فلترموني أولاً بحجر – كارولين كامل
فلترموني أولاً بحجر – كارولين كامل
على مدار أيام بعد مقالتي “لن يختبر القسيس عذريتي” عاتبني عدد كبير من الأصدقاء المقربين، سواء مسلمون أو مسيحيون، إما لأنهم لم يتعرضوا إطلاقا لمثل هذه الأفكار أو لخوفهم من أن يتم تصنيفي ككاتبة مسيحية؛ نظرًا لتكرار مقالاتي في هذا المجال، كما شتمني الكثيرون ممن أعرفهم ولا أعرفهم لمجرد اختلافهم معي.
لم يثير خوفي أي من هذه المجادلات سوي أن يلتصق بي تعريف “كاتبة مسيحية” فأنا في الواقع لست معنية بالكتابة في الشأن المسيحي أو البحث والتعمق في العقيدة، ولست بصدد تكريس وقتي أو ما أكتبه للدفاع عن الدين وتفنيده كباحثه في الدين المسيحي.
أنا في الثلاثين، ولكن في هذه المقالة لن أروي سوى مقتطفات من 22 عاما من عمري ظلت راسخة في ذهني وأثارت تساؤلاتي، هي إقرار واقع شاء من شاء وأبى من أبى، لن تكون مقتطفات فريدة ولكن يشاركني فيها الآلاف، وبالطبع سيختلف معي فيها آلاف آخرون، فهذه سُنة الحياة.
حصة الدين
لا أعرف من أين أبدأ فيض الذكريات، ولكن يبدو أن نقطة انطلاقي ستكون من مرحلة الابتدائي، قضيت سنة واحدة في مدرسة “الفرير” الخاصة كانت السنة الأولي من الحضانة، ثم نقلني والدي بعدها لعدة مدارس حكومية حتى استقريت في السنة الثانية من الابتدائي في مدرسة تابعة للجمعية الشرعية وكان أخي برفقتي وأصغر مني بعام واحد، ومازلت أتعجب من قرار والدي نظرًا لقلة عدد المسيحيين في هذه المدرسة، والذي يمكن إحصاؤه على أصابع اليد.
في وقت وجيز اكتسبت عدد كبير من الأصدقاء بنات وبنين، وقمت أنا وأخي بتربية دودة القز، فكانت وسيلتي لإحضار زملاء المدرسة لرؤيتها والحصول عما يريدونه مجانًا لأني اعتدت بيعها للمحل المجاور لمنزلنا، لم يمنعني أبواي أبدًا في هذه المرحلة من عمري عن مصادقة المسلمين ولكن رويدًا اكتشفت بعض الاختلافات، هل أروي لكم عن حصة الدين التي كنا نقضيها في “حوش المدرسة” حيث تطل نوافذ “الجمعية الشرعية” عليه فكنا ممنوعين من إصدار صوت، فكان الحل هو إيجاد فصل أو حجرة خالية لأجلنا، وكانت هذه الحجرة هي حجرة “فرّاش” المدرسة ولم نكن ندخلها لأنها أقل من متر مربع ولكن نجلس على “المصطبة” أمامها.
وفي حال توفر لنا مدرس مسيحي متفرغ فيقرر أن يجلس معنا في “أوضة الصيانة” إن كانت متوفرة، هل يجوز أن أروي عن “الإيشارب” الذي كنت احمله أحيانا في حقيبتي لأن الشيخ الضرير الذي يتفقد المدرسة من وقت لآخر بصحبة شباب ملتحين يخبرونه عن غير المحجبات حتى لو مسيحيات فينهرنا ويسبنا، فكان لابد أن أضعه على رأسي خلال زيارته.
لن أنكر إطلاقا أننا كنا نعشق حصة الدين وكان يحسدنا على حريتنا زملاؤنا المسلمين، وظلت هكذا حصة الدين حتى المرحلة الثانوية فرصة للمرح وننتظرها بفارغ الصبر حتى وإن كنا نقضيها أحيانًا في “المراحيض”، لأن لا مكان آخر فارغ ووجودنا في الفراغ هكذا يشكل عبء على المدرسة، إما للضوضاء أو لأنه يسئ لمظهر الانضباط العام للمدرسة.
للمسلمين فقط
أتذكر أن أول كلمة “بحبك” قالها لي زميل مسلم في الصف الخامس الابتدائي، في الواقع لم تثر ذعري ولكنها أثارت الغرور والبهجة لأنه قال لي “انتِ أجمل بنت في الفصل”، لم أخشه ولم أخبر أسرتي، ولكن في المرحلة الجامعية مثلًا عندما أرسل لي زميل مسلم، لم نكن تبادلنا سوى بعض التحيات، قصيدة شعر كتبها لأجلي شعرت بالهلع وأخبرت أمي وأبي، فأصرا على أن يرافقني دومًا صديقي المسيحي الذي تربيت معه ويدرس بالكلية نفسها، ما الذي تغير إذن؟ !
منذ المرحلة الإعدادية وحتى الثانوية تعرفت بالطبع على زميلات مسلمات كنا نتناول الطعام سويًا ونلهو ونكسر القواعد ونشاغب، ولكنها للأسف زمالة تنتهي بانتهاء اليوم المدرسي، ولكن مشكورًا “مارك” أعاد ترميمها من خلال “فيس بوك” الذي جمعنا مرة أخرى، نرى بعض بعيون أخرى أكثر نضجًا كما أظن.
في المرحلة الدراسية كنا كفتيات مسيحيات نتحرك في مجموعات مسيحية عادة يتم تكوينها وفق الكنيسة التي ننتمي لها، بحكم المنطقة السكنية، نعود لمنازلنا ونلتقي في الكنيسة للصلاة وفي الإجازة لقضاء الصيف في الأنشطة الكنسية، وفي المرحلة الجامعية تفرقنا على كليات مختلفة، ولكن كانت كنيسة “كلية التجارة” تجمع شتات الكل، ولمن لا يعرف فإن في كل جامعة وكلية تجمع يعرف بـ “الكنيسة” يضم غالبية المسيحيين ويهتم أعضاؤها القدامى باستقبال الأعضاء الجدد والعناية بهم وإرشادهم وحمايتهم، هكذا نظن.
لم أكن من محبي المحاضرات أو الكلية بالأساس، فكانت المرات القليلة التي أزورها فيها أصطدم ببعض المواقف، “معلش أحنا حاجزين لأصحابنا، وهما جايين” تنتهي المحاضرة ولا يأتي أحد من أصدقائهن، ولكن ربما تأتي بعدي فتاة محجبة فيضغطن أنفسهن ويجلسنها بجوارهن، فهن لا يسمحن بجلوس المسيحيات أو السافرات.
النصارى الخنازير
لن أنسى عشرات الشكاوي التي تقدم بها والدي في خطيب المسجد الذي كنا نسكن بجواره، والذي اعتاد الصراخ في صلاة الجمعة “عليك باليهود والنصارى الخنازير” وتتبعها دعاوى من فئة تشتيت الشمل وترمل النساء وغيرها، فيردد المئات أمين بصوت واحد، وأتذكر نهر أمي لشكاوى والدي “هتودينا في داهية، احنا مش ناقصين”، ولكن بعد عشرات الشكاوى لأمن الدولة نجح أبي في أن يحذف “النصارى” من دعاء الخطيب، ولأني كنت أرى ناس أعرفهم وأصدقاء لأسرتي يخرجون من الجامع كنت أتساءل، هل يردد هؤلاء “آمين” بكل حماس كما نسمع على مثل هذه الدعاوى !
كانت الرحلة من المحطة للكلية التي تم نقلها من المدينة لأطراف بعيدة هي الأسوأ على الإطلاق في يومي إذا ما قررت الذهاب للكلية، حيث اعتاد سائقو “الميكروباص” تنغيص حياتنا بشرائط كاسيت تتحدث علنا عن المسيحيين وعوراتهم المكشوفة في نسائهن السافرات الخليعات، والبكاء والعويل الذي يصدح من الكاسيت يرجو فيه شباب المسلمين أن يحترسوا من فتنة المسيحيات التي يثيرونها في الجامعات بملابسهن وشعرهن وعطرهن، ووسائلهن لجرهم للرذيلة التي يعشقها النصارى الكفار.
مع المسيحيين فقط
نشأت في أسرة غالبية أصدقاء والديَّ مسلمين، نزورهم ونقضي نهارًا بأكمله نركض ونلعب بفرح، وبالرغم من ذلك كان يخشى والديَّ أي صداقات لنا من المسلمين في المرحلة الجامعية، ولسان حالهم دائما “مسلمين دلوقت مش زي مسلمين زمان”، نعم، المسيحيون يخشون المسلمين ولا يعنيني من يردد “ده أعز صديق لي مسلم”، “ده احنا اتربينا في بيت مسيحي”، فما أعيشه الآن وأراه ولا يقوى أحد على التصريح به هو خوف المسيحيين من المسلمين، كما يخجل البعض من التصريح به أو يعيشون حالة من الإنكار نظرًا لتجربتهم وحدها التي لم يشبها مثل هذه المنغصات فيصرون على أن حياتهم وحدها كفيلة لدحض النماذج الأخرى.
بدأت حياتي في القاهرة مغتربة على قواعد أساسية حتى يسمحوا لي بالسكن لوحدي، أولا منطقة ذات غالبية مسيحية فكانت “شبرا”، ثانيًا عمارة يملكها مسيحي وكل سكانها مسيحيين فعشت على مدار 6 سنوات انتقلت فيهم لشقتين مختلفتين في شبرا برفقة وجيرة مسيحيين، حتى تغير حالي منذ سنتين، ثالثًا الانتماء لكنيسة قريبة من منزلي ووضع علاقاتي مع المسلمين في إطار محدد وضيق.
لم أكن أخشى الغربة ولكن كنت أخشي المسلمين، فكانت أيام عملي الأولى متحفظة صارمة، حتى تهت مرة في شوارع القاهرة فوجدت نفسي أتصل بزميلي في العمل، وكان مسلمًا، أبكي وأخبره أني ضائعة فطلب مني أركب تاكسي وهو سيتحدث للسائق وظل هكذا حتى وصلت منزلي بأمان، بكيت مرة أخرى لأن كلفة التاكسي كانت كبيرة.
في اليوم التالي ذابت جبال من الجليد بعد أن تندر على بكائي كطفلة وأصبحنا أصدقاء، ومن هنا دخلت “دائرة الخطر”ـ كما وصفها بعض المقربين لي وأصدقاء الطفولة في ما بعد عن حياتي التي اكتظت بمسلمين على مدار 8 سنوات.
ذاتية وعامة
22 عامًا تشكلت خلفيتي عن الآخر وخوفي منه، أينعم صححتها 8 سنوات لاحقة، ولكن هل يحق لأي أحد أن ينكر على تجربتي أنا وآخرين، تجربة يخوضها الآن أجيال جديدة وأن كانت تتخذ هيئة أكثر بشاعة وبؤسًا، حدث ولا حرج وعلى سبيل المثال وليس الحصر عما يحدث في الصعيد للمسيحيين، لست بصدد عرض حقيقة النسيج المتهرئ الذي يصر البعض على ترقيعه فيزداد قبحًا، وكأن نفي ما يحدث سيجعل الواقع أفضل، وإنما فقط رصد الواقع ربما ننقذ ما يمكن إنقاذه قبل فوات الأوان.
تتشابه تجربتي مع آخرين أعرفهم ولا أعرفهم، ومازال كثيرون يغوصون في بركة المخاوف ذاتها ويعيشون خبرات مختلفة زادت حدتها أو نقصت عما اختبرته وتشغلهم الأسئلة، لكن أنت مسيحي عشت أنت وأسرتك ولم تلمس أي من هذا “العبث” هنيئًا لك، أنت مسلم لم تسأل إطلاقًا عن دين جارك، وعرفت بالصدفة أنه مسيحي وتخجل من هذا “الخرف” تحية لك، أنت مثقف ترى الحديث عن هذه الأمور “هراء” لا تتحدث فيها لأن وقتك أثمن، أنت مناضل ترى أن الوطن في حاجة لأحاديث أكثر عمقًا فلتحفر أنت عميقًا وتُثرينا، لكن اتركوا لنا هذه المساحة للحكي ربما أزاحت الكلمات قدرًا كبيرًا من الاستفهام واستقامت علاقات مشبوبة بالخوف والحذر، وإن كانت كلماتي تُغضبكم فليحمل كل منكم حجرًا ويُلقيني به.