الإدانة ودينونة الآخرين – ماهي الإدانة في المسيحية؟
أولاً قبل أن نتكلم عن مشكلة الإدانة لا بُدَّ من معرفة معنى الكلمة بكل دقة: فالقصد من الإدانة هو وضع الإنسان في قفص الاتهام لسبب الاشتباه في ذنب مُعين، ثم بعد فحصه جيداً يتم إصدار الحكم عليه بقرار الاتِّهامِ بالجُرْمِ أَوِ الذَّنْبِ المُتهم به، لذلك فأن إدانة الآخرين هي بمثابة تنصيب نفسي شُرطياً للقبض عليهم ووضعهم في قفص الاتهام، وتنصيب نفسي قاضياً عليهم وفحص قضيتهم ومعرفة الحقائق كلها بالتحري ومن ثمَّ الإثبات وفي النهاية يتم إصدار الحكم بعد الإقرار بالذنب.
هذا هو معنى الإدانة ببساطة شديدة، لكي نُميز بينها وبين الحكم على الأمور، وواجب الابتعاد عن الأشرار، لأن هذا ليس معناه إني ديان لأحد لكن هذا معناه إني حريص لكي لا أتورط في أعمال شريرة لا تتفق مع حياتي التي أعيشها في التوبة والقداسة، لأن شركتي مع الذين يحيون في معزل عن الله ستؤدي حتماً لتيه قلبي وابتعادي عن الله الحي.
عموماً في الواقع الروحي من جهة الخبرة فأن أصل الإدانة هو عدم المحبة، لأن المحبة هي طبيعة مـتأصلة في القديسين، لأن جذرها هو الروح القدس، لأن ثمره فينا هو الحب. والحب لا يدين الأخ، لكنه يدفع المؤمن الحي بالله لكي يدخل في شركة الجسد الواحد مع إخوته، لذلك فهم يتألمون معاً كأعضاء لبعضهم البعض، لذلك يشفق الأخ على جرح أخيه، لا يُشهر بجرحه أو يفضحه ويهمله ويرفضه، بل يعضده ويسنده ويخدمه من قلبه بكل قوته.
والمسيحيين الحقيقيين بطبيعتهم حاملين حنان سيدهم ورأسهم المسيح الرب، ويعملون بكل جهدهم ويبذلون أنفسهم في صلاة وصوم، ويعملون بكل طريقة بالمحبة الحانية المترفقة في سبيل خلاص أي إنسان وكل إنسان فاجر وأثيم، حتى ينشلونه كالصيادين من الماء العكر، لذلك فأن قديسي العلي بطول الروح والمحبة يجتذبون الأخ الساقط حتى يقيموه بلطف الروح الذي فيهم بلا انتقاص أو تعيير، لأن الرب أمرنا قائلاً:
اشفوا مرضى، طهروا برصاً، أقيموا موتى، اخرجوا شياطين، مجاناً أخذتم مجاناً أعطوا (متى 10: 8) فالمرضى بالآثام علينا أن نقدم لهم بلسم ترياق الخلود من كلمة الحياة، وكل من هو مقيد تحت سلطان الشرير نُقدم لهُ حرية المسيح الذي يعتق العبيد من تحت سلطان الموت، ونُقدم الإيمان بمسيح القيامة والحياة لكل من هو ميت بالخطايا والذنوب ومقيد في قبر الشهوات.
لذلك يا إخوتي فلنحذر جداً من أن يقول أحد فينا في قلبه من جهة إنسان، أنه أحرص منه في الطريق الروحي، أو أكثر منه معرفة، أو أبرّ منه، أو أقدس منه، أو أمين عنه، بل علينا أن نخضع لنعمة الله ولروح الحكمة والحب الذي ليس فيه غش، لئلا نُطفئ الروح القدس فينا بالعظمة والكبرياء، فيضيع تعبنا كله وينهدم ما بنيناه لأنه مكتوب: “من يظن أنه قائم فلينظر ألا يسقط” (1كورنثوس 10: 12)
فلا يستحسن أحد – في قلبه أو فكره – أن يُدين إنسان ويحكم في الضمائر، لأن الدينونة والكذب واللعن والشرّ والشتم والاستهزاء وتكريم الآخرين بمبالغة مفرطة، كل هذه غريبة عن المسيحي الأصيل، فلماذا نحكم على ضمائر بعضنا البعض ونظن أننا نعرف ما في فكر الآخرين وما هي أعمالهم الخفية ونستنتج ميولهم الداخلية، ثم نرفضهم وننبذهم، ونُريد أن نقطعهم من الشركة.
فأن كنت أنا أتحدث عن الله أو أتكلم عن أي شيء – مهما ما كان هوَّ – بحرية، فلماذا غيري يحجر على رأيي ويحبس كلماتي بحجة أنه يراني ضد الحق واتكلم باطلاً، كأنه رأى ضميري وعرف خفايا قلبي ودوافعي الخفية، ويتكلم عنها ويحاول أن يهديني لطريق البرّ والتقوى واستقامة العبادة!!! لأن للأسف – في هذه الأيام – كثيرين يفعلون هذا ويتكلمون بتبكيت وتوبيخ شديد كأن ما يعرفونه هوَّ الحق الثابت، وبطبيعة الحال وحسب إعلان الكتاب المقدس:
المستعجل برجليه يُخطئ، وكل أحكام هؤلاء تظل خاطئة، فيرتكبون الإدانة التي بالكلام يرفضونها أما من جهة الفعل والعمل يرتكبونها بقوة وعن قصد وإصرار بكل عناد وتعنت مع إصرار أنهم على صواب، وبذلك يتعثرون في الطريق ويطفئون الروح القدس فيهم ويحزنون قلب البسطاء، وبذلك يرتكبون خطية عظيمة عن دون دراية منهم، لأن من أعثر صغار المسيح الرب فقد ارتكب جريمة عظيمة، لذلك علينا أن نستفيق من غفلتنا ونصحو للبرّ ولا نضع حجر عثرة لإخوتنا الأصاغر بسبب كبرياء قلبنا الخفي في ادعاء اننا نعرف القلوب ونفهم النفوس ولدينا معرفة واسعة دقيقة عن كل شيء بالتدقيق.
احذروا الإدانة يا إخوتي والتدخل في حياة وشئون الآخرين الخاصة، سواء الروحية أو الاجتماعية وسط هذا العالم، الله لم يطالب أحد ان يتدخل في حياة إنسان ويفرض عليه رأيه أو فكره أو حتى حياته الروحية ظناً منه أنه يجعله يستقيم ويحيا لله فمثلاً:
يوجد إنسان محب للمال حينما ذهب لأبيه الروحي قال له اتخلى عن مالك لأنك متعلق به وهذا يعوقك عن الحياة الروحية، فينفذ الأخ هذا القول ويشعر أن فيه نجاته، ولكنه استعجل برجليه وجعل نفسه مرشداً للآخرين، فحينما وجد إنسان عنده أموال كثيرة طائلة بدأ يوبخه على تمسكه بالمال وأكد أنه ينبغي أن يتخلى عنه لأنه معوق لحياته الأبدية.
لكنه لا يعلم أن هذا الإنسان متواضع في قلبه وماله كرسه لله وفتح مشروعات لأجل الفقراء لكي يعولهم، فالحكم على الناس من الخارج وحسب ما يتناسب معنا يورطنا في الخطية أمام الله لأننا نحكم بلا رؤية ولا معرفة حقيقية، لأن هكذا يظن كثيرين أنهم مرشدين للناس وعارفي الحق ولهم كلمة المشورة، مع أنهم في الواقع يفسدون حياة الآخرين ويعبثوا بها ويبركوهم روحياً.
وكمثال آخر،
شخص محب النت يضيع وقته كله فيه، فطول النهار والليل يضحك مع أصدقائه ويعمل على الكتابة والقراءة واللعب.. الخ، فوبخه الله في قلبه، وحينما ذهب لأبيه الروحي وجهه أن النت مضيعة لوقته ولحياته الروحية، فبدأ ينتبه الأخ لهذا الخطر، ولكنه عوض أن يحيا به على المستوى الشخصي دخل على النت ليوبخ الناس ويقول لهم عوض جلوسكم على النت أقضوا وقتكم في الصلاة والعابدة الحقيقية
حتى أنه وبخ شيخ كبير مملوء من كل نعمة يدخل في أوقاته الخاصة ليكتب التعليم لبناء النفس وعن طريقه تاب ناس كثيرة وعادوا لله الحي واستقامت حياتهم في البرّ، لكن الأخ حكم عليه وطلب منه أنه يرحم نفسه ويتمسك بالعبادة عوض أن يخرب حياته ويضيع وقته على النت.
وهكذا يا إخوتي توجد أمثلة كثيرة تصادفنا كلنا في الحياة بل وفي كل مكان، توضح استعجال الإنسان وإدانته للآخرين وهو لا يعرف شيئاً قط، بل يجهل تماماً ما هو نافع وما هو ضار سواء لنفسه أو للآخرين، فاحذروا الإدانة لأنها تنبع من كبرياء النفس وضعف البصيرة الروحية، بل وتُطفئ الروح القدس فينا وتجعلنا نتعرى من نعمة الله ونفقد سلامه بل ونُدان أمامه من أفواهنا، لأن بكلامنا نتبرر وبكلامنا نُدان، وبنفس ذات الدينونة التي أدنا بها الآخرين سنُدان امام مسيح الحق والعدل والمحبة اللانهائية، فلنتعقل ونستيقظ ونحيا للصلوات.
فحسناً أننا نكون على دراية ووعي التمييز ما بين الغث والثمين، ونفرق ما بين الأشرار والأبرار، لكي لا نتعثر في الطريق، لكن هذه المعرفة ليست فقط لأجل عدم التعثر، لكنها لكي تجعلنا نشترك في خلاص الآخرين بالصوم والصلاة لأجلهم، لأن أن وجدت أخيك أخطأ فالواجب الموضوع عليك – من الله – أنك تشفق عليه عينك وتقف في الصلاة من أجله بلجاجة على مدى الأيام، وتطلب أن يرحمه الله كما رحمك وغفر خطاياك الكثيرة، وتستمر في الصلاة بدوام وبصبر عظيم ولا تهدأ أو ترتاح إلا لما تجد قلبه تحرك والله تعامل معهُ، وبذلك تكون حقاً نور للعالم وملح للأرض وتتبع سيدك المسيح الذي أحب الخطاة ومات لأجلهم.