“خميس الأسرار”… ثورة في الكنيسة: عندما يغسل البابا أرجل السجناء
“خميس الأسرار”… ثورة في الكنيسة: عندما يغسل البابا أرجل السجناء
“… قام يسوع عن العشاء، خلع ثيابه، وأخذ منشفة واتزر بها، ثم صب ماء في مغسل، وابتدأ يغسل أرجل التلاميذ ويمسحها بالمنشفة التي كان متزراً بها…” لنتأمل ذلك المعلّم، رأس الكنيسة، ينحني أمام أقدام تلاميذه، كنيسته، ويغسل أرجلهم بكل تواضع ومحبة…
مسمى “خميس الأسرار” يرمز الى سرَّي القربان والكهنوت اللذين أرسى المسيح أسسهما الإيمانية خلال العشاء السري الفصحي الأخير حيث قال لتلاميذه: “الحق الحق أقول لكم: ما كان خادم أعظم من سيده، ولا كان رسول أعظم من الذي أرسله”… السيّد يعلّم كنيسته ويعطيها أوّلاً، هي التي أسّسها على الاتضاع، الحبّ، والغفران، والفداء… صفات يفتقدها عالمنا اليوم كما كنيستنا الا أنه بالنظر الى رأس الكنيسة في عالمنا لا يمكن أن نرى سوى صفات تشبه المسيحية…
لنعود بالمشاهد الى الوراء… الى بازيليك القديس يوحنا في اللاتران أو الى بازيليك القديس بطرس في الفاتيكان اللتان لطالما شهدتا المراسم الاحتفالية بـ”خميس الأسرار” أو “العشاء الأخير” مع كل باباوات الكنيسة، ولعلّ أكثر المشاهد التي يمكننا أن نتذكّرها مع البابا يوحنا بولس الثاني حين كان يحمل منشفته ويركع ليغسل أرجل خدام الكنيسة، ثمّ ينحني ليقبلها رغم كبر سنه وضعف صحته… نرى عجوزاً باللباس الأبيض وبوجه طاهر يمثّل الاتضاع والقوة.
مسيرة أكملها البابا بنديكتوس السادس عشر الذي لطالما كان يعتبر أن “خميس الأسرار لا يتمحور حول تأسيس سرّ القربان فحسب بل كان يشمل وحدة يسوع وضعفه حين كان يصلّي ليلةَ تسليمه إلى الموت ويشمل خيانة يهوذا واعتقال يسوع ونكران بطرس واتّهامه أمام مجلس اليهود وعظماء الكنيس وبيلاطس”، قائلاً: “لنحاول الآن أن نفهم المعنى العميق لكلّ هذه الأحداث ففيها يكمن خلاصنا”.
ثم ننتقل الى ثورة البابا فرنسيس الذي غيّر بعادات وطقوس “خميس الأسرار” فأصدر مرسوماً في 26 كانون الثاني 2016، قضى بتعديل النص المتعلق بغسل الأرجل على أن تشمل الرتبة غسل أقدام النساء بالإضافة الى الرجال وأشخاص آخرين بعد شرح معاني هذه المبادرة.
وفي خميس الأسرار من عام 2015، غسل الحبر الأعظم أقدام اثني عشر معتقلاً في سجن ريبيبيا الروماني، من بينهم ستة رجال وست نساء.
وفي السنة الأولى من حبريته، كان البابا فرنسيس غسل أقدام السّجناء ذكوراً وإناثاً في سجن كاسال ديل مارمو للأحداث من بينهم شابة مسلمة.
وعن قراره يوضح البابا فرنسيس قائلاً: “قررت أن يتغيَّر الإرشاد الثاني الذي يقول أنه ينبغي على المختارين لنيل غسل الأرجل أن يكونوا رجالاً أو شباباً، بحيث يتمكن رعاة الكنيسة من الآن فصاعداً من اختيار المشاركين في الطقس من بين كل أعضاء شعب الله. يُنصح أيضاً بأن يُقدّم للمختارين تفسير ملائم لمعنى الطقس عينه”.
“غسل الأرجل” يعكس رغبة رؤساء الكنيسة بإعلان محبتهم واتضاعهم. كما يحاولون أن يكونوا مثالاً لرعيتهم، ألم يقل يسوع لتلاميذ: “لأني أعطيتكم مثالاً، حتى كما صنعت أنا بكم تصنعون أنتم أيضاَ لإخوتكم”.
وللكاهن في هذه الرتبة المقدسة صفات عديدة:
أولاً- المحبة: فأي عمل روحي من دون المحبة لا قيمة له.
ثانياً – خلع الثياب: لقد خلع المسيح ثيابه قبل أن يغسل أرجل تلاميذه، وبالنسبة لنا يجب أن نضع جانباً مركزنا الاجتماعي، أو الثقافي أو المالي أو العائلي، أو أي اعتبار آخر.
ثالثًا – الاتضاع: لقد انحنى يسوع عند رجلي كل تلميذ لكي يغسلهما، ونحن لا بد لنا أن نتضع أمام اخوتنا.
رابعاً – الحكمة: يجب استخدام كلمة الله بحكمة.
خامساً – استخدام المنشفة: المنشفة ترينا الخدمة الكاملة، فالمسيح لم يترك أقدام تلاميذه مبللة بل جفّفها بالمنشفة، حتى لا يرى الآخرون أخطاء بعضهم البعض.
إن فعل التواضع الذي يقوم به رئيس الكنيسة من الفاتيكان انطلاقاً الى كنائس العالم أجمع هو حاجة لكل المجتمعات المسيحية وغير المسيحية… فإذا تخيّلنا أن العالم يعيش بمحبة ورؤساء البلاد يعملون بتواضع واخلاص من أجل بلادهم، لابد لنا من رؤية مشهد من السلام والمحبة .
في ظل كل ما يعيشه العالم من مشاكل وحروب ترانا اليوم بأمس الحاجة اليوم الى رؤساء على غرار البابا فرنسيس للتزوّد بروح التغيير والمحبة التي تطغى على رسالته.