معنى Anthropomorphism وMetaphors لـ جون إدوارد
تعبير “أنثروبومورفيزم” لُغويَّاً ينقسم لمقطعين، أنثروبوس (ἄνθρωπος) وتعني إنسان ومورفي (μορφή) وتعني هَيئة. يُشير التَّعبير إلى إضفَاء الصِّفات والأعمَال والهَيئة الإنسانيَّة على أي كيان غير إنسَانيّ، أو يُمكن تلخيصه بأنَّه تشبيه (metaphor) يضَع كيان لا إنسانيّ في صُورة إنسانيَّة. الأنثروبومورفيزم والتَّشبيه هما من أكثر ما إستخدمه كُتَّاب أسفار العهدين لكي ما يُقدِّموا الله للإنسان بصورة يستطيع الإنسان أن يتقبَّلها فِكريَّاً وحَياتيَّاً. لا يخلو سِفر من الأسفار من هَاتين الأداتين، بدءاً من التَّكوين إلى الرُّؤيا، لا فقط أسفار الكِتَاب بل حضَارَات العَالَم القَدِيم أجمَع. نَقرَأ في سِفر التَّكوين أن الله “قَال” و“رَآي” و“نَظَر” و“إسترَاح” و“نَفَخ” و“سَارَ” وغيرها، بالطبع لا يُمكن أن نعتبر كون الله يستريح وينفُخ ويَطير (مز 18 : 10) تعبيراً يحتوي مَضمُوناً إيمانيَّاً بحسب ظَاهره، بل علينا أن نَعى المَقصُود الضِّمنيّ لا الظَّاهر الحَرفيّ.
كما ينبغي التَّشديد على أنَّه كما أن هذه التَّشبيهات أعانت الذِّهن البشريّ كثيراً كيما يعي ما هو خارج عنه بحسب الطَّبيعة وبالتَّالي خارج المعرفة إلَّا أنَّها قد تقمع رغبة الإنسان في المعرفة الحقَّة بالله، متى أُخرجت هذه التَّعبيرات عن هدفها ووُضِعَت كإيمانيَّات تكون قد ألحقت بالإيمان أضراراً لا تقل كارثيَّة عن أيَّة صورة مُشوَّهة مُستقاه من خارج الكتاب المُقدَّس. بمعنىً آخر، لقد إستخدم روح الله موهبة الإنسان في التَّدوين فأسقط صفات الإنسان على الله كيما يُقرِّب فكر الإنسان من فكر الله، ولكن حينما ينضُج الإنسان فيصير قادراً على الطَّعامِ القويّ لا يعُود اللبن مُشبعاً له، بل يَحتاج أن يُنقِّي أفكارَه من هَذه الإسقاطات كيما يقتَدِر أن يُبصِر بجَلاء سِر الله.
لن أُناقش تِلك الأمثِلة الواضحة كتلك التي ذَكرتها سَابِقاً، ببساطة لأنَّه لا يُوجَد بَدِيل عن ذلك المَعنَى، فالسياق الأسطُورِي والتَّشبيهي يبدو جليَّاً فيها بما لا يتركُ مَجالاً لنقاشٍ. حِينَمَا يقُول المُرنِّم [تَصاعَدَ دُخانٌ مِنْ أنْفِهِ، ونارٌ آكلةٌ مِنْ فَمِهِ، وجمْرٌ مُتَّقِدٌ ولهِيبٌ. أزاحَ السَّماواتِ ونَزلَ مِنها، والضَّبابُ الكثيفُ تَحتَ قدَمَيهِ. رَكِبَ على كروبٍ وطارَ وحلَّقَ على أجنِحَةِ الرِّياحِ (مز 18 : 8-10)]، لا يُمكن بأي حالٍ من الأحوال أن تجد من يؤمِن بأن الله قد نفث دُخانً من أنفهِ وأنَّه قد ركب على كاروبٍ، بل يعرف جميعنا أن كُل ما كُتب قد كُتب لكي ما يُشير لقُدرة الله على الطَّبيعة.
هذَا السِّياق الذي قد تَراه شَديد الأسطُورِيَّة ليس الوحيد، فالكتاب بعهديه وجَميع أسفَاره لا يتخلَّى عن الإستعَارات والتَّشبيهات التي تَصلُح لبناً للأطفَال، ولكنَّها لا تُشبِع رجَالاً. ألا يتشابه ما كُتب عن المَلكوت والجَحِيم وتَعامُلات الله مع البَشر كثِيراً مع تِلك الأمثِلة ؟، ألم يحِن الوقت أن نُطعَم طعَامَ الكبَارِ ؟. هذا ما يُجيب على سؤال أقلقني لشهور، لماذا تتعَارَض بعض آيات الكتاب مع ما نَختبره مَع الله بشَكل مُبَاشِر ؟!. الإجَابة هي لأننا نَخلِطُ اللَّبن بالطَّعَامِ القَويّ، فيعسُر هَضم الأطفَال ولا يَشبَع الكِبَار. هذه التَّعبيرات والإستعارات يُمكن تمثيلها بالمُحرِّكات التي تدفع مكُّوك الفضاء، كُل ما عليها أن ترفعه للأعلى بعيداً عن الأرض، وكُلَّما إبتعد يتخلَّص منها واحداً تلو الآخر حتَّى ينطلق مُنفرِداً بسرعته التي ما كان ليبلغها لو تمسَّك بتلك المُحرِّكات الثَّقيلة.
لا يوجد أي دُور إيمَانِي حَقِيقيّ لهَذِهِ التَّعبيرات سِوى كونها وسِيلَة تَرفع أذهَانِنَا فوق أفكَار العَالم السَّخيفة تِجَاه الله، وما أن إرتفَعَت أذهَاننا صَارت هَذه التَّعبيرات البَشريَّة ثُقلاً لا يُحتمَل، يُضيِّق علينا ويَحصُر أفكارنا في سِجن المادَّة والزَّمن والإرادة، فإن شِئنَا أن ننطَلِقَ بحقٍ فعَلينا أن نتخَلَّى عن هذِهِ الوسَائل لنُأكُلَ الطَّعَام القويّ.
أمثال المسيح تحتوي الكثير من الأنثروبومورفيزم، فالله مَلك مَدِينة وأبٌ لإبنين وصَاحبُ كَرمٍ والعَريِس وصَاحِب الدَّار والغَنيّ الذي وزَّع وزنَاتَ الذَّهبِ على عبيده. ينبغي أن نسعى لكي نفهم مقصَد الكاتِب والهدف من إستخدام التَّشبيه، لأنه إن خلطنا ما هو بشريّ بما هو إلهيّ نكون قد أخطأنا الهَدف وجَانبنا الصَّواب.
من مُنطلق إيماني بأن الله لا يتجاهل تطوُّر وعي الإنسان، لا يُمكنني أن أُسلِّم بأن الله قد إستعلن كُل شئ في القرون الأولى، بل سيظل الإنسان يتعمَّق في أسرار الله إلى أن يجئ في اليوم الأخير. سينقسم هذا المقال ما بين فقرتين أساسيَّتين -مع ترابط- هُما الأنثروبومورفيزم والتَّشبيهات في الكتاب المُقدَّس، على أن يكون الأوَّل مُختص بما كُتب عن الله في تعامُلاته مع الإنسان والثَّاني بما كُتب عن الخطيَّة والملكوت والجَّحيم.
قد تتسائل، لماذا أكتب في هذا الموضوع ؟، حينما نُقدِّم الله بصورةٍ مُشوَّهةٍ فيُرفض ويُنكَر ويُلحَد عنهُ، فلا ينبغي أن نلوم هؤلاء الذين إحترموا عقولهم بل نلوم أنفسنا على تشويهنا لصورة الله وفشَلنا في تقديمه بصُورةٍ تحترمُ العقل. حينما تضَع الإنسان في مَأزق الإختيار ما بين صورة مُشوَّهة عن الله والعقل لا تلومَهُ حينما يختار أن يكون مُلحداً عن أن يكون مَخبولاً. لقد صارت هذه الصُّور المُشوَّهة همَّاً ثقيلاً على صدر الإنسانيَّة حتَّى قال سارتر ما مَضمُونه أن الوجود لا يسمع ذلك الإله والإنسان معاً، لابُد أن يموت واحد ليحيا الآخر، لقد رآى هؤلاء في إعلان مَوت الله حلَّاً لحياتهُم. هؤلاء أنكروا الله ظنَّا منهُم أنهم يُفسحون مجالاً لوجودهم، لأنهم تعلَّموا عن الله منَّا (أي من المَسيحيِّين) أن الله يُقيِّد وجود الإنسان ويقمعه !.
نعم، نحنُ دفعنا هؤلاء لأن يظنُّوا أن الله هكذا، نحنُ دفعناهُم للإلحاد. لقد حوَّلنا الله من راحة لضيق، من سبب تعزية لتهديد على حياة الإنسان، علّمناهُم عن إله يفرض قوانين ويُهدِّد بنارٍ وكِبريت فصار الله لهُم قلق للرَّاحة وتقييد للحُريَّة، فإختاروا أن يتجاهلوه عن أن يتقيَّدوا به.
(1) الأنثروبومورفيزم :
كثيراً ما يُمثِّل لنا الله الغَاضِب المُعاقِب إشكالاً فكريّ، بل وتعارُضاً مع المحبَّة التي إستُعلنت في العهد الجديد. لكي نفهم مَقصِد الله من هذه التَّعبيرات التي دوِّنت عنه في العهدين يجب أن لا نُطلقها خارج الإطار الزَّمنيّ-المكانيّ الذي دُوِّنت فيه، أن نسعى دائماً لنفهم مقصد الكاتب لا ما نُريد نحن أن نفهمه من الكتاب، مع مُراعاة شَخص الكاتب وفِكر عصره وثقافته. سأبدأ بمُلاحظة بسيطة يُمكن أن تُعتبر مدخلاً شيِّقاً لفهم نظرة الشَّعب العِبرانيّ العِقابيَّة لله، إن درست أسفار العهد القديم بعناية بحسب التَّرتيب التَّاريخيّ ستجد أن شخصيَّة الشَّيطان غَائبة بشكلٍ مُلاحَظ، بغض النَّظر عن الإصحاحات الأولى من التَّكوين التي يُرجَّح -و بشدَّة- أنها قد كُتبت بعد تأسِيس مملكة إسرائيل، ورُبَّما أيضاً في نفس زمَن تَدوين سِفر أيُّوب.
في هذه الأثناء ساد الإعتقاد بأن آلهة الأمم قُضاتها، وأن تلك الآلهة تحكُم الطَّقس والطَّبيعة والحيوان وأنَّه بطاعتها الهُروب من غَضَب الطَّبيعة[1]، وعليه، صار كل ما يحدُث من خير أو بلاء مَردوداً للقوَّة العُليا التي “تقضي وتحكُم”. ونجد عدَّة مواضِع تُشير بشِدَّة التي ذلك الإعتقاد، منها، [أَيُنفَخُ في البوقِ في المَدينة ولا يَرْتاعُ الشَّعْب أَم يَكون في المَدينةِ شَرّ ولم يَفعَلْه الرَّبّ ؟ (عا 3 : 6)] [مَنِ الَّذي تَكَلَّمَ فكانَ الأَمْر دونَ أَن يَأمُرَ السَّيِّد ؟، أَلَيسَ مِن فمِ العَلِيِّ يَخرُجُ الشَّرُّ والخَير؟ (المَرَاثي 3 : 37-38)] [لِكَي يَعلَموا مِن مَشَرِقِ الشَّمسِ ومِن مَغرِبِها أَنَّه لَيسَ غَيري أَنا الرَّبّ ولَيسَ مِن رَبٍّ، آخَر. أَنا مُبدِعُ النُّورِ وخالِقُ الظَّلام وصانِعُ الهَناءَ وخالِقُ الشَّقاء (רע -κακός) [2]أَنا الرَّبُّ صانِعُ هذه كُلِّها (إش 45 : 6-7)] [أَنَقبَلُ الخَيرَ مِنَ اللهِ ولا نَقبَلُ مِنه الشَّرّ ؟ (أي 2 : 10)].
من ما سَبق نجد أن ثقافة الشَّعوب كان تَفرِض عليهم تلك النَّظرة البشريَّة فِي الإعتقاد بأن الله ملك السَّلام ومُضرِم الحُروب، واهِب البركات والمُعاقِب باللعنات، مُخلِّص شَعب إسرائيل من مِصر وفي نفس الوقت هو الذي أسلمهم للسَّبي في بابل (إرميا 20 : 5). هذا التَّعارُض لم يكُن وليد غياب الوحي بل وليد الضَّرورة، لأنه يجب أن يبدأ الله تَعامُلاته مع الإنسان كطفل، يُطعمه لبناً، ومتَى إشتدَّ أُطعِم ما للكبار. لذا يجب أن تُبنى معرفتنا بالله لا على ظواهِر النُّصُوص بل على التَّجسُّد، وحينما أقول “التَّجسُّد” لا أعني أيضاً ما كُتب عن التَّجسُّد بل تعامُلات الله الظَّاهِر في الجسد.
إستخدم الله إسقاط صِراع الإنسان الدَّاخلي على نفسه لكي ما يُقرِب فكر الإنسان من فكرِهِ، فنجده في الأسفار يقول عن نفسه أنَّه ندم وتراجَع عن غضبه على شعب إسرائيل (قض 2) ونينوى (يون 3) وعن تنصيبه شاول ملكاً (1صم 15). وفي آياتٍ يُغازِل الإنسان حُبَّاً [في ذلكَ اليَومِ، يَقولُ الرَّبّ، تَدْعينَني «زوجي» ولا تَدْعينَني بَعدَ ذلك «بَعْلي». وأَخطُبكِ لي لِلأَبَد أَخطُبُكِ بِالبِرِّ والحَقِّ والرَّأفَةِ والمَراحِم وأَخطُبُكِ لي بِالأَمانَةِ، فتعرِفينً الرَّبّ (هو 2 : 18،21-22)]، وفي أُخرى يغتاظ كإنسان فيُهدِّد ويتوعَّد [وإِذا وَلَدتَ بَنينَ وبَني بَنين، وشِختُم في الأَرضِ ففَسَدتُم وصَنَعتُم تِمْثالاً مَنْحوتًا لِشَيءٍ ما، وفَعَلتُمُ الشَّرَّ في عَينَيِ الرَّبِّ إلهِكم وأَسخَطتُموه، فإِني مُنذُ اليَومِ أُشهِدُ عَلَيكمُ السَّماءَ والأَرضَ بِأنكم تَهلِكونَ سَريعًا مِن على الأَرضِ الَّتي أَنتُم عابِرونَ الأُردُنَّ إِلَيها لِتَرِثوها. لا تَطولُ أَيَّامُكم علَيها، بل تُبادونَ إِبادةً، ويُشتتكمُ الرَّب في الشُّعوب، فتَبقَونَ جَماعةً معدودهً في الأُمَمِ الَّتي يَسوقُكمُ الرَّبُّ إِلَيها (تث 4 : 25-27)]. ورُبَّما كانت هذه الوسيلة بدءاً لتكوين تعامل شخصي بين الإنسان والله، فتعمَّد الله أن يستعمل الفكر البشري كيما يعتاد الإنسان أن يتعامَل مع الله بأُلفة كما يتعامل مع إنسان يعرفه، هذا في عمقِهِ هو التَّجسُّد. إن كُنَّا نؤمن أن الله ظهر في الجَسَد فيجب أن لا نعود نرى الله خارجنا، بل عُمق معرفة الله هو معرفة الإنسان لأن الله قد إستُعلن بالتَّمام في شخص الإنسان يسوع المسيح. هذه التَّشبيهات على أهميَّتها في إستعلان فكر الله إلا إنها قد تكون عائقاً خطيراً إذا ما إستُعملت خارج الإطار الذي كُتبت فيه والهدف الذي كُتبت لأجله، لعل هذا ما قصده القدِّيس بولس حينما قال أن الحرف يقتُل (2كو 3 : 6).
سقط كثيرين من دارسي الكتاب المُقدَّس -غير الأُمناء- في هذا الفخ، إذا أطلقوا نصوص الكتاب خارج زمانها ومكانها وثقافة كاتبها، فبدأ الكثير منهم يرى تناقضات ما بين شخص يهوه وشخص يسوع، وآخرين ظنُّوهم إلهين مُنفصلين، وإنجذب بعضهم لحرفيَّة النَّاموس في كنيسة العهد الجديد. بينما يزداد جلاء مفهومنا عن الله حينما نتأمَّل في تجسُّد الكلمة، إذا يظهر غير الجسديّ في الجسد، وغير المُحوى في المُحوى، وغير الزَّمني في الزَّمن وغير المَّاديّ في المكان. هكذا الوحي المُدوَّن في العهدين، فكر الله الذي لا يُمكن إدراكه في حدود اللُّغة والثَّقافة، ما لا يُنطق به في في المنطوق، غير المكتوب في حروف. لذلك يجب أن نعي أننا لا نقرأ المكتوب لنعرف حقائق مكتوبة بل ما لا يُنطق به وما لا يحصره ولا يحدُّه عقل. لذا تَكمُن الكارثة الكُبرى إذا ما أطلقنا المَحدود والمَكتوب والمَنظور كدَلالة شَامِلة عن غَير المَحدُود غَير المَكتوب غَير المَنظُور، فتغيب الحقيقة وننحصِر في حدود الحرف واللُغة والتَّعبير وتغيب أنظارنا عن ما للرُّوح.
المثال الأوَّل وكُنت قد عرضته في مَقالٍ سَابِق بعنوان “نُقطَةُ اللا خَير واللا شَرّ[3]“، فيه تنَاولت قضِيَّة “الله المُهلك”، ولن أستفيض فيها في هذا المقال إذ أنوي -إن شاء الرَّب وعشت- أن أُفرِدُ لها مقالاً آخر لإستكمال ما سبق، ولكن سَأُلخِّص محتوى الفِكرة في سطورٍ قَليلة إذ يرتبطُ كثيراً بمحوَرِ هذا المقال. إن تابعنا سَير شعب بني إسرائيل من التَّغرُّب في مصر وحتَّى إستقرارهُم في أرض الموعد سنجد إرتباطاً وثيقاً بين رحلتهم وتعبيرهُم عن الله الذي دُوِّن بالرُّوح في الأسفار، حينما كانوا في مصر كان الله هو الرَّفيق والمُخلِّص وإله الآباء الذي ذكرهُم وذكر عهده مع آبَائِهم، وكأن الله قد تغرَّب معهم وخرج معهم من مصر وسار معهم في الصَّحاري والوديان حتَّى أوقفهم على حُدود أرض المَوعد، من المُلاحظ أيضاً أن لقب “مَلِك” لم يُطلق على الرَّب ولا مرَّة قبل تَأسيس مملكة إسرائيل، بل إرتَكزت معرفة الله على التَّسامِي والتَّفوُّقِ والألوهةِ، كما قال لمُوسى أن يُبلغ فِرعَونَ [كذا قالَ الرَّبُّ، إِلهُ العِبرانِيَّين : أَطلِقْ شَعْبي لِيَعبُدَني، فإِنِّي في هذه المَرَّةِ مُنزِلٌ جَميعَ ضَرَباتي على نَفسِكَ وعلى حاشِيَتِكَ وشَعبكَ، لِكَي تَعلَمَ أَنَّه لَيسَ مِثْلي في الأَرضِ كُلِّها (خر 9 : 13-14)]. وبعد الخروج فِي زمان القُضَاة نظروا لله كقاضٍ (مز 7 : 11، مز 58 11) وما أن إستَقر الشَّعب في أرض الموعِد وحتَّى بَدأ إطلاق تَعبير “مَلِك” على الرَّب الإله. ما أسعى إليه من هذا التَّسلسُل التَّاريخي أن الشَّعب قد تعمَّق في خبرته مع الله من مُنطلق تقدُّمه التَّاريخيّ والجُغرَافيّ، ففي كُل عصرٍ كان الله للشَّعب ما إحتَاج الشَّعب لله أن يكون، ويكون السُّؤال الذي نحتاج أن نطرحه الآن، كيف نرى إحتياجنا لله ؟. إن كان الشَّعب القديم قد رآي في الله قاضِياً فمن الطَّبيعي أن ينسب كُل كارثة طبيعيَّة كالطوفان للقضاء الإلهيّ، ومن المُتوقَّع أيضاً أن يصرخوا -في غير موضعٍ- إليه في الضَّيق كيما ينتقم من أعدائهم (إر 15 : 15) بل وأيضاً أن يضرب أطفالهم على الصُّخور (مز 137 : 9).
لا يُمكن فصل ما جاء في العهد القديم والجديد عن الشَّعب الذي إستُعلنت فيه معرفة الله، فإن أردت أن تدخل إلى العُمق عليك أن تفهم كُل كلمة بذهنيَّة كاتبها لا بحسب ما يُمكن أن تفهمها بذهنك أنت في القرن الواحد والعشرين. لا يعني الوحي إطلاقاً أن الكلام المُدوَّن هو كلام إلهي صِرف، بل كما نؤمن أن الله قد ظهر في الجسد وأن لاهوته لم يُفارق ناسوته لحظة واحدة ولا طَرف عَينٍ علينا أيضاً أن نُؤمن أن فِكر الله مُتَّحد تماماً بفِكر الإنسان الذي يُدوِّن الوحي، ولكن يجب أن نُلاحظ أيضاً أن كلاهما لا يمتزج ولا يختلط، فيظل مَقصد الله مستُعلنا في الصِّياغة الإنسانيَّة بلا أن يصير مَقصِد الله هو ذَاته مُحتوى الحُروف الإنسانيَّة. نقرأ مثلاً في سِفر التَّكوين (30 : 37-39) أن يعقوب قد ظَن أن القُضبان التي قشَّرها ستجعل الغنم تلد غنماً مُخطَّطة ورقطاء، وعلى الرَّغم أن كاتب السِّفر يعتبر أن هذه الحيلة قد نجحت بالفعل إلا أنَّه ببساطة لا علاقة بين هذا وذاك، لقد إستخدم يعقوب خرافة سائدة في عصرهِ ولكن إستخدم الله هذه الخُرافة لكي يُعين يعقوب، هكذا الأمر أيضاً حينما طلبت راحيل من ليئة أن تُعطِها من الّلُفاح الذي وجده راؤبين ظنَّاً منها -بحسب ثقافة عصرها- أن للنبات قُدرة أن يُطيها نسلاً، وأيضاً إستخدم الله هذه الخُرافة ليتمجَّد في تاريخ شعب إسرائيل. أي أن الله لم يضَع أسُساً جَدِيدة للتَّعامُل مع الإنسان بل تعَامَل معه كطفلٍ، في حُدود ما يَعرف ومَا يفهم وما يعِي. من هُنا ينبغِي أن نَفهَم أن دخُولنا لمعرِفَةِ الله لن يتَوقَّف عِند زَمَن أو أشخَاص أو ثَقافة أو لُغة، بل سَيظَل الإنسَان يختَبِر ويتعمَّق مَا دَامَت الإنسَانيَّة تتنفَّس بالحيَاةِ. لقد إحتضن الله اللإنسان بجهلِهِ وخُرافاتِهِ ونواقصِهِ وتقبَّله على ما هو عَليه، قدَّم له المَحبَّة وعَلَّمه الحَياةَ، أي أنَّه لم يرفُض تلك النَّواقص الفكريَّة التي شكَّلت شَخصِيَّة الإنسَان -و كانت كثوابِت عنده- بل تركها لتذوب تدريجيَّاً بالمعرفة الحقَّة، لأنها كُلّمها تعرف الإنسان على الله بشكل أعمق كُلّما رفض تلك الخُرافات بشكل تلقائي، الأمر يُشبه كثيراً فِطام الأطفال، تدريجياً تدريجياً حينما يبدأ الطَّفل الإعتياد على الطَّعام القويّ يقل إحتياجه للَّبن. قبل أن أدخُل إلى الأمثلة التي سأتناولها يجب أن أضع نُقطة فاصِلة لما سَبق وما سَيأتي، ينبَغِي أن نُراعِي وبشدَّة التَّدريج في إستعلان الله للإنسان. فالإستعلان النِّهائي والأكثر جلاءاً والأتم إكتمالاً بل والمدخل الوحيد لمعرفة الله هو تجسُّد الكلمة، لا أعني هُنا أن العهد القديم لم يُقدِّم إستعلاناً حقيقيَّاً، بل أقول أن الإستِعلان قد تقدَّم وصَار أكثَر جَلاءاً بتطوُّر فِكر الإنسان، كما أوضحت سابقاً أن الله لا يعمل ولا يستعلن نفسه بمعزل عن الإنسان، بل أن هذه العلاقة سارت على مِحورين مُتَوازِيين، من الله للإنسَان ومن الإنسَان لله. لذا فمن الخطورة أن نتعامل مع إستعلان ما قبل التَّجسّد بحسب ظواهر النُّصوص بل يجب أن نفهم النُّصوص بحسب بيئتهم ولُغتهم وتفكيرهم وكذا الأمر أيضاً فيما يتعلَّق بنصُوص العهد الجَديد، أمَّا التَّجسُّد في حَد ذاتِه لا يعني مُجرَّد مَا تم تَدوينه عَن يَسُوع، بل شَخص يسُوع نَفسه، تلك العلاقة الشَّخصيَّة التي أسَّسَها يسُوع حينما صَعَد وصَيَّرنا جَسدَهُ وهَياكِل لرُوحِهِ وأبنَاءَاً للآب. وحينما أقول أن الإستعلان قد تدرَّج لا يعني إطلاقاً التَّقليل من مُحتوى الإستعلان في العهد القديم بل يجب أن نضع في حُسباننا أن معرفة الإنسان تراكُميَّة في يجب أن نُحمِّل النُّصوص أكثر مما تَحمِل.
إخترت المِثال الثَّاني ليكون الله سِفر أيُّوب، سَاُقدِّم تَحلِيلاً سَريعاً للنَّظرة العبرانيَّة في هذا العصر لعلاقة الإنسان بالله. بغضّ النَّظر عن شخصيَّة كاتِب السِّفر يُمكن أن نُلاحِظ عدَّة سمات في المحتوى، فالسفر يُعتبر من أوَّل الأسفار التي تضمَّنت -و لو بمُجرَّد التَّلميح- الإيمان بالأبديَّة [فاديَّ حَيّ، وسَيقُوم (سَيحكُم) الأخِير عَلى التُّرَابِ. وبعدَ أن يَكون جِلدِي قَد تَمزَّق أُعَاين الله في جَسَدِي، أُعَاينَهُ أنا بنَفسِي وعَينَاي تَريَانَه لا غَيرِي (أي 19 25-27)]، ممَّا يُشير وبقوَّة أن السِّفر قد كُتِبَ بَعدمَا تقدَّم الفِكر الأخرَويّ. في حين يغيب هذا الفكر عن كتابات داود وسُليمان ومن سبقوهم، لذا نجِدُ سُليمان يقول [قُلتُ في قلْبي: «في شأنِ بَني البَشَر: فلِيَمتَحِنَهمُ الله ويَرَوا أَنَّهم بَهائِم. لأَنَّ مَصيرَ بَني البَشَرِ هو مَصيرُ البَهيمة ولَهما مَصيرٌ واحِد، كما تَموتُ هي يَموت هو ولكِليهِما نَفَسٌ واحِد. فلَيسَ الإِنسانُ أَفضَلَ مِنَ البَهيمَة لأَنَّ كُلَّ شيَءً باطِل. كُلُّ شَيءٍ يَذهَبُ إِلى مَكانٍ واحِد كانَ كُلُ شيَءٍ مِنَ التُراب كلّ شيَءٍ إلى التُّرابِ يَعود. مَن يَدْري هل نَفَسُ بَني البَشَرِ يَصعَدُ إِلى العَلاء ونَفَسُ البَهيمَةِ يَنزِلُ إِلى الأَسفَل إلى الأَرْض ؟، فرَأَيتُ أَنَّهُ لا شيءَ خَيرٌ مِن أَن يَفرَحَ الإنْسانُ بِأَعْمالِه ذلِكَ نَصيبُه، لأَنّه مَنِ الَّذي يَذهَبُ بِه لِيَرى ما سَيَكونُ بَعدَه» ؟ (جا 3 : 17-22)].
يبدأ السِّفر بتقديم الله كملك جالسٌ على عرشِهِ وأمامه وزراءه، منهم مَن هو بَار (الملائكة) ومَن هو مِن بني الشَّر (الشَّيطان). تتشابَه شَخصِيّتا الله والشيَّطان بشَخصِيَّتيّ أحشويرُش وهَامان وزيره في سِفرِ أستير، يشتكي هذا الشِّرير على أيُّوب الرَّجُل البار أمام الله كما إشتكى هامان على شعب الله أمام أحشويرُش وأمام تحديه يقبل الله أن يسمَح بمُعاناة أيُّوب لكيّ يُثبت أن أيُّوب رجُلاً باراً لا من أجل النِّعمة المُعطاة له يتَّقي الرَّب. يجِب أن نُدقِّق النَّظر في هذه الآيات [و قالَ (الشَّيطان) لِلرَّبّ : «أَمَجَّانًا يَتَّقي أَيُّوبُ الله ؟ أَلَم تَكُنْ سيَجتَ حَولَه وحَولَ بَيته وحَولَ كُلِّ شَيءٍ لَه مِن كُلِّ جِهَة، وقد بارَكتَ أَعْمَالَ يَدَيه، فإنتَشَرَت ماشِيَتُه في الأَرْض. ولكِنِ إبسُطْ يَدَكَ وامسَسْ كُلَّ ما لَه فتَرى أَلا يُجَدِّفُ عَلَيكَ في وَجهِكَ». فقالَ الرَّبُّ لِلشَّيطان: «ها إِنَّ كُلَّ شيَءٍ لَه في يَدِكَ، ولكِن إِلَيه لا تَمدُدْ يَدَك» (أي 1 : 9-12)]، نجد هُنا أن الله قد قبل تحدِّي الشَّيطان ولم يقبَل أن يمِد هو (أي الله) يدَهُ على أيُّوب بل قال للشَّيطان أن كُلّ شئ في يده إشَارة لسماح الله بالضيق وتأكيداً على كونِهِ غيرَ مُسبِّبٍ له. بالطَّبع لا يُمكن أن يكون هذا الحِوار قد حدَث بالصُّورة التي عُرض بها في النَّص، ولا يُمكن إستقاء أي مُحتوى إيمَانِي عن شَخص الله مِن ظَاهِر هذه الكلمات، بل يجب أن نضَع أعيُننا نُصب الهدف الذي لأجلهِ قيلت هذه الكلمات وهو أن الله لا يحسِد أي كائن على وجوده. إن الإيمان المسيحي بالتجسُّد في عُمقهِ يفرض علينا أن نفَهم كلمات الكتاب التي تُسقط فيها تعبيرات إنسانيّة على الله على أنّها تأنّس إلهي لكّي يؤلّه أفكارنا تجاهه، فإن كان قد تأنّس ليرفعنا إليه لا يجب أن نؤمن به في حقيقته بحسب ما نراه في ظاهِر إتضاعهِ بل أن نرتقى بأفكارنا لما هو فوق هذه الإسقاطات لنعرف الله كما هو في كماله لا كما نحن في نواقِصنا. الله يعلم ما هو في قلب أيُّوب، ولا يحتاج أن يضرب يُسلِّم أيُّوب للمرض ولفُقدان البنين والفَقرِ كيما يتأكَّد من محبَّته له، الله لا يغضب على الإنسان بشكاية الشيطان (أي 2 : 3)، يجب أن ندخُل إلى عُمق النَّص لا ظاهره. حينما سُئل يسوع عن هلاك الذي سَقَط عليهُم برج سِلوام وهؤلاء الذين قتلهم هيرودُس كانت إجابته [أَتظُنُّونَ هؤلاءِ الجَليليِّينَ أَكبَرَ خَطيَئةً مِن سائِرِ الجَليليِّينَ حتّى أُصيبوا بِذلك ؟ أَقولُ لَكم : لا، ولكِن إِن لم تَتوبوا، تَهلِكوا بِأَجمَعِكُم مِثلَهم. وأُولئِكَ الثَّمانِيَةَ عَشَرَ الَّذينَ سَقَطَ عَليهِمِ البُرجُ في سِلْوامَ وقَتَلَهم، أَتَظُنُّونَهم أَكبرَ ذَنْباً مِن سائِرِ أَهلِ أُورَشَليم ؟ أَقولُ لكم: لا ولكِن إِن لم تَتوبوا تَهِلكوا بِأَجمَعِكُم كذلِكَ (لوقا 13 : 2-4)] لقد أعلن لهُم أن الله لا يُبيد الخُطاة ولا ينتقم منهُم، بل الهلاك الأبدي هو الإبتعاد عن الله حيث الظُلمة الإختياريَّة والإنعزال عن الرَّاحة الأبديَّة لا عقاباً بل إحتراماً لحُريَّة الإنسان. هكذا أيضاً ذلك الأعمى الذي سألوا يسوع عنه [رابِّي، مَن خَطِىءَ، أَهذا أَم والِداه، حَتَّى وُلِدَ أعْمى ؟ (يو 9 : 2)]، لقد كانوا يظُنُون أن كُل مرض هو ضربة عقاب من الله، لم يكونوا قد عرفوا عُمق المحبَّة -المُستعلن في التجسُّد- بعد، فأجابهم يسوع كيما يُقوِّم أفكارهُم [لا هذا خَطِئَ ولا والِداه، ولكِن كانَ ذلك لِتَظهَرَ فيه أَعمالُ الله (يو 9 : 3)].
سَيكون المثال الأخير عن القاضي الدَّيَّان، صورة أُخرى نراها كثيرة الورود في الكِتاب المُقدَّس وتُثير الكثير من الأسئلة. تُشكِّل دينونة الله للإنسان محكَّاً رئيسيَّاً في تعامُلاتنا مع الله، كيف سيُدين وعلى أيَّة أساس ؟، ما هو مُراد الله من حياة الإنسان ؟. جميعها أسئلة تحتاج إجابة، ولن يُمكن الإجابة عليها الآن إلا إن حلَّلنا علاقة الإنسان بالله في زمانِنا الحالي، فإن أعدنا تقديم الله للإنسان المُعاصِر بحسب فِكر إنسان عاش من 3000 سنةٍ نكون دُعاةً للإلحاد أكثَر من هؤلاء الذين يُجاهرون بالإلحاد علناً !. من مُنطلق إيماننا بأن الله قد إتَّحد بالإنسان وأنَّه قد دخل الزَّمن والتَّاريخ ينبغي أن نُؤمن أن إقتراب الإنسان من فكر الله ما يزال يتصاعَد، لم يتوقَف الله عن إستِعلان نفسهِ للإنسان ولم تَنتهي معرفة الله ولم تُحصَر في فترةٍ أو حُقبةٍ أو عصرٍ بعينهِ، بل كُلّما تنامى الإدراك الإنساني تنامي إختبار الله وإستِعلانه، وعليه ينبَغي أن نتطلَّع لتقديمِ إيماننا بصورةٍ مُعاصرةٍ لا تقفُ كحجرِ عثرةٍ أمامَ عقول هؤلاء الذين يبتغون شِبعاً عقلياً وإيماناً يحُرِّر. مع بدايةِ القَرن التَّاسِع عشر وتخلُّص الشُّعوب من سيطرة حُكَّامِها من خلال الثَّورات، وبداية تحرُّر الإنسان -بشكلٍ عام- من العَجز أمام الطَّبيعة، كثُر الحديث عن حُريَّة الإنسان، فصارت الحُريَّة مِحور حديث الفلاسِفَة والسِّياسيين ودَخَل هذا الجدَل إلى السَّاحة اللاهوتيَّة بعد سنين تسَّلَّطت فيها الكنيسة الكاثوليكيَّة على الشَّعوب بسُلطان الكهنوت، وبظهور الفِكر البرتوستانتي وبدء الإنشقاقات التي تلاها تَصَاعُد مَدارِس الإلحاد أيضاً بدأت الكنيسة الكاثوليكيَّة -و من بعدها بعض الكنائِس البرتوستانتية- تُعيد صِياغة لاهوتها بحيث تُقدِّم للإنسان إيماناً مُعاصراً لا يتناقض مع التَّقدُّم وإرتقاء الفكر الإنساني والحركة التِّكنولوﭼيَّة، وظَل الشَّرق الأرثذوكسي أسِيراً للمَاضِي وكأن شيئاً لم يكُن.
يُشكِّل مَفهومنا لقضَاء الله ودَينونته ضَرورة لا غِنى عَنها في هذه الأيام، لن أقُول أن هذه الضَّرورة تتمثَّل في مَعرفتِنا نحنُ لله، بل معرفة العالم بأسرهِ لله. فإن كان العَالم الإنسانيّ يسعَى نحو حُريَّة الإنسان، فليس جَديراً بكرازة الكنيسة أن تُقدِّم الله كمُسيطِر يسحق حُريَّة الإنسان ويضعه في مَوازين تنتهي بهنَاءٍ أبدي أو حَرِيقُ النَّار. الإلحَادُ هو رَدُ فعلٍ طَبيعيّ حينما يرى الإنسان أنه أكثر صَلاحاً وتحقيقاً للحُريَّة من ذلك الإله الذي يسكُن في السَّماء، حينما يُعطِي القَانون حُريَّة للإنسان وينزعها منهُ الدِّين، واللّوم لا يعود إلَّا على من قدَّم الله للعالم بهذه الطَّريقة. يقول الشَّاعر الألماني Hölderlin أن الله قد خلق الإنسان بالإنسحاب، أي أن الإنسان قد أُعطي مساحة حُريَّة لا تتوفَّر إلّا بتخلّي الله عن جُزء من حُريَّته !. بمعنى آخر، إن تعارضت مشيئة الله في حياة إنسان مع مشيئة ذلك الإنسان نفسه فستكون مشيئة الإنسان لأن الله سيتخلى عن مشيئته لأجل حُريَّة الإنسان. الله محبَّة ولا المحبَّة لا تُجبِر، كيف يكون الله محبَّة إن فهمنا وصاياه على أنها خيار ما بين السعادة والألم ؟، كيف نقبل أن يكون حوار الله معنا بهذه المرارة “إما أن تُطيعني وإلا حكمتُ عليك بأن تُحرق وتتألَّم في الجحيم” !، لا يمكِن أن تترسخ فكره كهذه إلا في عقل إنسان ساديّ. من الطَّبيعي أن يرفَض الإيمان إن كانت صورة الله بهذه البشاعة، لأنه إن كان الله مَحبَّة فلا يُمكن أن تكون مَعرفتهُ إجبَاراً، هل يُمكن أن يدعُ أبٌ إبنَهُ فيقول له أحبِّبني وإلا حَرَقتُك !. دينونة الله هي أن يُعطي الإنسان ما يُريده، من أراد أن يحيا مع الله فله حياة أبديَّة في شركة الله ومن لا يُريد أن يحيا مع الله فله حياة أبديَّة خارج شركة الله، ليس الأمر هناءاً وجحيماً. لأن أُناقش معنى ملكوت الله والجحيم لأنها تندرج ضمن التَّشبيهات (metaphors) والتي سيُفرَد لها الجُزء الثَّاني من المقال بل ما ينبغي أن أتوقَّف عنده هو الله كقاضٍ.
لن يُجبر الله إنساناً على أن يحيا معه أو أن يحيا بدونه، دينونة الله على الشَّر هي أنه إستعلَن الخير كما يُبدِّد النور الظُّلمة، ودينونته للإنسان هي أن يُعطيه ما يُريده. لن يحكُم الله على إنسان يُريد أن يحيا معه بأن يُحرَمَ مِنهُ، ولن يُجبِر إنساناً لا يُريده أن يحيا معه. الأمر يبتعد كُل البُعد عن الألم، لأن المَحبَّة ليسَت الوجَه الآخَر للإجبار، المَحبَّة هي أن يَحترِمَ الله إرادَة الإنسان لأنه يُحبَّه، كما فعل ذلك الأب مع الإبن الذي طلب منه ميراثه ليتركه ويسكُن بعيداً، أعطاه ميراثه ودعاه يمضي مُحتملاً ألم الترك والإبتعاد عن إبنه المحبوب، وحينما عاد ذلك الإبن طريداً فقِيراً لم يمنَعَهُ الأب قائلاً له العدل يقضِي بأن تظل خَارجَاً لأنك بدَّدت ميراثك، بل قبله وإحتَضَنَه وألبسه خاتِمَاً وذبَح له العجل المُسمَّن، هذه هي عدالة الله أن يحيا الإنسان لا أن يموت الإنسان. لقد إفتقر الله لحُريَّته إراديَّاً كيما يسمح للإنسان أن يُمارس حُريَّته حتَّى وإن تعارضت مع إرادة الله، وإن جاز القول أقول أن الله هو ديَّان وفي نفس الوقت فقير !. أختّتم هذا المقال الأول بجُزء كُنت قد كتبته سابقاً في مقال بعنوان تأمُّلات في الفقر الإلهيّ [هل تأمَّلت يوماً في هذا التعارض الغريب ما بين كَلمات المسيح في بشارة القدِّيس متَّى وبين الصَّلاة الربَّانيَّة !، أُنظر كيف يقول الرَّب يسوع أن الله «يُطلِعُ شَمْسَه على الأَشرارِ والأَخيار، ويُنزِلُ المَطَرَ على الأَبرارِ والفُجَّار (متَّى 5 : 45) » بلا تفريق ولا مُقابل، بينما نصرخ في الصّلاة الرّبّانيَّة «أَعْفِنا مِن خَطايانا فإِنَّنا نُعْفي نَحنُ أَيضاً كُلَّ مَن لنا عليه»، كيف نطلب من الله أن يُعاملنا كما نُعامل النَّاس وهو الذي يعطي بلا مُقابل ويُشفق بلا ثمن ؟!، من منَّا يستطيع أن يغفر بالكامل كي يتجاسر أن يطلُب من الله أن يغفر له ؟!. هذه الطِّلبة التي علّمها الرَّب يسوع للكنيسة هي أيضاً إفتقاراً إراديّاً منه، لا يُقصد من كلمات الصَّلاة أن نطلُب غفراناً كإستحقاقٍ لنا لأنّنا قد غفرنا ما للآخرين، بل نطلُب من الله أن يغفر لنا كما غفر يسوع الذي هو منَّا -الإنسان الحقيقي- للعشَّار والزَّانية ولصالبيه. صار يسوع واحداً منَّا بالإفتقار المُقدَّس، فصار لنا بإفتقاره أن نطلب بإسمه، أن نطلب غُفرانا لأننا -في يسوع- قد غفرنا للمُسيئين إلينا، أكمل يسوع إفتقاره حينما صار دالة لنا عند الله أبيه، وبدالته صرنا ندعو الله أبانا، ولولا إفتقاره لما إستطعنا أن ننطقها]. الله ليس مُهلكاً البتَّه، بل الله وإذ إفتقر إرادياً وجُرِّب في كُل شئ مثلنا فهو يرثي لضعفنا، يرثي أن يتألَّم ويحزن، لا يغضب ويُهلك. علينا أن نترك هذه الإسقَاطَات جَانِبَاً لندخُل في عُمق علاقة المحبَّة مع ذلك الإله الحَنُون، لنضع أنفسنا موضع تلك الخَاطئة التي إجتَمَع عَليها الجَمع ليَرجِمُوهَا وأما يسوع فبرَّرها، كان بإستطاعته أن يحكم عليها بعدل البَشَر فيرجِمَها ولكنه حَكم عليها بعدل الله، عدل الله أن يحيا الإنسان حُرَّاً، عدل الله أن يختار الإنسان محبّته أو يرفضها، عدل الله هو أن يضع نفسه كعَرِيس لأنفسنَا لنا أن نرفضه أو أن نقبله، إن قبلناه يدخل ويسكُن قلوبنا وإن رفضناه فسيظل واقفاً على الباب يقرع لن يكِل ولن يتعب. الله حُريَّة، الله يُخلِّص ولا يهُلك وليس فيه إجبار ولا خوف ولا عِقاب، الحُبّ هو الله.
يُتَّبع في المَقال الثَّاني إن شاء الرَّب وعِشت …
[1] [من مُنطلق معرفة الصِّفات الإيجابيَّة للكيان العلوي (الإله) من خلال صفات الكون يُمكن أن نخرُج بإنعكاس لنفس مُتناقضات الكون على صورة الكيان العلوي، فمثلاً؛ يُمكن أن يُرى الكون مليئاً بالكوارث الطَّبيعيَّة كالزَّلازل والبراكين فتنعكس الصُّورة على الكيان العلوي ككيان غاضِب ثَائر، والعكس بالنِّسبة لشخص يسكُن قرية ريفيَّة هادئة، هكذا يُمكن أن يُكوِّن كُل عقل صورة وإنطباع خاص به تجاه هذا الكيان العلوي. لا شك أن هذا هو السَّبب الحقيقي في ظُهور عِدَّة مُعتقدات وعِدَّة آلهة في العالم القديم (و الحديث)، ليس فقط آلهة مُتعدِّدَة بل ومُتصارعة أيضاً، كُل هذا يُمكن رد سببه لتناقُضات الكون نفسه، والتي عجز عَقل الإنسان عن تكوين صُورة مُستقيمة عن الكيان العلوي في وجودها (أي في وجود التناقُضات الكونيَّة). وكوَّن الإنسان مُعتقده ليحكُم تفسير الأمور المُستعصية على العقل، وبشكل أوضح ليُنظِّم العلاقة بين الإنسان وما بين الكيان (أو “الكيانات” كما في الديانات التعدُّديَّة) العلوي المَجهول عقليَّاً، وتمحورت كُل المُعتقدات -ما عدا مُعتقد واحد- على إتجاهين، وكلاهُما موجود (بشكل نسبي) في كُل المُعتقدات، الإتجاهان هُما الإتِّقاء والتَّقرُّب. الإتقاء هو عبادة كائن مُعيَّن (إنسان – حيوان – ظاهرة كونيَّة) لتجنُّب شرُّه وغضبُه، أمَّا التَّقرُّب فهو تقديم العبادة لنوال نعمة أو بركة مُعيَّنة.]
من مقالٍ سابِق بعنوان “أشرق بنور وجهك عليَنا”.
http://divine-arrangement.blogspot.com/2012/07/blog-post_25.html
[2] من ضمن معاني الكلمتين “الشَّر” و“البلاء”.
[3] سِلسِلَةُ الله كَمَا أعْرِفَهُ (المَقال الثَّالِث) نُقطَةُ اللا خَير وَ اللا شَرّ، تَفْسِير الإهْلاكَات في العَهْد القَدِيم.
http://divine-arrangement.blogspot.com/2012/08/3.html