المعرفة الروحية – القديس سمعان اللاهوتي
المعرفة الروحية هي مثل بيت مبني في وسط المعرفة الوثنيّة وفي وسطه صندوق يحتوي كنوز الكتاب المقدّس التي لا تُقدّر. لا يكفي دخول هذا المنزل لرؤية الثروات إنّما ينبغي فتح الصندوق، وهذا ليس بالحكمة الإنسانيّة كي تبقى ثروات الروح الموضوعة فيه مجهولة للأرضيّين. إنّ مَن يحفظ الكتابات جميعاً عن ظهر قلب كما يحفظ مزموراً واحداً، في حين يجهل عطايا الروح القدّس المخبّأة فيها، هو مثل مَن يحمل الصندوق على كتفيه من دون أن يعرف ما في داخله.
إذا ما رأيت صندوقاً صغيراً مغلقاً بإحكام قد تعرف أنّ فيه كنزاً من وزنه ومظهره وربما مما سمعت عنه، فلهذا تلتقطه وتهرب به. ولكن ما المنفعة إذا حملتَه إلى الأبد مغلقاً من دون أن تفتحه وترى الثروة التي يحتويها: تلألؤ الأحجار الثمينة، بريق المجوهرات ولمعان الذهب؟ ماذا تنتفع إن لم تكن قادراً على أخذ بعض منه لشراء طعام أو كساء؟ إذا حملت هذا الصندوق مغلقاً فلن تربح شيئاً رغم امتلائه بالثروات وستبقى عرضة للجوع والعطش والعري.
انتبه يا أخي، ولنطبّق هذا على الأمور الروحيّة. لنتصوّر أنّ هذا الصندوق هو إنجيل ربّنا يسوع المسيح وغيره من الكتابات المقدّسة. الحياة الأبديّة والبركات التي لا تُوصف موجودة في هذا الكتاب مختوماً عليها بطريقة لا تُرى. يقول السيّد: “فتّشوا الكتب لأنّكم تظنّون أنّ لكم فيها حياة أبديّة”.
الرجل الذي يحمل الصندوق هو مَن حَفِظ الكتاب عن ظهر قلب وردّده دائماً في فمه حافظاً إيّاه في ذاكرته كما في صندوق حجارة كريمة. ولأنّ كلام المسيح هو النور والحياة كما يقول هو “الذي يؤمن بالابن له حياة أبديّة والذي لا يؤمن بالابن لن يرى حياة”، هذا الصندوق يحتوي الفضائل والوصايا كالجواهر.
من الوصايا تفيض الفضائل ومنها إظهار الأسرار المخبّأة في الحروف. من إتمام الوصايا يأتي تطبيق الفضائل، وبتطبيق الفضائل إتمام الوصايا. إذاً بهذه فُتح لنا باب المعرفة. والأصحّ أنّه ليس بهذه فُتح لنا الباب إنّما بالقائل: “إن أحبّنى أحد يحفظ كلامي ويحبّه أبي..وأظهر له ذاتي”. وعندما “يسكن الله فينا ويسكن بيننا” يظهِر لنا نفسه ونعاين بوعي محتوى الصندوق والكنوز المخبّأة في الكتاب المقدّس. لا نخدعنّ أنفسنا، ليس من طريقة أخرى لفتح صندوق المعرفة والتمتّع بالأشياء الحسنة المحتواة فيه والمشاركة فيها ومعاينتها.
ولكن ما هي هذه الأشياء الحسنة التي أتكلم عليها؟ إنّها المحبّة اللامتناهية نحو الله والقريب، وازدراء كلّ المرئيّات، وكبح الجسد وكلّ أعضائنا التي على الأرض بما فيها الشهوة الرديئة. وكما الرجل الميت ليس له فكر يجب أن نكون دائماً بلا أفكار شريرة وشهوات وأحاسيس هوى. يجب أن لا نحسّ طغيان الشرّ واضطهاده، بل أن نعي فقط وصايا مخلّصنا المسيح. يجب أن نفتكر فقط بخلود المجد الإلهيّ وعدم انتهائه، وبمملكة السماء وبتبّي الله لنا عبر الروح القدس.
نحن أصبحنا أبناءً بالتبنيّ والنعمة، نحن “ورثة الله ووارثون مع المسيح” ونحن نكتسب فكر المسيح وعبره نرى الله والمسيح نفسه ساكناً فينا وسائراً معنا بطريقة ممكنة المعرفة. هذه الأشياء كلّها ممنوحة للذين يسمعون وصايا الله ويعملون بها. إنّهم يتمتّعون لا نهائياً بهذه الأشياء الثمينة التي تفوق الوصف عبر فتح الصندوق الذي تكلّمنا عنه، أي رفع الغطاء عن أعين فكرنا ومعاينة الأشياء المخبّأة في الكتاب المقدّس.
أمّا الآخرون الذين تنقصهم معرفة الأشياء واختبارها والتي تكلّمنا عنها فلن يتذوّقوا حلاوة ما في الكتاب المقدّس ولا الحياة الأبديّة الصادرة منه لأنّهم يتّكلون فقط على دراسة الكتاب. إضافة إلى ذلك، هذه الدراسة سوف تدينهم عند انتقالهم من هذه الأرض أكثر من الذين لم يسمعوا بالكتاب المقدّس مطلقاً. بعض أولئك يخطئ بجهله ويحرّف الكتاب المقدّس عندما يفسّره بحسب شهواته. هم يريدون أن يمدحوا أنفسهم كأنّهم قادرون على الخلاص بدون التقيّد الصحيح بوصايا المسيح وهكذا ينكرون قوّة الكتاب المقدّس.