قرأت لك: عندما لا تمطر السماء (1) – فيليب يانسي – أ/ أسعد حنس
الكتاب يطرح مجموعة من الأسئلة:
- أيهم الله أمرنا حقًا؟ فإن كان نعم فلماذا لا يتنازل ويصلح الأمور التي تسوء في حياتنا أو بعضًا منها على الأقل؟
- هل الله ظالم؟ فهناك أناس يتبعونه وانهارت حياتهم وآخرون ينكرونه ومع ذلك ينجحون؟
- هل الله صامت؟ نتوسل كثيرًا وما من إجابة.
- هل الله مختبئ؟ لماذا لا يتراءى لنا؟
لقد انزعج الكاتب في أول الأمر من مفهوم الإيمان، ومشكلة الألم وعلاقته بالإيمان، وهل يحتاج الإنسان إلى لمسة شخصية من الله أم لا؟
تناول الكاتب الإنجيل بعهديه حتى يجاوب على الأسئلة السابقة، فيرى أن سفر الخروج يبين تدخل الله في التاريخ البشري كل يوم تقريبًا، حيث تصرف الله بمنتهى العدل وتكلم بطريقة تتيح لكل إنسان أن يسمع وجعل الله ذاته مرئيًّا أيضًا، وظهر بصورة منظورة، إذًا لماذا نشعر بتباطؤ تدخل الله في حياتنا اليوم؟
يرى الكاتب أن العهد القديم يسجل اختبار تقييد للسلوك حيث عهد الله مع بني إسرائيل، ففي صحراء سيناء، قرر الله أن يكافئ ويعاقب شعبه القديم بعدل صارم وإنصافٍ مشرع. وقد وقّع الله كضامن لذلك، وأوقف ضمانه على شرطٍ وحيد وهو طاعة الشعب للشرائع التي أعطاها لهم بواسطة موسى. وحينما قارن الكاتب بين نتائج الطاعة ونتائج العصيان تبين له أن الشعب إذا أطاع سيُرفَع شأنَهم فوق أمم الأرض كلها، ولن يكونوا أبدًا في الانحطاط. ووعد بني إسرائيل بالحماية ، ولكن من يتتبّع القراءة في سفريّ يشوع والقضاة ليرى نتائج هذا العهد فسوف يتعجب؛ إنه بعد مضي 50 سنة من خروج الشعب من أرض مصر، كان بنو إسرائيل قد انحلّوا وانحطّوا إلى حالة من الفوضى الشاملة، لقد أخفق بنو إسرائيل في إطاعة الله والوفاء بشروط العهد.
وبعد مئات السنين، نظر كتَّاب العهد الجديد إلى تاريخ بني إسرائيل وأدركوا أن العهد القديم أدَّى دور الدرس النظريّ، إذ أثبتَ أنَّ البشر غير قادرين على إتمام معاهدة مع الله. وأصبح واضحًا لهم أن هناك إحتياج إلى عهدٍ جديد مع الله، عهدٌ مؤسس على الغفران والنعمة وليس الثواب والعقاب. ففي العهد القديم عين الله طرقًا كثيرة لإرشاد الشعب في بريَّة سيناء، سواء توقيت نصب خيامهم وتوقيت إرتحالهم، فما كان على العبراني إلاّ أن يُلقي نظرة على السحابة المخيمة على خيمة الاجتماع، فكان في وِسع الإنسان أن يعرف مشيئة الله على مدار الساعة، إذ كانت السحابة في الليل تتوهج كأنها عمود نار. وقد عيَّن الله أيضًا طُرقًا أخرى لتبليغ مشيئته مباشرة، مثل إلقاء القرعة والأوريم والتميم، فقد أفصح الله عن مشيئته لبني إسرايل في مجموعة من الأحكام مصنفة في حوالي 613 قانونًا تشمل كل نطاق السلوك، من القتل إلى طبخ جَدي بلبن أمه. ولكن هل كان من شأن الكلمة الصريحة من عند الله أن تُضاعِف احتمال طاعة الشعب لله؟ لا، فعلى ما يبدو أن وضوح مشيئة الله بحد ذاتِهِ كان له نتيجة مُعَوِقَة لإيمان بني إسرائيل. لماذا الإقدام بإيمان وقد ضمن الله النتائج سلفًا؟ لماذا مصارعة مأزق الخيارات المتضاربة وقد حل الله هذا المأزق مُسبقًا؟.
لقد ركز الكاتب على لماذا ينبغي أن يتصرف بنو إسرائيل تصرف الراشدين وفي وُسعهم أن يتصرفوا تصرف القاصرين؟ ولقد تصرفوا فعلاً تصرف القاصرين، متزمرين على قادتهم، وغاشِّين في القوانين الصارمة لالتقاط المن في البرية، وأنِّين بشأن كل نقص في الطعام أو الماء.
فإذا درس الإنسان قصة بني إسرائيل، سوف يُعيد النظر بشأن الإرشاد الواضح، فإنه يؤدِّي غرضًا ما ولكن لا يبدو أنه يُشجع على النمو الروحي، فالإرشاد الصريح استبعد الحريّة، جاعلاً كل خيار مسألة طاعة، لا إيمان. وفي أثناء 40 سنة من التيهان في البرية، رسب بنو إسرائيل في امتحان الطاعة رسوبًا شنيعًا حتى اضطر الله أن يبدأ مجددًّا بجيلٍ جديد.
لقد أكد الكاتب أن قراءته لقصة بني إسرائيل أظهرت له أن بني إسرائيل تجاوبوا لا بالتعبد والمحبة، بل بالخوف والعصيان العلنيّ. فحضور الله المنظور لم ينفع في إكسابهم إيمانًا ثابتًا. فإن بني إسرائيل، رغم مشاهدتهم نور حضور الله الساطع، كانوا شعبًا من أكثر الشعوب التي عاشت تقلبًا إذ إنهم تمردوا على الله 10 مرات مختلفة على أراضي سيناء. حتَّى أنهم عند حدود أرض الآباء بالذات، وخيراتها منبسطة أمامهم، كانوا ما يزالون يتحسرون على أيام الخير القديمة في زمن العبودية في مصر. وأدرك الكاتب أن المتتبع لحلة بني إسرائيل ينبغي أن يتمهل قليلاً ويفكر، أمن شأن طفرة عجائب أن تعزز الإيمان؟! فقد قدَّم لنا بنو إسرائيل برهانًا مبيّنًا على أن الآيات قد تجعلنا مدمني آياتٍ فحسب، لا مؤمنين بالله متوكلين عليه.
قام الكاتب بقراءة الكتاب المقدس كله ليُجاوب على الأسئلة السابقة، ودار في أفكاره ما يلي:
- أن انطباعاتنا العامة عن الله قد تكون مختلفة تمامًا عن حقيقة الإله الذي يصفه الكتاب المقدس فعلاً. فماهي طبيعة الله الحقيقية؟
- في الكنيسة، وفي كليَّات اللاهوت، نتعلم أن نفكر في الله على أنه روح غير منظور وغير متغير يتمتع بالقدرة على كل شيء، والعلم بكل شيء، والثبات وعدم التحيز. فتلك العقائد التي يُفترض أن تساعدنا على فهم وجهة النظر الصحيحة بشأن الله يمكن أن تجدها في الكتاب المقدس ولكنها دفينة في أعماقه.
- إذا قرأنا الكتاب المقدس ببساطة، نتقابل مع شخصًا حقيقيًا، شخص فريد ومميز ونابض بالحياة. فإن لدى الله عواطف عميقة، إذ يشعر بالسرور والحزن والغضب. والأنبياء قالوا أن الله ينتحب ويئن من الألم، مشَبِهًا نفسه أيضًا بامرأةٍ تلد، ومرة تلو الأخرى يصدمه سلوك الكائنات البشرية. فعندما يرتكب بنو إسرائيل تقديم الأطفال ذبائح، يبدو مذهولاً من جرّاء تلك الأفعال ويقل عنها، وهو الإله العارف بكل شيء، أنها أمر “لَمْ أُوصِي وَلاَ تَكَلمْتُ بِهِ، وَلاَ صَعَدَ عَلَى قَلْبِي” (ار9:19).
- أدهشَ الكاتب كم يسمح الله للبشر أن يؤثّروا فيه. فهناك علاقة حميميّة كانت تربط الله بابراهيم، موسى، داود، اشعياء، ارمياء. هؤلاء عاملوا الله بحميمية مذهلة. فقد حادثوه كما لوكان جالسًا على كرسي بقربهم، مثلما يتكلم المرء مع مُرشِد أو رب عمل أو أب أو حبيب. لقد عاملوه على أنه شخص.
- لقد تأمل الكاتب في وجهة نظر الله، لماذا يطلب الله الاتصال بالكائنات البشرية بالدرجة الأولى؟ ما الذي يلتمسه منّا؟
- تكوَّن لدى الكاتب إحساسٌ قويّ أن الله يريد، بصورة أساسية، أن يُحَبْ. فكل صفحة من صفحات الكتاب المقدس تُفصِح عن هذه الرسالة. ولذلك فإن الله له شغفٍ إلى المحبة من قِبَلْ شعبه، فإن جميع مشاعر الخيبة بالله تعود إلى خللٍ في تلك العلاقة.
لذلك بدأ الكاتب في استعراض – في سبيل الإجابة على الأسئلة الأربعة – في استعراض النقاط الآتية:
الآب السماوي
يتكلم سفر التكوين: أنه في اليوم السادس، برز الرجل والمرأة إلى الوجود، مخلوقين مختلفين عن كل ما عداهما. إذ خلقهما الله على صورته هوَّ، راغبًا في أن يلمس فيهما شيئًا من ذاته. فقد كان أشبه بمرآةٍ تعكس شبهه. ولكن كان لدى آدم وحواء أيضًا فارق آخر: فوحدهما بين خلائق الله جميعًا وُهِبَ إمكانية خلقية بأن يتمردا على خالقهما. كأنما كان في وِسع أشخاص الرواية أن يعيدوا كتابة سطورها. فكانا حرَّين. فلقد كان الإنسان مجازفة الله. وعبَّرَ لاهوتيّ آخر وقال: لقد سجن الله نفسه في قراره، إذا جازَ التعبير. فيكاد كل ما يقوله اللاهوتيون عن حريّة الإنسان يبدو صحيحًا بطريقةٍ ما وخاطئًا بطريقةٍ ما. فكيف يقدر إله مُطلَق السيادة أم يُجازف أو يسجن نفسه؟ ومع ذلك، فإن خلق الله للرجل والمرأة أظهر ذلك النوع من تقييد الذات المذهل، وطرح أيضًا مجموعة من الأسئلة:
- لماذا كان من شأن آدم وحواء أن يتمردا؟
- لو كانت لديهما شكوى لاستطاعا أن يتباحثا فيها مع الله كما مع صديق.
- كانت تلك الشجرة الواحدة المحرمة ذات الاسم المغري والظاهر أن الله كان يخفي عنهما شيئًا. فأي ُّ سر يكمُن وراء شجرة معرفة الخير والشر؟
- لا يمكن لهما أن يعرفا سر الشجرة إلاَّ إذا جربا، ومن ثمَّ اختار آدم وحواء خيارهما الخاص، فأكلا من الشجرة، ولم تعد الأرض إطلاقًا كما كانت.
وبين سفر التكوين في الإصحاح الثالث حقيقة شعور الله لمَّا عصى آدم وحواء: الحزن على العلاقة المنهارة؛ الغضب حيال إنكارهما، إحساس كجرس الإنذار على نحوٍ مدهش: “هُوَذَا الإِنْسَانْ قَدْ صَارَ كَوَاحِدٍ مِنَّا، عَارِفًا الْخَيْرَ وَالْشَرَ. وَالآنَ لَعَلَهُ يَمُدَّ يَدَهُ وَيَأْخُذُ مَنْ شَجَرَةَ الْحَيَاةِ وَيَأكُلُ وَيَحْيَا إِلَى الْأَبَدِ”.
فباختيارهما اقاما مسافة بينهما وبين الله. وقبل ذلك، كانا يتمشيانِ ويتحثانِ مع الله. أما بعد الأكل من الشجرة، فإن انفصالاً رهيبًا قد دخل إلى تلك العلاقة الوثيقة، وكل اهتزازٍ وخيبة في علاقتنا بالله اليوم، إنما هيَ هزة ارتدادية ناجمة عن فعل تمردهما الأول.
ورغم تمرد آدم وحواء، لم يتخلَ الله عن خليقته. ولكنه استمر في لقاءاته الشخصية بالبشر. ورأى الكاتب أن الله يتعلم (يعلن) كيف يكون أبًا. فإن الانهيار في جنة عدن غير العالم إلى الأبد، مبددًا العلاقة الوثيقة التي اختبرها آدم وحواء بالله. وفيما يشبه الاستعداد للتاريخ، فقد سار البشر على نهج مخالفة كل قاعدة، ورد الله بمعاقبات تناسب كل وضع بمفرده. وطرح الكاتب تعبير ماذا كان الشعور الذي صَحَبَ كون الله إلهًا؟ وأي شعور يُخالج أبًا لولدٍ عمره سنتان؟
لقد بدا الله أبًا قريبًا، فلمَّا أخطأ آدم، التقاه الله شخصيًّا، وبيَّن له أن الخليقة كلها ستضطر إلى التكيف بمقتضى الخيار الذي اختاره آدم.
بعد جيلٍ واحدٍ فقط ظهر على الأرض نوع جديد من الرعب، ألا وهو القتل. فواجه الله قايين قائلاً: ماذا فعلت؟ صوت دم أخيك. ومرة أخرى قابل الله المجرم وحدَّدَ له عقابًا عُرفيًّا. وبعد ذلك حالة الأرض، والجنس البشري كله، استمرت تتقهقر نحو نقطة أزمة كُبرَى يلخصها الكتاب المقدس بعبارة لازعة: “حَزِنَ الْرَّبَّ أَنَّهُ عَمِلَ الإِنْسَانَ فِي الأَرْضِ، وَتَاَسَفَ فِي قَلْبِهِ”. فوراء هذه العبارة الواحدة يكْمُن كل ما شعر به الله بصفته أبًا من اشمئزازٍ وحزن.
أي أب بشري لم يختبر على الأقل نوبة كهذه من الندم والأسف؟ فذلك الرفض هو ما اختبره الله، ليس فقط من قِبَل ولدٌ واحدُ، بل من الجنس البشري كله. نتيجة لذلك، دمَّرَ الله ما كان قد خلقه. وإذا بفرحة تكوين 1 كلها تتلاشى تحت مياه الطوفان.
ولكن كان هناك نوح، رجل الإيمان الواحد ذاك الذي سار مع الله. فبعد الندامة المُعبَّر عنها في تكوين 3-7، يعمد الله نوح، ويعود إلى التعبد لله الذي خلصه، فها هو أخيرًا شخص يُركَن إليه. ثمَّ ارتبط الله بعهدٍ أوميثاق لا تجاه نوح وحده بل تجاه كل مخلوقٍ حي. وقد اشتمل العهد على وعدٍ واحدٍ فقط: أن الله لن يُفني ثانيةً الخليقة كلها أبدً. حيث يقر طرف بأنه لن يزيل الآخر. ومع ذلك، ففي ذلك الوعد أيضًا قيد الله نفسه (أب يقيد نفسه لأجل أبناءه). لقد احتمل الله الشر على هذا الكوكب إلى حين، أو بالأحرى حتى يحله بوسيلة أخرى غير الإفناء. وكأنه أبو مراهق هارب اضطر نفسه إلى القيام بدور أب ينتظر (قصة الابن الضال).
لم يمضي زمن طويل حتى جاء تمرد عام آخر في مكانٍ اسمه بابل، ولكن وفَّى الله بوعده من جهة عدم الإفناء.
إذًا تصرف الله بصراحة ووضوح دون شكاية أحد من احتجاب الله أو صمته. إلاَّ أن تدخلات الله اظهرت ميزةً واحدةً مهمة: أن كلاَّ منها كان عقابًا، ردًّا على تمردٍ بشريّ. وإذا كان قصد الله أن تكون له علاقة غنية بكائنات بشرية حرة، فمؤكد أن الله واجه سلسة من العوائق الفظّة. فكيف يمكن أصلاً أن يتواصل مع خلائقه كراشدين وهم يمعنون في التصرف كما يتصرف القاصرون؟!
تكوين12 يوضح تغيير هائل. فلأول مرة منذ أيام آدم، تقدم الله لا ليعاقب، بل ليُطلق حركة خطة جديدة للتاريخ البشري.