يسوع المسيح في مصادر الأناجيل الكنسية
يسوع المسيح في مصادر الأناجيل الكنسية
في هذا الفصل سيتم الحديث عن الذين عايشوا يسوع في المصادر الافتراضية للأناجيل الكنسية، فقد حاول معظم الباحثين في هذه المصادر فهم كيفية استخدام مؤلفي الأناجيل لهذه المعايشة لتوضيح الأمور الخاصة التي أكدتها هذه الأناجيل، بالإضافة إلى أشياء أخرى. إن مادة هذا البحث تتعارض مع عنوان الكتاب، فهي داخل إطار العهد الجديد. ومع أن الأبحاث الأولى عن يسوع خارج إطار العهد الجديد لا تشير إلى المصادر الكنسية، فقد تعامل العلماء منذ نحو عام 1970 مع هذه المصادر كما لو كانت خارج العهد الجديد، أي، كمصادر مستقلة لمعرفتنا عن يسوع. فهي تثبت الأشكال الأولى للمسيحية، أو كما يصفها البعض: “تحركات يسوع” التي كانت موجودة قبل أو مع ظهور الأشكال الأولى للمسيحية.
سيتم البحث هنا في أربعة مصادر إنجيلية تعتبر شهوداً من خارج القانون الكنسي على يسوع. وتبدو مصادر مرقص الممكنة: مجموعات المعجزات، والخطب الرؤيوية، من ضمنها بداية سرد آلام المسيح، متباينة للغاية بالنسبة للباحثين العصريين، ولسنا بصدد النظر فيها هنا([1]).
أولاً، سنناقش المادة الخاصة بلوقا: المعروفة بالمصدر “ل”. ثانياً، سنناقش المادة الخاصة بإنجيل متى: المسماة بـ “م”. يحتوي “ل” على بعض المضامين السردية، إلا أن “ل” و”م” يحتويان على تعاليم يسوع. ومن ثم سننظر في المصدر الخاص بالإنجيل الرابع، الذي يدعى على نطاق واسع بـ: “مصدر الإشارات”. ربما كان يشكل هذا المصدر أول إنجيل كامل شبيه بالأناجيل الكنسية، حيث يحتوي على تعاليم بسياق سردي وينتهي بموت يسوع وانبعاثه.
أخيراً، سنكرس القسم الأكبر في هذا الفصل للبحث في “مصدر الأقوال المأثورة” لمتى ولوقا، التي تحمل اسم: وثيقة “ق”. إن هذا المصدر الافتراضي على وجه العموم، وليس على وجه الحصر، مؤلف من مادة تعليمية. إن وثيقة “ق” ليست مصدراً أكثر تعقيداً من المصادر الأخرى فحسب، بل كانت أيضاً موضوعاً رئيسياً، تقريباً مركز العاصفة، بالنسبة للأبحاث المعاصرة التي تعنى بيسوع. لن نركز على طريقة استخدام الأناجيل الكنسية لهذه المصادر الأربعة، بل ستكون مهمتناً بدلاً من ذلك فهم ما تخبرنا به هذه المصادر عن يسوع في الماضي.
وسنعرض في كل قسم المصدر المقترح، بالإضافة إلى تلخيص تاريخ بحثه. ومن ثم سنعرض محتوى المصدر بشكل جدول، نظراً لطوله الذي يصعب إعادة تقديمه هنا بصورة كاملة. بعد ذلك، سنقدر صحته كمصدر محاكٍ للبحث الحديث ونبحث في رؤيته ليسوع.
“ل”: يسوع، المعلم والشافي الجبار
تقول المقدمة الآسرة لإنجيل لوقا: إذ كان كثيرون قد أخذوا بتأليف قصة في الأمور المتيقنة عندنا، كما سلمها إلينا الذين كانوا منذ البدء معاينين وخداماً للكلمة، رأيت أنا أيضاً إذ قد تتبعت كل شيء من البداية بتدقيق، أن أكتب على التوالي إليك أيها العزيز ثاوفيلس، لتعرف صحة الكلام الذي عُلمت به. (لوقا 1:1-4).
ماذا كانت تلك القصص الكثيرة المكتوبة التي كان لوقا يحاول تحسينها؟ لقد وجد العلماء جوانب كثيرة في هذه المقدمة الآسرة، لاسيما أسلوبها. فهي تتحدث عن موضوع هذا الفصل ضمنياً، أي مصدر خاص بإنجيل لوقا لا يتشارك فيه مؤلفو الأناجيل الأخرى.
في نظرية أصول الأناجيل السينوبتية التي يوافق عليها الجميع، أي “نظرية المَصْدَرَيَن”، استخدم المؤلف في إنجيل لوقا ومتى مصدرين رئيسين. المصدر الأول هو إنجيل مرقص، الذي يشكل ثلث إنجيل لوقا. فلوقا يتتبع نسق مرقص ويأخذ أجزاءٌ كبيرة من مواده التعليمية والسردية مع بعض الاستثناءات القليلة([2]). المصدر الثاني هو وثيقة “ق”، وهي عبارة عن مادة تعليمية تشكل نحو خُمس إنجيل لوقا.
وقد يكون لوقا استخدم مجموعة شفهية أو مكتوبة من مادة خاصة بإنجيله، وتسمى: المصدر “ل”، حيث تشكل هذه المادة الخاصة جزءاً كبيراً من هذا الإنجيل، وتقدر بين ثلث إلى نصف الإنجيل. وتبدأ معظمها بتعاليم يسوع، كما تحتوي على بعض أهم الحكايات الرمزية: السامري الصالح والابن المسرف، والرجل الغني ولازاروس. كما تحتوي على قصص سردية بارزة: توبة زكّا، والخلاف بين مريم ومارثا على خدمة يسوع على نحو حقيقي، وامتنان السامري الأبرص.
لقد أظهر البحث في يسوع التاريخي إلى حد بعيد أصالة محتويات لوقا المميزة: التعاليم والقصص السردية على حد سواء. وتعود دراسة “ل” كمصدر للوقا إلى بداية القرن العشرين مع برنارد لويس وبول فينن الذين كانا من بين الأوائل الذين قاموا ببحث شامل عن مصدر “ل”. وعلى الرغم من أن بعض الباحثين قاموا بالبحث فيه من وقت لآخر خلال القرن العشرين، إلا أنه لم يكن موضوع بحث رئيسي.
وكانت فرضية وجود إنجيل “بروتو – لوقا” جذابة للبعض، وغالباً ما كانت تطغي على “ل”، وقد اتجهت دراسة وثيقة “ق”، التي كانت تطفو إلى السطح، نحو حجب الدراسة في مصادر أخرى للإنجيل. ومع ذلك، ازداد الاهتمام بـ”ل” ازدياداً كبيراً منذ نحو عام 1980، حيث أدرك الباحثون بكل سهولة المحيط الخارجي لمادة “ل”: كل شيء في لوقا غير متماثل مع مرقص أو وثيقة “ق”. وقد قالت قلة من الباحثين إن لوقا نفسه كتب جميع هذه المواد، لذلك لا تشير أي من محتويات تلك المواد إلى أي مصدر.
أولاً: لقد قدم هوارد مارشال أسباباً وجيهة تدعم عدم إمكانية الدفاع عن هذه النظرة المتطرفة([3]). أما عن الطرف الآخر فقد وقف أولئك الذين يرون أن هناك علاقة وثيقة بين جميع أو معظم مواد لوقا الخاصة: سوندرغوت، في الدراسة الألمانية الأخيرة حول “ل”، وسندركيل بين المصدر “ل”([4]). كما يتخذ معظم الباحثين الذين يفترضون مصدر “ل” موقفاً وسطاً عن طريق إسقاط تلك المقاطع التي يعتقد أنها كانت من تأليف الكاتب لوقا من المجموعة بأسرها.
وغالباً ما يتم استبعاد تلك المواد التي ربما تطورت عن مصدر آخر، مثل القصص السردية عن الطفولة، أو القصص السردية عن آلام المسيح، أو القصص السردية عن القيامة. من هنا يدخل الشك، فبالنظر إلى كتّاب الأناجيل الكنسية، يُعتبر لوقا الكاتب الأكثر مهارة نظراً لقدرته الأدبية بصورة عامة، وفي مجال استخدام مصادره بصورة خاصة. إنه ليس كاتب “قص ولصق”. حيث يمكن وبكل سهولة تمييز المصدر “ل” الخاص به من خلال العمل الذي قام به.
لم تجمع الدراسات الأخيرة على وجود “ل”، حيث ينكر بعض العلماء أن المادة الخاصة بلوقا مستمدة من المصدر “ل”. فعلى سبيل المثال، يؤكد هيلموت كوستر على الحجم الكبير وعدم تجانس المادة في الشكل، ويفكر في استبعاد فكرة وجود مصدر وحيد. كما يخلص أودو شينيلي إلى أن لوقا لا يمتلك المصدر “ل”، وذلك لوجود اختلافات لغوية ضمن المواد الخاصة، وكلها تحمل علامات العمل التحريري الخاص بلوقا… ويقف التفاوت في المواد وغياب مبدأ الترتيب الداخلي في وجه وجود مصدر مستقل للمواد الخاصة بلوقا. من ناحية أخرى، يقول إدوارد شفايتزو بوجود “ل” بالفعل، وذلك نظرأ لـ:
- تظهر في “ل” تشابهات مع أقسام موثوقة في كل من مرقص ووثيقة “ق”.
- يشير لوقا في مقدمته إلى العديد من الأسلاف المسجلين.
- يضمّ المصدر المقترح مواد لغوية مشتركة على نحوٍ واضح.
- يحتوي المصدر على مواضيع موحدة، مثل: النساء، والفقراء، والنعمة الإلهية.
- يختلف “ل” في ترتيب بعض مواده مقارنةَ مع مرقص، وهناك انسجام مع متَى مقارنة مع مرقص.
- تشير التعارضات في لوقا إلى مستويات مختلفة من الأعراف تتعدى ما استُخدم له كل من مرقص و”ق”.
في البحوث الجارية على “ل”، تعد أطروحة كيم بافينروث التي نشرت في عام 1997، وكانت بعنوان قصة يسوع وفقاً لـ”ل”، من أشمل وأدق الأعمال. فبافينروث يقوم بفرز مصدر “ل” المترابط عن طريق التخلص من المواد التي ألفها كاتب الإنجيل أو قام بتحريرها، ومن ثم يحلل المفردات والأسلوب وخصائصها الشكلية ومضمون المادة المتبقية. ويخلص إلى أن: المادة “ل” فيها ما يكفي من أوجه الاختلاف عن نمط وشكل ومضمون لوقا، الذي يجعل من المحتمل أنه يشكل مصدر “ل”.
وعلاوة على ذلك، يخلص إلى أنه مصدر مترابط وموحد. فـ”ل” يحتوي على عناصر شفوية قوية، ولكن من المحتمل أكثر أن لا يكون وثيقة. فقد كتب يهود مسيحيون في فلسطين في الفترة الواقعة ما بين 40 و60م. وتبقى بعض التساؤلات قائمة بشأن جهود بافينروث ([5])، إلا أنه طرح أقوى قضية عن مصدر “ل” حتى الآن. لقد اخترت أن أستفيد من بحثه هنا، لأنه إلى حد ما يدل على نتائج فهم الآخرين لمصدر “ل”، ولأنه من المرجح أن يشكل أساس البحث القادم في “ل”.
محتويات “ل” في لوقا التي حددها بافينروث هي كما يلي:
وعظ يوحنا المعمدان | 10:3-14 |
معجزات إيليا للوثنيين | 25:4-27 |
يسوع يريي ابن أرملة في نايين | 11ب:7-15 |
مغفرة خطيئة امرأة مذنبة | 36:7-47 |
قصة السامري الصالح | 30:10-37أ |
نزاع مريم ومارثا، مريم على صواب | 39:10-42 |
قصة الصديق اللحوح | 5:11ب-8 |
قصة الغبي الغني | 16:12ب-20 |
قصة الحاجب | 35:12-38 |
تب أو مت | 1:13ب-5 |
قصة شجرة التين الجرداء | 6:13ب-9 |
الشفاء في يوم السبت | 10:13-17ب |
التحذير من هيرودس، استجابة التحدي | 31:13ب-32 |
الشفاء في يوم السبت | 2:14-5 |
قصة اختيار مكان على الطاولة | 8:14-10، 12-14 |
إحصاء الثمن | 28:14-32 |
قصة الخراف المفقودة | 4:15-6 |
قصة العملة المفقودة | 8:15-9 |
قصة الابن “المسرف” المفقود | 11:15-32 |
قصة المدير المخادع | 1:16ب-8 |
قصة الرجل الغني ولازاروس | 19:16-31 |
قل: “قمنا بواجبنا فقط”. | 7:17-10 |
شفاء عشرة من مرضى البرص، السامري الشاكر | 12:17-18 |
قصة القاضي الظالم | 2:18-18أ |
قصة الفريسي المرائي والعشار | 10:18-14أ |
زكا يتوب | 2:19-10 |
على افتراض أن هذه المحتويات تشير تقريباً إلى المصدر “ل”، فكيف يصور المصدر “ل” يسوع؟ أولاً، يسوع هو معلم أمين على نعمة الله الجوهرية والخالصة. فنعمة الله تغفر الذنوب، وتشفي أمراض الإنسان، وترجع أفراد شعب الله إلى الحظيرة. ويسوع هو نفسه وكيل هذا النشاط. فقد جاء للبحث عن الضالين وإيجادهم، وإعادتهم إلى شعب الله الذين قطعوا وعداً على عبادته.
وكان أول ما وجهت هذه النعمة إلى بني إسرائيل، ومن ثم تُدمر حدود إسرائيل، وتبدأ رسالة يسوع بالخروج إلى العالم عندما يُعاد السامريون إلى الحظيرة (موجودة في 30:10-37، 12:17-18). كما يعمل يسوع على جلب النساء إلى ملكوت الله حيث الحرية.
إن تعاليم المسيح فيما يخص الغني هي، على الأقل في التجديد الذي قام به بافينروث، معتدلة بصورة ملحوظة. فإلى جانب قصة الرجل الغني ولازاوس، لا يؤكد يسوع على أي من فضائل الفقر ولا مخاطر الثورة، فقد قام لوقا بإضافة هذه التأكيدات، وقد يكون استمدها من وثيقة “ق”.
ولا يفرض يسوع على حوارييه القيام بنشاط تبشيري فقير أو جوال، بل، يتم الإشارة إلى المجتمع المستقر الذي يتمتع ببعض الوسائل. بالإجمال، يصور “ل” يسوع على أنه: “معلم أخلاقي قوي أقام البرهان على مصداقية تعاليمه وكشف عنها من خلال أعمال الشفاء التي قام بها”.
ومن الجدير ذكره أيضاً ما هو غير موجود في المصدر “ل” مقارنة مع الأناجيل الكنسية. أولاً، لا يوجد عناوين مسيحانية في هذا المصدر. فالمسيحانية الخاصة به ترد ضمناً في أفعال يسوع وتعاليمه، مع لمسات واضحة لإليليا في بدايتها (في 25:4-27 و11:7ب-15). هذا النوع من المسيحانية النبوية تتماشى مع بداية المسيحية اليهودية.
ثانياً، لا يصور “ل” يسوع على أنه منقذ معذب ومشرف على الموت، فـ”ل” يفتقر إلى سرد آلام المسيح، ولا يؤكد مضمونه هذا الدور. ومع ذلك، من الخطأ أن نخلص من هذا الصمت إلى أن المجتمع الذي استخدم “ل” لم يعرف بموت يسوع وقيامته، أو اعتقد أن ذلك الأمر ليس على أي درجة من الأهمية. فيممكن شرح هذا الصمت الذي يخيم على موت يسوع وقيامته بطرق أخرى، لاسيما إذا كان “ل” معداً ليكون فقط مجموعة تضم تعاليم يسوع بهدف إتمام قصة يسوع ككل.
فيحتوي مرقص، وهو مصدر لوقا الرئيسي، على مواد غنية تتحدث عن هذا الموضوع كان لوقا قد استقى منها، المواد التي قد تكون استبدلت أي شيء يشير إلى موت يسوع قد ورد في “ل”([6]). وعلاوة على ذلك، يورد “ل” معارضة قوية ليسوع من جانب الفريسيين المرائيين ومعارضة قد تكون مميتة من جانب هيرودس.
هل “ل” هي الرواية الكاملة لمقصد يسوع ورسالته إلى المجتمع الذي استخدمه على الأرجح؟ يعتمد الجواب على شكل “ل” الذي تم تجديده انطلاقاً من المحتوى الخاص بلوقا، وعلى الطريقة التي اتصف بها أسلوبه. ففي التجديد الذي قام به بافينروث، يبدأ “ل” بيوحنا المعمدان وينتهي قبل آلام المسيح. وقد استعبد من “ل” المادة الخاصة بلوقا مثل القصص السردية عن الطفولة (الفصول 1-2)، والنساء اللواتي كن عند الصليب وتبعن يسوع (49:23)، ووصف ظهور يسوع بعد قيامته (12:24-49).
وعلى الرغم من أن تجديده لـ”ل” هو أقصر من جميع التجديدات التي قام بها أكثر النقاد الآخرين، إلا أن عنوان بافينروث يشير إلى اكتمال “ل”: قصة يسوع وفقاً لـ”ل”. ومع ذلك لا يتعامل صراحة أو بأي شكل من الأشكال مع اكتمال “ل”، القضية التي ينبغي أن تبقى مفتوحة في أعمال البحث المستقبلية.
مادة متى الخاصة: أهي مصدر “م” حول يسوع؟
عادة ما يتأثر قراء إنجيل متي بسياق ومضمون عظته على الجبل في الفصول 5-7، فقد بدأ يسوع للتو بجمع حواريه (18:4-22) وبإطلاق كهنوته العلني (17:4، 23-25). وبعد الذكر المقتضب لفكرة تعاليم يسوع، ملكوت السماوات (23،17:4)، قدم متى لقرائه عظة طويلة معقدة تفصل رسالة يسوع، حيث يحتوي هذا الخطاب على بعض أبرز تعاليم يسوع وأكثرها تأثيراً: تطويبات، إعادة التفسير المعتمد لشريعة موسى، دعوات تحذر من النفاق، دعوات للإيمان بالله، “القاعدة الذهبية”، بالإضافة إلى أمور أخرى.
لقد ساعدت تعاليم يسوع الواردة بمتى في حصوله على مكانة الإنجيل الرئيسي في المسيحية. على سبيل المثال: على الرغم من أن متّى ولوقا يتقاسمان مادة مشتركة، إلا أن أغلبية المسيحيين في كل مكان يعرفون ويستخدمون الصيغة الخاصة بمتى التي تتحدث عن السعادة الأبدية، وصلاة الله، والعظة على الجبل بصورة دائمة.
ويعود فضل القسم الأكبر من تأثير إنجيل متى إلى حقيقة أنه يورد تعاليم يسوع التي تفتقد إليها الأناجيل الأخرى. فعادةً يتبع متى ترتيب ومضمون لوقا عن أفعال يسوع في كهنوته وآلامه على حد سواء. وهناك استثناء وحيد هو أن متى يورد معظم روايات مرقص للمعجزات في قسم واحد، الفصلين 8-9، ويختصر تلك الروايات إلى حد كبير. ونظراً للاستخدام الكبير الذي يقوم به متى للوقا ليربط أفعال يسوع، تتضمن معظم المادة الخاصة به تعاليم يسوع. ولأسباب معروفة، تتعامل تجديدات “م”، وهو المصدر الافتراضي لمواد متى الخاصة، بصورة حصرية تقريباً مع مواد التعاليم.
لقد تم القيام بثلاث محاولات رئيسية لاستبعاد المصدر “م”. المحاولة الأولى كانت تلك التي قام بها ب.هـ. ستريتر في كتابه الذي عنوانه: الأناجيل الأربعة: دراسة في الأًصول، فقد هرّف ستريتر “م” على أنه جميع المادة التعليمية الخاصة بمتى، بما ذلك مادة من الوثيقة “ق” مختلفة إلى حدٍ ما عن لوقا، وذلك لافتراض صيغة مختلفة لـ”ق” متأثرة بمتى. وقد استبعد ستريتر التالي: المداة الخطابية من متى 5-18،10،7و 23، قصتان من متى 13، وأجزاء قصيرة من مادة متنوعة من الفصول 16،15،12و 19.
هذا المصدر هو مصدر يهودي مسيحي، لكنه ليس من الرعيل الأول للمسيحية، بل، يظهر ردة فعل على إنجيل مهمة بولس الخالية من أي شريعة. فقد قام ستريتر بوضعه في القدس وربطه بوجهة نظر يعقوب إن لم يكن بشخصه.
لقد قام تي. ديبليو مانسون في دراسته الشاملة التي حملت عنوان: تعاليم يسوع، بالتحقيق النقدي على المصدر الرئيسي الثاني. فقد اتسمت طريقة بحثه بنفس الصفات الخاصة بطريقة ستريتر تقريباً، إلا أنه اقترح “م” أكثر شمولية وتقدم حيث اشتمل على:
- تعاليم من مادة العظة على جبل في الفصول 5-7
- تعاليم الحملة التبشيرية.
- مادة متنوعة من الفصل 11.
- قصص من الفصل 13.
- مادة إضافية متنوعة من الفصول 15و 16.
- تعاليم عن المعيشة مع الإخوة في الإيمان في الفصل 18.
- وصية بخصوص الخدمة والجزاء من الفصول 19 و20.
- أقوال حول “الممتنعين” من الفصول 21 و22.
- أقوال بحق الفريسيين المرائيين من الفصل 23.
- تعاليم حول الإيمان بالآخرة من الفصول 24 و25.
ووفقاً لمانسون، اقتبس “م” من كنيسة تم إنشاؤها على أنها مدرسة تفسير ولديها علاقة حب وكره عميقة مع الفريسيين المرائيين وتقاليدهم. وقد أعاد مانسون تاريخ “م” إلى الفترة الواقعة بين 65 و60 ميلادي، ومثل ستريتر، حدد موقعه في المجتمع اليهودي في القدس.
أما الدراسة الرئيسية الثالثة المنشورة في عام 1946 فقد كانت على يد جي. دي كيلباتريك بعنوان: أصول إنجيل القديس متى. فقد خاص كيلباتريك إلى أن “م” كان مصدراً مكتوباً. واستخدم طريقة متشابهة للدراستين السابقتين ونظم دراسته الخاصة بالمادة “م” بأربعة أقسام: الخطاب، المهمة التبشيرية، مجموعة من القصص، ومناظرة ضد زعماء اليهود الدينيين. كما أرفق كيلباتريك مواد إضافية من سياقات أخرى واردة في متى بأقسام الخطاب والقصص، إلا أنه لم يكن قادراً على إَضافة الكثير من المتفرقات المتنوعة الخاصة بـ”م” إلى أقسامه الرئيسية الأربعة.
وبما أن دراسة كياباتريك هي الدراسة الأِشمال والأحدث لـ”م”، سأقوم بتلخيص محتواها هنا:
محتويات “م” في متى:
أ. الخطاب | |
تعاليم عن القتل، الزنا، القسم، عدم الثأر، الورع الحقيقي | 21:5-24، 27-28، 37-33، 38-41، 19-20، 1:6-8، 16-18 |
كن على وفاق مع المؤمنين الآخرين | من سياقات أخرى: 23:5-36،24 |
صل بإيجاز وبترقب | من سياقات أخرى: 7:6-8 |
ب. المهمة التبشيرية | |
تعاليم خاصة بالحملة التبشيرية: توجه إلى اليهود فقط، أعط دون مقابل، كن حكيماً لكن بسيطاً، تجنب المضايقات حتى يأتي المسيح، تشبّه بمعلمك | 5:10-6، 8 ب، 16 ب، 23، 24-25 أ، 25ب، 41 (؟) |
ج. مجموعة القصص | |
الأعشاب الضارة بين سنابل القمح | 24:13-30 |
شرح قصة الأعشاب الضارة. الكنز المستور، اللؤلؤة ذات القيمة الكبيرة، شبكة صيد الأسماك، رجل الدين المتوجه نحو ملكوت السماء | 36:13-52 |
الخادم قاسي القلب | 23:18-34 |
العمال في كرم العنب | 1:20-15 |
ضيف لا يرتدي ثوب الزواج | 2:22، 11-14 |
إشبينات العروس الحكيمات والحمقاوات | 1:25-10 |
رفض يوحنا المعمدان | آخر 28:21-32 |
الحكم الأخير | آخر 31:25-45 |
د. ضد زعماء اليهود الدينيين | |
افعل كما يقولون وليس كما يفعلون، أفعال ريائية، حماسة التبشير الزائفة، القسم الزائف، تصفية البعوض وبلع الجمال، تزيين القبور | 2:23-3، 5، 7 ب-10، 15-22، 24، 26 (؟)، 27 |
هـ. متفرقات | |
تطويبات | 7:5-9 ربما 4و10 |
أنتم نور العالم | 14:5، 16-17 |
لا تهتموا للغد | 34:6 |
ليس للحقراء لآلئ، البوابة الضيقة، الأنبياء الكذبة | 6:7، 13، 14، 15 |
احملوا نيري الهين | 28:11-30 |
شيء ما أعظم من السبت، تحكم بكلامك | 5:12-6، 7، 36-37 |
معارضة اقتلاع الفريسيين المرائيين | 12:15-13 |
لا تحتقروا “أحد هؤلاء الصغار” الربط والحل | 10:18، 18-20 |
الخصيان خصوا أنفسهم لأجل ملكوت السماوات | 10:19-12 |
لقد قال كيلباتريك إن “م” كان مصدراً مكتوباً يتضمن مادة تعليمية فقط، وقد قام هذا المبشر بإضافة القصص السردية إلى إنجيل متى. وقد عززت المادة المأخوذة من المصدر “م” حجم المضمون التعليمي الخاص الوارد في متى. كما خلص كيلباتريك إلى وجود ضعف في الترابط في المصدر “م”: “نظراً للافتقار إلى الروابط والقصص والسرد وأشياء أخرى، فتستحيل مشاهدة خطة المصدر وصفته الشكلية ككل.” كما يظهر صغر حجم “م”: 170 آية، وافتقاره إلى الترابط الداخلي والقصص السردية، أن “م” كان وثيقة بدائية. ولم يتأكد كيلباتريك من مكان وتاريخ والشخص الذي قام بتأليف “م”.
على الرغم من عدم انبثاق صورة وحيدة ليسوع من المصدر “م”، إلا أنه يصفه إلى حد ما بالزعيم الآمر الناهي الذي أسس الكنيسة، وليس فقط جماعته البابوية. فيسوع يرسل أتباعه فقط لليهود، ويعيد تفسير شريعة موسى لتحقيق مقصده الأصلي، وأن معيار حكم الله سيكون هو الصواب في نهاية المطاف، أي تحقيق المطلب الداخلي للناموس كما فسره يسوع. فقد اقتربت نهاية العالم، ويسوع هو المبشر بذلك.
جاءت المحاولات الرئيسية الثلاث لعزل “م” في النص الأول من القرن العشرين، ولم يتم القيام بأية دراسة مماثلة منذ ذلك الحين([7])، فربما تم تضييق البحث في “م” بسبب الرأي القائل بأن مادة متى الخاصة تحتوي نسبياً على القليل من تعاليم يسوع الأصلية بالمقارنة مع مرقص أو وثيقة “ق”. ونرى مع الأسف أن مانسون قد صاغ الأمر بصورة مؤكدة، وذلك عندما اقترح أنه ينبغي التعامل مع محتويات “م” بحذر لأنها عانت من الغش من جانب اليهود. وعندما يبدأ علماء العهد الجديد بالبحث عن يسوع التاريخي وتعاليمه الأصلية، فإنهم يتركون وراء ظهورهم “م” ومحتوياته.
ومع ذلك، تكون الدراسات صحيحة عندما تخلص، بالاعتماد على أسباب أخرى – إلى أن مادة متى الخاصة لا تشير على الأرجح إلى أي مصدر، سواءً كان مكتوباً أو شفهياً أو مزيجاً من الاثنين معاً. فانعدام الإجماع على محتويات “م” وبنيته الأساسية ينشأ من التباين الكبير في المادة الخاصة بمتى. فهذه المادة، التي هي ببساطة تختلف كثيراً في الشكل والمضمون، لا يمكنها الدلالة على كونها وثيقة واحدة، الأمر الذي من شأنه أن يجعلنا نتوقع أنها تحتوي على رسالة دينية وبعض الأنماط الأدبية الشائعة.
فهذا الحكم موضّح في الدراسة التي قام بها كيلباترك، حيث يقول إن نحو ثلث “م” هو إما مواد أخرى مرفقة إلى الأقسام الرئيسية، أو عبارة عن متفرقات متنوعة تبدو غير ذات صلة. وكما يقول أودو شينيلي: “إن مجموعة مواد متى الخاصة ليست مجموعة موحدةً من التقاليد، بل تفتقد إلى الدوافع التنظيمية اللاهوتية بصورة ملحوظة، وبالكاد تكون مخصصة لدائرة واحدة من حاملي التقاليد.”([8])
وعلاوة على ذلك وكما هو الحال مع لوقا، فإن من الصعب التمييز بين مادة المصدر وبين التنقيح الذي قام به المبشر. إن التوجه اللاهوتي لمعظم مواد “م” قريب جداً، إن لم يكن مطابقاً، للنظرة الدينية لمؤلف إنجيل متى.
وهناك دراسة متأنية لمادة الأقوال الخاصة في متى قام بها “ماثيو ستيفنسون هـ بروكس” تميل إلى إثبات صحة هذا الاستنتاج بالنسبة لـ”م” ككل. ويقوم بروكس بعزل وتجديد الأقوال القصيرة في “م” ويبين أن “م” يعكس تاريخ مجتمع متى. ويخلص إلى أنه لم يكن هناك مصدر وحيد مكتوب للأقوال الواردة في “م”، وذلك للأسباب التالية:
- هناك عدد قليل من الارتباطات التحريرية الملحوظة في الأقوال المجموعة لـ”م”.
- تُظهر اللمسات السردية الثانوية في الجمل والعبارات الانتقالية دليلاً صغيراً على أصله الذي يعود لما قبل متى.
- لا يُظهر أسلوب ومفردات أقوال “م” المعزولة جنس الوحدة النمطية لمصدر مكتوب. وهكذا، في حين أن بعض المواد قد تكون مكتوبة، يبدو أن معظمها كانت موجودة في التقاليد الشفوية وحدها. علاوة على ذلك، فإن مادة الأقوال التي ربما تعكس تاريخ ثلاثين إلى أربعين عاماً تشير إلى احتمالية عدم وصول المادة إلى متى من مصدر واحد.
وعلى الرغم من أن بروكس لا يوضح هذا الاستنتاج بالتفصيل، فمن المعقول أن نفترض أنه إذا كانت أقوال “م” القصيرة لا تعكس مصدراً مكتوباً، فإن الشيء نفسه ينطبق على الأرجح على مجموعة متى الخاصة بأكملها. وبالتالي، في حين قد تكون بعض أجزاء مادة متى الخاصة وصلت إليه من مصادر مختلفة، فإن الدليل لا يشير إلى أنه استخدم مصدر “م” الوحيد، سواءً كان مكتوباً أو شفهياً، الذي يحتوي على معظم مادته الخاصة.
وعلى الأرجح، تعكس هذه المادة تاريخ منتصف إلى أواخر كنيسة متى أكثر من كونه مصدراً سابقاً مستقلاً جاء إلى كاتب الإنجيل كما جاء “ل” إلى لوقا. خلاصة القول: لا يوجد أي مصدر من خارج القانون الكنسي يشهد على يسوع التاريخي في مادة متى الخاصة.
مصدر الإشارات للإنجيل الرابع: يسوع المسيح
يتراءى للقراء المتبصرين في الإنجيل الرابع وكأنه يشمل على نهايتين. الأولى، يوحنا: (20/30-31)، حيث يتحدث عن الإشارات، أو معجزات يسوع، التي كتبها المؤلف ليقنع قراءه أن يسوع هو المسيح. والثانية، يوحنا: (21/24-25)، وهي على غرار الأولى حيث تؤكد على حقيقة شهادة الرسول الحبيب الواردة في الإنجيل الرابع، وتوضح بعبارة بليغة مبالغ فيها أن العالم لا يمكن أن يحتوي على الكتب التي ينبغي أن تكتب حول الأشياء التي قام بها يسوع.
وقد ألمحت النهاية الأولى التي تؤكد على الإشارات ووصف الإشارات التي تشكل معظم إنجيل يوحنا (1-11)، ألمحت للبعض في أن الإنجيل الرابع يحتوي على “مصدر الإشارات”. كلمة المصدر “source” وهي بالغة الألمانية “Quelle“، ومن هنا جاء الرمز التقليدي “SQ” الذي يرمز إلى مصدر الإشارات
لقد بدأ نقد مصدر الإنجيل الرابع في أوائل القرن العشرين بعد مواصلة نقد مصادر الأناجيل السينوبتية. فقد قام علماء بارزون مثل: يوليوس فلهاوزن، ويلهلم بوست، موريس غوغيول، إدوارد شفايتزر، جوشيم يريمياس، ورودولف بولتمان، بالعمل عل مصادر يوحنا. وكان التحليل النقدي الذي قدمه بولتمان عام 1941 شاملاً عندما علق على مصدر يوحنا، حيث استنقذ هذا المصدر، ولعقود عديدة، مزيداً من العمل الخلاق في ه1ا المجال. فقد افترض بولتمان وجود عدة مصادر، بما في ذلك مصدر الإشارات ومصدر آلام مستقل، وأعاد ترتيب محتويات يوحنا بصورة معقدة.
وبالتنقيح المستمر من خلال إحدى وعشرين طبعة، ظل موقف هذا الكتاب الذي ينقد مصدر يوحنا مجالاً للمناقشة لمدة ثلاثين عاماً، وما يزال هذا الكتاب مهماً. فمنذ الحرب العالمية الثانية حتى نحو عام 1970 اكتفت محاولة بحثية محدودة للغاية بالكشف عن عمل بولتمان. كما لم يتم الإجماع على مصادر الإنجيل الرابع، مع استثناء رئيسي وحيد. فقد اتفق معظم نقاد المصادر وكثير من المعلقين مع بولتمان على أن بعض أساليب مصدر الإشارات تشكل أساس يوحنا. ومن ثم فتحت اثنتان من المحاولات الجديدة المسألة، الأولى: كانت عام 1970 بقلم روبرت فورتنا، “إنجيل الإشارات: تجديد مصدر السرد الذي يشكل أساس الإنجيل الرابع”.
والثانية: كانت عام 1989 بقلم إيرين فون واهلد، “النسخة الأولى لإنجيل يوحنا: استعادة إنجيل الإشارات”. حيث سيشكل هذان الكتابان أساس تحليلنا هنا. وسوف نقوم بوصف فرضية “فورتنا” ودراستها كونها المساهمة الرائدة والأكثر نفوذا في الآونة الأخيرة التي تنقد مصدر يوحنا، ومن ثم البحث في عمل “فون واهلد” باختصار.
محتويات مصدر الإشارات كما حدده “فورتنا” في يوحنا:
6:1-7، 19-23، 26-27، 32-34 | شهادة يوحنا المعمدان |
23:1-24، 35-50 | تعميد التلاميذ الأوائل |
إشارات يسوع | |
1:2-3، 5-11 | الأولى: تحويل الماء إلى خمر |
46:4-47، 49-54 | الثانية: شفاء ابن خادم الملك |
2:21-8، 10-12،14 | الثالثة: اصطياد السمك بكميات كبيرة |
1:6-3، 5، 7-14 | الرابعة: إطعام الحشود |
15:6-22، 25 | فاصل: السير على الماء والنزول الخارق على اليابسة |
1:11-4، 7، 11، 15، 4:4-7، 9، 16-19، 25-26، 28-30، 40، 17:11-20، 28، 32-34، 38-39، 41، 43-45 | الخامسة: أخبار مرض لازاروس، الرحلة إلى يهوذا، إيمان امرأة سامرية، قيام لازاروس |
1:9-3، 6-8 | السادسة: شفاء الرجل الذي وُلد أعمى |
2:5-9، 14 | السابعة: شفاء الرجل المريض منذ ثمانية وثلاثين عاماً |
موت يسوع وقيامته | |
14:2-16، 18-19، 47، 53 | تنظيف الهيكل، مؤامرة القتل |
1:12-5، 7-8 | الدهن في بيت عنيا |
12:12-15 | دخول المنتصر |
متفرقات وُجدت في 27:12، 2:13 أ، 4-5، 12-14، 18 ب، 21 ب، 26-7، 37-8، 31:14ب، 32:16ب | العشاء الأخير |
1:18-5، 10-12 | الاعتقال |
13:18، 24، 15-16، 19-23، 16-18، 25-28 | يسوع في بيت رئيس الكهنة |
28:18، 33، 37-38، 15:19، 39:18-40، 6:19، 12-14، 1-3، 16 | المحاكمة أمام بيلاطس |
16:19-20، 23-24، 28-30، 25، 31-34، 36-42 | الصلب والدفن |
1:20-3، 5، 7-12، 14، 16-20 | القيام |
30:20-31 | الخاتمة: “هذه الإشارات مكتوبة لتؤمنوا” |
يقدم “فورتنا” مناقشة موجزة لطبيعة مصدر الإشارات، فقد كان هذا المصدر عبارة عن كتاب مكتوب، كما توضح خاتمته الموجودة الآن في يوحنا (30:20-31). فهو إنجيل مثله مثل إنجيل متى ومرقص ولوقا وحتى يوحنا فكلها أناجيل، فهو يقدم قصة مترابطة ليسوع من بداية كهنوته، مروراً بآلامه، إلى الخاتمة التي تنتهي بالقيامة. ويتم تقديم كل هذا على شكل رسالة للإيمان بها، كما توضح خاتمته. وبما أنه لا يحتوي على تعاليم متقدمة ليسوع، فهو إنجيل بدائي، إلا أنه يبقي إنجيلاً.
إن مصدر الإشارات مصدر يهودي مسيحي نظراً للأسلوب ولاسيما المحتوى اليوناني الوارد فيه. فهو ليس لديه شك بقضية الوثنيين، وليس هناك خلاف بشأن الحفاظ على شريعة موسى. وعلاوةً على ذلك، وعلى الرغم من أن “فورتنا” لم يوضح ذلك، إلا أن مقصده يشير إلى أن المجتمع الذي أنتج هذا الإنجيل كان على اتصال تبشيري نشط مع المجتمع اليهودي الكبير، حيث يصعب تحديد الطبيعة الاجتماعية لهذا المجتمع أياً كانت جذوره، قد يكون المجتمع الناطق باللغة اليونانية، الذي استخدم ذلك المصدر على أنه إنجيل، قد يكون موجوداً في أي مكان من العالم الهيلينستي.
ولم يستطع “فورتنا” تحديد تاريخ مصدر الإشارات بأي قدر من الدقة، فقد تكون كتابته تمت قبل أو بعد التمرد اليهودي الأول 66-70م.
ووفقاً لفورتنا، كان القصد من مصدر الإشارات أن يكون بمثابة الكتاب التبشيري الذي يحمل هدفاً وحيداً إلا وهو الإثبات لليهود الذين قد تحولوا إلى النصرانية أن يسوع هو المسيح([9]). ففورتنا يؤول عقيدة مصدر الإشارات على أنها مسيحانية بحتة. فمعجزات يسوع هي إشارات على وضعه المسيحاني، وقد جعل وصف آلامه في مصدر الإِشارات “مسيحانياً” بإضافة أقوال يسوع التي تلفت الانتباه إلى موقفه المسيحاني.
ويمنح مصدر الإشارات ألقاباً كثيرةً ليسوع مثل: المسيح / يسوع المسيح، ابن الله، حمل الله، ملك اليهود، الرب، إلا أن اللقب الأول يشكل محور الارتكاز بالنسبة لباقي الألقاب. وهناك تأكيد مستمر على حقيقة مسيحانية يسوع إلى درجة الاستبعاد الكامل لأي شرح لطبيعتها. وهذا من شأنه الإشارة إلى أن كلاً من مصدر الإشارات والمجتمع اليهودي الكبير الذي كان هدفاً للتبشير كان لديهما فهم مشترك لما تتطلبه المسيحانية، الفهم الذي تمحور بوضوح حول فكرة أن المسيح يثبت نفسه بالمعجزات.
إن مصدر الإشارات هو في الواقع، إذا استخدمنا توصيف فورتنا: “ضيق” و”بدائي” بالمقارنة مع الأناجيل الكنسية. وربما يعود سبب ضيقه إلى غرابته وغرضه المنفذ بدقة: أي إقناع قرائه أن يسوع هو المسيح الذي ينبغي الإيمان به.
إن العمل الذي قام به إيرين فون واهلد عن نقد المصدر يؤكد على محاولات فورتنا تقريباً، فهو يسعى، كما يشير عنوان كتابه، إلى استعادة “النسخة الأولى” لإنجيل يوحنا، حيث ينطوي على هذه الطريقة اكتشاف الطبقات الأدبية في الإنجيل الحالي. ومن ثم يقوم قون واهلد بالاستفادة من “الفروق اللغوية” الأربعة، مثل المصطلحات المستخدمة للسلطات الدينية والمعجزات واليهود.
وبعدها يقوم بتطبيق تسعة “معايير أيديولوجية” مثل: الصيغ النمطية للاعتقاد، ردة فعل الفريسيين على الإشارات، الانقسام في الرأي حول يسوع، ولاسيما “غلبة السرد”. ويتبع ذلك المعايير اللاهوتية، بما في ذلك المسيحانية ومذهب الخلاص. أخيراً، يتم توظيف خمسة معايير متنوعة.
كما يقدم تحليله سبعاً وثلاثين وحدة تغطي كل مصدر فورتنا تقريباً، وتوسعه بنسبة تقارب الثلث. يحتوي إنجيل الإشارات هذا على مقاطع انتقالية أكثر من إنجيل فورتنا، كما يحتوي على علامات تتذر بموت يسوع. ويفسر فون واهلد خلفية المصدر وعقيدته بنفس طريقة فورتنا. فالإِشارات تلفت الانتباه إلى قوة يسوع وتولد الإيمان به لاسيما بين عامة الناس. كما أن مسيحانية المصدر ضئيلة إلى جانب وجود خلفية خاصة لتصنيف موسى.
ويؤكد في يهودا، نظراً للتأكيد على كهنوت يسوع هناك، وربما تكون كتابته قد تمت في الفترة الواقعة بين 70 و80م في المجتمع اليهودي المسيحي. على العموم، ليست طريقة متطورة أو مطبقة بدقة كطريقة فورتنا، فعمل الأخير يبقى المحاولة الرائدة في فهم مصدر الإشارات.
لقد ذكر ريموند براون بدقة: “لا يمكن للمرء في العقود الأخيرة من القرن العشرين التحدث عن نهج مجمع عليه ليوحنا.” وعلى وجه الخصوص بين أولئك الذين يتمسكون بمصدر الإشارات، وليس هناك توافق قوي حول ما يحويه بالظبط. إن النقطة الرئيسية في انعدام التوافق هذا تثير المخاوف فيما إذا كان مصدر الإشارات يحتوي على سرد للآلام والقيامة. هل مصدر الإشارات فريد بين جميع المصادر التي سبقت المصادر الكنسية باحتوائه على مثل هذا السرد، أم أنه احتوى على الإشارات فقط التي قام بها يسوع خلال كهنوته؟
لقد قام كل من فورتنا وفون واهلد بإعادة تجديد كاملة لأناجيل الإشارات بسرد عن الآلام والقيامة، إلا أن العديد من العلماء لم يوافقوا على ذلك. فعلى سبيل المثال، افترض بولتمان وآخرون جاؤوا بعده مصادر منفصلة عن الآلام والقيامة. فالقليل القليل في النصف الأول من مصدر الإشارات الذي أعده فورتنا يشير إلى موت يسوع، والقليل القليل في النصف الثاني يشير مجدداً إلى النصف الأول. وعلاوةً على ذلك، بوضع فورتنا تطهير المعبد ومؤامرة القتل في بداية سرد الآلام، لا يظهر النصف الأول لمصدر الإشارات الذي أعده أي عداء ضد يسوع الذي من شأنه أن يؤذن بموته.
إن انعدام الإشارة إلى موت يسوع وقيامته غريب حقاً بالنسبة للنصف الأول من إنجيل كامل، حتى ولو كان إنجيلاً بدائياً. أيضاً، يظهر النصف الثاني لمصدر الإشارات الذي أعده الصيغة التالية: “وهكذا، تم الإيفاء بالكتاب المقدس”، الأمر الذي لم يظهر النصف الأول. يبدو هذا التناقض غير معقول في حال كان مصدر الإشارات يشكل إنجيلاً كاملاً بسرد عن الآلام والقيامة.
لماذا يجب على إنجيل إشارات الإصرار على أن آلام يسوع هي الإيفاء بالكتاب المقدس بدلاً من استخدام حجة دينية واضحة لإثبات مسيحانية يسوع؟ علاوةً على ذلك، قد تمون الإشارات السبع، وهو عدد الكمال الإنجيلي، التي قام بها يسوع، دلالة على أن مصدر الإشارات تعامل فقط مع كهنوت يسوع العلني ولم يتعامل مع آلامه وقيامته كذلك.
إقرأ أيضاً:
([1]) سيكون الفصل القادم مجالاً للبحث في إنجيل مرقص السري وإنجيل بطرس كمصادر ممكنة لإنجيل مرقص الكنسي.
([2]) هذه الاستثناءات هي إغفال المواد من مرقص: 17:6-29 و45:6-8: 26. ومن ناحية أخرى يستند تأليف لوقا لرواية السفر في قسمه المركزي: 51:9-27:19 على مرقص: 10.
([3]) كتب مارشال في كتابه: إنجيل لوقا، الصادر عام 1978: “إن إخلاص لوقا العام لمصادره “م” أي مرقص، و”ق” تجعل المرء يشكك بالقول أنه أوجد مادةً كبيرةً في الإنجيل، وأنه من الأكثر منطقية أن مواقف لوقا تشكلت إلى حد كبير من خلال الأعراف التي ورثتها”.
([4]) كتب جوزيف فيتزماير في كتابه: الإنجيل حسب لوقا، الصادر عام 1981: “على الرغم من عدم يقينه فيما إذا كان “ل” مصدراً مكتوباً أو شفهياً، أو فيما إذا كان ممكناً وضعه على قدم المساواة مع “ق” أو مرقص، في قائمة فقراته… التي أعتقد أنه استمدها من “ل”، فهو يورد جميع مواد لوقا الخاصة”.
([5]) إن تحليل المحتوى الذي قام به “بافينروث”، لتميز المصدر عن التأليف الذي قام به لوقا، قد يؤدي في بعض الأحيان إلى التفكيك الكبير بينهما. فعلى سبيل المثال، لقد رأى الكثير من مفسري “ل” أن قصة زكا تتماشى مع لاهوت لوقا، وليست على خلاف معه. ثانياً، إن استخدامه لكلمات تثير الاهتمام من أجل اكتشاف وحدة المصدر التكوينية والموضوعية يمكن أن يتم انتقادها على أنها ليست الطريقة الدقيقة، مثلاً: عندما يكرر كلمة “الشرف”، التي لا تأتي على نحو صريح. وبذلك لا يمكن أن تكون أساساً لتكوين كلمات تثير الاهتمام.
أخيراً، يمكن التساؤل عما إذا كان قد استخدم لوقا “ل” بترتيبه الأصلى. يقدم بافينروث بعض الحجج الوجيهة من المضمون والأسلوب للإشارة إلى أن لوقا فعل ذلك. ومع ذلك، ونظراً لأن لوقا استخدم مرقص في الغالب بترتيبه واستخدم أيضاً “ف” بترتيبه الأًصلى على الأرجح، ربما كام من الصعب له استخدام مصدر “ل” بترتيبه الأصلي أيضاً. وعلى الرغم من هذه الانتقادات، يسهم تحليل “بافينروث” الشامل باستمرار في البحث في “ل”، هذه المساهمة يجب أن تأخذها البحوث التي ستجري في المستقبل بعين الاعتبار.
([6]) هنا يجب علينا أن نتذكر بأننا نملك هذه المصادر الافتراضية بالقدر الذي استخدمه كتاب الأناجيل لها. فعلى سبيل المثال، إن استخدام لوقا لمرقص على نحو انتقائي وخلاق لهو مؤشر حسن له بأنه قد يكون استخدم “ل” بالطريقة نفسها.
([7]) علق مانسون على نصوص “م” وقدم لها خلاصة من ثماني صفحات، تتناقش فيها السمات العامة والمواضيع اللاهوتية لـ”م”. ومع ذلك، فقد أفسد تحليله عندما أدرج الكثير من النصوص المعروف أنها تعود لـ”ق”.
([8]) شنيل، كتابات، 174. – ومع ذلك، فقد قال هانز كلاين: إن “م” منظم في ثلاث فئات وفقاً للشكل وللمضمون، وإن القصص التي تتحدث عن التحول إلى الفقراء وإلى المعاناة، والأقوال حول الناموس التي تحذر من التراخي في الحياة، والأقوال بشأن المجتمع وكل من القادة والأتباع، كل ذلك يبني أساساً متيناً لحياة الكنيسة.
([9]) يتعارض هذا الرأي مع الفهم العام بأن الأدب المسيحي المبكر كان من أجل الاستخدام الداخلي.