اللاهوت المقارن والباترولوجي – دراسة
اللاهوت المقارن والباترولوجي – دراسة
واجهت الكنيسة منذ نشأتها كثيرًا من البدع والهرطقات، لذا كانت هناك حاجة إلى علّم – اللاهوت المقارن – الذي يبحث في الفرق المتباينة، التي ظهرت في تاريخ الفكر المسيحيّ منذ نشأته، ومناقشة معتقداتها ومبادئها اللاهوتية بهدف إبراز الحقيقة المسيحية والبرهنة عليها، وبيان هدى انحراف المذاهب المعارضة وابتعادها عن الإيمان الرسولي[1].
ظهرتْ كتابات الآباء لإرساء العقيدة في أذهان أبنائها، ودحض وتفسير أفكار الهراطقة بالحجج القوية، الراسخة الموثقة بالتقليد والتسليم الكنسيّ والكتاب المقدس، فقد كان الآباء غيورين على الإيمان السليم إلى حد الاستشهاد، فانظرْ كم عانَى القديس أثناسيوس الرسوليّ ديسقورس وغيرهما..
أهمية دراسة اللاهوت المقارن عند الآباء وسماته
- من خلال كتابات الآباء في هذا المجال، نتعرّف على روح الآباء وأسلوبهم في الرّد على الهرطقات كلٍ بما يناسبها، كاستخدامهم للفلسفة اليونانية في الرد على الفلاسفة، واستخدام العهد القديم في الرّد على اليهود، والتقليد والكتاب المقدس للرّد على الهراطقة.
- دراسة بدعة قد لا تكون في عصرنا والرد عليها، لنتعرّف من خلالها على ما واجهته الكنيسة من اضطهادات داخلية، كذلك دراسة العقيدة من خلال اللاهوت المقارن توضح جوانب أكثر في العقيدة.
- من خلال دراستنا للآباء في اللاهوت المقارن نتعرف على العقيدة السليمة، وإظهار روح الآباء ووقارهم ودقة الألفاظ الأدبيّة مهما استخدم الهراطقة أفاظًا فيها إساءة، كذلك روح الحب الذي كانوا يُظهرونه للهراطقة، آملين أن يروهم في أحضان الكنيسة الجامعة الرسوليّة، على الرغم من أنهم كانوا حازمين ومدققين في الإيمان الذي تسلّموه (2تي12:1-14)، لكنهم كانزا محببين ولطفاء… ولهذا كتب القديس كيرلس لنسطور ليُخبره أنه لن يجد أحد يحبه مثله، لكن هذا الحب لن يكون على حساب الإيمان.
والبابا ديونيسيوس الرابع عشر عندما زار إيبارشية الفيوم، ووجد أسقفها نيبوس يُعلِّم بالمُلِكْ الألفيّ الأرضيّ، كتب يوضّح محبته وتقديره لمجهود هذا الأسقف ثم يشرح العقيدة السليمة: “لأنهم يقدِّمون لنا مؤلفًا لنيبوس وهم يعتمدون عليه كلّية، كأنه أثبت إثباتًا قاطعًا أنه سيكون هناك مُلك للمسيح على الأرض، فإنني أعترف بتقديري ومحبتي لنيبوس من نواحي أخرى كثيرة، لأجل إيمانه ونشاطه واجتهاده في الأسفار الإلهيّة، ولأجل تسابيحه العظيمة التي لا يزال كثيرون من الإخوة يتلذذون بها..
ويزداد احترامي له لأنه سبقنا إلى راحته، على أن الحق يجب أن يُحب ويُكرّم قبل كل شيء، ومع أننا يجب أن نمتدح ونصادق على كل ما يُقال صوابًا دون تحيز، فإننا يجب أن نمتحن كل ما يبدو أنه لم يُكتَب صوابًا ونصححه”.[2]لفي
كما قيل عن القديس ديديموس الضرير: “اتسمت تعاليمه اللاهوتية بالهدوء والرزانة بعيدًا عن الهجوم والعنف، وكان مهذبًا في نضاله ضد الأريوسيين والوثنيين، مركِّزًا على أن يقنعهم ويردّهم إلى الحق لا أن يهزمهم”[3].
كذلك قيل عن القديس إيريناؤس أسقف ليون: “في المقاومة لا يبغي الجدل كهدف، بل كان يركّز على إبراز أركان التعليم الرسوليّ في شتّى القضايا التي أثارها الهراطقة، فكان جدله إيجابيًّا بنّاءً، كان مجاهدًا لا في مقاومة الهرطقات فحسب، وإنما بالأحرى في ردّ الهراطقة إلى حضن الكنيسة، لذا كان يتحدث بحكمة بناءّة، في أُسلوب هادشء وتسلسل مقنع بروح المحبة غير المتعصبة ولا الجارحة”.
كذلك يقول القديس أمبروسيوس: “يجب على الرعاة أن يكونوا هكذا كمرشدين للسفن حكماء، فيفردون شراعات إيمانهم حيث يسير في أكثر الأماكن أمانًا، حاسبين تكاليف (رحلة الكتب المقدسة) فلا ننطق بكلمة إلاّ للبنيان، وباختصار يليق بالراعي أن يمتنع عن المباحثات الغبية والأنساب والخصومات وكل ما هو ليس للبنيان، إذ يدعوها الرسول أنها أمور غير نافعة، من ينشغل بها يصير غبيًّا”[4].
كتابات الآباء تُعطي مفاهيم مسيحية وتفاسير قوية لعبارات الكتاب المقدس، فهي تكشف لنا مدى استنارة الآباء بالروح، فلا توجد حقيقة إلهية جديدة أو خلق جديد، ولكن الآباء المؤيدين بالروح القدس يتعمقون أكثر والروح يُعضدهم ويعطيهم وفقًا للاحتياجات، فلا يوجد شيء في الكنيسة يقبل إعادة النظر أو التطور، بل الكنيسة ثابتة على مر العصور، منذ حلول الروح القدس على التلاميذ إلى آخر الدهور.
منهج القديس يوحنا ذهبيّ الفم في اللاهوت المقارن [5]:ـ
يرى القديس يوحنا ذهبيّ الفم أن الوعظ والتعليم الصحيح هو أنسب طريقة للتوبة، وعدم استخدام عصا التأديب إلاَّ عندما لا تنجح الطريقة الأولى، فيقول: “من الأفضل للبشر أن يتقدَّموا لخدمة الرّب لتثقيفهم لا بسبب الخوف من العقاب والألم… ولكن إن كانت الوسيلة الأولى أفضل، فإن هذا لا يعنى تجاهل الثانية…
فإن كثيرين كعبيد أشرار لا يعودون إلى ربهم غالبًا إلاَّ بعصا الآلام المؤقتة، وذلك قبل ما يبلغون إلى درجة التقدم في التقوى”[6]، كما يقول أيضًا تعليقًا على موقف السيد المسيح من الكتبة والفريسيين بعد معجزة شفاء مريض بركة بيت حسدا “ويجب علينا استخدام اللطافة لاستئصال هذا المرض، لأن الإصلاح والتغيير باستخدام الخوف، سرعان ما يعود إلى الشر مرة أخرى”[7].
أما منهجه فيتلخص في الآتي:
- عدم استخدام العنف كوسيلة للتوبة فيقول: “لا يُسمح للمسيحيين أن يعالجوا سقطات الخطاة كرهًا… فإنه يلزم إصلاح الخطاة بالاقتناع لا بالإرغام، فنحن لم نعط بالقانون سلطانًا من هذا النوع لقمع الخطاة”[8]، كما يقول أيضًا “ليتنا لا نحتد ضد هؤلاء الناس (يقصد الأنوميين) ولا نتخذ الغضب كعذر، بل نتحدّث إليهم بوداعة وعذوبة، فليس هناك وسيلة أكثر فاعلية من ذلك، لهذا أوصانا الرسول بولس أن نتمسك بهذا السلوك من كل قلبنا عندما قال:
“وضعَبْدُ الرَّبِّ لاَ يَجِبُ أنْ يُخَاصِمَ، بَلْ يَكُونُ مُتَرَفِّقًا بِالْجَمِيعِ” (2تي24:2)، أنه لم يقل “مترفقًا فقط يإخوتك” بل قال “مترفقًا بالجميع”، كما قال أيضًا “لِيَكُنْ حِلْمُكُمْ مَعْرُوفًا” (في5:4)، لم يقل “معروفًا عند إخوتك” بل قال “لِيَكُنْ حِلْمُكُمْ مَعْرُوفًا عِنْدَ جَمِيعِ النَّاسِ” (في5:4)، وهو يقصد بذلك أي صلاح تفعلونه: “إن أحببتم الذين يحبونكم” (مت46:5)[9].
- عدم الجدال حسب قول معلمنا القديس بولس الرسول لتلميذه تيموثاوس: “المُبَاحَثَاتُ الْغَبِيَّةُ وَالْسَخِيفَةُ اجْتَنِبْهَا، عَالِمًا أنَّهَا تُوَلِّدُ خُصُومَاتٍ” (2تي23:2)، كما يقول لتلميذه تيطس: “وَأَمَّا الْمُبَاحَثَاتُ الغَبِيَّةُ وَالأَنْسَابُ وَالْخُصُومَاتُ وَالْمُنَازَعَاتُ النَّامُوسِيَّةُ فَاجْتَنِبْهَا، لأَنَّهَا غَيْرُ نَافِعَةٍ، وَبَاطِلَةٌ. الرَّجُلُ الْمُبْتَدِعُ بَعْدَ اإِنْذَارِ مَرَّةً وَمَرَّتَيْنِ أَعْرِضْ هَنْهُ، عَالِمًا أَنَّ مِثِّلَ هَذَا قَدِ انْحَرَفَ، وَهُوَ يُخْطِئُ مَحْكُومًا عَلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ” (تي9:3-11)، ويعلق ذهبيّ الفم على هذه الآية قائلاً:
“أما الخصومات فيعني بها المناقشات مع الهراطقة، فالرسول يود ألاَّ نتعب فيها بغير جدوى، دون أن نجني منها شيئًا، لأنها تنتهي إلى لا شيء، لأنه إن صمم إنسان على عدم تغيير رأيه مهما حدث، فلماذا تُتعب نفسك وتزرع على الصخر، مع أنه كان يليق بك أن توّجه عملك العظيم إلى شعبك متحدثًّا معهم عن الفضائل؟”[10]، كذلك يقول أيضًا “يليق يمَن يعلِّم أن يهتم على وجه الخصوص أن يحقق عمله بالوداعة، فإن النفس التي ترغب في التعلم لا تتقبل التعلِّيم النافع المقترن بالخشومة والنزاع”[11].
- عدم الانفعال والغضب الذي بسببه نفقد سلامنا الداخلىّ فيقول القديس يوحنا ذهبيّ الفم: “إن تغيير الإنسان لعقليّة خصومه وهداية أذهانهم أعظم من قتلهم”[12].
لكن روح الحب عند الآباء في كسب الهراطقة وانضمامهم لشركة الكنيسة، لا تعني التساهل في العقيدة…
فيقول القديس كيرلس الكبير في رسالته إلى فاليريان: “أعتقد أنه ضروريّ بلا شك، أن نهاجم الوسائل التي يعتقدون أنهم قادرون بها على محاربة شعب الرَّب، كما هو مكتوب “يَرموا في الدجى مستقيمي القلوب” (مز2:11)، أي هؤلاء الذين اختاروا أن يحيوا في بساطة الهذف والغاية، والذين أعطوا في نفوسهم تقليد الإيمان كوديعة ويحفظونه مقدسًا وبلا تغيير، وهؤلاء البارعون في الخداع، بابتداعات أفكارهم المخترعة بتعقيد، يدفعون هؤلاء الذين هم أقل منهم كفريسة بعيدًا عن الإيمان بالحق، وبمحاكمتهم بجهل لشر باقي الهراطقة..
ويقدّمون ما هو معتاد بالنسبة للهراطقة دون أن يأخذوا في الاعتبار ما هو مكتوب “ويل لمَن يسقي صاحبه سافحًا حموك ومسكرًا”[13] (حبقوق15:2).
كذلك يؤكد القديس يوحنا ذهبيّ الفم على التمسك بالأمانة وعدم التساهل مع الهراطقة، فنجده يمنع ويحرم الدخول إلى اجتماعاتهم، بل أيضًا كان يصادر كنائسهم، وفي رسالته إلى أنومياس Enomoens يُعَلِّق على قول معلِّمنا القديس بولس الرسول: “غَيْرَ أَنَّهُ عَلَى وَجْهِ سَوَاءٌ كَانَ بِعِلَّةٍ أَمْ بِحَقٍّ يُنَادَى بِالْمَسِيحِ، وَبَهَذَا أَنَا أَفْرَحُ، بَلْ سَأَفْرَحُ أَيْضًا” (في18:1)، فقد حاول الهراطقة أن يُدخلوا البدع إلى قلوب المؤمنين تحت ستار الإتضاع، خالطين بينه وبين الاستهتار في التمسك بالعقيدة…
مطالبين البسطاء أن يسمعوا لهم إذ هم يتحدّثون في المسيح يوسع، فأخذ يوضح التفسير الحقيقيّ للآية: أنها لم تكن بخصوص هراطقة، بل بخصوص الإيمان السليم، فيقول: “إذ يُفسد البعض هذا القول تمامًا، دون أن يقرأوا ما يسبقه وما يليه، بل يبترونه عن بقية الجزء المرتبط به، وذلك لأجل هلاك أنفسهم… مُدَّعسن أن بولس قد سمح بهذه..” وأخذ يوضح أن الحب يدفع إلى التواضع دون استهتار[14].
كما يقول ذهبيّ الفم أيضًا “ما دام الرعاة ليسوا في مواجهة وحش كاسر، فإنهم يسترخون تحت شجرة سنديان أو أرز، يعزفون الناي تاركين قطيعهم يرعى في حرية. أما إذا دبرت الذئاب هجومًا فإنه للحال يقوم الرعاة بحيوية ويلقون عنهم المزمار أو الناي متسلحين بالمقلاع. هكذا أنا أفعل”[15]، كذلك يقول “إن كانت صداقتهم (يقصد الهراطقة) مضّرة بك وتجرّك لتشاركهم شرهم، فأعرض عنهم حتى لو كانا والديك”[16].
يقول القديس يوحنا ذهبيّ الفم أن مار أفرام السريانيّ كان على الهراطقة كسيف ذي حدين[17].
الأسانيد التي اعتمد عليها الآباء في مواجهة الهرطقات:
الكتاب المقدس:
يُعتَبر الكتاب المقدس هو السند الأول عند الآباء، في مواجهة الهرطقات والبدع التي جابهتهم، وفي ذلك يقول البابا أثناسيوس الرسوليّ: “ابحثوا أيضًا ما تضمنته الأناجيل وما كتبه الرسل”[18]، فمثلاً في دفاعه عن ألوهة الروح القدس يستخدم الكتاب المقدس فيقول: “انظروا كيف أشارتْ جميع الأسفار الإلهية إلى الروح القدس”[19]، ومرّة أخرى يقول: “أين وجدوا في الأسفار المقدسة أن الروح القدس أُشير إليه كملاك…
وإن كانت الأسفار المقدسة لم تتحدّث عن الروح القدس كملاك، فأيُّ عذرٍ لهم في مثل هذه الجرأة”[20]، كما يرى أنه عند دراسة أيّ موضوع من موضوعات الكتاب المقدس، يلزم فحص هذا الموضوع في جميع مواقعه بالكتاب المقدس، حتى يمكن إطلاق الحكم بصورة كاملة.
وهكذا عندما تناول موضوع الروح القدس في رسالته الأولى إلى سرابيون، فإنه لكي يُثبت أن الروح القدس ليس مخلوقًا، درس الآيات التي جاءت عن الروح القدس وانتهى إلى القول: “قولوا لنا إذن، أتوجد فقرة في الكتاب المقدس الإلهيّ أُشير فيها إلى الروح القدس بمجرد كلمة “روح” بدون إضافة كلمة أو حرف إليها، مثل: الله، أو الآب أو “ياء المتكلم”، أو “المسيح” نفسه أو “الابن”، أو “مني” أي من الله أو أداة التعريف “أل” فلا يُقال عنه روح، بل الروح أو الاصطلاح الكامل “الروح القدس” أو “روح الحق” أي “روح الابن”..
الذي يقول “أنا هو الحق” (يو6:14)، حتى إنكم بمجرد سمع كلمة “روح” افترضتم أنها تعني “الروح القدس”. وبالإيجاز نقول: إنه ما لم تضف أداة التعريف “أل” أو إحدى الإضافات السابقة، فإن كلمة “روح” لا يُمكن أن تشير إلى الروح القدس… أيمكنكم إجابة السؤال الذي قُدِّمَ إليكم عما إذا كنتم تجدون في أيّ مكان في الأسفار الإلهيّة – أن الروح القدس قد أُطلق عليه مجرد كلمة “روح” دون الإضافات السابق ذكرها، ودون الصفات السابق تدوينها، إنكم لا تستطيعون الإجابة لأنكم لن تجدوا أثرًا لهذا في الكتاب المقدس”[21].
أما الهراطقة فقد استخدموا الكتاب المقدّس، لكنهم فسرّوه خارج نطاق الكنيسة بما يخدم بدعتهم، لذا نجد القديس أثناسيوس الرسوليّ يرى أن “الهراطقة يخدعون البسطاء بتقديم مقتطفات من الكتب المقدسة، ويغفلون أجزاء أخرى منها، إنهم يتظاهرون كأبيهم أبليس (يو44:8)، بأنهم يدرسون ويقتطفون لغة الكتاب، لكي يخدعوا الآخرين بمكرهم”[22]، كما يرى القديس أثناسيوس أن أسوأ ما في الأمر، أن نخترع كلمات جديدة تضاد الكلمات المستخدمة في الكتب المقدسة[23].
يقولالقديس جيروم “إن ماركيون وفاسيليدس وهراطقة آخرين… لا يملكون إنجيل الله، لأنهم لا يملكون الروح القدس، الذي من دونه يُصبح الإنجيل المبشَّر به إنسانيًّا، فنحن لا نعتبر أن الإنجيل (أي البشارة) يتألَّف من كلام الكتاب المقدس فغايته في معناه، لا في سطحه، في لبِّه وجوهره، لا في أوراق العظات، بل في أصل معناه، في هذا الحال يُصبح الكتاب نافعًا حقًّا للسامعين عندما يُبشَّر به مع المسيح، وعندما يُقدَّم ويُعرَض مع الآباء، وعندما يُقدِّمه المبشِّرون به مع الروح…
كبير هو خطر التكلم في الكنيسة، لأن التفسير المنحرف يُحوِّل إنجيل المسيح إلى إنجيل إنسانيّ”[24].
فالهراطقة يأخذون جملة واحدة من النص ويفسرونها حسب ما تخدم بدعنهم، ولكن عندما تفهم هذه الجملة من خلال النص كله ستجد معناها مختلفًا تمامًا عما يقصدون.
التقليد:
التقليد هو امتداد حياة الإيمان عبر الأجيال الحيّة، هو اكتشاف الحق المُعلَن بالروح القدس، فالتقليد المُسلَّم من الآباء قويّ، لأنهم من ناحية عاصروا الرسل مثل القديس أكْلِمَنْضُس الرومانيّ،، وأغناطيوس وبوليكاربوس، وكذلك الاستنارة التي كانوا يعيشون بها، ويشمل التقليد الليتورجية، التي توضح إيماننا، كما هو معروف “ما نؤمن به يثعرَف من خِلال الطريقة التي نُصلِّي بها”[25]، كذلك التقليد المستمد من حياة الآباء وكتاباتهم، فأقوال الآباء وكتاباتهم صورة حية لعمل الروح القدس المستمر في الكنيسة.
لم يكتب الآباء أو يقولوا شيئًا كرأي شخصيّ، لكنهم حافظوا على ما تسلّموه من الآباء، لذا تُعتبَر أقوالهم حجة، فيقول القديس أثناسيوس الرسوليّ: “بحسب الإيمان الرسوليّ المُسلَّم لنا بالتقليد مع الآباء، فأني قد سلّمتُ التقليد بدون ابتداع أي شيء خارجًا عنه، فما تعلمتهُ بذلك قد رسمتهُ مطابقًا للكتب المقدسة”[26]، فيتضح من قول القديس أثناسيوس مدى حرصه على الإيمان المُسلَّم مرة بالتقليد الذي يتفق مع الكتاب المقدس.
فكما يقول معلمنا بولس الرسول “فَاثْبُتُوا إِذًا أَيَّهَا الإِخْوَةُ وَتَمَسَّكُوا بِالتَّعَالِيمِ (بالتقليد) الَّتِي تَعَلَّمْتُمُوهَا، سَوَاءٌ كَانَ بِالْكَلاَمِ أَمْ بِرِسَالَتِنَا” (2تس15:2)، وعبارة “تمسكوا بالتعليم”، تأتي في اليونانية بمعنى التقليد، كما تأتي في ترجمة New King James، بمعنى التقليد Tradition، إذن فمعيار الحق هو الكنيسة.
المجامع المسكونية:
المجامع المسكونية هي صوت الكنيسة المُعبِّر عن التعليم الصحيح، وهي السلطة العُليا للتعليم في الكنيسة الأرثوذكسية؛ وترجع سلطة هذه المجامع فيما يتوافق مع مشيئة الروح القدس العامل فيها، فالتعليم العقائديّ في المجامع المسكونية، يحتوي على مضمون الإيمان والأساس الراسخ للعقائد الإيمانية الأرثوذكسية، والكنيسة – إكليروسًا وشعبًا – هي الحاملة للتعليم الصحيح للإيمان..
حيث يحميه ويصونه الروح القدس من أي خطأ، فمجمع أورشليم يشهد على حلول الروح القدس في المجمع “لأَنَّهُ قَدْ رَأَى الرُّوحُ الْقُدُسُ وَنَحْنُ” (أع18:15)، فهذا يؤكد أن الروح القدس هو المُشرِّع في المجامع المسكونية.
لم يهدف الآباء في نقاشهم حول العقيدة في المجامع المسكونية إلى إعطاء تفسير للأسرار والعقيدة، بل كان عملهم الاستناد إلى الكتاب المقدس وإلى تعاليم الرسل، على أبعاد الالتباسات التي طرأتْ على فهم العقيدة سواء على صعيد الفكر المنطقيّ، أو على صعيد الألفاظ اللغوية، لكي يحولوا دون ضياع التعليم في الخطأ والهرطقة، واكتفوا بإحاطة السرّ بقانون إيمان عقائديّ للمحافظة عليه، ليحمي العقيدة المسيحيَّة من الهراطقة.
أشهر كتابات الآباء العلوم اللاهوتية:
منذ قيام المسيحيّة والحرب الفكرية قائمة، فالكتبة والفريسيون حاربوا السيد المسيح نفسه… “لَوْ كَانَ هَذَا نَبِيًّا..” (لو39:7)، “بِأَيِّ سُلْطَانٍ تَفْعَلُ هَذَا وَمَنْ أَعْطَاكَ هَذَا السُلْطَانَ؟” (مت23:21)، “هَذَا لاَ يُخْرِجُ الشيَّاطِينَ إِلاَّ بِبَعْلَزَبُولَ رَئِيسِ الشيَّاطِينِ” (مت24:12)، “إِنْ كُنْتَ أَنْتَ الْمَسِيحَ فَقُلْ لَنَا” (لو67:22)
حتى إن السيد المسيح قال للتلاميذ “لأنَّه إِنْ كَانُوا بِالْعُودِ الرَّطْبِ يَفْعَلُونَ هَذَا فَمَاذَا يَكُونُ بِالْيَابِس؟” (لو31:23)، لذا هناك كتابات كثيرة للآباء في اللاهوت العقائديّ والمقارن ضد مُحدثي الانشقاقات والبدع، سواء الفلاسفة الوثنيون أو اليهود أو أصحاب الهرطقات.
يثعتبَر القرن الرابع وبداية الخامس، العصر الذهبيّ لكتابات الآباء اللاهوتية، على أنه كانت هناك كتابات في القرون الثلاثة الأولى لكنها قليلة.
[1] Contra Anianos 2:70.
[2] يوسابيوس القيصريّ – المرجع السابق – ك7 ف 24 – ص 328.
[3] د. ميشيل بديع عبد الملك – التعليم عن المسيح في كتابات العلاّمة الأسكندري ديديموس الضرير – دورية مركز دراسات الآباء يناير 1998 – ص 29؟
[4] St. Ambrose: Of the Christian faith 1:47.
[5] القمص تادرس يغقوب ملطي – القديس يوحنا ذهبيّ الفم – 1980 – ص 203،202.
[6] راجع القديس يوحنا ذهبيّ الفم – القمص تادرس يعقوب ملطيّ 1980 – ص 202.
[7] N.&P. N. F. vol. 10 by Philip Schaff, editor – In Mat, hom29. p. 426.
[8] De Sacr. 2:3.
[9] القديس يوحنا ذهبيّ الفم – ضد الأنوميين – عظة 40:1.
[10] القمص تادرس يعقوب ملطي – رسالة بولس الرسول إلى تيطس ص 45.
[11] القمص تادرس يعقوب ملطي – رسالة بولس الرسول إلى تيطس ص 46.
[12] N.&P. N. F. vol. 10 by Philip Schaff, editor – In Mat, hom 29,p. 425.
[13] الرسالة 50 من القديس كيرلس إلى فاليريان 16.
[14] القمص تادرس يعقوب ملطي – من كتابات القديس يوحنا ذهبيّ الفم – 2007 – الفريسيّ والعشار. ص259 N.&P.N.F. ser. I vol. 9.
[15] Adv. Jud. PG 48:871.
[16] القديس يوحنا ذهبيّ الفم – ضد الأنوميين – عظة 41:1.
[17] مار أغناطيوس أفرام الأول برصوم، الدر النفيسة في مختصر تاريخ الكنيسة، المجلد الأول، ص 523.
[18] الرسائل عن الروح القدس للأسقف سرابيون – المرجع السابق – الرسالة الأولى:6 ص 36.
[19] الرسائل عن الروح القدس للأسقف سرابيون – المرجع السابق – الرسالة الأولى:7 ص 40.
[20] الرسائل عن الروح القدس للأسقف سرابيون – المرجع السابق – الرسالة الأولى:11 ص 47.
[21] الرسائل عن الروح القدس للأسقف سرابيون – المرجع السابق – الرسالة الأولى:4 – ص33.
[22] القمص تادرس يعقوب – كنيسة علم ولاهوت – كنيسة مارجرجس باسبورتنج بالإسكندرية 1986 ص 83.
[23] الرسائل عن الروح القدس للأسقف سرابيون – المرجع السابق – الرسالة الأولى:17 ص60.
[24] تفسير غلاطية1، 2 مجموعة الآباء اللاتين، مين 26، 386.
[25] هل الكتاب المقدس وحده يكفي – أسرة القديس ديديموس الضرير للدراسات الكنسيّة – كنيسة مارجرجس باسبورتنج – مارس 2006 ص18.
[26] الرسائل عن الروح القدس للأسقف سرابيون – المرجع السابق – الرسالة الأولى:33 ص91.
خدمة التفريغ, اللاهوت المقارن , المجامع المسكونية, أشهر كتابات الآباء, كتابات الآباء, العلوم اللاهوتية, التقليد, الكتاب المقدس, الهراطقة, الكنيسة, التساهل في العقيدة, شركو الكنيسة, comparative theology