التجسد – نماذج لكتابات الآباء في الأمور اللاهوتية
للقديس كيرلس السكندريّ
كيف تَمّ التجسد؟
التجسد – نماذج لكتابات الآباء في الأمور اللاهوتية [1]
مفهوم كلمة “صار”:
“الْكَلِمَةُ صَارَ جَسَدًا”، “صَائِرًا فِي شِبْهِ النَّاسِ” (في7:2)[2].
كلمة “صار” يُفسّرها الهراطقة أنها تعني تغيّرًا وتحوّلاً، مثل ما جاء عن امرأة لوط “وَنَظَرَتِ امْرَأَتُهُ مِنْ وَرَائِهِ فَصَارَتْ عَمُودَ مِلْحٍ!” (تك26:19)، أو ما قيل عن عصا موسى عندما “طَرَحَهَا إِلَى الأَرْضِ فَصَارَتْ حَيَّةً” (خر3:4)، ولكن هذا المعنى لا ينطبق على كلمة “صار” في عبارة “الْكَلِمَةُ صَارَ جَسَدًا، لأن الله لا يتغير “لأنِّي أَنَا الرَّبُّ لاَ أَتَغَيَّرُ” (ملا6:3)، “يَسُوعُ الْمَسِيحُ هُوَ هُوَ أَمْسً وَالْيَوْمَ وَإِلَى الأَبَدِ” (عب8:13)، “الَّذِي لَيْسَ عِنْدَهُ تَغْييرٌ وَلاَ ظِلٌّ دَوَرَانٍ” (يع17:1)، فالادعاء بأن معنى كلمة صار هو تغيير هرطقة وجهل.
يؤكذ القديس كيرلس أن كلمة “صار” تعني أن الكلمة الابن الوحيد الإله الذي وُلد من الله الآب “الَّذِي، وَهُوَ بَهَاءُ مَجْدِهِ، وَرَسْمُ جَوْهَرِهِ، وَحَامِلٌ كُلَّ الأَشْيَاءِ بِكَلِمَةِ قُدْرَتِهِ” (عب3:1)، هو الذي صار جسدًا لكن…
دون أن يتحوّل إلى جسد
فوُلد كإنسان بطريقة معجزيّة من امرأة؛ لأنه لم يكن ممكنًا بالمرَّة أن نرى الله على الأرض في شكله غير المنظور، لأن الله لا يُرَى فهو غير مرئيّ، وطبيعته غير محسوسة، لكن حسن في عينيه أن يتجسد، وأن يُظهر في ذاته وَحْدَة؛ كيف يمكن أن تتمجد طبيعتنا بكل أمجاد اللاهوت، لأنه هو نفسه إله وإنسان “شِبْهِ النَّاسِ” (في7:2)، فالله الذي ظهر في شكلنا وصار في صورة عبد؛ هو الرب وهذا ما نعنيه بأنه “صار جسدًا”، ولذلك نؤكد أن العذراء هي “والدة الإله”.
الهراطقة يحرّفون معنى كلمة “صار”:
يستخدم الهراطقة قول معلّمنا القديس بولس الرسول “اَلْمَسِيحُ افْتَدَانَا مِنْ لَعْنَةِ النَّامُوسِ، إِذْ صَارَ لَعْنَةً لأَجْلِنَا” (غل13:3)، ويقولون إنه لم يصر لعنة فعلاً، وفي الواقع لم يصر خطية، وأن هذا التعبير “صار” تستخدمه الأسفار المقدسة وتعني به شيئًا معنويًّا وهو أيضًا المقصود من عبارة “الْكَلِمَةُ صَارَ جَسَدًا”، فهي (حسب قولهم) لا يُعني أنه فعلاً تَجسّد، بل أنه بأعمال عملها في الجسد، وهذا هو معنى آخر لكلمة “صار”.
العلاقة بين “صار لعنة” و”صار جسدًا”:
يقول معلّمنا القديس بولس الرسول “الْمَسِيحُ افْتَدَانَا مِنْ لَعْنَةِ النَّامُوسِ، إِذْ صَارَ لَعْنَةً لأَجْلِنَا، لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ عُلِّقَ عَلَى خَشَبَةٍ” (غل13:3)، فالذي لم يعرف خطيّة صار لأجلنا خطية، بأن “صار لعنة لأجلنا”. فكيف حدث هذا فعلاً في الوقت الذي فيه تَجسَّد الابن الوحيد وصار جسدًا؟.
أن كلمة “صار” تحتوي على الحقائق الخاصة بـ التجسد، وكل ما حدث له تدبيرًا عندما أخلى ذاته إراديًّا، فالجانب المعنويّ لكلمة “صار” يجب أن يكون له أساس في الواقع، وليس صحيحًا أنه يوجد معنى آخَر لكلمة “صار”، ولا أن نقول أن “الكلمة صار جسدًا” بطريقة معنوية، مثلما أنه صار لعنة وخطية بطريقة معنوية أيضًا!!.
- صَارَ آدَمُ الإنسان الأوَّلُ نفْسًا حيًّا وَآدَمُ الأخِيرُ رُوحًا مُحْييًا. (1كو45:15)
هل يمكن استخدام الجانب المعنويّ لكلمة “صار”؟ وهل يصلح الجانب المعنويّ فقط للقضاء على اللعنة والخطية؟
بكل تأكيد لا، فقد جاء آدم الثاني، لكي يجدّد الوضع القديم، أي لا يُبقي الإنسان نفسًا حية فقط، ولذلك صار هو روحًا محييًا، أما الهراطقة فعندما غيّروا معنى كلمة “صار” أفقدوها قوتها، وعندما قالوا إنه لم ير “لعنة” فقد أدى هذا في النهاية إلى حتمية إنكار التجسد، وإنكار حقيقة أن الكلمة صار جسدًا، وإذا أخذنا الجانب المعنويّ كمبدأ نفسر به سرّ التدبير كله، فإننا نصل في النهاية إلى أن المسيح لم يُولَد، ولم يَمُت، ولم يقم حسب الكتب، وماذا يبقى لنا من “كَلِمَةُ الإيمان الَّتِي نَكْرِزُ بِهَا” (رو8:10)؟..
فكيف أقامه الله معنويًّا من بين الأموات إن لم يكن قد مات فعلاً؟ مِن أين يأتي الرجاء الحيّ بعدم الموت إلاَّ إذا كان المسيح قد قام حقًا؟ وكيف تتم قيامة أجسادنا إلاَّ بالاشتراك في جسده ودمه؟
اتحاد اللاهوت بالناسوت[3]:
التجسد هو اتحاد اللاهوت بالناسوت اتحادًا دائمًا، ليس صلة ولا مصاحبة ولا علاقة.
“الكلمة صار جسدًا كما يقول يوحنا اللاهوتي، لقد اتحدت الطبيعة الإلهية المحيّية بالطبيعة البشرية الأرضية اتحادًا لا يُفسر ولا يُفقه. ونحن نفهم من ذلك أن عمانوئيلاً واحدًا ظهر من الطبيعتين بدون أن يخرج من حدود ألوهته بسبب الجسد الذي اتخذه”[4].
الله اتخذ ناسوتًا كاملاً له نفس وروح وجسد في أحشاء العذراء “وِلِكِنْ لِمَّا جَاءَ مِلْءُ الزَمَانِ، أَرْسَلَ الله ابْنَهُ مَوْلُودًا مِنْ امْرَأَةٍ، مضوْلُودًا تَحْتَ النَّامُوسِ” (غل4:4).
الهراطقة يفسرون التجسد كالآتي: إنسان قبل بنوته الله؛ تمتْ بينه وبين لاهوت الابن ثمة مصاحبة، بين لاهوت الابن وبين الإنسان الذي أعده؛ لكي يتألم كما يتألم اللشر، وأقامه من بين الأموات وأصعده إلى السموات، وهو يقبل العبادة لأنه التصق بالطبيعة الإلهيّة.
كما يقولون إن ابن الله الكلمة لكونه اتصل بهذا الإنسان المولود من مريم، صار هذا الإنسان يشترك في الاسم وفي الكرامة مع الابن، لذلك لا يوجد ابنانِ بل الابن الذي هو بالطبيعة اتصل بد بدون افتراق.
رد القديس كيرلس:
مَنْ أعبد؟! بكل يقين أعبد الكلمة الذي تَجسّد، وهو نفسه إله كامل، سرمديّ كائن منذ الأزل، لأن الإله المتجسد المولود جسديًا من امرأة تحتالناموس في الزمان، هو نفسه الأزليّ، اتخذ لنفسه صورة عبد.
التجسد
يقول القديس كيرلس إن تعاليم الهراطقة يؤدي إلى ما هو عكس التجسد :[5]
لكن تعاليم الهراطقة تقول إن الإنسان هو الذي ارتفع بمصاحبته لله، أي أن الإنسان هو الذي ارتفع وجلس مع الآب في الأعالي، فكيف يقال عن هذا الإنسان الذي ارتفع وجلس مع الآب في الأعالي، فكيف يقال عن هذا الإنسان الذي هو أصلاً عبدٌ “أخْلَى نَفْسَهُ، آخِذًا صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِرًا فِي شِبْهِ النَّاسِ” (في7:2)”.؟!
مفهوم الهراطقة مبنيّ على أساس الخرافات اليونانية القديمة، التي تعتمد على تأليه الملوك وأبطال الحروب، الإنسان الذي وُلد من العذراء ثم اتصل أو صاحب اللاهوت بشكل عارض ثم مات وقام وصعد إلى السموات وكافأه بعرس الألوهة.
في مفهوم الهراطقة: مَن نعبد؟ نعبد الإنسان البسيط الذي هو مثلنا تمامًا لكنه اتصل اتصالاً عارضًا بالابن الكلمة! هل الإنسان الذي تأله هو فوق كل سلطان وكل مجد وكل رئاسة؟!
يقول معلمنا داود النبيّ “اِلْتَصَقَتْ نَفْسِي بِكَ. يَمِينَكَ تَعْضُدُنِي” (مز8:63)، ويقول معلمنا القديس بولس الرسول “وَأَمَّا مَنِ الْتَصَقَ بِالرَّبِّ فَهُوَ رُوحٌ وَاحِدٌ” (1كو17:6)، “أَمَا تَعْلَمُونَ أَنَّكُمْ هَيْكَلُ اللهِ وَرُوحُ اللهِ يَسْكُنُ فِيكُمْ؟” (1كو16:3).
فهل هذه الآيات تجعلنا آلهة مساوين للإنسان المتأله في نظر الهراطقة؟
في العقيدة الأرثوذكسية السليمة نجد أن اتحاد اللاهوت والناسوت لا تناسبه سوى كلمة “اتحاد” تعني عنصرين اتحدا معًا وصارا واحدًا، ونتيجة لهذا الاتحاد الطبيعيّ الأقنوميّ “اللهُ ظَهَرَ فِي الْجَسَدِ” (1تي16:3)، ونطلق الألفاظ الإلهيّة الرفيعة كالأزليّة والوجود في كل مكان، وكلا الألفاظ البشرية والإلهيّة تُطلق على الإله المُتجسد ذي الأقنوم الواحد.
-“مع الخلاف القائم بين الطبيعتين المتحدتين في وحدة حقيقية، لا يوجد إلا مسيح وابن وحيد. لم يُلغِ الاتحاد ما بين الطبيعتين من اختلاف، ولكنّ الألوهة والبشرية هما في سيدنا المسيح الواحد. بعمل إلهي لا يمكن التعبير عنه”[6].
وما يُقال عن المسيح من أنه كان “يَتَقَدَّمُ فِي الْحِكْمَةِ وَالْقَامَةِ وَالنِّعْمَة عَنْدَ اللهِ وَالْنَاسِ” (لو52:2)، فهذا يخص التدبير، لأن كلمة الله سمح لبشريته أن تنمو حسب خواصها وحسب قوانينها وعاداتها. ومع ذلك تكلّموا عنه “كَيْفَ هَذَا يَعْرِفُ الْكُتُبَ وَهُوَ لَمْ يَتَعَلَّمْ؟” (يو15:7)، فالنمو يحدث للجسد، كما أن التقدم في النعمة والحكمة يناسب مقاييس الطبيعة البشرية، وهنا يلزمنا أن نؤكد أن الله الكلمة، المولود من الآب، هو نفسه كليّ الكمال لا ينقصه النمو أو الحكمة أو النعمة، بل إنه يُعطي للمخلوقات الحكمة والنعمة وكل ما هو صالح[7].
مفهوم الاتحاد:
قد يَعني الاتحاد، مجموعة اناس مختلفي الرأي اتحدوا بمعنى التقوا بفكر واحد، أو الاتحاد في الكيمياء يُقصَد به امتزاج أو خلط محاليل معًا، بينما الاتحاد الذي تم بتجسد الله الكلمة هو حقيقة وسرّ يفوق الفهم البشريّ الأمر الذي حاول القديس كيرلس أن يشبهها بإتحاد نفس الإنسان بجسده.
كيفية اتحاد نفس الإنسان بجسده:
“من اللائق أن نعتقد أن اتحاد اللاهوت بالناسوت، هو مثل اتحاد نفس الإنسان بجسده، فلا يستطيع أحد أن يفهم كيفية هذا الاتحاد، النفس تجعل صفات الجسد كما هي، كما أنها لا تُشارك الجسد آلامه المادية ولا تشارك الجسد رغباته؛ قد تحزن النفس لآلام الجسد ولكنها لا تشاركه الآلام، ورغم ذلك تجعل النفس الأشياء التي للجسد هي لها[8].
ومع هذا يلزم أن نقول إن الاتحاد في عمانوئيل هو أسمى من أن يشبه باتحاد النفس بالجسد، لأن النفس المتحدة بجسدها تحزن مع جسدها وهذا حتمي، حتى أنها عندما تقبل الهوان تتعلّم كيف تخضع لطاعة الله. أما بخصوص الله الكلمة فأنه من الحماقة أن نقول أنه كان يشعر – بلاهوته – بالاهانات، لأن اللاهوت لا يشعر بما نشعر به نحن البشر وعندما اتحد بجسد له نفس عاقلة وتألم لم ينفعل – اللاهوت – بما تألم به، لكنه كان يعرف ما يحدث له”.
[1] شرح تجسد الابن الوحيد – 1412 – 1369 PG 75,
[2] القديس كيرلس الإسكندريّ – المسيح واحد – مؤسسة القديس أنطونيوس – مركز دراسات الآباء القاهرة 1987 – ص20-24.
[3] القديس كيرلس الإسكندريّ – المسيح واحد – مؤسسة القديس أنطونيوس – مركز دراسات الآباء القاهرة 1987 – ص 37-38.
[4] العظة الفصحية 18.
[5] القديس كيرلس الإسكندريّ – المسيح واحد – مؤسسة القديس أنطونيوس – مركز دراسات الآباء بالقاهرة 1987 – ص57-61.
[6] الرسالة 4.
[7] يقول القديس كيرلس “الله الكلمة أخلى نفسه! لأن الأشياء التي كُتبت عنه كإنسان تُظهر طريقة إخلاؤه لأنه كان أمرًا مستحيلاً بالنسبة للكلمة المولود من الله أن يسمح بمثل هذه الأشياء أن تكون في طبيعته الخاصة، ولكن حينما صار جسدًا أي صار إنسانًا مثلنا، فإنه حينئذٍ وُلِد حسب الجسد من امرأة.
وقيل عنه أنه كان خاضعًا للأمور التي تختص بحالة الإنسان، ورغم أن الكلمة لكونه إله كان يستطيع أن يجعل جسده يبرز من البطن في قامة رجل ناضج مرة واحدة، إلاَّ أن هذا لو حدث لكان أمرًا غريبًا جدًا واعجازيًا، ولذلك فإنه جعل جسده يخضع لعادات وقوانين الطبيعة البشرية …
وهكذا أيضًا قيل عنه إنه “كان يتقدم في الحكمة”، لا كمن ينال مؤوات جديدة من الحكمة – لأن الله معروف بأنه كامل تامًا في كل شيء ولا يمكن بالمرَّة أن يكون ناقصًا في أي صفة مناسبة للاهوت – بل ازدياده في الحكمة هو سبب أن الله الكلمة أظهر حكمته بالتدريج بما يناسب مرحلة العمر الذي يبلغها الجسد. إذًا فالجسد يتقدم في القامة والنفس تتقدم في الحكمة، لأن الطبيعة الإلهية غير قابلة للإزدياد لا في القامة ولا في الحكمة، إذ أن كلمة الله كامل تمامًا.
لذلك فإنه لسبب مناسب ربط بين التقدُّم في الحكمة ونمو القامة الجسدية، بسبب أن الطبيعة الإلهية أعلنت حكمتها الخاصة بما يتناسب مع قامت النمو الجسديّ – تفسير إنجيل لوقا – القديس كيرلس السكندريّ – مركز دراسات الآباء – الطبعة الثانية 2007 – ص52،51.
[8] اتحاد اللاهوت بالناسوت بغير اختلاط ولا امتزاج ولا تغيير، اللاهوت لا يتألم ولكنه كان يعرف ماذا يحدث لجسده.