كلسس – يسوع التاريخي في المصادر القديمة
كلسس – يسوع التاريخي في المصادر القديمة
الجزء الخامس – كلسس
كلسس: المسيح الساحر
في وقتٍ ما حوالي عام 175 للميلاد، وبعد فترةٍ قصيرة من كتاب “لوقيان” “بيريغرينوس” كتب “كلسس” وهو مفكّر من أتباع الأفلاطونية المحدثة، هجوماً على المسيحيّة تحت عنوان “العقيدة الحقّة- True Doctrine”، وهذا العمل هو أقدم هجوم شامل معروف على المسيحيين. فقد تبنّى “كلسس” هجوماً شاملاً: ضدّ الأصل اليهوديّ للمسيحيّة، وقادتها الأوائل، وتعاليمها وممارستها.
مع أنّ كتاب العقيدة الحقّة فّقِد إلاً أن جزءاً كبيراً منه، يُقدّر من 60 إلى 90% موجود ضمن ردّ “أورجين” الشديد والمطوّل، على “كلسس”، الذي كتب حوالي 250 للميلاد. وبالنظر إلى الفاصل الزمني الطويل بين عمل “كلسس” وردّ “أورجين”، أي حوالي 70 عاماً، نجد أنّ كتاب العقيدة الحقّة تمتّع بأثر طويل. ولا يجب علينا التركيز على الصياغة والكلمات بشكلٍ كبير لأننا لا نملك كلمات “كلسس” الدقيقة، بل لدينا ما ينقله عنه خصمه الأدبيّ “أورجين”.
ومع أنّ “أورجين” ينقل معظم المقتطفات من “كلسس” بشكلٍ اقتباسات مباشرة إلاّ أنّ الحذر مطلوبٌ هنا. برغم ذلك، فإن معظم الباحثين يعتقدون أن “أورجين” نقل ملاحظات “كلسس” عن المسيحيّة بدرجةً كبيرةٍ من الدقّة.
يقدّم لنا كتاب “كلسس” منظوراً قّيماً عن المسيحيّة من قبل واحدٍ من أكثر مبغضيها المثقفين وضوحاً. كما أننا نحصل على معلومات عن ردود الفعل اليهوديّة تجاه المسيحيّة في القرن الثاني، وذلك لأن “كلسس” استفاد بشكلٍ كبير من الجدلية اليهوديّة المعاصرة ضد المسيحيين. وستكون هذه الجدلية ذات أهميّة عندما ندرس الروايات اليهودية الأولى عن يسوع في الفصل القادم.
يستهلً “كلسس” عمله بمقدًمة. أمّا الجزء الأساسيّ الأول من عمله، والذي أعيد سرده في الكتاب الأول من عمل “أورجين” المسمى “ضدّ كلسس”، فهو بحث في عدم أصالة العقيدة المسيحيّة. وهنا لا يظهر إلاً عدد قليل من الإشارات إلى يسوع التاريخيّ، والتي ستُكرر وتفصّل بشكلٍ أوسع لاحقاً، ( الجزء الأساسيّ الثاني- 1.28-1.79)، فهو يتضمن جدليّة ضدّ اليهود الذين أصبحوا مسيحيين، على لسان أحد اليهود.
يحتوي هذا الجزء الإشارة الأشمل ليسوع. بينما الجزء الثالث هو مقارنة بين المسيحيّة والفلسفة والدين الروماني اليوناني. والجزء الرابع هو نقد للعقيدة المسيحيّة وخاصةً النبواءات المسيحية، مع إشارةٍ بسيطة إلى يسوع. والجزء الخامس هو مقارنة غير إطرائية للمسيحية واليهودية، أما الجزء السادس فيمثّل هجوماً آخر على العقيدة المسيحية، مع إشارةٍ ضئيلة إلى يسوع. ويلي ذلك مناقشة للتعاليم المسيحيّة حول الله، ومن ثمّ جزء حول تعاليم إعادة البعث، وأخيراً هجوم على الحصريّة المسيحيّة.
ويشنّ “كلسس” هجوماً واسعاً ضدّ يسوع بوصفه موجد هذه العقيدة. ويقوم بانتقاص وذمّ نسب يسوع وحبل أمّه به وولادته وطفولته، ودعوته، وموته، وإعادة بعثه وتأثيره المستمرّ. وفقاً لـ”كلسس” فإن نسب يسوع يعود إلى قريةٍ يهوديّة (ضد كلسس-1.28)، وكانت أمّه امرأةً قرويّةً اكتسبت عيشها عن طريق غزل الملابس (1.28). وقام بمعجزاته عن طريق الشعوذة (1.28، 2.32، 2.49، 8.41). كان يبدو قبيحاً وصغيراً (6.75).
وقد أبقى يسوع على جميع التقاليد اليهودية، بما فيها التضحية في المعبد (2.6). وجمع حوله عشرة أتباعٍ فقط، وعلّمهم أسوأ عاداته، بما فيها التسوّل والسرقة (1.62، 2.44). كان هؤلاء الأتباع، العشرة من البحارة وجامعي الضرائب، الوحيدين الذين استطاع إقناعهم بإلوهيته، لكن الآن يقوم أتباعه بإقناع العديد من الناس (2.46). أتت أنباء إعادة بعثه من امرأة مخبولة، وكان التصديق بإعادة البعث نتيجة شعوذات يسوع، وتفكير أتباعه التوّاق، أو الهلوسات المنتشرة بينهم على نطاق واسع، كلّ ذلك كان من أجل إبهار الآخرين وزيادة احتمال أن يصبحوا متسوّلين (2.55).
تأتي إشارة “كلسس” الأشمل إلى يسوع في: (1.28)، حيث يلخّص “أورجين” هجوم “سيلسس” على يسوع، والكلمات التي يُرجّح أنها مقتبسة من “كلسس” وضعنا تحتها خطاً:
يقوم بتصوير اليهود يتحدّثون مع يسوع نفسه، ويواجهونه بعدّة تهم: أولاُ، أنه لفّق قصّة ولادته من عذراء. وقام “كلسس” بتعييره لأنه أتى من قريةٍ يهوديةٍ، ومن امرأةٍ ريفيّةٍ فقيرة كانت تكسب عيشها من الغزل. ويقول: إن زوجها، الذي كان يحترف النجارة، طردها عندما أُدينت بالزنا. ومن ثمّ يقول: إنه بعد أن طردها زوجها، وبينما كانت تجول بخزي، ولدت يسوع سراً. ثم يقول: إن “يسوع” عمل أجيراً في مصر لأنه كان فقيراً، وهناك تعلّم بعض الحيل السحريةً التي افتخر المصريون بامتلاكها. ومن ثمّ عاد مفتخراً بهذه القوى، وأعطى نفسه لقب إله. (ضد كلسس- 1.28).
وبعد ذلك يتوسّع “سيلسس” في تهمة عدم الشرعية، فيقول: على أية حال، دعنا نعد إلى الكلمات على لسان اليهوديّ التي وصفت والدة يسوع على أنها طُردت من قبل النجّار الذي كان مخطوباً لها، لأنها أدينت بالزنا، وكان لها طفلٌ من جنديّ يُدعى “بانتيرا”. (ضدّ كلسس- 1.32).
وأخيراً يقول “كلسس”:
هل كانت والدة يسوع جميلة؟ هل أقام الله علاقة معها لأنها كانت جميلة، على الرغم من أنه لا يستطيع أن يُحبّ جسداً فانياً بطبيعته؟ من غير المحتمل أن يكون الله قد وقع في حبها، حيث أنها لم تكن غنيّةً ولا من أصلٍ ملكيّ. بالفعل، لم تكن معروفةً حتّى لجيرانها. ويهزأ عندما يقول: عندما كرهها النجّار وطردها لم تستطع القوّة الإلهية ولا موهبة الأقناع بتخليصها. ويعلل ذلك بقوله: إنّ هذه الأشياء ليس لها علاقة بمملكة الله. (ضدّ سيلسس- 1.39).
تُعدّ هذه التهمة “بغير الشرعية” أقدم عبارات مؤرخّة من التهم اليهودية بأنّ ولادة يسوع كانت نتيجة زنا، وأنّ والده الحقيقيّ كان جندياً رومانياً يُدعى “بانتيرا”. كان اسم “بانتيرا” شائعاً بين الجنود الرومان في تلك الفترة، لكنّ معظم المحللين يعتقدون أنّ بعض اليهود استخدموا هذا الاسم بسبب تشابهه مع الأصل اليوناني لكلمة “عذراء”.
في هذه الحالة، سيعني هذا أنّ الأمر مجرّد ردّ فعل يهوديّ لعقيدة الحبل بلا دنس المسيحيّة، والتي لم تُصبح موضوعاً مسيحياً رئيسياً حتّى قرابة نهاية القرن الأول. كما نجد أن “سيلسس” يقدم يسوع الذي يعلن ولادته من عذراء وهو ما لم يظهر في الكتابات المسيحيّة بالتأكيد، لكنه أثبت في مناقشات يهوديّة لاحقة.
تتنوع المصادر التي استخدمها “كلسس” لأنه ثقف نفسه حول المسيحيّة إلى حدً كبير، وذلك من خلال الكتابات المسيحيّة، والتواصل الشخصيّ مع مسيحيين. فقد قرأ في إنجيل متّى كثيراً، وفي إنجيل لوقا وفي الرسالة الأولى إلى كورنثوس، كما كان مطلّعاً على كتبٍ مسيحيّةٍ أخرى. وقد علم برواية متّى عن موت يسوع وإعادة بعثه ببعض تفاصيلها.
وبيدو أنه قرأ كتابات بعض الاعتذاريين المسيحيين الأوائل غير المعروفين لنا الآن. كما عرف “سيلسس” عن المسيحيّة المارسونيّة[1] والطوائف الغنوصيّة، ولا نستطيع الجزم إن كانت معرفته هذه من خلال كتاباتهم أو من طرقٍ أخرى. يقدّم كتاب “كلسس” للجدلية اليهوديّة عن يسوع على أنها جدلية معاصرة. لكن “أورجين” يشكك بهذا، ويرى الباحثون أنها أداةً أدبيّةً وظّفها “سيلسس” ليعطي وحدةً لمعلومات متفرقة انتقاها من عدّة أدبيات يهوديّة.
إن قيمة تعليقات “كلسس” حول يسوع التاريخيّ محدّدة، لكن يجب أن لا تكون استنتاجاتنا نهائيّة لأننا لا نملك الكلمات الدقيقة من العقيدة الحقيقية، ولا يمكن التأكد من أنّ “أورجين” قدّم هذا الترتيب الدقيق لكتاب “سيلسس”. على أية حال، فإن هجوم “كلسس” على المسيحيّة كان هجوماً فلسفياً وليس تاريخياً. إن معلوماته الأكثر تفصيلاُ عن يسوع قد شُوهت بجدليّته الجادّة، التي يشكّل الهجاء جزءاً منها.
على أية حال، من الواضح أنّ “سيلسس” مصدر غنيّ للجدليّة اليهوديّة والوثنيّة ضدّ المسيحيّة، وبدرجةٍ أقلّ، ضدّ مسيحها. وبالفعل يتفرّد “كلسس” بين الكتّاب الوثنيين في نسب الاعتراضات اليهوديّة والرومانية اليونانية إلى المسيحيّة. ويُعدّ شاهده على العرف اليهوديّ قيماً جداً وسنتطرق له لاحقاً في الفصل الثالث. لكنّ تناوله للمسيح لا يحمل قيمةً كبيرةً في بحثنا عن يسوع التاريخيّ وذلك بسبب جدليته وتحيّزه.
لقراءة بقية السلسلة:
- ثالوس – يسوع التاريخي في المصادر القديمة
- بليني الاصغر – يسوع التاريخي في المصادر القديمة
- سوتونيوس – يسوع التاريخي في المصادر القديمة
- تاسيتوس – يسوع التاريخي في المصادر القديمة
- مارابارسيرابيون – يسوع التاريخي في المصادر القديمة
- لوقيان السميساطي – يسوع التاريخي في المصادر القديمة
[1] المارسونيّة (الماركونية): تعدها الكنيسة المسيحيّة من الهرطقات الكبرى التي واجهتها، والمارسونيون هم أتباع مارسيون القائل بالإلهين: إله اليهود القاسي، والإله الحقيقي المحتجب، ويرى أن المسيح اختفى فجأة ثم رجع. انتشرت هذه الدعوة في روما في القرن الثاني الميلادي.