الباترولوجي والتقليد
ترجع كلمة “تقليد” إلى كلمة παράδοσις اليونانية، من فعل παραδίδωμι (سلّم) الذي يعني فاعلية النقل أو الإرسال بعيداً، من يد إلى يد، ومن فم إلى فم، أو التسليم المباشر من شخص لآخر، أما موضوع هذا النقل فيمكن أن يكون كلمات قيلت، أو أعمالاً شُوهدت أو عوائد عُمل بها، وهكذا تجد أن كلمة παράδοσις والتي ترجمت في العربية بكلمة “تقليد”، لا تعني تقليد الأقدمين أي مجاراتهم ومحاكاتهم، بل هو الاستلام منهم بالتسلسل، الوديعة التي سُلّمت إليهم، ففعل قلّد بمعنى قلّده السيف أي جعل حمالته في عنقه، أو قلّده العمل أي فوّض أمره إليه.
يقول القديس أثناسيوس الرسولي: “إن الرسول يمدح أهل كورنثوس قائلاً: فَأَمْدَحُكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ عَلَى أَنَّكُمْ تَذْكُرُونَنِي فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَتَحْفَظُونَ التَّعَالِيمَ كَمَا سَلَّمْتُهَا إِلَيْكُمْ.” (1كو11: 2)، وأما هؤلاء (الأريوسيون) الذين يحتقرون آراء الذين سبقوهم يليق بهم حقاً أن يقولوا بلا حياء عكس ذلك لرعاياهم، أي (إننا نمدحكم لأنكم لا تذكرون الآباء ونزيدكم مدحاً حينما تحتقرون تقاليدهم)”[1].
كذلك يقول القديس يوحنا ذهبي الفم تعليقاً على قول معلمنا بولس الرسول “فَاثْبُتُوا إِذًا أَيُّهَا الإِخْوَةُ وَتَمَسَّكُوا بِالتَّعَالِيمِ (التقليد) الَّتِي تَعَلَّمْتُمُوهَا، سَوَاءٌ كَانَ بِالْكَلاَمِ أَمْ بِرِسَالَتِنَا” (2تس 2: 15)، بقوله: “ليتنا نفكر في تقليد الكنيسة أنه مستحق كل تقدير، إنه تقليد فلا نفكر في أي شيء آخر… من هنا يتضح بأن الرسول بولس لم يُعطِ الكلّ كتابةً، بل أعطى أشياء كثيرة بطريقة شفهية، والأشياء المكتوبة وغير المكتوبة هي مع بعضها قابلة للإيمان بها، بحيث نعتبر أن تقليد الكنيسة مستحق للاعتقاد به”[2].
الكتاب المقدس والتقليد:
في الكنيسة الأولى لم يكن هناك فصل بين ما كان يحمله الآباء الرسل وتلاميذهم من بشارة شفهية حياتية (التسليم والتقليد)، وبين ما سجّلوه منها كتابة فيما بعد بحسب الاحتياجات الرعوية للكنائس، بصيغة أناجيل ورسائل وأعمال رسل إلخ (الإنجيل)… فكل هذا مع أسفار العهد القديم كان محور تعليم وحياة الكنيسة التي كانت تتسلمه وتُسلمه بأمانة بمعونة الروح القدس.
لزوم التقليد لمعرفة الأسفار الإلهية وعددها وقانونيتها:
كانت كرازة التلاميذ والرسل بالتسليم والتقليد، فلم يكتب أحد منهم إلاّ بعد ما يقرب من ثلاثين عاماً من حلول الروح القدس؛ خلال هذه الفترة كان التقليد هو الأساس في الكرازة، فالكنيسة عاشت بدون إنجيل مكتوب ولكنها لم تَعِشْ يوماً واحداً دون التقليد، فالبدع والهرطقات هي التي دعت التلاميذ للكتابة فسجل لنا التلاميذ والرسل الإنجيل بوحي من الروح القدس، وعندما حاول الهراطقة التلاعب بهذه الأسفار، حذفاً أو إضافة، حَدَّدت الكنيسة بلسان آبائها ومجامعها المحلية أسفار العهدين القديم والجديد القانونية، معتمدة في هذا على التسليم الذي عندها مكتوباً كان أم شفهياً.
فالكنيسة لم تعرف الكتاب المقدس إلاّ من خلال التقليد، لذلك يقول القديس أغسطينوس “أما من جهتي فأنا لا أُومن بالإنجيل إلا كما يوجهه سلطان الكنيسة”[3].
يقول القديس سرابيون أسقف أنطاكية فيما كتبه عن إنجيل بطرس (ك3 ف3): “لإننا أيها الإخوة نقبل كلاً من بطرس وسائر الرسل كرسل المسيح، وكننا نرفض بشدة الكتابات المنسوبة إلى الرسل زوراً، عالمين أن مثل هذه لم تُسلّم إلينا”[4].
ويقول العلاّمة أوريجانوس “بالتقليد عرفت الأناجيل الأربعة أنها وحدها صحيحة”[5]، كما يقول “التلميذ الحقيقي للسيد الميسح هو ذلك الذي يدخل الكنيسة، فإن من يدخل الكنيسة يفكر ذات فكر الكنيسة ويحيا كحياتها، وبهذا يتفهم الكلمة، فإنه ينبغي أن نتقبل مفتاح الكتاب المقدس من التقليد الكنسي كما من الرب نفسه”[6].
فالتقليد سلّمَنا الإنجيل المكتوب وكمّل لنا ما لم يُكتب؛ ولم يسلمنا عِلْماً فقط بل في التقليد والتسليم نتسلم روح الإنجيل وفكره ومفاهيمه والتطبيق العملي له؛ كما رأيناه في الآباء اللذين سلّمونا وتسلّموا هم أيضاً من الأجداد.
يقول القديس كيرلس الأورشليميّ: اعرف بمثابرة من الكنيسة ما هي كتب العهد القديم وما هي كتب العهد الجديد، ولا تقرأ في كتب الأبوكريفا”[7].
الكتاب المقدس يتطلب وجود تقليد معه:
كما نلاحظ أيضاً أن كتابة الإنجيل لم تنه دور التقليد؛ فالإنجيل لم يُكتَب فيه كل شيء، ودلي قول معلمنا يوحنا الإنجيلي “وَأَشْيَاءُ أُخَرُ كَثِيرَةٌ صَنَعَهَا يَسُوعُ، إِنْ كُتِبَتْ وَاحِدَةً وَاحِدَةً، فَلَسْتُ أَظُنُّ أَنَّ الْعَالَمَ نَفْسَهُ يَسَعُ الْكُتُبَ الْمَكْتُوبَةَ. آمِينَ.” (يوحنا 21: 25)، “إِذْ كَانَ لِي كَثِيرٌ لأَكْتُبَ إِلَيْكُمْ، لَمْ أُرِدْ أَنْ يَكُونَ بِوَرَق وَحِبْرٍ، لأَنِّي أَرْجُو أَنْ آتِيَ إِلَيْكُمْ وَأَتَكَلَّمَ فَمًا لِفَمٍ، لِكَيْ يَكُونَ فَرَحُنَا كَامِلاً.” (2يو 1: 12)
وكذلك يقول معلمنا القديس بولس الرسول لتلميذه تيطس: “مِنْ أَجْلِ هذَا تَرَكْتُكَ فِي كِرِيتَ لِكَيْ تُكَمِّلَ تَرْتِيبَ الأُمُورِ النَّاقِصَةِ، وَتُقِيمَ فِي كُلِّ مَدِينَةٍ شُيُوخًا كَمَا أَوْصَيْتُكَ” (تي 1: 5).
في التقليد أمور كثيرة لا توجد في الكتاب الإلهيّ، والذي يحضّنا على التمسك بها الكتاب نفسه “فَاثْبُتُوا إِذًا أَيُّهَا الإِخْوَةُ وَتَمَسَّكُوا بِالتَّعَالِيمِ (بالتقليد) الَّتِي تَعَلَّمْتُمُوهَا، سَوَاءٌ كَانَ بِالْكَلاَمِ أَمْ بِرِسَالَتِنَا” (2تس 2: 15).
وفي مكان آخر نجد أن معلمنا القديس بولس الرسول يمتدح الكورنثيين من أجل محافظتهم على التقليد، ” فَأَمْدَحُكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ عَلَى أَنَّكُمْ تَذْكُرُونَنِي فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَتَحْفَظُونَ التَّعَالِيمَ كَمَا سَلَّمْتُهَا إِلَيْكُمْ.” (1كو11: 2)، ويُوصي تلميذه الأسقف تيموثاوس أن يحفظ الوديعة “يَا تِيمُوثَاوُسُ، احْفَظِ الْوَدِيعَةَ، مُعْرِضًا عَنِ الْكَلاَمِ الْبَاطِلِ الدَّنِسِ، وَمُخَالَفَاتِ الْعِلْمِ الْكَاذِبِ الاسْمِ” (1تي 6: 20)، “اِحْفَظِ الْوَدِيعَةَ الصَّالِحَةَ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ السَّاكِنِ فِينَا” (2تي 1: 14).
الكتاب المقدس استفاد من التقليد:
كتب أُناس الله القديسون الكتاب المقدس مسوقين من الروح القدس، الذي حثهم على الكتابة وعصمهم من الخطأ في فهم معنى البشارة المقدمة، وترك لهم حرية التعبير بما يناسب لغتهم ومعرفتهم، فاستندوا على إلى التسليم، كما يشهد بهذا كُتّاب هذه الأسفار”إِذْ كَانَ كَثِيرُونَ قَدْ أَخَذُوا بِتَأْلِيفِ قِصَّةٍ فِي الأُمُورِ الْمُتَيَقَّنَةِ عِنْدَنَا، كَمَا سَلَّمَهَا إِلَيْنَا الَّذِينَ كَانُوا مُنْذُ الْبَدْءِ مُعَايِنِينَ وَخُدَّامًا لِلْكَلِمَةِ، رَأَيْتُ أَنَا أَيْضًا إِذْ قَدْ تَتَبَّعْتُ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ الأَوَّلِ بِتَدْقِيق، أَنْ أَكْتُبَ عَلَى التَّوَالِي إِلَيْكَ أَيُّهَا الْعَزِيزُ ثَاوُفِيلُسُ، لِتَعْرِفَ صِحَّةَ الْكَلاَمِ الَّذِي عُلِّمْتَ بِهِ” (لو 1: 1-4)، تلك الأمور المتيقّنة عند الكنيسة إذاً والمسلمة منذ البدء من الرسل، والتي هي الأساس والمصدر هي ما نسميه بالتسليم، وبالطبع فبعد كتابة أسفار العهد الجديد صارت هذه أيضاً جزءاً مكتوباً من التسليم ذاته ولهذا لا يمكننا أن نكتفي بالكتاب المقدس وحده، أو نعزله عن تسليم الكنيسة ككل، أو أن ننتزعه من إطار حياتها، وهي جسد المسيح وحاملة مواهب الروح القدس، فنغربّه عنها لكي نفسّره مزاجياً مدّعين مساعدة الروح القدس لنا، ونحن إنما نعكس مفاهيم عقلنا المنتفخ المحدود واهواءنا البشرية كما فعل الهراطقة.
كذلك نجد مُعلنا القديس يهوذا الرسول يذكر قصة دفن موسى، وأن ابليس أراد أن يظهر جسده “وَأَمَّا مِيخَائِيلُ رَئِيسُ الْمَلاَئِكَةِ، فَلَمَّا خَاصَمَ إِبْلِيسَ مُحَاجًّا عَنْ جَسَدِ مُوسَى، لَمْ يَجْسُرْ أَنْ يُورِدَ حُكْمَ افْتِرَاءٍ، بَلْ قَالَ: «لِيَنْتَهِرْكَ الرَّبُّ!».” (يه 9)، هذه القصة لم تأت في العهد القديم، بل أخذها معلمنا يهوذا من التقليد، كذلك نبوءة أخنوخ “وَتَنَبَّأَ عَنْ هؤُلاَءِ أَيْضًا أَخْنُوخُ السَّابعُ مِنْ آدَمَ قَائِلاً: «هُوَذَا قَدْ جَاءَ الرَّبُّ فِي رَبَوَاتِ قِدِّيسِيهِ، لِيَصْنَعَ دَيْنُونَةً عَلَى الْجَمِيعِ، وَيُعَاقِبَ جَمِيعَ فُجَّارِهِمْ عَلَى جَمِيعِ أَعْمَالِ فُجُورِهِمُ الَّتِي فَجَرُوا بِهَا، وَعَلَى جَمِيعِ الْكَلِمَاتِ الصَّعْبَةِ الَّتِي تَكَلَّمَ بِهَا عَلَيْهِ خُطَاةٌ فُجَّارٌ».” (يه 14، 15).
كما جاء في سفر الرؤيا عن مشورة بلعام “وَلكِنْ عِنْدِي عَلَيْكَ قَلِيلٌ: أَنَّ عِنْدَكَ هُنَاكَ قَوْمًا مُتَمَسِّكِينَ بِتَعْلِيمِ بَلْعَامَ، الَّذِي كَانَ يُعَلِّمُ بَالاَقَ أَنْ يُلْقِيَ مَعْثَرَةً أَمَامَ بَنِي إِسْرَائِيلَ: أَنْ يَأْكُلُوا مَا ذُبِحَ لِلأَوْثَانِ، وَيَزْنُوا”. (رؤ 2: 14)، وكذلك تعرّف بولس الرسول على ينيس ويمبريس اللذين قاوما موسى “وَكَمَا قَاوَمَ يَنِّيسُ وَيَمْبِرِيسُ مُوسَى، كَذلِكَ هؤُلاَءِ أَيْضًا يُقَاوِمُونَ الْحَقَّ. أُنَاسٌ فَاسِدَةٌ أَذْهَانُهُمْ، وَمِنْ جِهَةِ الإِيمَانِ مَرْفُوضُونَ” (2تي 3: 8)، كل هذه الأحداث لم ترج في العهد القديم بل أخذوها من التقليد شفاهاً.
التقليد يساعدنا على فهم الكتاب المقدس بصورة صحيحة:
التعليم القويم المحفوظ في التقليد والعقائد المصاغة في المجامع المسكونية، التي من خلالها نفهم الحقائق الإيمانية التي يُعلنها الكتاب المقدس، ولا يمكن إدراكها أو التعبير عنها بشرياً خصوصاً باعتمادنا المجرّد على عقلنا الفرديّ، ولولا ذلك لما قال الخص الحبشي – عندما سأله الشماس فيلبي: “«أَلَعَلَّكَ تَفْهَمُ مَا أَنْتَ تَقْرَأُ؟» فَقَالَ: «كَيْفَ يُمْكِنُنِي إِنْ لَمْ يُرْشِدْنِي أَحَدٌ؟». وَطَلَبَ إِلَى فِيلُبُّسَ أَنْ يَصْعَدَ وَيَجْلِسَ مَعَهُ” (أع 8: 31).
بالتفاسير الكثيرة لأسفار عديدة من الكتاب والتي حفظها التقليد عن آباء قديسين، بنوا معرفتهم لا عن مهارة شخصية في التحليل والشرح، بل على تمثّلهم لتعاليم الكنيسة المتوارثة منذ البدء وعلى خبرة حياة روحية عميقة مع الله.
قيل عن القديس أثناسيوس الرسوليّ: “كان تقليد الكنيسة مرشداً له في دراسته للكتب المقدسة، إذ كان يبحث باجتهاد في كتابات المعلمين القدامى، كما شهد بنفسه وهو يُعلن أنه قد تعلم عن لاهوت المسيح من المعلمين القديسين المُوحى لهم ومن الشهداء، وكان يعتبر أن المعنى السليم للآية هو المعنى الكنسيّ”[8].
التقليد والعقائد الأرثوذكسية:
إن الفرق بين المؤمنين والهراطقة، هو أن الهراطقة يطلبون البراهين من الكتاب المقدس، ويرفضون تسليم الآباء غير المكتوب، يقول القديس باسيليوس الكبير “الهدف المشترك لجميع أضدادنا (الهراطقة)، أعداء الاعتقاد الصحيح تقويض أساس الإيمان بالمسيح بمحو التقليد الرسوليّ، لذلك يطالبون بتفاسير عمّا جاء في الكتب، رافضين شهادة الآباء غير المكتوبة بأن لا قيمة لها”[9]، علينا أن نلاحظ أن التقليد لم يُضِف أية تكميل للكتاب المقدس، وما العبارات العقائدية الجديدة التي وردت في المجامع المسكونية وعند الآباء القديسين إلاّ توضيح لمفاهيم قضايا إيمانية سبق أن أعلنها الكتاب بطريقة غير منهجية، وقد اجتهد آباء المجامع في ذلك لقطع الطريق أمام المبتدعين، أما الكتاب فيكمل بدوره محتوى التقليد ويفسره لا بل ويحكم على صحته، وهكذا يحفظ التسليم ككل الإعلان الإلهي ويساعد على جعله في التاريخ فاعلاً ومحققاً[10].
ويقول القديس إيريناوس إن الكنائس المُؤسسة من الرسل فقط هي التي يمكن أن يُعتمد عليها في معرفة التعليم الصحيح للإيمان ومعرفة الحق، لأن تسلسل الأساقفة غير المنقطع في هذه الكنائس هو الذي يضمن أن تعليمها هو الحق: “أي شخص يُريد أن يميّز الحق، فإنه يمكن أ، يرى التقليد الرسوليّ واضحاً وظاهراً في كل كنيسة في العالم، ويمكننا أن نحصي أولئك الذين أُقيموا كأساقفة من الرسل في الكنائس وكذلك خلفائهم حتى إلى يومنا الحاضر، والذين لم يعرفوا أبداً ولم يتعلموا بتاتاً أيّ شيء يُشبه التعليم الأحمق لهؤلاء (أب الغنوسيين)، فلو كان الرسل قد عرفوا مثل هذه الأسرار الخفيّة التي يعلّمونها على انفراد وسراً للكاملين لكانوا بالتأكيد قد استودعوا هذا التعليم للرجال الذين أقاموهم كمسئولين عن الكنائس، لأن الرسل كانوا يُريدون أن هؤلاء الرجال الذين استلموا منهم السلطان أن يكونا بلا لوم أو عيب[11].
لذا فالإيمان الصحيح إيمان واحد.
حيث إن التقليد الرسوليّ تقليد واحد، لذلك يرى إيريناوس أن مضمون الإيمان الذي تعيشه الكنيسة، هو بعينه الذي تلقّته من الرُسُل، ومن السيد المسيح نفسه، فليس هناك تعليم آخر سواه، لذلك فمَن يُريد أن يعرف ماهيّة العقيدة الحقيقية، يكفي أن يصل إلى “التقليد المُتأتي من الرُسُل والإيمان المُعلن للناس، تقليد وإيمان وصلا إلينا بواسطة تتابع الأساقفة[12]، فالتقليد الكنسيّ واحد في محتوياته الأساسية، التي يُسميّها إيرينيوس “قاعدة الإيمان“، فالإيمان الواحد يخلق وحدة بين الشعوب على اختلاف الثقافات المُتعدّدة، فكما سبق أن ذكرنا قول القديس إيريناوس: “إن الكنيسة ورغم أنها مُنتشرة في كل العالم، تُحافظ بعناية (على إيمان الرسل)، كما لو كانت تسكُن في منزل واحد؛ وبنفس الطريقة تؤمن بهذه الحقائق، كما لو كان لها نفس الروح ونفس القلب؛ وبتوافق تام تُعلن هذه الحقائق وتُعلم وتنقل، كما لو كان لها فم واحد. إن لغات العالم مختلفة، لكن قدرة التقليد هو واحدة وهي نفسها: فالكنائس المؤسسة في بلاد الألمان لم تتلق ولم تنقل إيماناً مختلفاً، ولا الكنائس المؤسسة في بلاد الاسبان أو وسط الشعوب السلتيّة أو في المناطق الشرقية أو في مصر أو في ليبيا أو في وسط العالم[13]، لذا نقول في قانون الإيمان “… كنيسة واحدة مقدسة جامعة رسولية”.
القديس أثناسيوس الرسوليّ يفتخر بأنه يفهم الأسفار المقدسة (فهماً كنسياً)، يتوافق مع تقليد الكنيسة الأولى المُسلّم إليها من الرب نفسه، لذلك كان يهاجم الهراطقة لأنهم لم يحافظوا على تعاليم الرسل والآباء الأقدمين، كما يقول في بعض رسائله الفصحية وكتاباته الأخرى: “هذا هو جنون وشطط هؤلاء الناس – بحسب ما وصفناه – وأمّا إيماننا نحن فمستقيم ونابع من تعليم الرسل وتقليد الآباء ومشهود له من العهدين الجديد والقديم كليهما”[14]، كما يقول مادحاً أدلفيوس المعترف لحفظه التقليد: “لذلك فأنت أيها الحبيب، والمشتاق إليه جداً بالحق، قد صنعت ما هو موافق لتقليد الكنيسة، ومناسب للتقوى نحو الرب، بتوبيخك ونصحك وتعنيفك لمثل هؤلاء، ولكن حيث إنهم مُحرَّكون من أبيهم الشيطان[15]، فإنهم “لا يعرفون ولا يفهمون”، كما هو مكتوب بل “في الظلمة يتمشون” (مز 81: 5)[16]، كذلك يقول في رسالته الأولى إلى سرابيون: “بحسب الإيمان الرسولي المُسلّم لنا بالتقليد من الآباء، فإني قد سلمتُ التقليد دون ابتداع شيء خارجاً عنه، ما تعلمته فهذا قد سطرته مطابقاً للكتب المقدسة”[17].
فالآباء استندوا إلى التقليد بأمان…
في رسالة القديس أثناسيوس الرسولي إلى أدلفيوس المعترف أسقف أونوفيس، يقول: “إن كانوا (أي الأريوسيون) يُريدون أ، يتشبثوا بتجديفاتهم فيشبعوا بها وحدهم… لأن إيمان الكنيسة الجامعة يقر بأن كلمة الله هو خالق كل الأشياء ومبدعها”[18]، إيمان الكنيسة الجامعة هو تقليد الكنيسة، وفي رسالتها الأولى إلى سرابيون، يقول: “…. ولكن بالإضافة إلى ذلك، دعونا ننظر إلى تقليد الكنيسة الجامعة وتعليمها وإيمانها، الذي هو من البداية، والذي أعطاه الرب وكرز به الرسل وحفظه الآباء، وعلى هذا (الأساس) تأسست الكنيسة، ومَن يسقط منه فلن يكون مسيحياً، ولا ينبغي أن يُدعى كذلك فيما بعد”[19].
القديس أُغسطينوس “الآباء تمسّكوا بما وجدوه في الكنيسة، وعملوا بما تعلّموه، وما تسلّموه من الآباء وأودعوه وفي أيدي الأبناء[20].
كذلك يقول القديس باسيليوس الكبير: “فإني أتمسك بالتعاليم الرسوليّة، لكي أوجد في التقليد غير المكتوب، قيل : “فأمدحكم على أنكم تذكرونني في كل شيء، وتحفظون التعاليم كما سلمتُها إليكم”[21]، يقول القديس كيرلس الأورشليمي في “عظاته الأسرارية” للموعوظين في واجب حفظ قانون الإيمان: “اكتسب الإيمان الذي تتلقّاه بالتعليم والكرازة، وحافِظ عليه؛ هذا الإيمان الذي تستودعه إياك الكنيسة الآن، الإيمان الذي يدعمه كل الكتاب المقدس، وبما أن الجميع لا يستطيعون أن يطالعوا الكتب المقدسة، إذ البعض غير متعلم، والبعض منشغل بحيث ليس لديه الوقت لمعرفتها، فقد لخّصنا كل عقائد الإيمان في آيات قصيرة، لكي لا تهلك النفس بسبب جهلها، وأود بعد هذا الدرس أن تحفظوا الملخّص، لا بكتابته على الورق، بل بنقشه في قلوبكم بواسطة الذاكرة… إن عقائد الإيمان لم تُجمع كآراء بشرية، بل جُمِعت حقائق الإيمان الأكثر أهمية لتأليف تعليم واحد للإيمان، وكما تحمل بذور الخردل أغصاناً كثيرة في حبة صغيرة، كذلك يتضمن الإيمان ذاته في كلمات قليلة، كل معرفة التقوى التي ينطوي عليها العهد القديم والعهد الجديد. فانظروا إذن يا إخوة، وتمسكوا بالتقاليد التي تتلقونها الآن (2تس 2: 14)، وسجّلوها في أعماق قلوبكم”[22].
التقليد والليتورجيا[23]:
الليتورجيا λειτουργία [24] لا تنفصل إطلاقاً عن الكتاب المقدس، ونحن إذا ما أمعنّا النظر في النصوص الليتورجيا، رأينا أنها مُشبَعة بالكتاب المقدس، ومشبعة بخبرات الآباء التي تمدنا كلمات الكتاب المقدس معاشة ومفروزة.
حالنا كحال النحلة، النحلة تأخذ الرحيق من الأزهار، وما تجمعه تضيف إليه لعابها الخاص، ويتفاعل معه فيصير الناتج عسلاً، فهل بعد ذلك يمكن فصل الرحيق من العسل الناتج؟ … بالطبع مستحيل، فخبرات الآباء هي العسل المستمدّ أساساً من رحيق الكلام الإلهي، ومن سيرتهم المقدسة (أي لعاب النحلة في مثلنا السابق).
إن مَن يفضّل أن يتعاطى الرحيق مباشرة، فكيف يحوّله عسلاً؟ أيظن أن التحوّل يتّم بصورة آلية!!… كلا، إن هذا يعتبر قصر نظر واعتداد بالذات، إن مَن يُريد أن يتعلم تعليماً صحيحاًن فإنه يجب أن يتعلّم من خبرة غيره ويقتدي بغيره. كل واحد منا بحاجة إلى مّعلّم يقتدي به، فالحيّاة الروحية تكون بالتلمذة، لم يُعطِنا الرب يسوع المسيح كتاباً، أعطانا نفسه كتاباً، أعطانا كلامه كتاباً، وهذا الكلام الذي أعطانا إيّاه، لا ينفصل، بحال عن شخصه، الرب يسوع المسيح أعطانا رحيقاً، وأعطانا إيّاه، في جسده، معسّلاً. فبات هذا العسل من ذاك الرحيق، ولهذا في شخص الرب يسوع، لا فصل، إطلاقاً، بين الكلمة المنطوق بها والكلمة الذي صار جسداً (يو 1: 14).
من هذا المنطلق، كل المحاولات التي يجري تبنّيها لفصل أبعاد عمل الخلاص أحدها عن الآخر، أي لفصل الليتورجيا عن الروحانيات والروحانيات عن الآباء، والآباء عن العقائد والعقائد عن الكتاب المقدس، كل هذه محاولات فاسدة من الأساس، إن الكل واحداً متكاملاً، لا يجوز لأحد أن يتعاطى الليتورجيا وكأنها قائمة في ذاتها، ولا يجوز أن يتعاطى الكتاب المقدس وكأنه قائم في ذاته.
إذا كنتُ أهتم بالليتورجيا فاهتمامي بالليتورجيا هو اهتمام بغرض ابتغاء حياة القداسة، وإذا كنتُ أهتم بالكلمة الإلهيّة، فما ذلك إلا لأني ألتمس حياة القداسة، وإذا كنتُ أتعلّم العقيدة وأتمسّك بها، فكي لا أضلّ عن درب القداسة فغاية إيمانكم خلاص نفوسكم، وإذا كنتُ أتعلم الآباء وأعلم أُعَلّم الآباء فلأني أريد أن أتعلم وأعلم معالم الطريق التي تفضي إلى الملكوت والتي تعيننا على الاشتراك في قداسة الله، “بَلْ نَظِيرَ الْقُدُّوسِ الَّذِي دَعَاكُمْ، كُونُوا أَنْتُمْ أَيْضًا قِدِّيسِينَ فِي كُلِّ سِيرَةٍ” (1بط 1: 15) ليكن كل شيء بينكم للبنيان، ليكن كل شيء بينكم للقداسة. كلما حاول أحدنا فصل جانب من جوانب التراث عن هذا السعي إلى القداسة، سقط في الهرطقة، إذا كان الواحد يجتهد ليتعلّم الليتورجيا جيّداً، ليتقنها بهدف آخر ولا يبالي بالقداسة، فإنه يسقط عملياً في الهرطقة.
صلوات الكنيسة تفتح لنا كنوز الأسفار المقدسة وتعطي لنا التعليم الصحيح
نصلي في إيصالية يوم الأربعاء ونقول “فليفرح ويتهلل طالبوا الرب الملازمون كلّ حين في تلاوة اسمه القدوس، هؤلاء هم الأشجار … عند مجاري المياه تعطي ثمرة كاملة”[25]، مضمونه الكتابي (مز 1: 3)، كذلك حديث السيد المسيح مع السامرية “مَنْ يَشْرَبُ مِنَ الْمَاءِ الَّذِي أُعْطِيهِ أَنَا فَلَنْ يَعْطَشَ إِلَى الأَبَدِ، بَلِ الْمَاءُ الَّذِي أُعْطِيهِ يَصِيرُ فِيهِ يَنْبُوعَ مَاءٍ يَنْبَعُ إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ” (يو 4: 14)، كذلك يقول السيد المسيح: ” إِنْ عَطِشَ أَحَدٌ فَلْيُقْبِلْ إِلَيَّ وَيَشْرَبْ” (يو 7: 37)، وهذا ما نصليّه في أوشية السلامة الكبيرة “اسمك القدوس هو الذي نقوله فلتحيا نفوسنا بروحك القدوس”، لذا الإبصاليات عموماً تمجيد لاسم الله المعطي الحياة.
ما هي الهرطقة؟ الهرطقة هي الضلال، كل شيء لنا في كنيسة المسيح هو لأجل القداسة، فإذا كنا نُسَرّ بالليتورجيا ونفرح بها، إذا كنا نفرح بالتراتيل والترانيم، ولا نبالي بالسلوك في قداسة السيرة، فنحن إذ ذاك نَجْتَرُ أهواءنا حيث لا ينبغي في إطار الليتورجيا والطقوس والعبادة، الشيء نفسه يُقال عن الكتاب المقدس أو العقيدة أو تعليم الآباء، بإمكان الواحد منا أن يُتقن تعليم الآباء جيداً، ولكن إذا كان لا يبالي بسيرة القداسة ولا يهمّه أن يتنقّى ولا أن يعرف نفسه ولا أن يتوب عن خطاياه، إذ ذاك ومن منظار روح الرب، هرطوقيّ، ولو كان عارفاً بالنصوص الآبائية جيّداً، يكون قريباً من التجديف على الله لأنه يتعاطى الإلهيّات كتجارة كلام، كحكمة، معتمداً لا على برهان الروح والقوة كما فعل الرسول، لأنه ليس له بل على سمو الكلام والإقناع.
الذين يحتجون على أن الليتورجيا لم تأتِ نصاً في الكتاب المقدس، نقول لهم: بأن السيد المسيح لم يَكتُب إنجيلاً للتلاميذ؛ إنما سلّمهم التقليد وأعطاهم الإيمان والخلاص حياة يعيشونها ويسلمونها ” الإِيمَانِ الْمُسَلَّمِ مَرَّةً لِلْقِدِّيسِينَ” (يه 3)، لذلك يقول معلمنا بولس الرسول “وَأُعَرِّفُكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ بِالإِنْجِيلِ الَّذِي بَشَّرْتُكُمْ بِهِ، وَقَبِلْتُمُوهُ، وَتَقُومُونَ فِيهِ” (1كو 15: 1)، فمعلمنا القديس بولس الرسول لم يكتب إنجيلاً، إنما إنجيله هو ما بشرهم به وسلّمهم إياه، وما سلّمه بولس الرسول هو تسلّمه أيضاً، يقول القديس باسيليوس الكبير “أعتقد أنها لعادة رسولية التمسك بالأشياء التقليدية التي لم تُكتب”[26].
فالتسليم المكتوب وغير المكتوب لهما نفس القوة من جهة الإيمان.
يقول القديس باسيليوس: “إن العقائد والتعاليم المحفوظة في الكنيسة منها ما حصلنا عليه من التعليم الكتابيّ، ومنها ما تلقّناه في سرّ مسلَّماً لنا من تقليد الرسل، وللاثنين نفس الفاعلية بالنظر إلى التقوى، وليس مَن يعترض على ذلك، إذا كانت هناك خبرة ولو يسيرة عن الأوضاع الكنسيّة، فإن قررنا رفض ما ليس مكتوباً من عوائدنا كأن ليس لها قوة كبرى، فنكون لا نعي بأننا نضر بالإنجيل في ما هو مصلحتنا نفسها، فضلاً عن تحويلنا التعليم إلى مجرد اسم، كمثل كي أذكر أولاً من علّمنا كتابة أن نرسم بإشارة الصليب أولئك الذين يرجوه ربنا يسوع المسيح؟ أيُّ كتابٍ علّمنا الاتجاه في الصلاة نحو المشارق؟ كلمات الاستدعاء في إظهار (استحالة) خبز الشكر وكأس البركة، مَنْ مِن القديسين استودعنا إياها كتابة؟ أجل إننا لا نكتفي بما ذكره الرسل والإنجيل، بل نبدأ ونختم بأقوال أخرى تسلمناها من التعليم الذي لم يُكتَب وهي في غاية الأهمية بالنسبة للسر، وأننا نُبارك ماء المعمودية وزيت المسحة والمُعَمَّد أيضاً بموجب أية كتابات؟ أليس ذلك بموجب التقليد الصامت السريّ (أي غير المكتوب)؟ وماذا عن مسحة الزيت أيّ قول مكتوب علّمنا إياها؟ تغطيس الإنسان ثلاثاً، من أين هو؟ بل كل ما يُحيط بالمعمودية، الكفر بالشيطان وملائكته (صلوات جحد الشيطان)، من أيّ مخطوط هو، اليس هو من ذلك التعليم المحجوب عن الشعب، والذي لا يُقال، والذي حفظه آباؤنا في صمت يدعو إلى الهدوء الاطمئنان، مدركين جيداً أنهم بصمتهم هيبة الأسرار؟ فالذي لا يجوز كشفه لغير المدربين، كيف يُعقل أن يُذاع تعليمه في الكتابة؟ وماذا كان قصد موسى العظيم عندما جعل أنحاء الهيكل غير سالكة جميعها للجميع؟ لكنه أوقف غير الأطهار خارج الأسوار المقدسة، وسمح للأكثر طهارة بولوج الأروقة الأولى وسمح للاويين وحدهم في خدمة اللاهوت، فالذبائح والمحرقات وسائر الخدم الكهنوتية انتدب لها الكهنة للقيام بها، وواحد فقط منتخب من جميعهم لدخول قدس الأقداس وهذا ليس بنوع دائم، بل يوماً واحداً فقط كل سنة، وفي ساعة منه محدّدة، مسوح له فيها أن يقف كي يشاهد في ذهول غريب وفريد قدس الأقداس… كلنا نتجه في صلواتنا نحو المشارق، وقليل منا يفهم أننا نبغي بذلك الوطن القديم، والفردوس الذي نصبه الله في عدن نحو المشارق (نتذكر جنة عدن)، إننا نتمّ الصلوات وقوفاً أول الأسبوع وليس الجميع يعرفون السبب، فليس أننا نُعيد بذلك إلى الذاكرة بوقوفنا للصلاة مثال قيامتنا مع المسيح، وواجب التماس العلويات في يوم القيامة الذي يُمنح لنا فيه النعمة، بل يبدو أن هذا النهار هو نوعاً ما صورة الدهر الآتي، لذلك رغم أنه بدء الأيام لم يسميه موسى اليوم الأول، بل يوماً واحداً فقال: ” وَكَانَ مَسَاءٌ وَكَانَ صَبَاحٌ يَوْمًا وَاحِدًا” كأن هذا النهار نفسه يتابع الدوران كثيرً، وهذا اليوم الواحد هو الثامن أيضاً، الواحد حقاً والثامن حقيقة، الذي يظهر بذاته انقضاء هذا الدهر، اليوم الذي لا نهاية له، ولا مساء له ولا غد… لينقضي بي النهار ولا أكون قد انتهيت من سرد أسرار الكنيسة التي لم تًكتب…”[27].
كما يقول: “فلما أراد الرب أن يُجدّد الإنسان ردّ إليه النعمة التي كان قد حصل عليها من نفخة الله، ونفخ في وجه التلاميذ قائلاً: “مَنْ غَفَرْتُمْ خَطَايَاهُ تُغْفَرُ لَهُ، وَمَنْ أَمْسَكْتُمْ خَطَايَاهُ أُمْسِكَتْ” (يو 20: 23)، ثم أليس واضحاً ولا يقبل الجدال أن تنظيم الكنيسة من صُنع الروح؟ فقد قال بولس: “28فَوَضَعَ اللهُ أُنَاسًا فِي الْكَنِيسَةِ: أَوَّلاً رُسُلاً، ثَانِيًا أَنْبِيَاءَ، ثَالِثًا مُعَلِّمِينَ، ثُمَّ قُوَّاتٍ، وَبَعْدَ ذلِكَ مَوَاهِبَ شِفَاءٍ، أَعْوَانًا، تَدَابِيرَ، وَأَنْوَاعَ أَلْسِنَةٍ” (1كو 12: 28)، ثم منح هبة المعجزات والقدرة على الشفاء، تمييز الأرواح والنبوة، فهذا التنظيم مُرتّب بحسب توزيع مواهب الروح[28]، وتسليم الآباء غير المكتوب هو ما تمارسه الكنيسة، وهو غير مُدّون في أسفار الكتاب المقدس، ويسميه القديس باسيليوس “ترتيب الكنيسة“[29].
يقول القديس هيبوليترس الروماني: “إن كنت في تجربة ارشم نفسك بعلامة الصليب على جبهتك فهذه العلامة تخص آلام المسيح، تُظهرها لمقاومة الشيطان إن رشمتها بإيمان وليس من أجل أن تسر الناس ولكن بمعرفة، واضعاً إياها أمامك كترس، لأنه إن رأي العدو قوة الروح القدس خارجياً ظاهرة بوضوح في شبه (رسم) المعمودية سيهرب مرتجفاً”[30]
الليتورجيا تجميع للنموذج والهدف معاً، وأيّ تغيرٍ في النموذج هو تغيير في الهدف نفسه أي الليتورجيا والعقيدة والخلاص هما نسيج متداخل معاً في الليتورجيا، سر الإفخارستيا هو في حد ذاته تقليد تسلّمه التلاميذ من الرب يسوع، “وَفِيمَا هُمْ يَأْكُلُونَ أَخَذَ يَسُوعُ الْخُبْزَ، وَبَارَكَ وَكَسَّرَ وَأَعْطَى التَّلاَمِيذَ وَقَالَ: «خُذُوا كُلُوا. هذَا هُوَ جَسَدِي». وَأَخَذَ الْكَأْسَ وَشَكَرَ وَأَعْطَاهُمْ قَائِلاً: «اشْرَبُوا مِنْهَا كُلُّكُمْ، لأَنَّ هذَا هُوَ دَمِي الَّذِي لِلْعَهْدِ الْجَدِيدِ الَّذِي يُسْفَكُ مِنْ أَجْلِ كَثِيرِينَ لِمَغْفِرَةِ الْخَطَايَا” (مت 26: 26-28)
فلم يأتِ بتفاصيل الطقس بل قال بارك … ماذا قال؟ وكسر…. كيف قسم فهذه التفاصيل هي التسليم الذي تسلّموه من السيد المسيح وسلّموه “الإِيمَانِ الْمُسَلَّمِ مَرَّةً لِلْقِدِّيسِينَ” (يه 3).
فالكنيسة أخذت سر الإفخارستيا كتقليد إلهي متكامل من السيد المسيح نفسه؛ ويشهد بذلك معلمنا القديس بولس “لأَنَّنِي تَسَلَّمْتُ مِنَ الرَّبِّ مَا سَلَّمْتُكُمْ أَيْضًا: إِنَّ الرَّبَّ يَسُوعَ فِي اللَّيْلَةِ الَّتِي أُسْلِمَ فِيهَا، أَخَذَ خُبْزًا….” (1كو 11: 23)، فالتقليد واضحٌ جداً ومؤكد من قوله تَسَلَّمْتُ … سَلَّمْتُكُمْ.
وعلى هذا المثال سر المعمودية فتسلموها من السيد المسيح فقد عمدوا في وجوده “مَعَ أَنَّ يَسُوعَ نَفْسَهُ لَمْ يَكُنْ يُعَمِّدُ بَلْ تَلاَمِيذُهُ” (يو 4: 2)، وعندما أرسلهم قال لهم “فَاذْهَبُوا وَتَلْمِذُوا جَمِيعَ الأُمَمِ وَعَمِّدُوهُمْ بِاسْمِ الآب وَالابْنِ وَالرُّوحِ الْقُدُسِ”. (مت 28: 19)، فالتسليم نفسه والطقس تسلموه من السيد المسيح نفسه، الذي كان في الأربعين يوماً بعد القيامة “َيَتَكَلَّمُ عَنِ الأُمُورِ الْمُخْتَصَّةِ بِمَلَكُوتِ اللهِ” (أع 1: 3).
فالليتورجيا ليست مجرّد صلوات أو طلبات، إنما علاقة كيانية بين الإنسان الذي نال الخلاص وبين الله الذي خلّصه بالابن المتجسد والروح القدس، فالليتورجيا هي المجال الذي يكمل فيه الخلاص بالابن والروح القدس؛ “اذْهَبُوا إِلَى الْعَالَمِ أَجْمَعَ وَاكْرِزُوا بِالإِنْجِيلِ لِلْخَلِيقَةِ كُلِّهَا” (مر 16: 15).
هناك ربط بين التلمذة والمعمودية والخلاص، هذه العلاقة وهذا الارتباط يظهر بكل وضوح في الليتورجيا، فالليتورجيا تجمع بين النموذج والهدف معاً، هذا هو عمل التقليد التعليمي والسرائري.
الألحان الكنسية موسيقى تحرك المشاعر وتخاطب الروح، والهدف منها جذب الإرادة نحو الله، وفي الليتورجيا تتوافق الكلمات مع الألحان مع الحركات (الطقس)، فالكلمات مع الحركات تُعطي معنى الفهم، والكلمات مع الألحان تُعطي معنى التوبة، والحركات مع الألحان تبين ما يُسمى إيضاح الطقس، فإيضاح الطقس مع فهم المعاني مع الإحساس بالتوبة، ترقي بالإنسان إلى التقديس اللائق بالقداس الإلهي[31].
علم الباترولوجي ودوره في حفظ الليتورجيا:
نصوص الليتورجيا كلها، القداسات التي نصلي بها؛ والمستخدمة في باقي الأسرار، المعمودية والميرون ومسحة المرضى والزيجة والكهنوت، وكذلك صلوات اللقان وتدشين الكنائس من وضع آباء الكنيسة القدامى، فلقد حفظوها لنا سالمة لكي نصلي بها كإناء للعقيدة السليمة.
فيتكلم الآباء عن أهمية الليتورجيا، فيقول القديس غريغوريوس النزينزيّ: “لا تحتقروا دواء طرد الشياطين ولا تتعبوا من طول الصلوات، لأن كل هذه هي امتحان لصدق النفوس وإخلاصها وطلبها المعمودية باشتقاق”[32]. فخدمة تقديس المياه وصلوات جحد الشيطان، لا غنى عنها في حياة الكنيسة، فهي إلى جانب فعاليتها كصلاة تحوي أيضاً تعاليم أساسية تساعد المقبل إلى المعمودية (الموعوظ) على فهم بعض الحقائق اللاهوتية الضرورية.
التقليد السليم والتقليد المرفوض:
السيد المسيح هاجم تقليد الشيوخ ورفضه، فهل معنى ذلك أن كل تقليد مرفوض؟
يعتمد الذين يرفضون التقليد على قول السيد المسيح للكتبة والفريسيين “فَقَدْ أَبْطَلْتُمْ وَصِيَّةَ اللهِ بِسَبَب تَقْلِيدِكُمْ! يَا مُرَاؤُونَ! حَسَنًا تَنَبَّأَ عَنْكُمْ إِشَعْيَاءُ قَائِلاً:يَقْتَرِبُ إِلَيَّ هذَا الشَّعْبُ بِفَمِهِ، وَيُكْرِمُني بِشَفَتَيْهِ، وَأَمَّا قَلْبُهُ فَمُبْتَعِدٌ عَنِّي بَعِيدًا. وَبَاطِلاً يَعْبُدُونَني وَهُمْ يُعَلِّمُونَ تَعَالِيمَ هِيَ وَصَايَا النَّاسِ”(مت 15: 6-9).
لكن السيد المسيح يقصد تسليم الناس وليس تسليم الله، فهناك فرق ما بين التقليد والتسليم Tradition، وبين المحاكاة Imitation، فالتقليد باليونانية παράδοσις وتعنى “يعهد بشيء لآخر” أو يسلم شيئاً يداً بيد، والكلمة الملاحقة παραιδαμβανο أي يتقبل الشيء ويسلمه؛ ومن هنا يظهر أن هناك فرقاً بين التقليد الكتابي الذي يفيد حفظه وديعة وتسلمها من جيل إلى جيل؛ والتقليد بالمحاكاة كما يفهم البعض بأن التقليد هو محاكاة في روتينية وناموسية لماضي انتهى.
يتضح من هذه الآية أن تقليد الشيوخ لا يتفق مع وصية الله، فتقليد الشيوخ الذي يعلّمونه هو “مَنْ قَالَ لأَبِيهِ أَوْ أُمِّهِ: قُرْبَانٌ هُوَ الَّذِي تَنْتَفِعُ بِهِ مِنِّي. فَلاَ يُكْرِمُ أَبَاهُ أَوْ أُمَّهُ“ (مت 15: 5)، لقد كان هذا التقليد لمصلحة الكتبة والفريسيين، فالابن عندما يوقف ممتلكاته للهيكل – بدلاً من أن يعول والديه – يزيد إيراد الهيكل، وإذا شاء أن يسترد ما وقفه، فله ذلك مقابل دفع نسبة من المال، فبحفظهم لهذا التقليد الخاطئ يكسرون وصية الله، “لأَنَّكُمْ تَرَكْتُمْ وَصِيَّةَ اللهِ وَتَتَمَسَّكُونَ بِتَقْلِيدِ النَّاسِ: غَسْلَ الأَبَارِيقِ وَالْكُؤُوسِ، وَأُمُورًا أُخَرَ كَثِيرَةً مِثْلَ هذِهِ تَفْعَلُونَ…. مُبْطِلِينَ كَلاَمَ اللهِ بِتَقْلِيدِكُمُ الَّذِي سَلَّمْتُمُوهُ. وَأُمُورًا كَثِيرَةً مِثْلَ هذِهِ تَفْعَلُونَ” (مر 7: 8، 13).
هذا إلى جانب أن تقليد الكتبة والفريسيين هو محاكاة؛ فهو تقليد خال من الروح، غير مفهوم ونحن نعلم أن الحرف يقتل أما الروح فيحيي، وهذا يظهر مثلاً في عدم فهمهم لوصية السبت، كذلك من قول السيد المسيح: “كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: هذَا الشَّعْبُ يُكْرِمُنِي بِشَفَتَيْهِ، وَأَمَّا قَلْبُهُ فَمُبْتَعِدٌ عَنِّي بَعِيدًا” (مر 7: 6)، هذا التقليد الخاطئ هو ما حذر منه معلمنا بولس الرسول “اُنْظُرُوا أَنْ لاَ يَكُونَ أَحَدٌ يَسْبِيكُمْ بِالْفَلْسَفَةِ وَبِغُرُورٍ بَاطِل، حَسَبَ تَقْلِيدِ النَّاسِ، حَسَبَ أَرْكَانِ الْعَالَمِ، وَلَيْسَ حَسَبَ الْمَسِيحِ” (كو 2: 8)، فالتقليد الآبائي يختلف اختلافاً كاملاً عن ذلك؛ فهو تقليد حيّ يحمل روح الإيمان وروح التعليم وليس تقليداً جافاً.
الهراطقة يرفضون التقليد:
يعتمد الهراطقة على الكتاب المقدس وحده ويرفضون التقليد نهائياً، وذلك لهدف معيّن وهو تفسيرهم لنص الكتاب المقدس على حسب أهوائهم الشخصية وما يحقق هرطقتهم وضلالتهم، ولكن التفسير الصحيح لنص الكتاب المقدس لا يُفهم إلاّ على أساس ما استقر في الكنيسة وعاشته الكنيسة، “فَقَطْ عِيشُوا كَمَا يَحِقُّ لإِنْجِيلِ الْمَسِيحِ، حَتَّى إِذَا جِئْتُ وَرَأَيْتُكُمْ، أَوْ كُنْتُ غَائِبًا أَسْمَعُ أُمُورَكُمْ أَنَّكُمْ تَثْبُتُونَ فِي رُوحٍ وَاحِدٍ، مُجَاهِدِينَ مَعًا بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ لإِيمَانِ الإِنْجِيلِ” (في 1: 27)، والممارسة الحية لليتورجيا، فمثلاً يفهم من نص الكتاب “لأَنَّ كُلَّكُمُ الَّذِينَ اعْتَمَدْتُمْ بِالْمَسِيحِ قَدْ لَبِسْتُمُ الْمَسِيحَ” (غل 3: 27)، وأيضاً “أَمْ تَجْهَلُونَ أَنَّنَا كُلَّ مَنِ اعْتَمَدَ لِيَسُوعَ الْمَسِيحِ اعْتَمَدْنَا لِمَوْتِهِ” (رو 6: 3)، بأن المعمودية تُعطى باسم المسيح فقط، لكن المعمودية تتم باسم الثالوث “فَاذْهَبُوا وَتَلْمِذُوا جَمِيعَ الأُمَمِ وَعَمِّدُوهُمْ بِاسْمِ الآب وَالابْنِ وَالرُّوحِ الْقُدُسِ”. (مت 28: 19).
عند الدراسة النصية دون الرجوع للتقليد والليتورجيا يظهر أن هناك اختلافاً، ولكن التسليم الآبائي يفسر لنا ذلك حسب قول القديس باسيليوس الكبير بأن “اسم المسيح موجز وافٍ للإيمان كله”، فشركتنا مع المسيح هي شركتنا مع الثالوث.
مصادر التقليد:
يشكل التقليد الإلهي والرسولي الرصيد العام لكي إيمان الكنائس الأولى، الذي بقي أساساً لدستور إيمان الكنيسة الجامعة كلها، ولقد ذكرنا سابقاً أن قسماً منه، وهو كتاب العهد الجديد، سُجّل كتابةً في زمن الرسل بإلهام الروح القدس، بينما بقي القسم الآخر منتقلاً شفهياًن ثم بدوره يُسجّل تدريجياً بطرق مختلفة إذ مرّ بعد الفترة الرسوليّة الأولى في القرون الأولى بحالة بلورة وصياغة، صائراً مع الكتاب المقدس معيناً لا ينضب لحياة الكنيسة الإلهيّة في الزمن، وفيما يلي المصادر التي يمكن أن نجد فيها هذا التقليد:
- الكتاب المقدس:
الكتاب المقدس هو كلام الله، موحى به من الله (2تي 3: 16)، لكن كلام الله لم يكتبه الله مباشرة، لكن كتبه أُناس الله القديسون مسوقين بالروح القدس، فالآباء الرسل هم كتبة الإنجيل أي أن الكنيسة هي التي كتبت الإنجيل[33]، فالكتاب المقدس هو أول مصدر للتقليد، بل وهو الميزان الذي يوضح مدى صحة التقليد، فالتقليد السليم لا بد أن يتفق مع الكتاب المقدس، وأيُّ تقليدٍ يتعارض مع الكتاب المقدس هو تقليدٌ مرفوض.
- الليتورجيا وكتب الخدم الطقسية:
نستطيع أن نجد في صلوات الليتورجيا في كل أسرارها، وصلوات التدشين، واللقانات، وصلاة على المنتقلين، نجد تعليم الكنيسة وإيمانها، فالليتورجيا تجمع النموذج والهدف معاً، لأنها تحمل العديد من الحقائق اللاهوتية والعقائد، ومن الفهم الكنسيّ السليم الذي أودعته الكنيسة في صلواتها وفي ليتورجياتها، فالطقوس هي حياة الكنيسة العملية، كالألحان الكنسيّة، والتسبحة التي تشرح العقيدة والروحانية، والطقس بصورة شعر ليتورجي، كذلك اللحن نفسه لو دُرس بصورة عقائدية لاكتشفنا عمق حفظ العقائد من خلاله.
- المجامع المسكونية:
للمجامع المسكونية الدور الأكثر أهمية، لأنها تمثّل صوت الكنيسة الناطق وسلطتها العليا المعبّرة عن تعليمها العقائدية الأصيل، فآباء المجامع أُعطوا السلطان من قبل الروح القدس العامل في المجامع، أن يقرروا وفقاً لما تسلموه من الآباء الذين سبقوهم، والنموذج الكتابي الواضح هو مجمع أورشليم، ففي المجامع حُدّدت قوانين الإيمان، كما حُددت أمور أخرى مثل قوانين الكنيسة وطقوسها…. كان السبب الغالب لانعقاد مجمع هي الهرطقات، لذا نجد في المجامع توضيح أوسع للعقائد.
- قوانين الإيمان:
وهي شروحات قديمة مختصرة للإيمان مبنية على أساس كتابات الرسل وتقليدهم، وكانت تُستعمل في الكنائس الأولى من أجل التعليم أو حين المعمودية، وقد كان لكل كنيسة محلية في البداية قانون خاص، والاختلاف بين هذه القوانين في الشكل لا في المضمون، ثم بدأت هذه الدساتير تأخذ بالتدريج شكلاً واحداً إلى أن تحدّد دستور إيمان واحد لكل الكنائس في المجمعين المسكونين الأول عام 325م والثاني عام 381م.
- قوانين الكنيسة:
تشمل قوانين الآباء الرسل وتعاليمهم وقوانين المجامع المسكونية والمجامع الإقليمية أو المكانية المقبولة في الكنيسة… كذلك قوانين الآباء الكبار معلمي البيعة.
- الآباء الشهداء والقديسين:
آباء الكنيسة هم مصدر هام للتقليد الكنسيّ، إذ نجد الشهداء عندما ندرس سيرهم، اعترافات إيمانهم قبل استشهادهم، كذلك كتابات الآباء القديسين: وهي تراث ضخم ومتنوع وذات قيمة روحية عالية، كتبه عدد من آباء الكنيسة مستنيرين بعمل الروح القدس عبر مختلف عصورها، كما أن حياة الآباء الشهداء والقديسين نموذجاً للإيمان العملي المشخصن فيهم لذا نجد معلما القديس بولس الرسول يوصينا قائلاً “اُذْكُرُوا مُرْشِدِيكُمُ الَّذِينَ كَلَّمُوكُمْ بِكَلِمَةِ اللهِ. انْظُرُوا إِلَى نِهَايَةِ سِيرَتِهِمْ فَتَمَثَّلُوا بِإِيمَانِهِمْ” (عب 13: 7).
لذا يُعتبر تاريخ الكنيسة هو الذي حوى سير الآباء، كما شمل تاريخ الهرطقات والمجامع وبالتالي صياغة العقائد.
- الآثار المسيحية:
ونقصد بها الأعمال الفنية القديمة المعبّرة عن تقليد الكنيسة من عمارة وموسيقى وأيقونات …إلخ. العمارة مثلاً تُعطينا فكرة عقائدية: مثل أن تكون المعمودية في الجزء البحريّ الغربيّ من الكنيسة… كما أن وجود جرن المعمودية الذي يرجع للقرون الأولى هو دليل على أن المعمودية بالتغطيس …. إلخ.
كذلك الأيقونة التي لا نستطيع أن نفصلها عن العقيدة وعن التاريخ، فالأيقونة ليست مجرد رسم ديني هدفه إيقاظ المشاعر، وإنما هي سبيل من السبل التي يُعلن بها الله للإنسان، فالأيقونات تشكل جزءاً من التراث التقليدي، فرسّامها ليس حراً في إجراء الاقتباس أو التجديد الذي يحلو له؛ لأنه يجب أن يعكس عمله روح الكنسية وليس أحاسيسه الجمالية الشخصية، فالإلهام الفنيّ ليس مستبعداً، بل يجب تطبيقه ضمن حدود بعض القواعد المرعية، فمن المهم أن يكون رسام الأيقونات فناناً جيداً، ولكن أهم من ذلك أن يكون مسيحياً مخلصاً، يحيا في روح التقليد، ويُعد نفسه لعمله من طريق الاعتراف والمناولة، لابد للفنان أن يلم بلاهوت الأيقونة، وتاريخ الكنيسة وطقوسها.
أشهر كتابات الآباء في التقليد:
علم الباترولوجي في أصله كما نعلم لم يُكتب لكن تسلمه الأبناء من آبائهم؛ وانتقل هكذا شفاهاً، وبالتالي يعتبر علم الباترولوجي فرعاً من التقليد المسلم من الآباء، ومن كتابات الآباء التي تسلمناها كثير منها ما يخص التقليد ومن أمثلة ذلك ما يلي:
- بابياس أسقف هيرابوليس (آسيا الصغرى 130م):
عاش في أواخر القرن الأول الميلادي (كان عمره 30 عاماً في نهاية القرن الأول)، تقبل الإيمان بالتسليم من شهود عيان، ويعتبر أن ما تسلمه من الشيوخ هو ثقة وحق، حيث يقول عن شرح أقوال الرب “لا أتردد أن أضيف إلى تفاسيري كل الأمور المسلمة من الشيوخ، فإني أعرفهم جيداً وأتذكرهم حسناً وأثق في الحق الذي لهم، لا أسر بالذين يتكلمون كثيراً بل بالذين يُعلّمون الحق، وإنني أظن أني لم أعتمد كثيراً على الكتب بل على المنطوقات النابعة عن الصوت الحيّ والذي يبقى حياً”.
- القديس إيريناؤس (140-202م):
القديس إيريناؤس عاش في القرن الثاني وسجل ما تسلمه بالتقليد، حيث يقول “لم أزل أتذكر أحداث تلك الأيام بوضوح أكثر مما يتذكره المحدثون، لأن الأمور التي نتعلمها في الطفولة تنمو مع النفس، فإن أستطيع أن أصف حتى المكان الذي جلس فيه بوليكاريوس، وأصف خروجه ودخوله وطريقة حياته وملامحه الشخصية والمقالات التي وعظ بها الشعب، وكيفية مناقشته مع يوحنا الإنجيلي”.
فإيريناؤس عاش مع بوليكاريوس تلميذ يوحنا الحبيب ويصف أدق التفاصيل في حياته ودخوله وخروجه وكيفية معيشته.
- يوستين الشهيد (100-165م):
من مدافعي القرن الثاني ولقد وصف لنا وصفاً كاملاً للإفخارستيا الخاصة بخدمة يوم الأحد العادية، وعرّف الإفخارستيا بأنها (تلك الذبيحة التي تنباً عنها ملاخي، وأنه لا مجال بعد لتقديم ذبائح دموية؛ فالإفخارستيا هي الذبيحة التي طال الاشتياق إليها، إذ الذبيح هو اللوغوس نفسه)، كما استخدم يوستين مصطلحات كنسية فذكر الشمامسة والإفخارستيا ورئيس الإخوة والميلاد الجديد، وقد وصف صلوات تقديس الإفخارستيا:
- قبلة السلام “كإعداد لتقديس الإفخارستيا”.
- ليتورجيا الكلمة “قراءة العهدين القديم والجديد والعظة”.
- الصلوات الإفخارستية “صلوات الشكر”، كما أنه كتب لنا تفاصيل الليتورجيا.
- القديس أغناطيوس الشهيد أسقف أنطاكية (99م):
كتب القديس أغناطيوس رسائله عن الكنيسة والإفخارستيا وأهمية هذا السرّ، وعن الجسد الذي هو الرب يسوع المسيح المصلوب القائم من الأموات، والخبز المقدس دواء وترياق للموت الروحيّ كما يقول (لا يمكن تقديس الإفخارستيا بدون أسقف أو كاهن يعهد إليه الأسقف بذلك).
الكتابات الرسوليّة:
- الديداكية:
يرجع كتاب الديداكية بين عام (100-150م) وهي تضم تعاليم الليتورجيا وإرشادات نظامية.
- الدسقولية:
وُضعت باليونانية بعد قوانين الرسل حيث جاء في مقدمتها “وكنا قد قررنا قوانين ووضعناها في الكنيسة”، كذلك كُتبت بعد استشهاد القديس يعقوب الرسول حيق ذُكر استشهاده فيها، وتتميز الدسقولية بطابعها التعليمي وبها استدلالات من الكتاب المقدس بعهديه وحوادث منه، وبها أبواب تقترب إلى العظات، ففيها عظة عن التوبة وعظة عن قراءة الكتاب المقدس، كذلك تستشهد بالأسفار التي حذفها البروتستانت، ففيها إشارة إلى قصة سوسنة “باب 8″، وإشارة إلى سفر باروخ، ثم يهوديت، صلاة منسى الملك، وهي توضح الحياة الكنسية في القرن الثالث وملامح السلوك المسيحي وواجبات الأسقف وعمله، الشماسية، خدمة الأرامل والأيتام، بعض القوانين التي وضعها الرسل.
[1] عن المجامع 14.
[2] In 2 Thess. Hom.4.
[3] Contra Epist Ma,ichae ‘uam V ca,t Fundamenti 6 عن القمص تادرس يعقوب ملطي – مقدمات في علم الباترولوجي – 1984 – ص87.
[4] يوسابيوس القيصري – تاريخ الكنيسة – مرجع سابق – 6: 12: 3. ص 259.
[5] القمص تادرس يعقوب ملطي – مقدمات في علم الباترولوجي – 1984 – ص87.
[6] القمص تادرس يعقوب ملطي – الكنيسة القبطية الأرثوذكسية والروحانية – 1986 – ص187.
[7] القديس كيرلس الأورشليمي – مقالات لطالبي العماد 4: 33 – المرجع السابق – ص 124.
[8] القمص تادرس يعقوب: الكنيسة القبطية الأرثوذكسية: كنيسة علم ولاهوت – كنيسة سبورتنج بالإسكندرية 1986 ص 8.
[9] القديس باسيليوس الكبير – مقال عن الروح القدس. مرجع سابق – الرأس 10 – فقرة 25- ص 43.
[10] الأب الدكتور جورج عطية – التقليد.
[11] AH3:3:1.
[12] ضد الهرطقات 3، 3، 3-4.
[13] القديس إيرينيوس أسقف ليون “ضد الهرطقات AH 1: 10 “الكرازة الرسولية – ترجمة د. نصحي عبد الشهيد، د. جورج عوض – أغسطس 2005 – ص 24، 25.
[14] رسالة 60: 6.
[15] يقصد الآريوسيين الذين أنكروا ألوهية الابن المتجسد.
[16] رسالة القديس أثناسيوس إلى أدلفيوس المعترف.
[17] الرسائل عن الروح القدس للأسقف سرابيون – ترجمة د. موريس تاوضروس، د. نصحي عبد الشهيد – مركز دراسات الآباء – الطبعة الثانية 2005 – الرسالة الأولى: 33 – ص 91.
[18] المسيح في رسائل القديس أثناسيوس، عربه عن اليونانية الأستاذ صموئيل كامل والدكتور نصحي عبد الشهيد، بيت التكريس لخدمة الكرازة 1981 ص 30.
[19] الرسائل عن الروح القدس إلى الأسقف سرابيون، مرجع سابق – الرسالة الأولى: 28 ص 30.
[20] St. Augustine: Contra Julian, II 9.
[21] القمص تادرس 1كو 11: 2 – الطبعة الأولى 2001 – On the Hohy Spirit, 29
[22] القديس كيرلس الأورشليمي – مقالات لطالبي العماد 5: 12 – مرجع سابق – ص 137.
[23] اعتمدنا كمرجع أساسي لهذه الفقرة على عظة للأرشمندريت توما بيطار أُلقيت في دير مار يوحنا – دوما بمناسبة عيد القديس غريغوريوس اللاهوتي في 25/1/2001
[24] كلمة ليتورجيا هي كلمة يونانية معناها الحرفي عمل الشعب أو العمل الجماعي.
[25] الإبصلمودية المقدسة السنوية – مكتبة مار مرقص بالأنبا رويس 1986 – إبصالية الأربعاء – ص 190، 191.
[26] القيس باسيليوس الكبير – مقال عن الروح القدس. مرجع سابق – الرأس 29، فقرة 71، ص 121.
[27] القديس باسيليوس الكبير – مقال عن الروح القدس. مرجع سابق – الرأس 27 – فقرة 66، 67 – ص 111-112.
[28] القديس باسيليوس الكبير – مقال عن الروح القدس. مرجع سابق – الرأس 16 – فقرة 39 – ص 66-67.
[29] القديس باسيليوس الكبير – مقال عن الروح القدس. مرجع سابق – الرأس 16 – فقرة 39 – ص 67.
[30] A Stewart-Sykes, Hippolytus: On the Apotolic Tradition, St. Vladimires Seminary Press, New York, 2001, p.190.
[31] نيافة الأنبا بنيامين أسقف المتوفية محاضرات في اللاهوت الطقسي – غير مطبوعة بالكلية الإكليريكية بالقاهرة.
[32] عظة على المعمودية: 15.
[33] هل الكتاب المقدس وحده يكفي – ترجمة وإعداد أسرة القديس ديديموس الضرير – مراجعة وتقديم الأنبا روفائيل – الطبعة الثانية مارس 2006 – ص 16.