هل كان يسوع شخصاً حقيقياً؟ يسوع التاريخي
هل كان شخص يسوع المسيح موجوداً حقاً، أم أنّ المسيحيّة أسطورة مبنيّة على شخصيّة وهميّة مثل شخصيّة هاري بوتر؟
منذ حوالي ألفي سنة اعتبر معظم عالمنا يسوع المسيح بأنه رجل حقيقيّ لهشخصيّة استثنائيّة، وقيادة، وسلطة على الطبيعة. ولكن اليوم يقول البعض بأنه لم يكن موجوداً أبداً.
بدأت المجادلة ضدّ وجود يسوع، والمعروفة بنظريّة “أسطورة المسيح”،بعد سبعة عشر قرناً منذ أن قيل أنّ يسوع سار على التلال الصّخرية في اليهودية.
تلخّص إلين جونسون، رئيسة منظمة المُلحدين الأمريكان، وجهة نظر أسطورة المسيح على شاشة تلفزيون سي إن إن في برنامج لارّي كينغ لايف كما يلي:
“لا توجد أيّة ذرّة من الدّلائل العلمانيّة بأنّه كان يوجد شخص يسوع المسيح إطلاقاً…
يسوع هو عبارة عن تجميع من الآلهة الأخرى… الذين كان لديهم نفس الأصول، ونفس اختبار الموت مثل الأسطوري يسوع المسيح.”
فأجابها مضيف البرنامج وهو في غاية الذّهول: “إذاً أنتِ لا تؤمنين إنه كان هناك يسوع المسيح؟”
فأطلقت جونسون صرختها، “لم يكن هناك… لا يوجد أيّ دليل علماني أنّ يسوع المسيح قد وُجد على الإطلاق.” فطلب كينغ على الفور فاصِلاً لعرض الإعلانات. وتُرك مشاهدو برنامج التلفزيون العالمي في حالة من الإستغراب. [1]
في سنواته الأولى كمُلحد، كان عالم الأدب بجامعة أوكسفورد، سي إس لويس، يعتبر يسوع المسيح كأسطورة أيضاً، ظناً منه أنّ كلّ الدّيانات كانت مجرّد تلفيقات. [2]
وبعد سنوات، كان لويس يجلس قرب النار في غرفة النوم بأوكسفورد مع صديق له كان يصفه كـ “أقسى مُلحد هائج من كلّ المُلحدين الذين عرفتهم على الإطلاق.” وفجأة باغته صديقه بهذه الكلمات، “كان الدّليل على تاريخيّة الأناجيل عظيماً حقاً وبصورة مدهشة… لقد بدا تقريباً كأنّ الأمر حدث فعلاً مرّة واحدة فقط.” [3]
فصُعق لويس لسماعه ذلك. إنّ ملاحظة صديقه بأنّ هنالك دليلاً حقيقيّاً عن يسوع دفعت لويس ليتقصّى الحقيقة بنفسه. فكتب ابحاث عن الحقيقة حول يسوع المسيح في كتابه الكلاسيكي “المسيحيّة المُجرّدة.”
فما هو الدّليل الذي اكتشفه صديق لويس عن يسوع المسيح؟
التاريخ القديم يتكلّم
دعونا نبدأ بسؤال أساسي بمستوى أعمق: كيف يمكننا أن نميّز شخصيّة خرافيّة من إنسان حقيقي؟ على سبيل المثال، ما هو الدّليل الذي يقنع المؤرّخين أنّ الأسكندر الأكبر كان شخصاً حقيقياً؟ وهل هناك مثل هذه الأدلّة عن وجود يسوع؟
لقد وُصف كلّ من الإسكندر ويسوع بالقادة اللذين تمتعا بالشّعبيّة. وكُتب عن كليهما أنهما كانا يحظَيان بمِهَنٍ بسيطة، وقد توفّيا في أوائل الثلاثينات من العمر. قيل عن يسوع أنه كان رجل سلام وكان يغلب بمحبّته، بينما الأسكندر كان رجل حرب وكان يسيطر بقوّة السّيف.
في سنة ٣٣٦ قبل الميلاد، أصبح الإسكندر الأكبر ملك مكدونيّة. وإذ كان عسكرياً عبقريّاً، اجتاح هذا القائد الوسيم والزعيم المتعجرف القرى، والمدن، والممالك من اليونان وبلاد فارس، حتى صار يحكم الكلّ. ويقال أنه بكى عندما لم يبقَ هنالك عوالم أخرى ليقهرها.
لقد سُجّل تاريخ الإسكندر من خمسة مصادر قديمة، كُتبت ثلاثمئة سنة أو أكثر من بعد وفاته. [4] ولا يوجد شاهد عيان واحد لقصص الأسكندر على الإطلاق.
ومع ذلك، فالمؤرّخون يعتقدون أنّ الإسكندر عاش حقاً، وذلك يعود إلى حدّ كبير لأنّ قصص حياته قد تأكّدت صحّتها من خلال علم الآثار، وتأثيره على التاريخ.
كذلك، لتحديد ما إذا كان يسوع شخصاً حقيقيّاً، علينا أن نبحث عن أدلّة تثبّت وجوده في النواحي التالية:
١- علم الآثار
٢- قصص لغير المسيحيّين الأوائل
٣- قصص للمسيحيّين الأوائل
٤- مخطوطات العهد الجديد الأوليّة
٥- أثـر تاريخي.
علم الآثــار
لقد دفنت رمال الزّمن الكثير من الأسرار عن يسوع والتي أظهرت للنور في الآونة الأخيرة فقط.
ولعلّ أهم الاكتشافات هي عدّة مخطوطات قديمة اكتُشفت بين القرنين الثامن عشر والعشرين. سوف ننطرّق بأكثر تمعّن الى هذه المخطوطات في جزء لاحق.
وقد اكتشف علماء الآثار أيضا العديد من الأماكن والأثار التي تتفق مع قصص يسوع في العهد الجديد. وكان مالكولم ماجيريدج، الصحفي البريطاني، يعتبر يسوع أسطورة حتى رأى مثل هذا الدّليل خلال مهمّة تلفزيونيّة لشاشة البي بي سي إلى إسرائيل.
بعد إبلاغه عن ذات الأماكن الموجودة في قصص يسوع بالعهد الجديد،كتب ماجيريدج، “لقد شدّني أمرٌ يقينيّ بخصوص ولادة يسوع، إرساليّته وصلبه… أصبحتُ أدركُ أنّه كان هناك حقاً شخصاً، يسوع…” [5]
غير أنه، قبل القرن العشرين لم يوجد أيّ دليل ملموس للحاكم الرّوماني،بيلاطس البنطي، ورئيس الكهنة اليهودي، يوسف قيافا. وكان كلا الرّجلين من الشخصيّات الأساسيّة في المحاكمة التي أدّت الى صلب المسيح. وأشار المشكّكون الى هذا النقص الواضح في الأدلّة كذخائر لنظريّتهم عن أسطورة المسيح.
ومع ذلك، ففي عام ١٩٦١ اكتشف علماء الآثار كتلة من الحجر الجيريمنقوش عليها اسم “بيلاطس البنطي حاكم اليهوديّة.” وفي عام ١٩٩٠اكتشف علماء الآثار أيضاً صندوقاً لعظام الموتى (علبة عظام) مع نقش لاسم قيافا. وقد تمّ التحقّق من أنها أصليّة “من دون أدنى شكّ.” [6]
كذلك حتي عام ٢٠٠٩، لم يكن هناك دليل ملموس أنّ مدينة الناصرة التي نشأ فيها يسوع كانت موجودة خلال حياته. فاعتبر المشكّكون، أمثال رينيه سالم، أنّ نقص دليل مدينة الناصرة للقرن الأول يشكّل ضربة قاضية على المسيحيّة. وفي كتابه “أسطورة الناصرة” كتب سالم في عام ٢٠٠٦،“احتفلوا، أيّها المفكرين الأحرار… فالمسيحيّة كما نعرفها قد تكون قادمة أخيراً الى النهاية.” [7]
إلاّ أنه في ٢١ ديسمبر ٢٠٠٩، أعلن علماء الآثار اكتشاف شظايا من الطين تعود للقرن الأول في مدينة الناصرة، مؤكدين أنّ هذه القرية الصّغيرة كانت موجودة في زمن السّيد المسيح
ورغم أنّ هذه الاكتشافات الأثرية لا تثبّت أنّ يسوع عاش هناك فعلاً، إلاّ أنها تدعم قصص الإنجيل عن حياته. كما يلاحظ المؤرّخون أنّ هذه الأدلّة المتزايدة من قبل علماء الآثار تؤكد قصص يسوع بدل أن تعارضها.” [8]
قصص لغير المسيحيّين الأوائل
يذكر المشككون، أمثال إيلين جونسون، أنّ النقص في التاريخ العلماني عن يسوع يُعتبر دليلاً بأنه لم يكن موجوداً.
الا أنه لا يوجد سوى القليل جداً من الوثائق عن أيّ شخص منذ زمن المسيح. فمعظم الوثائق التاريخيّة القديمة قد تمّ إتلافها على مرّ القرون، منخلال الحروب، والحرائق، والنهب، أو بكل بساطة، من خلال العوامل الطقسيّة والاهتراء.
بالنسبة لـ إ. م. بليكلوك، الذي جمع معظم كتابات الغير مسيحيّين للإمبراطوريّة الرّومانية، “عمليّاً، لا يوجد شيْ منذ زمن المسيح،” حتى لأعظم القادة العلمانيين كيوليوس قيصر. [9] ومع ذلك لا يتساءل أيّ مؤرّخ عن وجود القيصر.
وبما أنه لم يكن زعيماً سياسيّاً أو عسكريّاً كبيراً، فإنّ دارّيل بوك يدوّن، “من المثير للدّهشة والاهتمام أنّ يسوع يظهر في كلّ المصادر التي لدينا.” [10]
إذاً، ما هي تلك المصادر، يذكر بوك؟المؤرّخين الأوائل الذين كتبوا عن يسوع الذي لم يكن لديهم ميل مسيحي؟ قبل كلّ شيء، دعونا نلقي نظرة على أعداء يسوع:
المؤرّخون اليهـود: كان اليهود أكثر الناس استفادة من إنكار وجود يسوع. لكنهم طالما اعتبروه شخصاً حقيقيّاً. “فالعديد من الكتابات اليهوديّة تشير الى أنّ يسوع المسيح شخص حقيقيّ وأنهم عارضوه. [11]
كتب المؤرّخ اليهودي المعروف فلافيوس جوزيفوس عن يعقوب، “أخو يسوع المدعو المسيح.” [12] لو لم يكن يسوع شخصاً حقيقّياً، لماذا لم يقل جوزيفوس شيئاً عن ذلك؟
وفي مقطع آخر، مثير للجدل إلى حدّ ما، يتحدّث جوزيفوس على نطاق أوسع عن يسوع[13] .
في هذا الوقت كان هناك رجل يدعى يسوع. كان سلوكه جيّداً، وكان معروفاً بأخلاقه الفاضلة. وأصبح كثير من الناس من بين اليهود والأمم الأخرى تلاميذه. بيلاطس حكم عليه بالصّلب، ومات. والذين أصبحوا تلاميذه لم يتخلوا عن كونهم تلاميذه. وأفادوا أنه كان قد ظهر لهم بعد ثلاثة أيام من صلبه وأنه كان حيّاً. وبناءً على ذلك، كان يُعتقد أنه المسيّا.” [14]
وعلى الرّغم من أنّ بعض كلماته لا تزال محض النزاع، إلا أنّ تأكيد جوزيفوس هنا عن وجود يسوع مقبول على نطاق واسع من قبل العلماء. [15]
يكتب الباحث الاسرائيلي، شلومو باينز، “حتى أكثر المعارضين مرارة في المسيحيّة لم يعبّروا إطلاقاً عن أيّ شك حول ما إذا كان يسوع قد عاش حقاً.” [16]
ويلاحظ المؤرّخ العالمي، وويل ديورانت، أنه لا يوجد أيّ شخص يهودي أو أممي من القرن الأول قد أنكر وجود يسوع على الإطلاق.[17]
مؤرّخون رومان: كتب المؤرّخون الرّومان الأوائل في المقام الأوّل عن الأحداث والأشخاص المهمّين لإمبراطوريّتهم. وبما أنّ يسوع لم يكن له أهميّة مباشرة في الشؤون السّياسيّة أو العسكريّة لروما، فإنّ القليل جداً من التاريخ الرّوماني يشير إليه. ومع ذلك، فاثنين من المؤرّخين الرّومان المهمّين، تاسيتوس وسيوطونيوس، يعترفون بيسوع كشخص حقيقي.
تاسيتوس (٥٥ – ١٢٠م)، أعظم المؤرّخين الرّومان الأوائل، كتب أنّ كريستوس (تعني باليونانيّة المسيح) قد عاش في عهد طيباريوس و “تألم على أيدي بيلاطس البنطي، وأنّ تعاليم يسوع قد انتشرت بالفعل إلى روما، وأنّ المسيحيّين كانوا يُعتبروا مُجمرمين وقد تعرّضوا لشتى أنواع التعذيب، بما في ذلك الصّلب.” [18]
سيوطونيوس (٦٩ – ١٣٠م)، كتب عن “كريستوس” كمحرّض. معظم العلماء يعتقدون أنّ هذا إشارة الى السّيد المسيح. كما كتب سيوطونيوس أيضاً عن المسيحيّين وكيف تعرّضوا للإضطهاد من قبل نيرون في عام ٦٤م. [19]
مسؤولون رومان: كان المسيحيّون يُعتبرون أعداء روما بسبب عبادتهم ليسوع كربّ بدلاً من قيصر. وقد كتب المسؤولون الحكوميّون الرّومان، التالية أسماءهم، ومن بينهم اثنان من القياصرة، رسائل من هذا المنظور، مُشيرين الى يسوع وأصول المسيحيّين الأوائل. [20]
كان بليني الأصغر قاضي الإمبراطوريّة تحت الإمبراطور تراجان. وفي عام ١١٢م، كتب بليني الى تراجان عن محاولاته لإجبار المسيحيّين أن ينكروا المسيح، الذي كانوا “يعبدونه كإله.”
كتب الإمبراطور تراجان (٥٦ – ١١٧م) رسائل يذكر فيها يسوع المسيح وأصول المسيحيّين الأوائل.
كتب الإمبراطور هادريان (٧٦ – ١٣٦م) عن المسحيّين باعتبارهم أتباع يسوع.
مصادر وثنية: هناك العديد من الكتاّب الوثنيّين الأوائل الذين كتبوا بإيجاز عن يسوع وعن المسيحيّين قبل نهاية القرن الثاني. من ضمن هؤلاءثالّوس، فليغون، مارا بار سيرابيون، ولوسيان السّاموساطي[21]. وقد دُوّنت ملاحظات ثالّوس عن يسوع في عام ٥٢م، حوالي عشرين سنة بعد المسيح.
وبالإجمال، تسعة من الكُتاب العلمانيّين الأوائل، الغير مسيحيّين، ذكروا يسوع كشخص حقيقي في غضون ١٥٠ سنة من موته. ومن المثير للإهتمام، أنّ هذا هو نفس العدد من الكُتاب العلمانيّين الذين ذكروا طيباريوس قيصر، الإمبراطور الرّوماني في خلال حياة يسوع. وإذا كنا لنعتبر المصادر المسيحيّة وغير المسيحيّة، فيوجد اثنان وأربعون مصدراً ذكروا يسوع، مقابل عشرة فقط لطيباريوس. [22]
حقائق تاريخيّة عن يسوع:
هذه المصادر الأوليّة الغير مسيحيّة توفر لنا الحقائق التالية عن يسوع المسيح:
- كان يسوع من الناصرة.
- عاش يسوع حياة حكيمة وفاضلة.
- صُلب يسوع في اليهوديّة على أيدي بيلاطس البنطي في أيام حكم طيباريوس قيصر في وقت عيد الفصح، وكان يُعتبر ملك اليهود.
- كان تلاميذ يسوع يؤمنون أنه مات وقام من الموت بعد ثلاثة أيّام.
- اعترف أعداء يسوع بأنه أنجز مهارات خارقة.
- تزايد عدد تلاميذ يسوع بشكل سريع، وامتدّوا حتى روما.
- عاش تلاميذ يسوع حياة أخلاقية وعبدوا يسوع المسيح بمثابة الله.
هذا الموجز العام لحياة يسوع يتوافق تماماً مع العهد الجديد. [23]
يدوّن جاري هابارماز، “بالإجمال، نحو ثلث هذه المصادر الغير مسيحيّة يعود تاريخها للقرن الأول، وأغلبيّتها نشأ في موعد لا يتجاوز منتصف القرن الثاني.” [24] ووفقاً لموسوعة البريطانية“هذه القصص المستقلة تثبّت أنه في العصور القديمة حتى أعداء المسيحيّة لم يشكّوا أبداً بتاريخيّة يسوع.” [25]
قصص المسيحيّين الأوائل
كتب المسيحيّون الأوائل الآلاف من الخطب والرّسائل والتعليقات حول يسوع. كما ظهرت قوانين الإيمان التي تتحدّث عن يسوع المسيح في وقت مبكّر لا يتعدّى الخمس سنوات من صلبه. [26]
هذه المخطوطات الغير كتابيّة (ليست من الكتاب المقدّس) تؤكد معظم تفاصيل العهد الجديد عن يسوع، بما في ذلك صلبه وقيامته. [27]
وممّا لا يصدّق، فقد تمّ اكتشاف أكثر من ٣٦٠٠٠ من هذه المخطوطات المماثلة، بشكل كامل أو جزئيّ، وبعضها يعود للقرن الأول. [28] وهذه المخطوطات الغير كتابيّة يمكنها إعادة بناء كلّ العهد الجديد باستثناء عدد قليل من الآيات. [29]
كلّ من هؤلاء المؤلفين يكتب عن يسوع المسيح كشخص حقيقي. تجاهل مختلقوا اسطورة المسيح هذه القصص واعتبروها متحيّزة. ولكن السؤال الذي يجب أن يجيبوا عليه هو: كيف يمكن ليسوع الأسطوري أن يُكتب عنه بهذا القدر الكبير في غضون بضعة عقود من حياته؟
العهد الجديد
يرفض المشككون، أمثال إلين جونسون، العهد الجديد كدليل على يسوع، ويصفوه بأنه “منحاز”. ومع ذلك، فإنّ معظم المؤرّخين الغير مسيحيّين يعتبرون مخطوطات العهد الجديد القديمة كأدلّة دامغة عن وجود يسوع.ومؤرّخ جامعة كامبريدج، مايكل غرانت، وهو ملحد، يحاجّ بأنّه ينبغي اعتبار العهد الجديد كدليل بنفس الطريقة التي نعتبر فيها أيّ تاريخ قديم آخر:
إن كنا نطبّق على العهد الجديد، كما ينبغي علينا، نفس النوع من المعايير التي يجب أن نطبقها على الكتابات القديمة الأخرى التي تحتوي مواد تاريخيّة، فلا يمكننا إذاً أن نرفض وجود يسوع أكثر ممّا يمكننا رفض وجود كتلة من الشخصيّات الوثنيّة التي لم يشكّ أحد أو يتساءل عن حقيقتها إطلاقاً. [30]
إنّ الأناجيل (متى، مرقس، لوقا، ويوحنا) هم القصص الأساسيّة لحياة يسوع وكلامه. يبدأ لوقا إنجيله بهذه الكلمات إلى ثاوفيلس: “رأيت انا ايضا اذ قد تتبعت كل شيء من الاول بتدقيق ان اكتب على التوالي اليك ايها العزيز ثاوفيلس.” [31]
في الأصل، رفض عالم الآثار الشّهير، السّير وليام رامزي، قصّة لوقا التاريخيّة عن يسوع. إلاّ أنه عاد في وقت لاحق واعترف قائلاً، “إنّ لوقا هو مؤرّخ من الطراز الأول… ويجب أن يوضع هذا المؤلف جنباً إلى جنب مع أعظم المؤرّخين على الإطلاق… فتاريخ لوقا لا يسبقه تاريخ آخر فيما يتعلق بإخلاصه الشّديد والثقة به.” [32]
كتبت قصص الإسكندر المبكرة بعد ٣٠٠ سنة من موته. ولكن كم كانت الأناجيل قريبة من حياة يسوع حين كتبت؟ هل كان لا يزال هناك شهود عيان ليسوع على قيد الحياة، أم كان هناك وقت كاف لكي تتطوّر حينذاك أسطورة؟
في ما يقرب عام ١٨٣٠، جادل العلماء الألمان أنّ العهد الجديد كُتب في القرن الثالث، وهو وقت متأخر جداً ليكون قد كتب بواسطة رُسُل يسوع. ومع ذلك، فقد أثبتت نسخ المخطوطات التي اكتشفت في القرنين التاسع عشر والعشرين، بواسطة علماء الآثار، أنّ قصص حياة يسوع هذه قد كُتبت قبل ذالك بكثير.
وقد سجّل ويليام آلبرايت تاريخ جميع كتب العهد الجديد لحوالي ما بين ٥٠م و٧٥م [33]“ أما جون أ. ت. روبنسون، من جامعة كامبريدج، فيسجّل تاريخ جميع كتب العهد الجديد لما بين ٤٠م و٦٥م. فتاريخ مبكر من هذا القبيل يعني أنها كتبت عندما كان لا يزال هناك شهود عيان على قيد الحياة، وهو وقت مبكر جدّاً كيما تتطوّر خرافة أو أسطورة[34].
بعد أن قرأ سي. إس. لويس الأناجيل، كتب، “والآن، كمؤرّخ أدبيّ، أنا مقتنع تماماً أنّ… الأناجيل… ليست أساطير. لقد قرأت الكثير من الأساطير وأنا مستوضح جدّاً أنّ هذه الكتب ليست من نفس النوع.” [35]
إنّ كميّة المخطوطات للعهد الجديد هائلة. فأكثر من ٢٤٠٠٠ نسخة، كاملة أو جزئيّة، من نسخ المخطوطات لا يزال موجوداً، مما جعلها أعلى بكثير من جميع الوثائق القديمة الأخرى. [36]
لم يتم دعم أيّ شخص تاريخي قديم آخر، ديني أو علماني، بنفس كميّة الأوراق الثبوتيّة مثل يسوع المسيح. ويصرّح المؤرّخ بول جونسون، “إذا اعتبرنا أنّ تاسيتوس، على سبيل المثال، نجا في مخطوطة واحدة فقط في القرون الوسطى، فإنّ كمية مخطوطات العهد الجديد المبكرة لافتة للنظر.” [37]
أثـر تاريخي
ليس للأساطير إلاّ القليل، إن وجد، من التأثير على التاريخ. فقد قالالمؤرّخ توماس كارمايكل، “إنّ تاريخ العالم ليس إلاّ سيرة الرّجال العظماء.” [38]
ليس هناك أمة أو نظام يدين بتأسيسه أو تراثه لشخص أو إله أسطوري.
ولكن ماذا كان تأثير يسوع المسيح؟
لم يشعر المواطن الرّوماني العادي بتأثيره إلاّ بعد مضي سنوات عديدة من وفاته. فيسوع لم ينظّم جيشاً. ولم يكتب أيّ الكتب ولم يغيّر القوانين. وكان زعماء اليهود والقياصرة الرّومان يأملون في محو ذكراه، وبدا كأنهم سينجحوا.
أمّا اليوم، فكلّ ما نراه من روما القديمة هو الأطلال. فقد تلاشت جحافل القيصر العظيمة وأبّهة السّلطة الأمبراطوريّة الرّومانية وأصبحت في غياهب النسيان. مع هذا، كيف لا يزال يسوع يُذكر اليوم؟ ما هو تأثيره الدّائم؟
- كُتِبَ عن يسوع كمّية أكثر ممّا كُتِبَ عن أيّ شخص آخر في التاريخ.
- استَخدمت الأمم كلماته بمثابة الأساس الوطيد لحكوماتهم. وبالنسبة لديورانت، “لقد كان انتصار المسيح بداية الدّيموقراطيّة.” [39]
- أنشأت موعظته على الجبل نموذجاً جديداً في الأخلاق والآداب العامّة.
- وقد تأسّست مدارس ومستشفيات وأعمال إنسانيّة تحت إسمه. كما أنشأ أتباعه أكثر من مئة جامعة عظيمة – بما في ذلك هارفارد وييل وبرنستون ودارتماوث وكولومبيا وأوكسفورد. [40]
- إنّ دور النساء المرتفع في الثقافة الغربيّة يعود جذوره إلى يسوع. (فكانت النساء في أيّام يسوع تُعتبر في منزلة أدنى، وفي الظاهر نكرة، الى حين اتباع تعاليمه.)
- تمّ إلغاء الرّق في بريطانيا وأمريكا بسبب تعاليم يسوع أنّ حياة كلّ إنسان هي قيّمة.
والمثير للدّهشة، أنّ يسوع المسيح حقّق كل هذا التأثير كنتيجة لفترة ثلاث سنوات فقط من الإرساليّة العامّة. عندما سُئِل الكاتب والمؤرّخ العالمي المشهور، هـ. ج. ويلز، من الذي ترك أعظم تراث في التاريخ، أجاب، “من خلال هذا الإختبار، يسوع يقف الأول.” [41]
كتب مؤرّخ جامعة ييل، ياروسلاف بيليكان، “بغض النظر عمّا يظنّ أو يعتقد أيّ شخص عنه، فقد كان يسوع الناصّري الشّخصيّة البارزة في تاريخ الثقافة الغربيّة لما يقرب من عشرين قرناً من الزّمان… إنه منذ ولادته ومعظم الجنس البشري يؤرّخ تقويماته، إنّه باسمه يصلي الملايين.” [42]
لو لم يكن يسوع المسيح موجوداً حقاً، فعلى المرء أن يتساءل كيف يُمكن لأسطورة أن تغيّر شكل التاريخ بهذا الشكل.
أسطورة أم حقيقة
في حين وُصفت الآلهة الأسطوريّة كالأبطال الخارقين الذين يعيشون أوهام بشريّة وشهوات، تصِف الأناجيل يسوع المسيح بأنه رجل تواضع ورحمة وشخصيّة ذات أخلاق معصومة من الخطأ. ويقدّمه أتباعه على أنه شخصٌ حقيقي وقد قدّموا حياتهم له عن طيب خاطر.
ذكر العالم الغير مسيحي، ألبرت آينشتاين، “لا أحد يستطيع قراءة الأناجيل دون أن يشعر بوجود يسوع الفعلي. فشخصيّته تنبض في كلّ كلمة. ليس هناك خرافة ممتلئة بمثل هذه الحياة… لا يستطيع أيّ إنسان أن ينكر الحقيقة أنّ يسوع عاش فعلاً، ولا أنّ أقواله جميلة.” [43]
هل يمكن أن يكون موت يسوع وقيامتة قد انتُحلا من هذه الخرافات؟ لقد عُرضت قضيّتهم ضدّ يسوع المسيح في فيلم اليوتيوب، “روح العصر” ، حيث يدّعي المؤلف بيتر جوزيف بكل جرأة،
الواقع هو، أنّ يسوع كان… شخصيّة أسطوريّة…. فالمسيحيّة، جنباً الى جنب مع كلّ أنظمة المعتقدات التوحيديّة الأخرى، هي خداع العصر. [44]
بينما يقارن الإنسان يسوع المسيح في الأناجيل مع آلهة الأساطير، يصبح لديه تمييزاً واضحاً. وعلى النقيض من واقع يسوع المكشوف في الأناجيل،فإنّ القصص عن الآلهة الأسطوريّة تصوّر آلهة غير واقعيّة مع عناصر من الخيال:
- ميثرا من المفترض أنّها وُلدت من صخرة.[45]
- حورس وُصفت بأنّ لديها رأس صقر. [46]
- باخوس وهرقل وغيرهما تمّ نقلهم الى السّماء على الحصان بيغاسوس. [47]
- أوزوريس قـُـتِـل، وتقطع الى ١٤ قطعة، ثم إعيد تجميعها من قبل زوجته، إيزيس، وأعيد الى الحياة. [48]
ولكن هل يُمكن أن تكون المسيحيّة قد نسخت موت يسوع المسيح وقيامته من هذه الخرافات؟
بالتأكيد لم يظنّ أتباع يسوع ذلك، بل أعطوا حياتهم عن طيب خاطر مُعلنين أنّ قصّة قيامة يسوع المسيح كانت حقيقيّة.
علاوة على ذلك، “فإنّ قصصاً عن إله يموت ويقوم، والتي توازي نوعاً ما قصّة قيامة يسوع المسيح، قد ظهرت بفترة لا تقلّ عن مئة سنة بعد إعلان قيامة يسوع.” [49]
وبعبارة أخرى، إنّ القصص التي تُروى عن حورس، أوزوريس، وميثرا بأنهم ماتوا وقاموا من الموت، لم تكن في أساطيرهم الأصليّة، ولكن تمّ أضافتها بعد أن كتبت قصص يسوع في الأناجيل.
يكتب ت.ن.د. متّينغر، أستاذ في جامعة لوند، “إنّ إجماع الرّأي بين العلماء العصريّين – وهو رأي عالميّ تقريباً – هو عدم وجود آلهة تموت وتقوم فيما قبل المسيحيّة. بل جميعهم في مرحلة ما بعد تاريخ القرن الأوّل.”[50]
بالنسبة لمعظم المؤرّخين، ليس هناك توازي حقيقي بين أيّ من هذه الآلهة الأسطوريّة ويسوع المسيح. ومع ذلك، فكما يلاحظ سي. إس. لويس، هناك بعض المواضيع المشتركة التي تتحدّث إلى رغبة الإنسان في الخلود.
يروي لويس محادثة دارت بينه وبين ج.ر.ر. تولكين، مؤلف كتاب “سيّد الخواتم” الثلاثيّ الحلقات. “قصة المسيح،” قال تولكين، “هي ببساطة أسطورة صحيحة: أسطورة… بهذا الإختلاف الهائل الذي حدث فعلاً.” [51]
يُخلص الباحث في العهد الجديد، ف.ف. بروس، بقوله “بعض الكُتّاب قد يعبثوا بنزوة ʼأسطورة المسيحʻ، ولكنهم لا يفعلون ذلك على أساس من الأدلة التاريخيّة. فتاريخيّة المسيح هي بديهيّة للمؤرخ الغير مُتحيّز كما هي تاريخيّة يوليوس قيصر. وليس المؤرخون هم الذين يبثون نظريّات ʼأسطورة المسيحʻ.”[52]
كـان هُـنــا رجـل
إذاً، هل يؤمن المؤرّخون أنّ يسوع كان رجلاً أم أسطورة؟
يعتبر المؤرّخون كلّ من الإسكندر الأكبر ويسوع المسيح بمثابة رجال حقيقيّين. ومع ذلك، فإنّ أدلة المخطوطات عن يسوع هي أكبر بكثير وأقرب بمئات السّنين لحياته ممّا هي الكتابات التاريخيّة عن حياة الإسكندر. وعلاوة على ذلك، فإنّ التأثير التاريخي ليسوع المسيح يفوق أكثر بكثير ممّا للإسكندر.
يذكر المؤرّخون الأدلة التالية لإثبات وجود يسوع:
- الإكتشافات الأثريّة التي لا تزال تؤكد صحّة قصص الإنجيل عن الناس والأماكن التي سجّلت، وكان آخرها عن بيلاطس وقيافا ووجود الناصرة في القرن الأول.
- آلاف الكتابات التاريخيّة التي توثق وجود يسوع. في غضون ١٥٠ سنة من حياة يسوع، يذكره ٤٢ كاتب في كتاباتهم، بما في ذلك تسعة مصادر غير مسيحيّة. خلال تلك الفترة الزمنيّة نفسها، فقط خمسة كتّاب علمانيّون ذكروا طيباريوس قيصر، وفقط خمسة مصادر أبلغوا عن فتوحات يوليوس قيصر. مع ذلك، لا يوجد أيّ مؤرّخ ينفي وجودهم. [53]
- يعترف المؤرّخون، علمانيّون ومتديّنون، بكلّ سهولة أنّ يسوع المسيح أثّر على عالمنا أكثر من أيّ شخص آخر.
بعد التحقيق في نظريّة أسطورة المسيح، استنتج المؤرّخ العالمي الكبير، ويل ديورانت، أنّ يسوع، خلافاً لآلهة الأساطير، كان شخصاً حقيقيّاً. [54]
وينصّ المؤرّخ بول جونسون أنّ كلّ العلماء الجادّين يعترفون بيسوع كحقيقة. [55]
يكتب المؤرّخ المُلحد مايكل غرانت، “لنلخّص القول، أنّ الأساليب الحديثة الحرجة تفشل في دعم نظريّة خرافة المسيح. فقد تمّ الرّد عليها مراراً وتكراراً وأبيدت من قِبَل علماء من المرتبة الأولى.” [56]
ولعلّ المؤرّخ الغير مسيحي، هـ. ج. ويلز صاغ أفضل تعبير بخصوص وجود يسوع المسيح:
كان هنا رَجُل. هذا الجزء من القصّة لا يُمكن أن يكون قد لفّق. [57]
هل قام يسوع حقاً من الأموات؟
لقد تكلم شهود عيان يسوع المسيح وتصرّفوا على أساس اعتقادهم أنه قام من بين الأموات بعد صلبه. فلم يكن لأيّ إله من الأساطير، أو لأيّ عقيدة أخرى، أتباعاً بهذا الشّكل من الحماس الموطّد.
ولكن هل علينا أن نأخذ قيامة يسوع المسيح فقط بالإيمان، أم أنّ هناك أدلّة تاريخيّة صلبة؟ لقد بدأ العديد من المشككين تحقيقاتهم في السّجلاّت التاريخيّة لكي يثبّتوا أنّ قصّة القيامة كاذبة. فماذا اكتشفوا؟
البحث من موقع