الوثيقة Q وتأثيرها علي فهم المسيحية
هذا المقال هو إستكمالا للمقالات السابقة:
يسوع المسيح في مصادر الأناجيل الكنسية
الوثيقة Q المصدر: يسوع وكيل مملكة الله
سيبقى على الأرجح وجود مصادر الأناجيل وقيمتها مواضيع حية للنقاش في البحوث التي تتطرق للعهد الجديد. بعضهم يقبل بـ”ل”، حيث تجرى بحوث مؤخراً تستند إليه. وربما يبقي “م” مصدراً وحيداً لمتى. فمصدر إشارات يوحنا مقبول على نطاق واسع، إلا أن نطاقه موضع نزاع. كما أن “ق” مقبول كجزء من حل مشكلة الأناجيل السنوبتية، إلا أن الكثير من الجدل يخيم على أصله وتطوره وتفسيره.
على الرغم من الإجماع الذي يرافق “ق” ويرافق “ل” ويرافق مصدر الإشارات الخاص بيوحنا إلى درجة أقل بكثير، تبقى هذه المصادر افتراضية. فمهما كانت درجة الإجماع لا يمكن لها التوصل إلى اليقين في هذا الصدد، ويمكن للطبيعة الافتراضية لهذه المصادر أن تنقشع فقط عن طريق اكتشاف وثائق حقيقية أو مراجع موثوقة لها في وثائق أخرى غير مكتشفة، وهذا أمر غير مرجح. وعلاوة على ذلك، قد تكون هذه المصادر ناقصة. فنحن نعرفها فقط لأن الأناجيل استخدمتها، ولا نعرف فيما لو كانوا قد استخدموها بالكامل.
ولا يمكننا إعادة بناء الصياغة الدقيقة لنصل لدرجة اليقين، ولا نستطيع التأكد من ترتيبهم الداخلي الصحيح. فينبغي دائماً إبقاء الطبيعية الافتراضية لهذه المصادر المعاد بناؤها نصب أعيننا. ولنأخذ مثالاً صغيراً، في رأيي ينبغي الاستشهاد بفقرات “ق” بصيغة: لوقا (فصل كذا، آية كذا)، أو لوقا (فصل كذا، آية كذا) “ق”، وليس بصيغة: “ق” (فصل كذا، آية كذا).
كما ينبغي على البحوث أيضاً الترجيب بالأصوات المعارضة التي تتحدى وجود هذه المصادر، والطريقة التي أعاد بها النقاد بناء هذه المصادر، واستخدام البحوث التي تجرى على العهد الجديد لتلك المصادر. كما ينبغي على نقاد المصادر توخي الحذر في أعمالهم.
وعلى الرغم من تطبيق أي عملية نقدية على مصادر الأناجيل بعناية، إلا أن ذلك يبقي محاولة ضرورية وغالباً ما تكون مثمرة. قد يرفض الرافضون ذلك تماماً معتبرين ذلك مشروعاً افتراضياً بطبيعته، لكن من الناحية الثانية، تبقى أي نظرية مصممة لتفسير المشكلة المتعلقة بالأناجيل السينوبتية نظرية افتراضية، حيث ينشأ نقد المصادر إلى حد كبير من النص نفسه وهو محاولة لإيجاد حل لألغازه. كما أن المقترحات الراديكالية هي موضع ترحيب باعتبارها جزءاً من النقاش الدائر حول أصول المسيحية.
وطالما أن الفرضيات تخضع لعمليات اختبار، وأن الأمر الافتراضية يتم مقارنتها مع ما هو معروف نسبياً أنه يتحلى بمزيد من اليقين، فبصورة عامة ينبغي المضي قدماً في المناقشة.
ما يزال يشكل البحث في “ل” وفي مصدر إشارات يوحنا ثقلاً مقابلاً لكن أقل قيمة بالنسبة للبحث الذي يجرى على “ق”. وكما رأينا، يتمتع “ل” بنفس قدر إدعاء “ق” أو أكثر بأنه يحتفظ بتقاليد يسوع الأصلية. بشكله السردي، وألقابه المسيحانية، ومعجزاته، يقدم مصدر إشارات يوحنا الطباق اللازم لـ”ق”.
ففي كثير من الأحيان يميل هؤلاء الذين يعززون قيمة “ق” إلى إغفال مصادر الإنجيل الأخرى ويلمحون إلى أن “ق” هو الذي يمثل المجتمع الفلسطيني الأول، لكن لن تتضح المساهمات النسبية لجميع المصادر إلا عند اتخاذ رؤية شاملة لمصادر الأناجيل.
ماذا حدث لهذه المصادر التي لم تعد موجودة؟ من الواضح أنها، وبغض النظر عن كونها استخدمت في الأناجيل، اختفت دون أن تترك أي أثر. فلم ينجُ أي دليل مكتوب، ولم يذكر أي كاتب مسيحي قديم تلك المصادر.
كما لا يعتبر هذا الصمت في حد ذاته بالضرورة دليلاً على أنها لم تكن موجودة، كما يدعي مايكل غولدر. إن التفسير الذي يُطرح عادة هو أنه عندما تناول كتاب الأناجيل تلك المصادر، أصبحت قديمة و”فقدت”. هذا معقول جداً، لكن المجتمعات التي استخدمتها ونسختها أيضاً اختفت على الأرجح في الكنائس التي استخدمت الأناجيل الكاملة.
أحياناً يكون هناك تمييز بين لاهوت المصادر وبين لاهوت الأناجيل حيث تم الحفاظ عليها. لكن هل استخدم كتّاب متى ومرقص ولوقا المصادر بصورة تتعارض تماماً مع آرائهم الشخصية؟ هذا بالكاد يكون ممكناً. ينبغي علينا أن نفترض على الأقل بعض التوافق في اللاهوت بين الأناجيل ومصادرها. فاعتماد متى وتكيفه مع مسيحية حكمة “ق” يوفر قضية بارزة في صميم الموضوع. فقد استخدم كتاب الأناجيل مصادرهم وجمعوها في بعض الأحيان مع مصادر أخرى ودائماً ما كانوا يجمعون معها مساهماتهم الإنشائية الخاصة بهم.
لقد وضع “ق” في سياق أوسع، بإطار سردي لتعاليم يسوع المأخوذة إلى حد كبير من مرقص وبسرد عن الآلام والقيامة في النهاية. كما قام لوقا بدمج مصدره “ل” أيضاً، جاعلاً إياه يتفق مع أفكاره الدينية عموماً. وقد استخدم كاتب الإنجيل الرابع مصدر الإشارات في جزء كبير من النصف الأول لعمله، مؤكداً ومصححاً لرؤيته للإشارات أثناء كتابته.
وهكذا، قد يكون كتّاب الأناجيل نظروا إلى مصادرهم على أنها تقاليد صحيحة عن يسوع، إلا أنها تحتاج إلى الإضافة والصحيح. وقد يكون هذا جزءاً مما يعنيه لوقا عندما قال إنه تتبع “كل شيء” من الأول بتدقيق (لوقا 3:1). بطريقة أو بأخرى، واصلت الكنيسة هذه العملية عن طريق إدراج أربعة أناجيب في العهد الجديد، وبذلك تبقى تتمتع بأربع وجهات نظر، حتى أن المسيحيين المتعلمين تمتعوا بتنوع أكثر، إذا أردنا التحدث وفق ما يقول نجع حمادي.
تتنوع صورة يسوع التي تنبثق من هذه المصادر. فـ”ل” يصور يسوع على أنه المعلم المخول من الله، حيث تدعم معجزاته زعمه. ومصدر إشارات يوحنا يصوره على أنه مسيح الله، حيث يجلب الإيمان به الحياة. أما “ق” فيصوره على أنه وكيل الله في الملكوت. وتنخفض مسيحانية هذه المصادر بالمقارنة مع المسيحانية الكاملة للأناجيل، لكن هذا أمر متوقع. فجميع المصادر تتحدث عن العلاقة بين تعاليم وأعمال يسوع وبين شخصه.
فكلهم يدعون أن يسوع هو رسول الله المخول، ويصرون على أن موقف الشخص تجاه رسالة يسوع وشخصه تحدد موقف هذا الشخص من الله. وبهذا المعنى، فهم لا يمثلون “حركات يسوع” وإنما يمثلون المسيحية. رؤية يسوع هذه مهمة عندما نفكر بالطريقة التي نظر فيها أولئك الذيم قرؤوا تلك المصادر إلى موت يسوع وقيامته.
فلو كانت تعاليم يسوع مهمة في “ق” فقط، ولو لم يكن يسوع هو “وسيط” لحكم الله، حينها لن تكون حياته وموته وقيامته ذات أهمية. لكن في حال كان شخصه وتعاليمه مرتبطين ببعضهما بعضاً، حينها سيكون الباب مفتوحاً أمام هذه الوثائق ومجتمعاتها للانضمام إلى الأناجيل المتطورة والكاملة وكنائسها التي صنعت هذا الارتباط.
أخيراً، هل ينبغي لنا أن نعيد بناء المسيحية الحديثة على أساس مصادر تعود لحقبة ما قبل الفترة الكنسية؟ هل ينبغي، على سبيل المثال، إدخال “ق” إلى القانون الكنسي للعهد الجديد؟ لقد أصر روبرت فنك على برنامج كهذا.
إن هذا الأمر يعد إلى حد كبير مسألة لاهوتية، حيث لا يمكن للدراسة التاريخية إلا أن تقدم إجابة جزئية فقط. ومع ذلك ونظراً لأن طبيعة المعتقد المسيحي يستند إلى التاريخ، تعتبر هذه القضية قضية مهمة، وينبغي أخذ المحاذير الأربعة التالية بعين الاعتبار.
أولاً، ما هو التفسير الذي ينبغي على المسيحية الاستناد إله من بين هذه التفاسير الكثيرة لـ”ق”؟
ثانياً، إذا تم “إعادة النظر” في المسيحية على أساس “ق” فإن ذلك يعني تجاهل المصادر الأخرى التي جاءت قبل الفترة الكنسية التي تقدم أيضاً رؤية مبكرة ليسوع.
ثالثاً، إذا تم تغيير المسيحية على أساس البحث التاريخي فقط فذلك يعني تجاهل قيود المعرفة التاريخية. إن كانت عمليات البحث غير قادرة على اكتشاف متى ومن هو الذي أطلق المصطلح “ق” في القرن التاسع عشر بصورة أكيدة، وبالضبط ما الذي يعنيه هذا المصطلح بالنسبة لأولئك الذين استخدموه لأول مرة، كيف يمكن لعمليات البحث إعادة بناء وثيقة “ق” التي تعود للقرن الأول بدرجة من اليقين حيث سيخاطر الناس بحياتهم هذه وحياتهم الثانية بناءً عليها؟
رابعاً، ينبغي على المرء، عند التفكير ملياً في احتمالية إعادة بناء أصول المسيحية، النظر في الاستبعاد المتزايد لتلك الاحتمالات التي ترتكز على فرضيات متتالية ومتعددة.
وتنص نظرية الاحتمالات على أن احتمالية التوصل إلى نتيجة تتم عن طريق مضاعفة احتمالات كل حلقة في السلسلة التي تفضي إلى الاستنتاج. في هذه الحالة ترتكز نتيجة أن المجتمع الأول لـ”ق” يمثل أفضل نموذج للمسيحية على خمس افتراضات على التوالي:
1-أولوية مرقص.
2-وجود “ق”.
3-إعادة بناء صياغة “ق”.
4-التصنيف الطبقي الصحيح لـ”ق”.
5-الحكم النسبي بأن نسخة “ق” الأولى هي النسخة الأكثر تمثيلاً لتعاليم يسوع بالمقارنة مع غيرها من المؤلفات المسيحية الأولى.
ولمواصلة المسير نحو (5) في الوقت الذي يقبل فيه علماء العهد الجديد بـ(1) و(2)، يجب جعل هذا الموقف أكثر غموضاً والتباساً وبصورة متسارعة. وهذا لا يعني أنه لا يمكن أو لا ينبغي القيام بذلك، بل يعني أنه ينبغي على هؤلاء الذين يواصلون المسير نحو (3) و(4) و(5) الاعتراف بالضعف المتزايد لمواقفهم. وسينشغل مستقبل دراسات “ق” بكل الاحتمالات بمسألة أهمية “ق” القديمة والحديثة.