فضيحة قيلَ أنّها هزّت الكنيسة الكاثوليكية وأظهرت حقيقتها “المظلمة” وأنّها كانَت من الأسباب الرئيسيّة لاستقالة البابا بنديكتوس
يرتفع (لا يتعدّى) عدد الضحايا المفترضين في حوادث اعتداء كهنة على قصّر إلى حوالى 1500 ضحيّة، وعدد الكهنة المُعتدين إلى حوالى 260 كاهنًا. فضيحة قيلَ أنّ هزّت الكنيسة الكاثوليكيّة وأظهرت حقيقتها “المظلمة”، كما قيل أنّها كانَت من الأسباب الرئيسيّة لاستقالة البابا بنديكتوس السادس عشر من مهامه الإداريّة والرعويّة في الفاتيكان.
ممّا لا شكّ فيه أن فضيحة كهذه لن تسبّب الفرح لجسم الكنيسة ولا لرعاتِها، كونَ أفعالِ الاعتداء الجنسيّ على القصّر هي إثمٌ كبير وفي الوقت عينه جريمة عُظمى.
من البديهيّ أن يدينَ كلَّ عاقلٍ هذه الأعمال وأن يطالبَ بإجراءات تجعلُ المُعتدين يتحمّلون تبعاتِ اعتداءاتهم، إجراءات تعوّض على الضحايا وتعالج نتائج الاعتداءات جسديًّا ونفسيًّا واجتماعيًّا.
ولذك، قبل أن نشرع في عرض رأينا حول الحملة الإعلاميّة المشهّرة بالكنيسة، نُعلنُ بوضوح كامِل ومن دون أدنى تحفّظ أن لا نيّة لدينا، لا باطنًا ولا ظاهرًا، في التخفيف من فداحة الأمر، ولا في الدفاعِ عن المُعتدين ولا تبريرهم، تاركينَ للقضاء النزيه، إذا وُجد، أن يقوم بواجبه ويتّخذ التدابير المناسبة على المستويين المدنيّ والكنسيّ على السواء.
نيّتُنا تُختصر في رغبتنا في إظهار المحاباة في الوجوه الّتي تمارسها الحكومات ووسائل الاعلام، والتشهير المبرمج والممنهج والمقصود بحقّ الكنيسة عن سابق تصوّر وتصميم، واعتماد القياسين والمكيالين في الحكم على الأحداث.
إحصائيّات ونسب:
عندَما نقرأ وسائل الإعلام اللادينيّة أو العلمانيّة أو الحكوميّة، أو نشاهدَ التحقيقات، ونستمع إلى الأحكام الّتي تُطلقُ بحقّ الكنيسة، نكادُ نصدّق أنّ الكنيسةَ فاسدة ومهترئة وأنَّ لا مكانَ، بعدُ، فيها للخير والصلاح.
وعندما نسمعُ بفضيحة ما تطالُ كاهِنًا ما، نميلُ، بالطَبعِ، إلى تعميمها على جميعِ المكَرّسين، وعلى الكنيسة الكاثوليكية بأسرها، حتّى إنّ البعضَ طالبَ بتحميل قداسة البابا شخصيًّا مسؤوليّة كلّ ارتكابٍ جرميّ قامَ به كاهنٌ كاثوليكيّ في أيّ بقعةٍ من العالم.
ومن الطبيعيّ، أن ينجرَّ المسيحيُّ المحرومُ من أيّ ثقافةٍ كنسيّة صلبة إلى تبنّي هذه الأحكامَ الشائعة والمنتشرة في كلّ وسائل الإعلام، وإضمار الكُرهِ لكنيسته صانعة القدّيسين… ومن البديهيّ أن يقودَ هذا الكرهُ إلى نوعٍ من البرودة في الإيمانِ وإلى رفضيّة تطالُ كلّ شيءٍ يصدُرُ من جانبِ الكنيسة.
ألحمدُ للهِ، أنَّهُ أعطى بقيّة متبقّيةَ نعمةَ البصيرة لكي تبقى ثابتة في إيمانِها، مُحبّة لكنيستها ومخلصةً لها، من دونِ أدنى مساومة على الشرّ، ولو كانَ صادرًا عن أبناء الكنيسة ذاتِها.
من خلال بعض الإحصائيّات وبعضِ الأرقامِ المتاحةِ للجميع، سنحاوِلُ أن نظهِرَ، بالرغمِ من بعضِ البقع السوداء، بهاءَ الكنيسة وقداستَها، في عالمٍ يتربّص بها وينتظرُ أدنى مناسبة لافتراسِها!
ذكرنا أعلاهُ أن عدد الضحايا المفترضين عالميًّا هو 1500 ونحنُ سنضاعفُه (3000) مفترضينَ أنّ بعض الضحايا لم يجرؤوا على البوح باختباراتهم الأليمة.
وقلنا أنّ عدد الكهنة المعتدين المفترضين هو 260 تقريبًا، فلنقل (500) للسبب نفسه.
قد تبدو الأرقامُ كبيرة. ولكن لا بدّ أن نعلم أنّ هذه الأرقام ليست إحصائيّات سنةٍ واحدة ولا دولةٍ واحدة، بل هي حصيلة كلّ الاعتداءات الّتي حصلت خلال حقبة تمتدُّ لأكثر من 60 عامًا على اتّساع الوجود الكاثوليكيّ في العالم. فلو كانَ الكاثوليك منتشرين في 120 دولة لكانت نسبة الضحايا السنويّة في الدولة الواحدة هي0،41 أي أقلّ من ضحيّة واحدة كلّ سنتين.
وإذا افترضنا أن مجموع عدد المكرّسين الكاثوليك الّذين مارسوا مهامّهم خلال فترة الستّينَ عامًا هو مليون مكرّس، لكانت نسبة الكهنة المعتدين على العدد الإجماليّ1 من 2000 أي 0،005 بالمئة!
وإذا افترضنا أنّ نسبة القصّر بين الكاثوليك هي 25 في المئة، أي ربع مجمعل عدد الكاثوليك، أي حوالى 400 مليونًا لكانت نسبة الضحايا على يد الكهنة هي 0،00375 بالمئة. علمًا أنّ عدد القصّر خلال فترة الستّين سنة يوازي عدد الكاثوليك الحاليّين أي مليار وخمسمئة مليون ما يجعل النسبة تنخفض إلى0،001 بالمئة أي واحد من مليون.
إنَّ فداحة الاعتداءات لا تُقاسُ بالأعداد، وهذا لا يغيّر شيئًا في حُكمِ الكنيسة الكاثوليكية على المُعتدين. ولكنّ غايتنا هنا ليست الدفاعَ عن الكنيسة، بل إظهار خبثُ وسائل الإعلام وتواطئها ومرائيّتها المفرطة.
الحكم بمقياسين:
هلْ سبقَ أن سَمعتُم بضحايا الاعتداءات الجنسيّة في فرنسا؟
سنقدّم النموذج الفرنسي عل سبيل المثال لا الحرص لنُضيءَ على مرائيّة وسائل الإعلام الّتي تضخّم كلّ هفوة تصدر عن كاثوليكيّ وتغضّ الطرف عن آلاف الجرائم الّتي تحصل تحت نظر الحكومات وأعين المسؤولين المدنيّين والإعلاميّين!
الإحصاتُ الّتي تخصّ الاعتداءات الجنسيّة عند الكهنة الكاثوليك تشمل فترة تمتدّ إلى ستيّن سنة تقريبًا،
أمّا ما سنكشفُه من إحصائيّات تخصّ الاعتداءات الجنسيّة في فرنسا فهو يشمل فقط تلك الّتي حصلت خلال عام واحد هو العام 2014.
ماذا تقول هذه الإحصائيّات؟
عدد حالات الإجهاض السنويّة في فرنسا 200000 أي هو 548 يوميًّا، أي حالة إجهاض واحدة كلّ ثلاث دقائق.
عدد حالات الاغتصاب الجنسيّ المعلنة للعام 2014 هو 12768 حالة، أي 35 حالة يوميًّا أي حالة واحدة كلّ 40 دقيقة
عدد حالات الإعتداءات الجنسيّة عامّة المعلنة للعام 2014 هو 26783 حالة، أي 73 حالة يوميًّا، أي حالة واحدة كلّ عشرين دقيقة.
عدد الإعتداءات الجنسيّة في فرنسا على قُصّر للعام 2014 هو 5922 حالة، أي 16 حالة يوميًّا، أي حالة واحدة كلّ 90 دقيقة.
أكرّر السؤال، هل سمعَ أحدُكم بفضائح البيدوفيليا في فرنسا؟
هل لا حظتُم حملةً إعلاميّة مسعورة تشهّرُ بالدولة الفرنسيّة وتطالب بتحميل رئيس الجمهوريّة مسؤوليّة الاعتداءات؟ هل سمعتُم أحدًا يتضامَنُ مع هؤلاء الضحايا؟
هل قارنتم الأعداد؟
إنّ عدد الاعتداءات الجنسيّة على قُصّر في فرنسا خلال سنة واحدة يوازي ثلاثة أضعافُ عددها في إطار الكنيسة الكاثوليكية وسع العالم على مدى ستّين سنة.
هل قارنتم النسب؟
إذا افترضنا عدد الاعتداءات السنويّ على قصّر في فرنسا 4000 فقط، وأسقطناهُ على فترة الستّين عامًا لحصلنا على 240000 حالة اعتداء تمّت في المجتمع الفرنسيّ العلمانيّ،
أي 80 ضعفًا للاعتداءات الّتي تمّت في الكنيسة الكاثوليكية.
نعم إنّ عدد الاعتداءات البيدوفيليّة في فرنسا وحدها خلال ستّين عامًا، رغم تضخيمنا لعددها في الكنيسة وتلطيفنا لعددها في فرنسا، يوازي 80 مرّة عددها في كلّ الكنيسة الكاثوليكية.
ومع ذلكَ نسمعُ أصواتَ الفرنسيّين الشتّامينَ، يُطالبونَ بمحاسبة الكهنة والأساقفة والبابا متجاهلين حجم الجرائم الّتي تحصل في بلدهم، بل مُتعامينَ عنها.
وهنا نتساءَل أينَ اختفى حسّ التضامنِ مع الضحايا وأين اختفت الغيرة على تحقيق العدالة وإنزال العقابِ بالمُعتدين؟
من الواضح أنّ ضحايا البيدوفيليا في الكنيسة هو “شحمة على فطيرة” لأعداء الكنيسة الكاثوليكية ومبغضيها، وما التضامنُ معهم سوى مانشيت إعلاميّة فارغة، لا غايةَ لها إلّا التشهير بالكنيسة.
ولو كانَت الغايَة من الحملات الإعلاميّة، التضامنَ مع الضحايا، وإحقاق الحقّ وردع المعتدين، لماذا لا نرى إذًا حملاتٍ إعلاميّة تكشفُ فسادَ المجتمع الفرنسيّ وتُشهِّرُ بِهِ، لماذا لا يُطالبُ أحدٌ بمحاكمة الجمهوريّة، وهي المسؤولة الأولى عن كلّ ما يجري على الأراضي الفرنسيّة؟
ليسَ هناكَ أدنى شكّ: إنّ ضخامة الحملةِ الإعلاميّة غير مرتبطة بحجم الاعتداءات بل بحجم بُغض العالم للكنيسة. يعطونَ الكنيسةَ دروسًا في كيفيّة ممارستها للغفران، وهم يتربّصون بها شرًّا ويشتمونها ويدينونها ويحاربونَها كلّ يومٍ وعلى كلّ صعيد.
ثمّة وسائل إعلام تتحدّث عن عشرات آلاف الضحايا على يد كهنة كاثوليك، ولكن ما هو العدد المُثبت؟ من هم هؤلاء الضحايا؟
هل كلُّ من ربّت الكاهنُ على كتفه صار ضحيّة بيدوفيليا؟ هل كلّ طفلٌ لمسهُ كاهنٌ لمباركتهِ صار ضحيّة بيدوفيليا؟
قد يقول البعض إنّ أعداد الكهنة المعتدين هو أكثر بكثير، كذلك عدد الضحايا.
فإيّاهم نُجيب: مهما حاولتم تضخيم حجم الفساد في الكنيسة فهو لا يذكر نسبة إلى فساد المجتمع المدنيّ المُلحد، هذا الّذي يُشرّع إبادة خمسين مليون طفل سنويًّا، والّذي يغضّ النظر عن ملايين حالات الإغتصاب سنويًّا والّذي يسفك بالحديد والنار دماء مئات الآلاف سنويًّا والّذي يصرف 1500 مليار دولار سنويًّا على السلاح بينما يتضوّر ثلث سكّان الأرض جوعًا.
إنَّ مجتَمعًا يشرّع البورنوغرافيا في مختلف وسائل الإعلام، ويشجّع على المثليّة ويقدّسها، ويبيح إزهاق حياة الأجنّة، ويساعد النساء على التخلّص من ثمرات أحشائهم، ويغضّ النظر عن الممارسات الشيطانيّة، ويبرّر فضائح مسؤوليه الجنسيّة، لا يحقُّ لهُ أن يُشيرَ بالإصبع إلى كنيسة أعطت ثمار قداسة على مرّ العصور، مهما كثرت فيه الأخطاء.
هذا المجتمع يحاول شيطنة الكنيسة ليبرّر فساده، يدّعي نزعة القشّة من عين الكنيسة الكاثوليكية وهو يتعامى عمّا في عينيه.
هل من داعٍ للتذكير أن عدد ضحايا العنف سنويًّا في العالم هو 40 مليونًا، حوالى سبعة ملايين منهم تعرّضوا لاعتداء جنسيّ. لماذا تغيبُ هذه الأرقامُ عن الإعلام ولا نسمعُ إلّا بأعداد ينقّب عَنها في الكنيسة؟
السبب، كما قلنا أعلاه، ليسَ حبَّ الأطفال، ولا محبّة العدل، ولا الروح الإنسانيّة العارمة، ولا تأمين حقوق الطفل، بل العداءُ والكره والبغض للكنيسة، الّتي رغم كلّ العيوب الإنسانيّة، تبقى أشرف مؤسّسة خيريّة وإنسانيّة وحضاريّة عرفها التاريخ.
وإذا شئنا المقارنة هاتوا، أعطوني رجلًا من طراز فرنسيس الأسيزي من خارج الكنيسة، هاتوا رجالًا ونساءً من عيار منصور دي بول والأخت أيمنويال والأبّي بيار وتريزيا دي كالكوتا من خارج الكنيسة، أعطوني أسماء أطفال من عيار دومينيك سافيو وماريًّا غوريتّي، أعطوني رجالَ صمتٍ وسلام نظير شربل وبادري بيو ورهبان مار مبارك. أعطوني ممرّضات يندفعن في خدمتهنّ كالراهبات أو المكرّسات…
هذا المجتمع المريض الذّي يُصنّع المخدّرات ويحاربها لرفع سعرها لجني الثروات، هذا المجتمع المريض الذّي يتحكّم بأسعار النفط صعودًا وهبوطًا وفق مصالحه لتركيع الشعوب واستعبادها، هذا المجتمع الّذي يفبرك آلات القتل والدمار ويختلقُ النزاعات لتأمين أسواقٍ لها، هذا المجتمعُ الّذي يتعرّض لكرامة الإنسان بمحوه من الوجود منذ حشا أمّه، ويستعمله للاختبارات، ويُجري عليه التعديلات، هذا المجتمع الّذي يقلب الخير شرًّا والشرَّ خيرًا، لا يحقُّ لهُ أن يدّعي محاكمة الكنيسة الكاثوليكية عندما يتمادى في تشريع جرائمه وقبائحه!
لهذه المجتمع الحاقد نقول: إنزع برج إيفل من عينك، وبرج خليفة ومن عينك الثانية، لكي تتمكّن من رؤية القشّة في عين الكنيسة الكاثوليكية وانتزاعها. إنزع كل ناطحات سحاب العالم وأبراجه وجسوره من عينيك قبل أن تبحث عن قشّة في عين الكنيسة.
إنّ جرائم البيدوفيليا هي بالنسبة إلينا، خطيئة عظيمة وجريمة كبرى، والكنيسة الكاثوليكية تتألّم لأجلِ هذا، ولكنّها تتألمُ أكثر من أضعاف أضعاف الجرائم الّتي تحصل في المجتمع العلمانيّ المُعادي للكنيسة.
لأبناء الكنيسة الكاثوليكية نقول، إذا كانَ ثمّة من يخونُ المسيح في الكنيسة الكاثوليكية اليوم، فهذا ليس بجديد، فأحد الاثني عشر خانَ معلّمه وقد كانَ مؤتمنًا على الصندوق. واحد من إثني عشر يوازي 8،5 بالمئة وهي نسبة تفوق بكثير نسبة الكهنة المتّهمين بالبيدوفيليا!
لن نخافَ من طغيان هذا العالم، لن تقف الخطيئة حاجزًا أمام سعينا في سبيل الله.
يجب أن نتحلّى بالشجاعة على الاعتراف بخطايانا ونقائصنا، وبالعزمِ على محاربتها والتوبة عنها.
ولكن علينا أيضًا أن نمتلك الجرأة والصلابة، لأن نقول لا، لا، في وجه طغيان العالم، وأن نواجهَ أكاذيبه بالحقيقة، منقادين لروح الله.