعون إلى استيعاب معنى النصّ وتفصيله لأنفسهم وللآخرين، وليس بالضرورة بالمعنى الذي أراده الكاتب. يستطيع المرء أن يتخيّل التعقيدات التي تنشأ من مجمل العمليّة لجهة اللغة والتاريخ وعلم النفس والفلسفة واللاهوت والروحانيّة! يتحدّث الباحثون عن “المسألة التفسيريّة” أو “المشكلة التفسيريّة” وغالباً ما يشيرون إلى الموضوع بالجمع “hermeneutics” أو بالمفرد “hermeneutic”.
ما يلي هو تقديم مبسَّط للتفسير الكتابيّ استناداً إلى المنظار الأرثوذكسيّ الآبائيّ (أنظر الفصل الرابع) ومتضمّناً الأبعاد الرئيسة للإيمان والمنطق والكنيسة[2]. كلّ موقفنا التفسيريّ يمكن وصفه بالمحافظة الديناميكيّة المرتكزة على الافتراضات المسبقة:
أ) احترم سلطة الكتاب المقدّس والكنيسة والعقيدة المسيحيّة التقليديّة احتراماً بالغاً،
ب) أهميّة الصلاة والعبادة والحياة الروحيّة في دراسة الكتاب المقدّس،
ج) السعي الصادق والمسؤول نحو الحقيقة استناداً إلى مبدأ أنّ المعنى الأساس في نصّ الكتاب هو الذي يُبَلَّغ بالتفسير النقديّ والنحويّ والتاريخيّ،
د) الهدف النهائيّ للتفسير الكتابيّ هو إنارة الحقائق اللاهوتيّة والمعاني الأخلاقيّة في الكتاب المقدّس. في البدء تساعدنا بعض التمييزات. رغم أنّ الصفات تفسيريّ (interpretive) وشرحيّ (exegetical) أو تأويليّ (hermeneutical) تُستَعمَل غالباً من غير تمييز أو بطرائق متداخلة، فإنّ نقاشاً أكثر دقّة يتطلّب تحديدات أكثر وضوحاً. الشرح Exegesis (من الفعل ωέϫηξέ في اليونانيّة الذي يعني حرفيّاً “يستخرج من” أو “يقود خارجاً”) يتعلّق أوَلاً بالمعنى الأصيل للنصّ، أي، ما يبثّه الكاتب في اللغة الأصليّة بأسلوب محدّد وبنية نحويّة محدّدة وإطار تاريخيّ محدّد.
الموضوعيّة المطلقة في التفسير exegesis وهي وهم، بينما الموضوعيّة النسبيّة ممكنة كما هو مبرهَن في عدد من مجالات الإجماع بين الباحثين على المستوى الشرحيّ الوصفيّ. تقدّم الأطرالنحويّة والتاريخيّة بعض المعطيات الموضوعيّة لفهم بعض المقاطع الكتابيّة بشكل دقيق إلى حدّ ما[3]. إنّ الروايات الوصفيّة لمجمل فكر الأسفار المقدّسة والكتّاب، رغم تضمنّه متغيّرات أكثر وتالياً أقل أماناً، هي أيضاً ممكنة.
فيما يستطيع أيّ قارئ متأنٍ أن يخرج برؤى تفسيريّة، إلا أنّ الباحثين المتدربين هم الأكثر تجهيزاً ليعطوا تفسيراً نظاميّاً على مستوى واعٍ وبأدوات مناسبة. مثاليّاً، التفسير هو مهمة وصفيّة، والتركيز فيها هو على النصّ طالما أنّ المفسّر يتعقّب المعنى الرئيس، فكلّ الطرائق الأدبيّة والتاريخيّة المستعملة مُرَحَّب بها على أنّها بالمبدأ مشجعّة للكشف وحياديّة.
تنشأ التعقيدات الأساسيّة في التفسير من : أ) دلائل غير كافيّة، ب) تخمينات اعتباطيّة للمفسّرين، ج) الإفراط في تحليل الخلفيّة و د) انحرافات غير مضبوطة للمترجمين، وفي هذه الحالة يصبح الشرح (exegesis) تجسيداً لأفكار المفسّر في النصّ (eisegesis). أفضل طريقة لمعالجة هذه الصعوبات هي أن يراجع المفسّرون أحدهم الآخر ليتأكّدوا أنّهم يقومون بتفسير وصفيّ ساعين إلى المعنى الأصليّ والكامل كما يُعبَّر عنه قرينيّاً بكلمات الكاتب.
التفسير(interpretation) هو بالمبدأ مستوى آخر من معالجة الكتاب المقدّس حيث يُنظَر إلى النصّ، عن وعي أو عن غير وعي، من حيث قيمته بالنسبة إلى القارئ. إنّه تقدير أكثر حريّة وتطبيق مدَرك في نصّ، عادةً استناداً إلى أسئلة القارئ واختياره واهتماماته وقيمه، مفسَّراً كما قد يفسّر أيّ شخص أيَّ حدث أو بيان أو عمل فنّي. التفسيرات الأكثر معنى هي تلك المرتكزة بشكل أصيل على المعنى الأصليّ الشرحيّ للنصّ.
في أيّ حال، إنً المفسّرين انتقائيّون بشكل لا يمكن تفاديه وغالباً ما يتحرّكون خارج إطار الكاتب بالإشارة إلى معانٍ أخرى ممكنة وتطبيقات مغيّبة للنصّ وقد تكون متقاربة. التفسير (interpretation) هو بالدرجة الأولى مهمّة وصفيّة ولكن تقويميّة تسعى إلى استخراج الحقيقة النافعة أو الثابية من الكتاب المقدّس. بدون أن نميّز بشكل مطلق، ما هو مستحيل، الشرح الوصفيّ (descriptive exegesis) يسعى إلى ما “عنى” الكتاب، والشرح التقويميّ (evaluation exegesis) يسعى إلى ما “يعني” الكتاب[4].
بالطبع، بالنسبة إلى الكثير من المؤمنين، ما عناه الكتاب وما يعنيه هما الشيء ذاته بالكامل، بخاصّة في ما يتعلّق بأحداث الخلاص وحقائقه.
في أيّ حال، من الغموض بمكان التأكيد حرفياً على قصة الخلق في ستّة أيام أو على أن المياه مخبّأة فوق قبّة سماويّة جامدة، لأنّ الكتاب يصف الكون بهذه الطريقة. في هذه المعرفة، طرحت العلوم فهمنا بشكل عميق. قد لا يعطي الكثير معنى إعلانيّاً للنصيحة بشرب بعض الخمر (1 تيموثاوس 23:5)، ولكن قد يفعل البعض هذا بالنسبة إلى ستر رأس المرأة (1 كورنثوس 11: 5-10)[5].
ماذا عن العبوديّة ومرتبة النساء الدنيا في عالم الكتاب؟ ماذا عن تملّك الشياطين والعجائب؟ ماذا عن التعاليم كمثال أنّ طاعة الربّ تجلب الرغد الذي لا ينضب وعدم الطاعة يجلب العذاب، ما يضحده كتاب أيوب وسيرته؟ هذه الأمور تجعل مهمّة التفسير التقويميّ ضروريّة ولا مناص منها. واضح أيضاً أنّ التفسير قد يكون مثيراً للجدل ومسبّباً للانقسامات بسبب تضارب الافتراضات المسبقة والقيم وخيارات المفسّرين.
يعالج التأويل (Hermeneutics) انعكاس الطرائق والأسس وافتراضات كلّ من الشرح (Exegesis) والتفسير(Interpretation) أي مجمل نظريّة الدراسة الكتابيّة وشرحها كلّها. ما سبق قوله عن الشرح والتفسير يشكّل الاعتبارات المتعلّقة بالتأويل. هذا العلم يضمّ كلّ العمليّة من الملاحظة النحويّة الأكثر بساطة حول نصّ ما إلى التأمّل الأكثر عمقاً في خبرة الله الموصوفة في هذا النصّ. على المستوى الشرحيّ تنحو مهمة التأويل إلى أن تكون شكليّة وحياديّة بشكل مقبول لأدوات المنهجيّة الأدبيّة والتاريخيّة وعمليّاتها[6].
على المستوى التفسيريّ الكنسيّ، مهمّة التأويل (Hermeneutical)، أي مهمة شرح الفهم التقويميّ، تصبح لاهوتيّاً أكثر تطلّباً. على مستوى تخاطب النظريّات اللغويّة والفلسفيّة، تكون مهمّة تحليل كيفيّة نقل المعنى الأساس على مستوى المفهوم أكثر روعة، وقد تكون فلسفيّاً مستحيلة[7].
المسألة الأكثر سخونة في التأويل هي العلاقة بين الإيمان والعقل في تفحّص محتويات الكتاب وفي تحديد أيّ من عناصر هذه المحتويات هي ذات معنى. تصبح مهمّة التأويل أكثر وضوحاً، مع أنّها ليست أكثر سهولة، عندما يكون الشرح والتفسير متميّزين منهجيّاً، أكثر منهما متميّزين بشكل مطلق، وعندما تكون افتراضات المفسّر الخاصة معلّنة للمناقشة والتوضيح.
رؤيّة حياتيّة:
مسألة التأويل هي أبعد من قراءة الكتاب ودراسته. في الحياة، كلّ إنسان وكلّ شيء هو بلا مناص في عمليّة تفسيريّة، عن وعي وغالباً من دون وعي. إنسان يقرأ الكتاب المقدّس أو الصحيفة اليوميّة، مؤرّخ يتفحّص بياناً قديماً أو نقشاً، عالم يبحث عن جرثومة أو عن مجرّة، عاشق يتحدّث مع محبوبته: كلّ هؤلاء متورّطون في التفسير. لكلّ من الحياة الشخصيّة، التاريخ، العلم، الأدب، الفن، إلخ…مظاهره التفسيريّة الخاصّة. كيفيّة التفكير بهذه المجالات وربطها هي جزء من المسألة التفسيريّة الأوسع وذات الحدود المشتركة مع الحياة نفسها.
وبقدرما يتضمّن هذا السعي بحثاً عن الحقيقة لتركيز قرارات الحياة عليها، فهو يستلزم فرضاً أخلاقيّاً ضمنيّاً، ألا وهو القيام به تكامليّاً. الجهد لمعالجة الدلائل، أو كلّ خداع آخر في البحث، يجعل السعي تافهاً ويضرّ بالحقيقة. بما أنّ الحياة سرّعظيم والفهم البشريّ محدود، البحث عن الحقيقة يتمّ بأفضل أشكال البحث من الانفتاح المتلقّي والتواضع الإبستيمولوجيّ على أمل أنّ جمال الحقيقة الداخليّ وقوتّها، أينما وجدت، ينتصر ويشدّ القلوب البشريّة.
تتطلّب العمليّة معرفة افتراضات الادعاءات وحدودها، كما تتطلّب رغبة في حمل هذه الادّعاءات إلى مناقشتها في النّور. هذه العناصر تقدّم أسساً لمعاملة محترمة للآخرين من أجل كرامة بشريّة عالميّة وتفادي الجدليّة.
بالنسبة إلى قراءة الكتاب المناسبة والفهم الصحيح، يجب تذكّر أنّ الكتّاب الإنجيليّين عالجوا العلاقات بين الله والشعب على مقياس الحياة نفسها. فهم لم يكتبوا للمفسّر التقنيّ، اللاهوتيّ أو الواعظ، إنّما كتبوا للجميع[8]. لقد اعتبروا أنّ كلّ قارئ أو سامع سوف يفهم جوهر رسالتهم عن الله وعمله الخلاصيّ ومتطلّباته الأخلاقيّة. رسالتهم ونظرتهم تركّزتا ليس على تفسير النصوص التقنيّ ولكن على تفسير الحياة بشكل أوسع مؤسَّس في خبراتهم عن الله وقيم الجماعة المؤمنة التي عاشوا في كنفها.
مثلاً، في التعاطي مع العهد القديم، كان كتّاب العهد الجديد أقلّ اهتماماً بالشرح وبالأكثر اهتمّوا بالتفسير على أساس ما اختبروه مع المسيح وكيف فهمت الكنيسة الأولى عمله الخلاصيّ. البحث عن الشرح القرينيّ بالمعنى الحديث بين المفسّرين الأوائل اليهود أو المسيحيّين، هو مفارقة تاريخيّة فادحة. على مستوى التفسير، وبحثاً عن قيمة الكتاب ووثاقة صلته بالجماعة المؤمنة، يستطيع الإنسان تقرير ملاءمة التفسيرات المجازيّة والرمزيّة الموجودة أصلاً في العهد الجديد نفسه (متّى 13: 18-23 ، 36-43 ؛ غلاطيّة 4: 21-31 ؛ 1 كورنثوس 10: 1-11).
آباء الكنيسة أصلاً، في طرائق وعظيّة وتعليميّة مختلفة، استغلّوا نجاح هذا النوع من “الشرح التفسيريّ interpretive exegesis” للغذاء الرعائيّ لشعب الله. لقد ظهر الشرح اللغويّ والمجازيّ الأكثر بروزاً بين آباء الكنيسة، مثلاً أثناسيوس وباسيليوس، بخاصّة في المناظرات العقائديّة حيث كانت دقّة المعالجة حاسمة[9].
يستمرّ أغلب المفسّرين المعاصرين من بروتستانت وكاثوليك وأرثوذكس، باستعمال الكتاب المقدّس على هذا المستوى الواسع من التفسير. إنّهم أقلّ اعتماداً على شرح الباحثين التقنيّ ويعتمدون أكثر على التقاليد التفسيريّة لكنائسهم، هذه التقاليد التي تُحمَل عبر العبادة والعظات والتعليم[10].
يعمل أغلبيّة الواعظين والمعلمين على هذا المستوى من التفسير. بما أنّ رسالة الكتاب الخلاصيّة موجهّة إلى الجميع، يتمتّع الجميع بحقّ المقاربة المباشرة للكتاب أي أن تتحدّاهم كلمة الله مباشرة من دون الحاجة إلى باحث أو وسيط بين القارئ والله.
إلى هذا، مع أنّ هناك درجات ومستويات من الفهم العقليّ، يستطيع الكلّ فهم إعلانات الكتاب الأساسيّة الدينيّة والأخلاقيّة. الإيمان بإله حيّ، الخبر السارّ عن محبّته ومسامحته في المسيح، وطلباته للقداسة والبرّ بالمبدأ يفهمها الجميع بطرائق مختلفة.
بالنسبة إلى الكنيسة والمؤمن، لا يمكن لحياة الإيمان أبداً أن تقوم بشكل أساس على البحث العلميّ. تفعيل رسالة الكتاب الجوهريّة أي الإيمان بما صنع الله للبشريّة والعيش في بركاته وحضوره، هو أمر شخصيّ يتخطّى المعرفة اللاهوتيّة الاحترافيّة ونظريّات التأويل المعقّدة.
بالواقع، كما ذكرنا سابقاً، قد يحدث أنّ ما يستخرجه مؤمن على بساطة في الإيمان وتقبّل صلاتيّ في قراءته غير النقديّة للإنجيل، هو روحيّاً أكثر نفعاً مّما يستطيع استخراجه مفسّر خبير أو لاهوتيّ متدرّب بكلّ معرفته ومهاراته النقديّة. أن نفتكر عكس ذلك، هو تفكير باطل لاهوتيّاً وخاطئ تاريخيّاً وجريء مهنيّاً.
على أيّ حال ما تحتاج إليه الكنيسة والبحث العلميّ، أي المؤمن والباحث، هو أن يكونا في تعاون الواحد مع الآخر وليس مواجهة. فقد وجد الباحثون والبحث العلميّ في اليهوديّة والمسيحيّة منذ القرون الأولى وعملوا داخل الإطار بطرائق زمانهم. يعمل الباحثون المعاصرون بطرائق التفسير والتأويل العصريّة[11]. مساهماتهم لا تُقدَّر في التحليل الأدبيّ والتاريخيّ واللاهوتيّ للكتب المقدّسة ومواضيعها ومفاهيمها ومؤسساتها وبالطبع تفاصيلها التفسيريّة.
الدراسة الكتابيّة، عندما تكون إيجابيّة ومتجانسة مع موضوعها، تقدّم إيضاحات أساسيّة لأمور وصعوبات مثل التبرير بالإيمان وأدوار بطرس ومريم في العهد الجديد والكلمة والسرّ وإلخ..وأمور أخرى ذات مضامين شخصيّة وكنسيّة ومسكونيّة[12]. يجب على العمل العلميّ أن يعرف جيّداً دراسة الكتاب واستعماله وتطبيقه من الكنيسة والمؤمن حتّى ولو تخطّاها.
يمكن للنتائج العلميّة أن تكون نافعة للجميع، للعلمانيّين والمعلميّن والوعّاظ واللاهوتيّين كما للكنيسة. وهكذا سوف يتعاطى كلّ من هؤلاء الدراسة الكتابيّة إلى الدرجة النافعة والملائمة لمستواه من العمل والمسؤوليّة[13]. ينتعش الإنسان العاديّ ببساطة من شربة ماء، بينما يحلّل العالم الماء بحسب ذراتها من الهيدروجين والأوكسجين.
على الشكل ذاته، يستطيع فتى أن يشرب الماء الروحيّ في قصّة كتابيّة، بينما يحلّلها الشارح إلى تفاصيل صغيرة. الأوّل يتعلق أوّلاً بالمعرفة الروحيّة أي المعرفة الاختباريّة على أساس الإيمان بالله ونعمته. الأخير يتعلق بشكل أساس بالمعرفة المفاهيميّة المكتّسبَة بالعقل والتحليل النقديّ.
القوى التي تحرّك الإيمان والعقل والكنيسة:
في النهايّة، يكمن التحديّ التفسيريّ الأكبر في تحديد العلاقة المناسبة بين الإيمان والعقل كما تطبّق على التفسير والشرح الكتابيّين، كلّ هذه بالمطلَق غير منفصلة. إذا كان الشرح مثاليّاً يسعى إلى استخراج ما في النص، يجب التحوّل إلى جوهر النصّ، أي ادّعاءاته اللاهوتيّة بشأن عمل الله الخلاصيّ الظاهر في خبرات أشخاص محّددين[14]. لا تُقدّر قيمة الشرح في توضيح الخلفيّة التاريخيّة والفوارق الدقيقة الفعليّة لهذه الادعاءات اللاهوتيّة.
في أيّ حال، لا يستطيع الشرح بذاته، بدون معونة الإيمان، أن يرتقي إلى حقيقة النصّ اللاهوتيّة. الشرح كإنجاز بشريّ أي كنشاط فكريّ مطوَّر قليل القدرة على الوصول إلى فهم قيّم فكريّاً لحقيقة النصّ اللاهوتيّة ودخول خبرة الله الخلاصيّة الفعليّة المرموز إليها بتلك الحقيقة اللاهوتيّة. إذاً، المضمون الأساس الخلاصيّ للنصّ الكتابيّ لا يمكن الوصول إليه بالشرح الصرف بمعزل عن القوى المحرَّكة بالإيمان والنعمة.
بشكل مماثل، على مستوى التفسير التقويميّ، النماذج الفكريّة المتعلّقة بالتأويل التي يقترحها المنظّرون اللامعون، من شلايرماخر إلى أحدث النقاد الأدبيّين، قد تكون فكريّاً كافية كنظريات في المعرفة أي كنماذج لشرح الظروف التي يتمّ فيها الفهم البشريّ وحمل المعنى. لكنّ هذه النماذج النظريّة لا تستطيع من ذاتها أن تجلب المعنى الأعمق للنصّ الكتابيّ في قيمته اللاهوتيّة ولا أن تطلق قدرتَه الروحيّة في الحاضر.
الصَدَع الأكبر في النظريّات التفسيريّة المعاصرة هو في الواقع تركيزها الأحاديّ الجانب على العالَم (الجزء) الساقط من الوعي البشريّ والمعرفة إلى درجة إهمال التركيز الكلاسيكيّ الآبائيّ على دور الإيمان وتطهّر القلب والروح القدس في الدراسة الكتابيّة والتفسير.
موقفنا هو أنّ معنى النصّ الكتابيّ الكامل وتفعيله يمكن أن يتمّ فقط عبر عمل الإيمان الذي يرتفع إلى ادّعاء الحقيقة في النصّ ويختبر قدرة تلك الحقيقة التي تغيِّر بعمل الروح القدس. من هذا المنظار، الطريقة الأساسيّة لقراءة ما تقدّمه شهادة الكتاب وفهمه والعيش بحسبه، ليست عبر الجدليّات المجرّدة إنّما عبر الإيمان الُمخَتَبر. ما يسميّه آباء الكنيسة الرؤيّة الروحيّة (ثاوريا α’ɩρωεϴ)[15] هو أفق الإيمان الجيّاش وهو ما يؤمّن الوصول إلى المعرفة الروحيّة، أيّ كعطيّة من الروح.
هذا يشكّل المعرفة الحقيقيّة بالمعنى الكتابيّ المميّز، المعرفة ذات العمق الشخصيّ الوجوديّ، التي تنطوي على إلفة حميمة وحساسيّات روحيّة مناسبة للحقيقة الإلهيّة الُمختَبَرَة في النصّ. يصف القدّيس كيرلّس الإسكندريّ هذه المعرفة على أنّها “تتضمّن في داخلها كلّ قوّة السرّ والمشاركة في البركة السريّة حيث نتّحد بالكلمة الحيّة والمعطية الحياة”[16]. بحسب هذا، دراسة الكتاب المقدّس من أجل الاستيلاء على قيمته الروحيّة نشاط مواهبي محدّد نوعيّاً بحياة الإنسان[17].
مثلاً، عندما يكتب القدّيس بولس أنّ في ملء الزمان أرسَل الله ابنَه ليخلّص البشريّة وأيضاً أرسَل روح ابِنه إلى قلوب المؤمنين التي بها يعرفون اختباريّاً ويؤكّدون موقفهم البَنَويّ أمام الله (غلاطيّة 4: 4-6)، فهو يعلن حقائق لاهوتيّة عن عمل الله الخلاصيّ وحضوره.
لا توجد طريقة قاطعة لفهم هذه الحقائق وعيشها غير النعمة بالإيمان. بشكل مماثل، عندما يعلن المسيح أنّه الكرمة الحقيقيّة وتلاميذه هم الأغصان، وأنّه مع تلاميذه يجب أن يحيوا في شركة حميميّة من المحبّة الُمتَبادَلَة (يوحنا 5: 1-11)، ليس هناك من طريقة لفهم هذه الحقيقة الروحيّة بعمق واختبارِها إلاً بالنعمة بالإيمان. وهكذا أيضاً دعوة الكتاب إلى القداسة، عبرعيشٍ مخلِصٍ بشكل أكثر شمولاً من المعرفة المفاهيميّة الصحيحة لهذه العبارات المحَقَّقة بعمل اختصاصيّي التفسير المدرَّبين.
بحسب القدّيس باسيليوس، تقصِّر الكلمات والمفاهيم في الشؤون الروحيّة واللاهوتيّة. يذهب تفسير الكتاب إلى أبعد من تعقيدات المنطق إلى شؤون أساسيّة في الكنيسة والحياة الدينيّة. بما أنّ العقل مظلمٌ بعالم الشهوات الداخليّ الساقط، يجب أن يكون الاتّكال على معرفة الله الصحيحة، على أعمال البرّ، أي العيش المسيحيّ الأصيل الُموَجَّه بوقائع وحقائق التقليد المسيحيّ الأَساسيّة[18].
ومع هذا، أليس للعقل دورٌ في قراءة الكتاب ودراسته؟ العقل هبة من الله ويجب استعماله إلى أبعد مدى طالَما أنّه يعرف دوره وحدوده المناسبين. بالنسبة إلى القدّيس غريغوريوس النيصصيّ، العقل هو “أعلى قُدُرات (مواهب)” الكائن البشريّ، وعلامة صورة الله[19]. يمكن للعقل أن يبحث ويُغني معرفتَنا في أمور كثيرة كالمعنى الكامل لمفهوم القدّيس بولس “ابن الله” أو “الكرمة الحقيقيّة” كصورة للمسيح عند الإنجيليّ الرابع، أو العلاقة الداخليّة بين وصايا الكتاب الروحيّةً والأخلاقيّة.
يمكن للعقل أن يسعى إلى الهذف الرئيس (ςόποκσ) لشهادة الكتاب التي هي، كما ذكرنا، إعلان عمل الله الخلاصيّ في التاريخ والحقائق الألهيّة عن الحياة والخلاص والخبرة الإلهيّة الخلاصيّة التي يشهد لها الكتاب ويدعو إليها.
يمكن للعقل أيضاً أن يسعى إلى حلّ الفروقات في الكتاب أو شرحها. هل نحن مُخلَّصون بالإيمان وليس بالأعمال بحسب بولس في روما 28:3 وغلاطيّة 16:2، أم بالأعمال وليس بالإيمان بحسب يعقوب 24:2؟ ماذا نفعل بالتفاصيل المتضاربة في ما يُروى حول تعليمات المسيح التبشيريّة (مرقس 6: 8-9، متى 10:10)؟ وتحوّل بولس (أعمال 7:9)؟
ماذا عن المسائل الأخلاقيّة كالقبول البديهيّ الحضاريّ للعبوديّة وبأن على العبيد أن يُطيعوا الخشونة كما للرؤساء الوثنيّين (1 بطرس 18:2)؟ يمكن للعقل أن يعالج هذه الأمور والمسائل، ليس على عكس الإيمان ولكن بالتعاون معه. إلى هذا، يمكن للعقل أن يمنع من الانزلاق في الحرفيّة التبسيطيّة كاقتلاع عين المرء عندما يُخطئ بواسطتها، أو فكرة أنّ الله عنده يدان فعليّتان لأنّه خلق السماوات بيديه (عبرانيين 10:1)، أو حتّى فكرة أنّ الله هو ذكر لأنّه غالباً ما يشير إليه الكتاب كأب.
يمكن للعقل أن يقودنا إلى تذوّق الأوجه البشريّة لكلمة الله وإلى قراءة الكتاب المقدّس ككتاب إيمان ودين وليس مجرّد كتاب للتاريخ او العلم.
ثم ماذا يحدث إذا، على أساس عقلانيّ، طرِحَت أسئلة حول ما إذا كان علينا قبول صحة قول القدّيس بولس عن ابن الله، أو إعلان المسيح عن نفسه، وهو لم يكتب أيّ إنجيل، بأنّه الكرمة الحقيقية؟ الجواب يمكن أن يكون فقط أنّ على المرء أن يصدّق شهادات بولس والأنجيل الرابع الذي يحمل شهادة لحياة الجماعة المؤمنة وقيَمها، وهي الجماعة الأوسع التي تلقّت هذه الشهادات على أنّها صحيحة وأَدَجَتْتها في الكتاب المقدّس.
هنا نجد الأهميّة المقرِّرة لشهادة القدّيسين والأنبياء والرسل والقدّيسين وفوق الجميع السيّد نفسه[20]. بكلمات أخرى، يربض إيمان القارئ أو المفسّر بشكل كبير على الإيمان الرسوليّ بالعهد الجديد وحقيقة الكنيسة التي تجمع هذا العهد. بالطبع، يستطيع المرء أن يبحث عن أساس أخلاقيّ وأن يقتنع بالمحتوى اللأخلاقيّ في حياة وتعاليم يسوع وبولس والكنيسة. مثلاً، الإدّعاء بخبرة الله والتعليم عن المحبّة هما أمر، وادّعاء الشيء ذاته والتعليم عن الحرب هما أمر مختلف.
في النهاية، يستطيع القارئ، أن يعتمد على الإيمان الرسوليّ والكنيسة في ما يتعلّق بالادّعاءات المتعالية عن المسيح إلى الوقت الذي، بالنعمة عبر الإيمان، يكون للقارئ ذاته خبرة حضور المسيح المخلِّص والاقتناع الشخصيّ. ومع هذا، حتّى هذه الخبرات العميقة والحاسمة لا تمنع استعمال العقل بل بالأحرى تنيره وتقوده.
إذاً، فيما يستطيع العقل أن يحلّل الكثير من وجود الإنجيل ويشرحها، لا يستطيع بنفسه أن يلج حضور ادعاءات الإيمان وقدرتها الرفيعة في الكتاب ولا يستطيع تالياً أن يتجرّأ على تقويمها. من المدهش أنّ المنظّرين التأويليّين، في جهودهم لشرح عمليّة التأويل في الاتصال بين الكتاب والقارئ المعاصر، حلّلوا عناصر لا تُحصى لغويّة وتاريخيّة وفلسفيّة لكنّهم أهملوا قيمة الإيمان والصلاة والعيش المسيحيّ المشترك كأمور أساسيّة لفهم القيمة الدينيّة الرئيسة التي لشهادة الكتاب وتقبُّلها.
من وجهة نظر أرثوذكسيّة، بحسب القدّيس سمعان اللاهوتيّ الحديث، الحقيقة الروحيّة التي لتعاليم الكتاب، وليس مجرّد أبعادها الفكريّة، هي تماماً ما يشكّل كنوز الكتابات التي تُكشَف كمعرفة روحيّة للمؤمنين بالمسيح بالروح[21].
في النهاية، بما أنّ حقائق الله وبركاته غير مفصولة عنه كنوع من “الحقيقة الأبديّة” أو الحقائق الكائنة بذاتها بالمعنى الأفلاطونيّ[22]، المفهوم الوجوديّ لكنوز الكتاب يتضمّن، بحسب القدّيس سمعان، لا شيء أقلّ من الاشتراك في الحياة الإلهيّة أي المعرفة الشخصيّة للشركة السريّة مع المسيح بالروح القدس. في هذا السياق يستحضر م. ملهولند المجاز الأرثوذكسيّ في طبيعة الكتاب الأيقونيّة.
بالنسبة إليه، الكتاب نافذة كلاميّة على حقيقة متعالية، حقيقة حضور الله المقدّس الذي يحدث التغيير والذي يتمّ اختباره في اللقاء مع النصّ الكتابيّ[23]. لوقا ت. جونسون يشرح الموضوع بهذه الطريقة:
“تقاربنا كتابات العهد الجديد كشهادات وتفسيرات لادّعاءات دينيّة خاصّة تتعلّق بخبرة الله كما يتوسّط لنا بها المسيح. كما نلاحظ، لإنّها لا تدّعي أبداً لنفسها التوسّط مع هذه الخبرة. ما يجب ذكره هو إذاً أنّ القارئ المعاصر لا يستطيع التوصّل إلى هذه الخبرة باستعمال وسائل الأنثروبولوجيا والنقد الأدبيّ. إنّما يستطيع أن يَعي، باستعماله وسائل النقد، أنّه يتوصّل إلى الاحتكاك بالشهادة والتفسير[24].
ولكن إذا أصرّ العقل بعناد على درح أسئلة راديكاليّة مشكّكة، وإذا تجرّأ العقل على اعتبار نفسه قادراً على وضع عمل الله الخلاصيّ وحضوره موضوع تفحّص عقليّ، عندئذ يكون قد تخطّى حدوده بعمل جنونيّ من العمل الفلسفيّ. فهو يصبح أداة مدمرِّة أكثر منها بنّاءة في معالجة الكتاب. عندما يستعمل البحث العلميّ العقلَ بهذه الطريقة، يخلق، علنيّاً أو ضمنيّاً، جوّاً من الشكّ في قضايا الكتاب الأساسيّة بهذا يُضعف سلطته ككلمة الله.
النتيجة الفلسفيّة هي أنّ عدم قدرة العقلانيّة على التعاطي مع الحقيقة الُمطلَقة، وفوق كلّ شيء مع سرّ الله، تظهر كضعف في الحقائق المسيحيّة. في هذه الحالة، بحسب القدّيس غريغوريوس اللاهوتيّ، يُساء تفسير حدود العقل كضعف في الحقيقة المسيحيّة، وهو يعبّر عن هذا بهذه الكلمات القاطعة:
“وهكذا فعندما نقدّم سلطان التحليل العقليّ ونهمل الإيمان، عندما نبطل سلطان الروح بتحرّياتنا ويكون التحليل العقليّ من دون عظمة الموضوع – وسيكون كذلك على كلّ حال لأنّه ثمرة أداة ضعيفة هي عقلنا البشريّ – فماذا يجري والحالة هذه؟ إنّ الاستدلال يبدو كالسرّ ضعيفاً. وهكذا فإنّ دقّة التحليل العقليّ تظهر، بطلان الصليب، على حدّ ما يرى بولس”[25].
مأساة الأوجه الراديكاليّة للنقد الكتابيّ هي أنّه فيما يصبو الناقد إلى توضيح الشهادة الكتابيّة، فهو أو هي ينتهي “إلى رمي الطفل مع الوعاء”. ميل المرء نحو التشكيك والإلحاد هو على درجة التزامه منطق الإعلان الفلسفيّ، أيّ ما يدّعيه الإيمان حول إظهار الله نفسه للشخصيات الكتابيّة والمؤمنين عبر الأجيال.
بدون أفق الإيمان الأساس، يأخذ التفسير والشرح الكتابيّان كما التفكير بحسب التأويل، شكل لعبة شطرنج فكريّة ضخمة، قد تستحوذ على المتورّطين فيها، ولكنّها مربكة وبلا جدوى لأولئك المهتمّين بتحدّيات الحياة الحقيقيّة.
لكن أليست هذه أمور على علاقة بتكامل البحث والمناقشة العلميّة الحرّة التي قد تطرح، عن نيّة طيبة، أسئلة معثّرة حول الكتاب؟ أليس ممكناً أن يتبنّى أصحاب المعرفة والإيمان الصادق آراء متنوعة ويختلفون بحدّة حول عدد من الأمور المهمّة المتعلّقة بالكتاب؟ أليس هناك مؤمنون غيورون قد يدّعون، عن معرفة أو عن جهل، خبرات دينيّة فيسيئون استعمال الكتاب المقدّس بطرائق مختلفة؟ هل نحن نتخلّى عن حريتنا في الصعود نحو حاكميّة سلطويّة، كنسيّة أو علميّة، لصالح تفسير نهائيّ ومفروض من الخارج؟ هذه كلّها أسئلة صحيحة وجديّة.
ما هي الطريقة التي يمكن معها طرح هذه الأسئلة من منظار التأويل؟
أوّلاً، يجب أن يكون واضحاً أنّ للبحث التاريخيّ ملء الحريّة بحسب المعايير المهنيّة استناداً إلى أفضل المنهجيّات النقديّة المتوفّرة. النقد الكتابيّ، في كلّ منهجيّاته الأدبيّة والتاريخيّة الملحقة، هو حرّ في التعاطي بحكمة مع المادة الكتابيّة. فمن جهة، ثمّة ترحيب بهذه الدرجة من الليونة في التعاطي مع القصص الكتابيّة. سبب هذا الترحيب هو ندرة الأثبات كما طبيعة الكتاب الخاصّة ككتاب إلهيّ وبشريّ.
مثلاً، ما اختبرته كنيسة القرون الأولى من تدّفق الروح في العنصرة هو أكثر أهميّة إذا كانت عطيّة العنصرة قد تمّت بحسب تفاصيل أعمال 2: 1-13 أو يوحنّا 20: 19-23. من جهة أخرى، إذا أرادت جماعة الاختصاصيّين أن تحافظ على مصداقيّتها، فهي تتحمّل مسؤوليّة تصحيح المغالاة في الحكم التاريخيّ المشكّك والتي تصل أحياناً إلى أبعاد منافيّة للعقل بسبب الحساسيّات والنزعات الشخصيّة الأخرى[26].
بشكل اعتراضيّ، غالباً ما ظهر علماء مشهورون تردّدوا في انتقاد مغالاة زملاء معروفين لهم، تالياً سمحوا بشكل غير ضروريّ بانتشار الشكّ في حقل التفسير وبفضيحة في الكنيسة. ورغم ذلك، الإيمان والحقيقة، اللذان لا يستطيعان احتمال تدقيق التفحّص التاريخيّ الجديّ، لا يستحقّان الكتاب المقدّس، الذي يعرض بصدق سقطات أبطاله العظماء، ومع هذا يدعو إلى الإيمان غير المتزعزع بحضور الله وعمله الخلاصيّين.
ثانياً، تختلف الأمور على مستوى التقويم الجوهريّ لمحتوى الإنجيل اللاهوتيّ والأخلاقيّ. على المستوى الوصفيّ التفسيريّ (exegetical)، للعلماء حريّة أن يكتشفوا بحسن نيّة ويناقشوا، على سبيل المثال، كلّ تفاصيل أفكار الرسول بولس اللاهوتيّة والأخلاقيّة. أمّا ما يتعلّق بالحقيقة الأساسيّة في خبرة بولس وتعليمه، فالقرار ليس حكماً تاريخيّاً بل هو حكم فلسفيّ، لا علاقة له ببرهان قناعات بولس أو ضحدها وهي التي كوّنها عن الله وحياة البِرّ بالاختبار.
إنً الخلط بين الأحكام التاريخيّة والفلسفيّة لمؤذٍ ومخادع. فيما لكلّ إنسان الحق بموقف فلسفيّ وفي المضيّ على طريقته في الحياة، لا يجدر بالمفسّر الكتابيّ أن يتّخذ وضعيّة فيلسوف متخفِّ، أو فيلسوف مشكّك، في تفسيره وشرحه.
ثالثاً، إذا حُفظ الخطّ بين الأحكام التاريخيّة والفلسفيّة بشكل واضح، يكون الباحث الكتابيّ حرّاً في التفسير بنيّة صالحة وحتّى في درس التعاليم الأكثر حساسيّة عقائديّاً كمفهوم بولس ليسوع كابن لله وربّ[27] مثلاً. قد يقترح باحث ما أنّ لغة بولس الخريستولوجيّة تستلزم مسحة إخضاعيّة متميّزة لأنّ مصدر العمل الإلهيّ ومركزه عند بولس، كما هو معروف جيّداً، هو الآب.
وقد يوافق باحث آخر إنّما يضيف أنّ المعجزة الكبرى في خريستولوجيا بولس ليست المسحة الإخضاعيّة جزئيّاً بل تطورها الذي يبرز بشكل مدهش في الجيل المسيحيّ الأوّل. بالنسبة إلى الأخير، قد تكون خريستولوجيا بولس مجرّد خطوة قصيرة بعيداً عن تركيبات الكنيسة العقائديّة متجانسة كليّاً مع مفهوم بولس الخريستولوجيّ.
وقد يتابع الباحثون مناقشة هذه الأسئلة وهم على علم كامل بالفرق في الأطر التاريخيّة لمناقشتهم وتضميناتها. إحدى التضمينات هي أنّ هناك تطوراً في صياغة العقيدة، وأخرى هي أنّ الصياغات الكنسيّة الثالوثيّة والخريستولوجيّة متجانسة مع شهادة العهد الجديد. أمّا تضمين آخر فهو أن لا تكون هذه الصياغات متجانسة وفي هذه الحالة يستطيع الباحث أن يثبت للكنيسة بشكل مقنع أنّه على حقّ (ما هي البدائل المطروحة لخريستولوجيا بولس أو تفسيراتها؟) أو أن يخاطر بقراءة نفسه خارج الكنيسة بحسب ما يمليه ضميره.
ولكن رابعاً، ما لا يستطيع الباحث فعله هو تحديد الإيمان المعياريّ للكنيسة. على هذا المستوى العميق من الحياة، نصل إلى أرضيّة التأويل الشركويّة، أيّ حقيقة أنّ الجماعة المؤمنة هي تنقل المعنى وتجعله شرعياً بشكل مطلق. نحن نعيش جميعاً في جماعات إيمان، سواء دينيّة أو علمانيّة. يتبادل الناس درجات من التنوّع والوحدة في الأفكار والمعتقدات ويتمتّعون بها في إطار جماعيّ. حتّى منتدى يسوع (Jesus Seminary) يرتكز على مجموعة من الباحثين، يشكلّون جماعة إيمانيّة، مع افتراضاتهم المسبقة وقيمهم وبرامجهم المعادية للمسيحيّة التقليديّة.
كلّ المسيحيّين يعيشون في إطار كنائسهم وتقليداتهم، ولكن تتشابك بينهم بعض التشابهات والاختلافات. نحن نقرأ الكتاب المقدّس ونعمل من منظار شركويّ واسع. بغضّ النظر عن جهودنا الصادقة كي نكون موضوعيّين قدر الإمكان، فهذه الجهود يجب ألاّ تتوقّف. بالمقابل، الأشخاص الذين يتجرّأون على تغيير إطار الشركة هذا أسباب لاهوتيّة هم نادرون ويستحقّون الاحترام. فيما لا يمكن تلافي أساسنا القائم على الشركة، من الُملزِم أن نتابع حواراً علنيّاً باستقامة واحترام متبادَل على أمل أن تكون الحقيقة الجوهريّة ذاتها المقياس الأوّل للإقناع والسلوك.
على هذا الأساس، هناك بعد كنسيّ حاسم التأويل. إلى جانب التأويل بالإيمان والتأويل بالعقل والبحث العلميّ، لدينا التأويل بحسب الكنيسة. مثاليّاً، هذه الأبعاد تعمل معاً، مصحّحةً باستمرار بعضها البعض. يدخل الإيمان الشخصيّ جو خبرة الله المباشرة التي يشهد لها الكتاب. تلتزم الكنيسة بالسلطة القانونيّة للكتاب، كتابها، وبالشهادة التي هي مسؤولة عنها ومطلوب منها تفسيرها في ما يخصّ التعليم اللاهوتيّ والأخلاقيّ.
ثلاثيّة التفسير بكاملها مترابطة داخليّاً وتعمل على أفضل وجه كوِحدة متكاملة حيث القدّيسون والباحثون والمسؤولون يعملون معاً ويدمجون هذه الأبعاد. الإيمان الحارّ، بدون البحث العلميّ، قد يقود المؤمنَ إلى التقوى الأنانيّة والنزعة إلى إعاقة التقدّم وحتّى التعصّب. البحث العلميّ التحليليّ، بدون الإيمان والكنيسة، يقود الباحث إلى أكاديميّات غير ملائمة ومراجعات عشوائيّة للمسيحيّة. الكنيسة كمؤسّسة، بدون الإيمان الحارّ والبحث العلميّ، قد تنحو نحو الشكليّة وإساءة استعمال السلطة.
ينطبق نموذج نظريّة التفسير المذكور أعلاه على كلّ المسيحيّين وكنائسهم. للكلّ الحقّ وعلى الكلّ مسؤوليّة تقويم موقفهم التفسيريّ من الكتاب، ليس فقط عبر العقيدة بل أيضاً عبر الحياة. إنّ الكنائس المنفصلة بحاجة إلى متابعة مناقشة اختلافتها على ضوء البحث العلميّ. الوعد الذي يحمله هذا البحث كبير، طالما أنّه يؤخّذ جدّيّاً على ضوء التقليد الرسوليّ. من المنظار الأرثوذكسيّ، لن تكون هناك وحدة كنسيّة بمعزل عن المسيحيّة التقليديّة الرسوليّة التي ترسو على الكتاب.
ليس للكنيسة الأرثوذكسيّة حاكم magisterium، لكون سلطتها العليا هي المجامع التي يجب أن يقبل قراراتها كلّ شعب الله[28]. الأساس الجوهريّ للحقيقة هي حياة الكنيسة حيث كلّ الأعضاء، من المؤمنين العاديّين إلى الأساقفة، هم شهود ويحملون مسؤوليّة. فللجميع امتيازات وهم مسؤلون عن اتّباع الأنبياء والرسل وآباء الكنيسة في مقاربتهم سر الله والكلمة الكتابيّة.
ركّز توماس ف. تورانس، في مقال مميّز، على وجهين مقرِّرين في التقليد الأرثوذكسيّ: الأمانة الحقيقيّة واحترام السرّ[29]. هذان الوجهان ممكن رؤيتهما كحالتين أو منظارَين أرثوذكسيّين متعلقيّن بنظريّة التفسير. يشير تورانس إلى أنّ صفة “أرثوذكسيّ” في الأرثوذكسيّة الكلاسيكيّة لا تعني إخضاع فكر الكنيسة لنظام موحّد تُفرَض الحقيقة عليها من الداخل، بل بالأحرى تشير إلى توجيه أوّليّ للكنيسة إلى حقيقة الكتاب المقدّس بحسب التقليد الرسوليّ[30].
“أرثوذكسيّ” تعني “مرتبط بالحقيقة بشكل صحيح” (الأمانة للحقيقة)، حقيقة إنجيل عمل الله الخلاصيّ عبر المسيح بالروح القدس، مُعاشاً ومُحتَفَلاً به في حياة الكنيسة. لكن هناك أيضاً “احترام السرّ” حيث إنّ الصياغات العقائديّة، رغم أهمّيّتها، تأتي من دون سرّ الله المتعالي[31]. يقول تورانس عن عقائد الكنيسة: “لا يمكن اعتبار أنّها تحتوي الحقيقة في نفسها لكنّها بالأحرى طرائق لتوجيهنا نحو سرّ المسيح وسرّ الثالوث”[32].
الأرثوذكسيّة بالمبدأ لا تمنع الصياغات الجديدة في إعلان الإنجيل وتعليمه كما لو أنّ حقيقة الله مختوم عليها فقط في العقائد والكتاب المقدّس. الباحثون والمعلّمون والوعّاظ أحرار في استعمال قدرتهم الإبداعيّة إلى أقصى الحدود طالما أنّ الكتاب ملئه الرسوليّ محفوظ بأمانة للحقيقة واحترام السرّ. أعمالهم وأقوالهم يجب أن تكون بشكل يعبّر عنه تورانس: “بدل أن تأتي بين المسيح وفهمنا، تسمح للمسيح في كلّ حقيقته الرائعة وسرّه بأن يكشف نفسه لنا عبر هذه الأقوال والأعمال بشكل دائم”[33].
[1] يقدم B.C. Lategan عرضاً للتأويل
“Hermeneutic”, ABD, Vol. 3, pp. 194-155; by R.E. Brown and S.M. Scneiders, “Hermeneutics”, NJBC, pp. 1146-1165; and by the Pontifical Biblical Commission’s “The Interpretation of the Bible in the Church” in Originus as noted above.
في الأدب ممكن تمييز ما لا يقلّ عن 5 مراكز تركيز:
أ) شرح منهجيّات النقد الكتابيّ الحاليّة المختلفة كما في:
Reading in the New Testament: Methods of Interpretation by C. Tuckett.
ب) تاريخ الطرائق التفسيريّة منذ القديم إلى اليوم كما في:
The Study and Use of the Bible by J. Togerson and others (Grand Rapids: Eerdmans, 1988).
ج) مناقشة لاهوتيّة للوحي والإلهام والمقارنة بين سلطة الكتاب والكنيسة كما في:
- G. Bloesch, Holy Scripture: Revelation, Inspiration & Interpretation.
د) مناقشة لغويّة-فلسفيّة لنظريّات الفهم كما في:
R.E. Palmer, Hermeneutics: Interpretation Theory in Schleiermacher, Dilthey, Heidegger, and Gadamar (Evanston: Northwestern University Press, 1969). وتبلغ أوجها في أعمال Paul Ricoeur و David Tracy،
هـ) معالجة لمقاربات النقد الأدبيّ الجديد كما في:
Interpreting the Bible: A popular Introduction to Hermeneutics by T.J. Keegan, O.P. (New York: Paulist, 1985).
يجد القارئ تركيبات مختلفة من هذه المقاربات.
[2] كَتَب باحثون أرثوذكس عدداً من الكتب حول الأوجه الشكليّة والتاريخيّة واللاهوتيّة للتأويل بدءاً بـِ ف. أنطونياديس (1921) انتهاءً بـِ س. أغوريديس (1979). بالمعنى الفلسفيّ الضيّق، هناك عمل ممتاز لـ
- Andripoulos, Τό πρόβλημα ԏοѵ’ < Iσԏορɩκѵ’Iησοѵ’ > έѵ ԏή σѵυϫӽρόѵω ‘Ερμѵԑѵԏɩкή (Athens, 1975).
See Also A. Ugolink, “An Orthodox Hermeneutic in the West” SVTQ 27, (2, 1983), pp. 93-118; J. Breck, “Exegesis and Interpreation: Orthodox Reflections on the “Herneutical Problem” Ibid., pp. 75-92 and his book The Power of the Word; as well as M. Ford, “Seeing, But Not Receiving: Crisis and Context in Biblical Studies” SVTQ 35 (2-3, 1991), pp. 107-125.
يعبّر يوحنّا باناغوبولوس بقوّة عن البعد الآبائيّ في أعماله بما فيها مؤخراً المدخل إلى العهد الجديد (1994). لا يمكن القول إنّ الأرثوذكس قد حدّدوا لأنفسهم بوضوح كافٍ مسألة التأويل. يجب رسم الأوجه والعوامل الكثيرة في هذا العلم بدقة ووضعها في رؤيّة شموليّة. إنّ طريقة فعّالة لهذا العمل تتضمّن: التمييز بوضوح أكثر بين التفسير (exegesis) والتفسير(interpretation) ، العلاقة بين الإيمان والعقل، دور البحث العلمي وطرائقه النقديّة، كما حياة الكنيسة العمليّة وسلطتها، ومن ثم ربط هذه الأمور ببعضها البعض.
[3] Raymond Brown, “Hermeneutics,” in NJBC, p. 1152.
[4] نجد أقوى حالة للتمييز بين “ما عنى” وما “يعني” النصّ، أي بين التفسير التقويميّ والتفسير التأويليّ في دراسة الكتاب في:
Krister Stendhal, “method in the Study of Biblical Theology,” The Bible in Modern Scholarship, ed. J. Philip Hyatt, pp. 196209, and “Biblical theology, Contemporary,” IDB, Vol. 1, ed. George A. Buttrick (New York: Abingdon, 1962), pp. 418-432.
لا يصح اعتبار هذا التمييز المنهجيّ تافهاً كنوع من وسائل تحايل التأويل، وهو ما يكرّر Stendhal رفضه. إنّه تمييز أساس مساعد على الكشف (وليس فصلاً مطلقاً) لتوضيح أن العمليّتين المترابطتين الواجب مواجهتهما بشكل متعادل تكمنان في عمليّة التفسير الكتابيّة التقويميّة أو المعياريّة. بحسب Stendhal، المقاربة الوصفيّة لا تكفل الموضوعيّة إنّما فقط تدعو إلى تفحص الموضوعيّة بشكل ثابت بمقابل الميل الثابت نحو إخضاع التحيّزات والميول الشخصيّة من أجل الفهم الأكثر وضوحاً للنصّ الأصليّ وطبقات التقاليد التفسيريّة في الكتاب والأدب الآبائيّ. بقدر ما تكون الفوارق بالمعنى دقيقة على المستوى الوصفيّ، يصبح تحديّ المهمة التقويميّة أكثر وضوحاً (وليس بالضرورة أكثر سهولة).
[5] هذه الأمثلة مأخوذة من:
Gordon D. Fee, Gospel and Spirit: Issues in New Testament Hermeneutics, pp. 2-3, 5.
[6] For example, O. Kaiser and W.G. Kϋmmel, Exegetical Method: A student’s Handbook, trans. E.V.N. Goetchius (New Yor: Seabury, 1963); J.H. Hayes, Biblical Exegesis: A beginner’s Nadbook (Atlanta: John Knox, 1983); and G.D. Fee, New Testament Exegesis: A Handbook for Students and pastors (Philadelphia: Westminster, 1983).
في أيّ حال، قد يحتوي جزئياً عرض المبادئ والطرائق افتراضات تقويميّة ثقيلة، مثلاً في ما يتعلّق بدور النقد وتطبيقه كما في:
- Conzelmann and A. Lindermann, Interpreting the New Testament: An Introduction to the Principles and Methods of N.T. Exegesis, trans S.S. Schartzmann (Peobody: Hendrickson, 1988).
[7] أنظر:
R.E. Palmer, Hermeneutics: Interpertation Theory in Schleiermacher, Dilthey, Heidegger, and Gadame
لسرد أهم النظريّات التفسيريّة في العصر الحديث والتي تقدّمت وتحسّنت بأعمال:
Paul Ricoeur.و David Tracy
[8] R. Brown, “hermeneutics,” in NJBC, p. 1151.
[9] في حالة أثناسيوس ضدّ الأريوسيّين وحالة باسيليوس ضدّ الإفنوميّين، أنظر:
- Stylianopoulos, The Biblical Background of the Article on the Holy Spirit in the Constinopolitan Creed’, Études theeologiques 2: le lie Concile Oeucume’nique (Chambe’sy: Centre Orthodoxe, 1982), pp. 153-173,reprinted in T. Stylianopoulos, The Good News of Christ: Essay on the Gospel, Sacraments and spirit (Brookline: Holy Cross Orthodox Press, 1991), pp. 168-195.
[10] R. Brown, “Hermeneutics,” in NJBC, p. 1163.
[11] أنظر الفصل الخامس.
[12] See “English Roman Catholic-Methodist Dialogue: Justification – A Consensus Statement, “OC 24(3, 1988), pp. 270-273 J. Reumann, ‘Righteousness’ in the New Testament: ‘Justification’ in the United States Lutheran-Roman Catholic Dialogue (Philadelphia: Fortress, 1982): R.E. Brown and others, eds., Peter in the New Testament; R.E. Brown and others, eds., Mary in the New testament; E.R. Carroll, “Mary in the Apostolic Church: Work in Progress,” OC 25(4, 1989), pp. 369-380: and G. Wainwright, “Word and Sacrament in the Church’s Responses to the Lima Tex, “OC 24(4, 1988), pp. 304-327.
[13] يلاحظ R. Brown بحكمة أنّ “الفطرة السليمة تعلّم أن تقاس كلّ تربيّة على قدرة السامعين، من دون أن يعني هذا أنّه ينبغي للتعليم الكتابيّ التمهيديّ أن يكون غير نقديّ. يعني أنّ التعليم الكتابيّ التمهيديّ يجب أن يكون نقديّاً بشكل أساس”NJBC, p. 1164. ‘Hermeneutics’
[14] يشير Schlier إلى هذه النقطة المهمّة على أنّ “هدف التفسير يجب أن يكون مناسباً لدعوة الله التي وجهّها عبر الكتاب وبه. إذ إنّ هذه الدعوة من دون شيء سواها هي حقيقة الكتاب المقدّس”. يتطابق هذا الموقف مع التركيز الآبائيّ على ςόποκσ أي الهدف الرئيس أو غاية الكتاب المقدّس، كجوهر للتفسير.
(F. Hahh, Historical Investigation and New Testament Faith: Two Essays, p. 22).
[15] حول مفهوم الثاوريا أنظر الفصل الرابع تحت عنوان “منهجيّة الشرح” عند آباء الكنيسة.
[16] اقتباس من:
Maurice F. Wiles, The Spiritual Gospel: The interpretation of the Fourth Gospel in the Early Church (Cambridge: Cambridge University Press, 1960), p. 86.
يشير Wiles في الصفحات 84-86 إلى النظرة المشتركة بين آباء الكنيسة والكتاب المقدّس حول معرفة الله الاختباريّة عبر المشاركة في الحياة الإلهيّة.
[17] يعبّر الأب جورج فلوروفسكي عن هذه النظرة الآبائيّة في “خُلُق الكنيسة الأرثوذكسيّة The Ethos of the orthodox Church”، ص. 41، كما يلي: بمعزَل عن الحياة في المسيح، لا يحمل اللاهوت أي قناعة، ومفصولاً عن حياة الإيمان، يستطيع اللاهوت أن ينحلّ إلى مجادلات فارغة…اللاهوت الآبائي كان متأصلاً في الالتزام القاطع بالإيمان…”اللاهوت” ليس غايّة بحدّ ذاته. إنّه دائماً طريق. لا يمثّل اللاهوت أكثر من إطار فكريّ للحقيقة المعلَنة، شهادة “نوسية” (نسبةً إلى النوس) لهذه الحقيقة.
لا يمتلئ هذا الإطار بالفحوى الحيّة إلاّ بممارسة الإيمان. (لفهم وافٍ عن النوس أنظر: “الفكر الكنسي الأرثوذكسي” للميتروبوليت إيروثيوس فلاخوس، ترجمة الأب أنطوان ملكي، تعلونيّة النورالأرثوذكسيّة للنشر والتوزيع، 2002، ص. 27. (المترجم))
[18] So ohilip Rousseau, Basil of Caeseres, pp. 106-112, 117f.
[19] كان الآباء الكبادوكيّون المدافعين عن العقلانيّة بقدر ما كانوا ضدّ الاستفاضة فيها.
So Jaroslav Pelikan, Christianity and classical Culture (New Haven: Yale University press, 1993), p. 128).
[20] بحسب فلوروفسكي في “خُلُق الكنيسة الأرثوذكسية”، ص. 40، دعوة “اتّباع الآباء القديّسين”، ليست “إشارة إلى تقليد مجرّد، إلى صياغات وعبارات. إنّها بالدرجة الأولى دعوة إلى أشخاص، إلى شهود قدّيسين”. بالنسبة إلى فلوروفسكي، هذا ينطبق أيضاً على الرسل لأن الكنيسة، كونها رسوليّة وآبائيّة، هي على الدرجة ذاتها من الالتزام بالإنجيل الرسولي كما بالعقيدة الآبائيّة.
[21] أنطر الملحق رقم 2.
[22] John Panagopoulos, Εɩ’σαϫωϫή σԏήѵ καɩѵη Δɩαθηκη (Athens: Akritas, 1994), pp. 433-434.
يشدّد باناغوبولس في هذا العمل على نقطة مهمّة مفادها أنّ الكتاب المقدّس ليس وديعة من صياغات نهائيّة لحقائق أزليّة إنّما هو شهادة لسرّ الله في عمله الخلاصيّ، وهو سرّ فائق الوصف.
[23] M. R. Mulholland, Jr. Shaped by the Word: The Power of Scripture in Spiritual Formation, p. 64.
[24] Luke T. Johnson, The Writings of the New testament: An Appreciation (Philadelphia: Fortress, 1986), 99. 7-8.
[25] الترجمة العربيّة من غريغوريوس النزينزي: الخطب 27-31 اللاهوتيّة. سلسلة النصوص اللاهوتيّة. نقلها من اليونانيّة إلى العربيّة الأب يوحنّا الفاخوري. (بيروت: منشورات المكتبة البولسيّة، 1993)، ص. 104-105.
[26] يعرض N. T. Wright تطرف أشخاص أمثال A. N. Wilson, J, Spongو B. Thiering في كتابه (Grand Rapids: Eerdmans, 1992) Who Was Jesus? فيذكر أن تطرفهم هو بلا أساس. فالبعض من هؤلاء المتطرفين هو من أعداء المسيحيّة اللدودين والبعض الآخر هو من زعماء الأصوليّين الذين يسيئون استعمال البحث العلميّ ويقدّمون استنتاجات مفاجئة تشوّش غير العالم. إنّ تعهد البحث الصحيح يشكّل الطريقة الأكثر فعاليّة في ضحدهم.
[27] هذا يتوافق مع موقف R. Brown في كتبه العديدة وفي عمله “التأويل” في NJBC، ص. 1163-1164.
[28] K. Ware “The Ecumenical Councils and the Conscience of the Church,” in Kanon: Jahrbuch der Gesellschaft fϋr das Recht der Ȍstkirchen (Wien: Herder, 1974), pp. 217-233.
يقدّم كاليستوس وير في هذا المقال وصفاً ممتازاً لطبيعة الكنيسة المجمعيّة في سعيها للحياة بسلطة الحقيقية المطلقة، حقيقة الله. لشرح عن التفسير السلطويّ للكتاب المقدّس في الكنيسة الكاثوليكيّة بما فيها سلطة البابا المطلقة، أنظر R. Brown في المرجع المذكور سابقاً.
[29] Thomas F. Torrance, The Relevance of Orthodoxy (Stirling: Drummond Press, n.d.), pp. 9-19.
[30] Ibid, p. 10.
[31] Ibid, p. 10-11.
[32] Ibid, p. 11.
[33] Ibid, p. 10-12.