خطوات عملية لفهم النصوص الكتابية 6 – سفر أعمال الرسل – السابقة التاريخية
- التفسير الاستنتاجي لسفر أعمال الرسل
- سفر أعمال الرسل كتاريخ
- سفر أعمال الرسل – نظرة شاملة
- بعض المبادئ العامة
- بعض المبادئ الخاصة
قد يُعد تخصيص فصل منفصل عن سفر أعمال الرسلأمراً من باب الإسهاب، لأن كل ما قيل في الفصل السابق تقريباً ينطبق على هذا الفصل أيضاً. ولكن من أجل سبب عملي للغاية ومتعلق بالتفسير الحياتي، تطلّب سفر أعمال الرسل فصلاً خاصلاً به. والسبب بسيط وهو أن معظم المسيحيين يقرأون سفر أعمال الرسل بطريقة تختلف عن أسلوب قراءتهم لسفر القضاة أو لسفر صموئيل الثاني، حتى وإن لم يدركوا هذه الحقيقة إدراكاً تاماً.
فعندما نقرأ قصص العهد القديم نميل عادة إلى عمل الأمور المذكورة في الفصل السابق وهي تبني التفاسير الرمزية، واستخراج الدروس الأخلاقية، وقراءة ما بين السطور… وهكذا نادراً ما نعتبر قصص العهد القديم تلك القصص التي يمكن أن تكون أمثلة على أنماط من السلوك المسيحي أو الحياة الكنيسة. وحتى في الحالات القليلة التي نفعل فيها ذلك – واستخدام جزة صوف لمعرفة مشيئة الله – فإننا لا نفعل أبداً ما فعلوه هم بالتمام، أي أننا لا نقوم فعلياً بإخراج جزة صوف لله ليجعلها ناشفة أو مبللة.
لكننا نقوم بالتعامل مع الله من خلال سلسة من العلامات، أو الظروف مثلاً: إن قام أحد من مدينة بعيدة – نريد الذهاب إليها – بالاتصال بنا هاتفياً قد نفسر هذا الاتصال على أنه وسيلة الله لإعلامنا بأن ذهابنا إلى تلك المدينة هو من ضمن مشيئته. وبينما نفعل ذلك، لا يخطر في بالناً أبداً بأن ما قام به جدعون في اختبار الله كان أمراً غير محبب، لأنه كان دليلاً على قلة ثقته بكلمة الله التي سبق أن تسلمها بالفعل.
وهكذا، فإننا نادراً ما ننظر لتاريخ العهد القديم باعتباره بقدم لنا سوابق (أنماطاً) كتابية قد دونت من أجل حياتنا نحن. من ناحية أخرى، فهذه هي الطريقة التي أعتاد أن يقرأ بها المسيحيون سفر أعمال الرسل، الذي لا يخبرنا فقط عن تاريخ الكنيسة الأولى، بل يقدم لنا أيضاً النموذج المثالي للكنيسة عبر العصور. وهنا بالتحديد نجد الصعوبة التفسيرية والتطبيقية.
بمعنى أصح أننا نعود بأنظارنا بانتظام إلى كنيسة القرن الأول وإلى الاختبار المسيحي في ذلك القرن كنموذج يفترض بنا استعادته أو كغاية ينبغي لنا أن ندنو منها. وكثيراً ما قد نقول أمرواً كالآتي: “يُعلّمنا سفر أعمال الرسل بوضوح أن…” غير أنه لا يبدو أن ما نعلمه واضح بالدرجة نفسها لدى الجميع.
والواقع هو أن افتقارنا للدقة التفسيرية من جهة ما يحاول سفر أعمال الرسلتعليمه هو الذي أدى بنا إلى تلك الانقسامات الكثيرة التي نراها في مختلف الكنائس والطوائف. فالممارسات المختلفة بشأن مثلاً: معمودية الأطفال أو معمودية الكبار فقط، وأنظمة إدارة الكنيسة كالنظام الجماعي أو الكهنوتي، أو ضرورة تناول عشاء الرب كل يوم أحد، أو معمودية الروح القدس المصحوبة بالتكلم بألسنة، بيع الممتلكات وجعل كل الأمور مشتركة، أوجد لها الناس براهين وأدلة مبنية على سفر أعمال الرسل.
إن الغرض الرئيسي من هذا الفصل هو تقديم بعض المقترحات العملية في تفسير مسألة السوابق الكتابية. فما سيقال هنا في هذا الفصل يمكن أن ينطبق أيضاً على كافة القصص التاريخية في الكتاب المقدس، بما فيها بعض محتويات الأناجيل. ولكن قبل ذلك، نحتاج إلى ذكر بعض الأمور حول كيفية قراءة ودراسة سفر أعمال الرسل.
سنلجأ كثيراً في بحثنا التالي إلى الإشارة إلى نية البشير لوقا أو هدفه من كتابته لسفر أعمال الرسل مع التشديد على قصدنا الدائم في أن الروح القدس هو الذي كان يوجه قصد البشير لوقا.
التفسير الاستنتاجي لسفر أعمال الرسل
مع أن سفر أعمال الرسل كتاب تسهل قراءته إلا أن بعض الناس يقدم على دراسته لأسباب متنوعة. فمثلاً بعضهم يهتم جداً بالتفاصيل التاريخية، أي بكل ما يقوله سفر أعمال الرسل عن تاريخ الكنيسة الأولى. وآخرون لديهم اهتمام دفاعي بمعنى أنهم يريدون إثبات صحة الكتاب المقدس من خلال إظهار دقة لوقا البشير كمؤرخ. من جهة ثانية، فإن معظم الناس نجدهم يدرسون سفر أعمال الرسللأسباب تأملية أو تعبدية إذ ينشدون معرفة ما كان عليه المسيحيين الأوائل كي يقتدوا بهم ويستلهموا منهم النماذج.
لذا فالاهتمام الذي يبديه الناس بسفر أعمال الرسل، قد يسبب حدوث كثير من الانتقائية أثناء القراءة أو الدراسة. فلأولئك الدارسين لسفر أعمال الرسل بهدف التأمل والعبادة يكون على سبيل المثال كلام غمالائيل في أعمال 5 أقل شأناً من قصة إيمان بولس في أعمال 9 أو سجن بطرس الرسول في أعمال 12، وقراءة من هذا القبيل عادة ما تجعل الناس يتخطون المسائل التاريخية أو المتعلقة بالترتيب الزمني للأحداث. فمثلاً، من الصعب عليك أن تتخيل أثناء قراءتك للإصحاحات الإحدى عشر الأولى، أن لوقا البشير قد غطى فيها أحداثاً استغرقت ما بين 10-15 سنة.
وما يهمنا هنا، في الحقيقة هو مساعدتك على قراءة ودراسة سفر أعمال الرسل بانتباه، ومساعدتك على النظر إلى سفر أعمال الرسل من زاوية اهتمام البشير لوقا، وعلى طرح نوع جديد من الأسئلة أثناء القراءة.
سفر أعمال الرسل كتاريخ
كان لوقا البشير رجلاً أممياً، ولذلك فإن قصته الموحى بها تصلح كمثال رائع للتأريخ الهيليني، وهو نوع من الكتابة التاريخية تعود بدايته إلى زمن ثوسايديدس (حوالي 460-400 ق.م)، إلا أنه ازدهر أثناء العصر الهيليني (حوالي 300 ق.م-200 م). مثل هذا التأريخ لم يكتب لمجرد حفظ السجلات أو لعمل ترتيب زمني لأحداث الماضي. لكنه كتب من أجل التشجيع والفائدة والاستمتاع بالقراءة ومن أجل تقديم المعرفة واستخراج الدروس الأخلاقية، أو للدفاع عن العقائد والتعاليم.
والسفران اللذان كتبهما لوقا البشير (إنجيل لوقا وسفر أعمال الرسل) يندرجان تحت هذا الباب التاريخي. ومع كونهما ممتعين في القراءة، نجدها في الوقت نفسه يُعبّران عن اهتمامات كانت عند لوقا وتشمل أكثر من مجرد الإفادة أو إطلاع القارئ. إن ملاحظة هذه الاهتمامات تكتسب أهمية خاصة عند قراءة أو دراسة سفر أعمال الرسل. فالشرح الاستنتاجي لسفر أعمال الرسل لا يشمل المسائل التاريخية فقط، كأن نسأل مثلاً وماذا حدث؟ بل يشمل أيضاً المسائل اللاهوتية، كأن نسأل: ما غاية ونية البشير لوقا في انتقائه لموضوعاته وصياغتها بهذه الطريقة؟
والسؤال المتعلق بغاية لوقا ونيته يبرز في الحال باعتباره السؤال الأكثر أهمية والأكثر صعوبة في آن واحد. وأهمية هذا السؤال القصوى ترجع لخطورته على ما نقوم به من تفسير. فإن ثبت أن غاية لوقا في سفر أعمال الرسل كانت من أجل وضع نمط للكنيسة في كل الأزمنة، سيصبح هذا النمط بالتأكيد هو المعيار أو النموذج الذي يطلب الله من المؤمنين به اتباعه في كل الظروف والأحوال. أما إذا كان قصد لوقا شيئاً آخر، إذاً نحتاج لأن نطرح أسئلتنا التفسيرية الحياتية بطريقة مختلفة. إن معرفة غاية البشير لوقا هي أمر صعب جدً، ذلك لأننا لا نعرف مَن كان ثاوفيلس، ولا سبب كتابة لوقا له من جهة، ومن جهة ثانية هذا السفر يبدو أن فيه اهتمامات كثيرة ومختلفة.
لذلك، فإن اهتمامنا بالتفسير الاستنتاجي يجب أن ينصب على كل من السؤلين التاليين: “ماذا” و”لماذا”. وكما سبق وتعلمنا فعلى الدارس أن يبدأ بالسؤال: “ماذا” قبل أن يسأل: “لماذا”.
الخطوات الأولى
اقرأ سفر أعمال الرسل من بدايته إلى نهايته في جلسة واحدة أو اثنتين. .1
- قم أثناء قراءتك بتدوين ملاحظات عن أمور تختص بالشخصيات والأماكن الرئيسية والحوادث المتكررة (التي تُظهر دوافع واهتمامات لوقا البشير في الأصل) بالإضافة إلى وضع ملاحظات عن تقسيمات السفر.
- عُد الأن، وتصفح السفر سريعاً، ودوّن ما لاحظته سابقاً باختصار مع تحديد الشواهد الكتابية.
- اسأل نفسك هذا السؤال: “لماذا كتب لوقا هذا السفر؟”
وبما أن سفر أعمال الرسلفريد من نوعه بين أسفار العهد الجديد فسنكون أكثر وضوحاً ودقة في توجيه قراءتك ودراستك.
سفر أعمال الرسل: نظرة شاملة
دعونا نبدأ بحثنا في السؤال “ماذا” بملاحظة التقسيمات الطبيعية التي قام بها لوقا البشير نفسه. فكثيراً ما تم تقسيم سفر أعمال الرسل بحسب اهتمام لوقا ببطرس (1-12) وبولس (13-28)، أو بحسب الامتداد الجغرافي لرسالة الإنجيل (1-7 أورشليم، 8-10 السامرة واليهودية، 11-28 إلى أقصى الأرض). وعلى الرغم من إمكانية تمييز هذه التقسيمات من حيث المضمون الفعلي للسفر، إلا أن هناك دليلاً آخر أورده البشير لوقا نفسه ويبدو أنه يربط كل الأشياء معاً بشكل أفضل.
لاحظ، وأنت تقرأ التصريحات الموجزة والقصيرة في 7:6، 31:9، 24:12، 4:16، 20:19 ميل القصة إلى التوقف لبرهة قبل أن تستأنف السير باتجاه جديد مختلف نوعاً ما. وعلى أساس هذا المفتاح يمكننا ملاحظة أن سفر أعمال الرسليتكون من ستة مقاطع، أو أجزاء تدفع بالقصة بحركة متواصلة إلى الأمام من المحيط اليهودي ومركزه أورشليم وبقيادة بطرس الرسول، باتجاه كنيسة قوامها الرئيسي من الأمم بقيادة بولس الرسول وهدفها هو روما، عاصمة العالم الأممي، وما أن يصل بولس إلى روما حيث يقوم ثانية بالتركيز على الأمم لأنهم سيستمعون إليه (28:28) حتى تنتهي القصة.
عليك إذاً أن تلاحظ أثناء قراءتك كيف أن كل مقطع قد أسهم في هذه الحركة، حاول وبكلماتك الخاصة أن تصف كل جزء من حيث مضمونه ومن حيث إسهامه في تقديم الحركة، ما الذي يبدو أنه المفتاح لكل عملية دفع جديدة للأمام؟
إليك المحاولة التي توصلنا إليها نحن في هذا الشأن:
1:1-7:6 وصف للكنيسة الأولى في أورشليم، كرازتها المبكرة، وحياتها المشتركة وانتشارها والمقاومة لها في البداية. لاحظ مدى يهودية كل الأمور، بما في ذلك العظات والمعارضة، وحقيقة استمرار تعلّق المسيحيين الأوائل بالهيكل والمجامع. يختتم لوقا هذا الجزء بقصة تشير إلى بدء انقسام بين المسيحيين المتكلمين باللغة اليونانية والمسيحيين المتكلمين باللغة الآرامية.
8:6-31:9 وصف لأول امتداد قام به المسيحيين من اليهود الناطقين باليونانية “الهلينيون” إلى يهود الشتات أو “أشباه اليهود” (السامريين والمتهودين). يذكر لوقا البشير أيضاً إيمان بولس الذي كان (1) هلينياً، (2) خصماً، (3) يهودياً، عتيداً أن يقود التوسع الأممي. أما استشهاد استفانوس فهو مفتاح هذا التوسع الأولي.
32:9-24:12 وصف أول امتداد باتجاه الأمم. والمفتاح هو إيمان كرنيليوس، الذي ذُكرت قصته مرتين. تأتي أهمية كرنيليوس بسبب إيمانه الذي تم بعمل مباشر من الله، الله الذي لم يستخدم المسيحيين الهلينيين في ذلك الوقت، وإلا لكان الأمر في وضع شك، لكن الله استخدم بطرس الرسول، الذي اؤتمن على إرسالية المسيحية لليهود. يشمل هذا المقطع أيضاً قصة كنيسة إنطاكية حيث آمن الأمميون بواسطة المسيحيين الهلينيين بطريقة لها مغزاها.
25:12-5:16 وصف لأول امتداد جغرافي إلى العالم الأممي بقيادة بولس الرسول. يرفض اليهود الآن بشكل متكرر قبول الإنجيل لأنه يشمل الأمم. فتجتمع الكنيسة على هيئة مجمع ولا تقوم برفض الإخوة والأخوات الأمميين، كما أنها لا تفرض عليهم المتطلبات الدينية اليهودية. ويصبح هذا القرار هو المفتاح للتوسع الكامل نحو العالم الأممي.
6:16-20:19 وصف لمزيد من الامتداد نحو العالم الأممي باتجاه الغرب حتى أوروبا. يتكرر رفض اليهود للإنجيل وترحيب الأمم به.
21:19-30:28 هذه الأعداد وصفت الأحداث التي دفعت بولس الرسول والإنجيل نحو روما، مع إعطاء مقدار كبير من الاهتمام بالمحاكمات التي تعرّض لها، حيث تمت تبرئته ثلاث مرات من التهم المنسوبة إليه.
حاول قراءة سفر أعمال الرسلبحسب الترتيب السابق، والمُنصب على الحركة لترى بنفسك ما إذ كان ذلك الترتيب يستوعب الأحداث الجارية. ستلاحظ أثناء قراءتك له بأن وصفنا للمضمون لم يكن مبنياً على عامل هام – أو لعله العامل الأعظم أهمية في الحقيقة – وهو بالتحديد دور الروح القدس في كل ما حدث.
ستلاحظ أثناء القراءة وعند الوصول إلى كل حلقة اتصال رئيسية والوقوف عند كل شخصية رئيسية، أن دور الروح القدس هو الدور القيادي بلا منازع. فبناء على ما كتبه البشير لوقا، لم تتقدم هذه الحركة بمشيئة أو تصميم إنسان بل تقدمت ونمت لأن الله أراد لها ذلك، ولأن الروح القدس نفّذ هذه الإرادة.
هدف لوقا البشير
علينا أن نحذر من عدم الانتقال عفوياً أو ارتجالياً من هذه النظرة العامة لما قام به لوقا إلى تبنّي تعبير سهل أو جازم بخصوص هدف لوقا الموحى به من كل حدث. من المناسب أن نورد الملاحظات التالية والمبنية جزئياً على ما لم يفعله لوقا:
أولاً: يبدو أن المفتاح إلى فهم سفر أعمال الرسليكمن في اهتمام لوقا وخضوعه للحركة التي وجه بها الروح القدس الإنجيل، من تمركزه في أورشليم للوصول إلى كل الأمم وليس اليهود فقط. وإذا اعتمدنا على تركيب السفر ومضمونه وحدهما، فإن أي هدف لا يشمل الكرازة للأمم ولا يتحدث عن دور الروح القدس في هذه الكرازة، هو هدف فاشل وغير قادر على الوصول إلى غاية هذا السفر.
ثانياً: إن هذا الاهتمام بالحركة يلاقي دعماً أكبر في ما لم يقله لنا لوقا:
لم يهتم لوقا بسيرة حياة الرسل. فنحن لا نعرف عن يعقوب إلا ما آلت إليه نهايته (2:12) وما أن بدأت الحركة اتجاها نحو الأمم، حتى اختفى ذكر بطرس الرسول من السفر ما عدا ما ذُكر عنه في أصحاح 15 مؤيداً كرازة الأمم. وباستثناء يوحنا لم يرد أي ذكر لباقي الرسل، وقد انصّب اهتمام لوقا على بولس الرسول في دائرة كرازة الأمم بشكل شبه كلي.
نرى لوقا لا يهتم إلا القليل بما يتعلق بالتنظيم الكنيسي أو إدارة الكنيسة. فهو لم يذكر اللقب الكنسي للسبعة المذكورين في الأصحاح السادس، وعلى أية حال نقرأ فيما بعد عنهم أنهم سرعان ما تركوا أورشليم. لا يذكر لما لوقا أيضاً كيف أو لماذا انتقلت قيادة كنيسة أورشليم من أيدي بطرس والرسل إلى يد يعقوب أخي الرب (17:12، 13:15، 18:21). ولا يذكر لنا حتى ولو لمرة كيف تم تنظيم الكنائس المحلية من حيث القيادة أو الإدارة فيها.
ليس هناك ذكر لأي خط امتداد جغرافي غير الخط المباشر والوحيد من أورشليم إلى روما. وليس هناك ذكر لكنائس مثل كريت (تي 5:1) أو الليريكون (يوغسلافيا) (رو 19:15) أو بنتس وكبدوكية، وبيثينية (1بط 1:1). ناهيك عن توسع وامتداد الكنيسة نحو الشرق باتجاه بلاد ما بين النهرين أو جنوباً باتجاه مصر.
كل ما سبق يشير وببساطة إلى أن قصد لوقا البشير من كتابة السفر لم يكن تأريخي للكنيسة.
ثالثاً: لا يبدو للوقا البشير أي اهتمام مُركّز على تحديد معايير للأمور أو وضعها بشكل متناسق. فنادراً جداً ما يذكر قضية التوبة ذكراً محدداً، حتى بعد تسجيل ما يقوله بطرس في 38:2-39، وبطريقة مماثلة فإن لوقا لا يذكر أو حتر يلمح إلى أن كنائس الأمم قد مارست حياة مشاركة جماعية كالتي عاشتها الكنيسة في أورشليم وذُكر عنها في 42:2-47، 32:4-35 ولعل عدم ذكره لهذه الأمور لا يعني أنه لم يتم وضع مثال معين ومحدد من شأنه أن يكون نموذجاً للسلوك المسيحي أو لحياة الكنيسة.
لكن هل يمكننا القول بأن لوقا لم يسغَ إلى أن يخبرنا شيئاً بواسطة هذه القصص المتنوعة المحددة؟ هذا القول ليس صحيحاً بالضرورة. والسؤال المهم هنا هو ما الذي حاول لوقا قوله لقرائه الأولين؟
رابعاً: نعم نحن نؤمن أن لوقا قد قصد بأن يكون جزء كبير من سفر أعمال الرسلبمثابة مثال أو نموذج، لكن هذا النموذج لم يكن متمثلاً في التفاصيل بمقدار ما هو في الصورة العامة، لأنه بالطريقة نفسها التي حرك الله بها لوقا ليجمع هذا التاريخ ويرويه، بدا ممكناً رؤية قصد الله للكنيسة المتتابعة عبر الأجيال من خلال هذا الامتداد المتقدم للإنجيل بصورته المنتصرة والبهية، وبقوة الروح القدس الذي قاد إلى تغيير حياة الكثيرين من الأفراد والجامعات المحلية.
ولأن هذا الهدف هو قصد الله للكنيسة، إذاً لن يستطيع أحد إعاقة هذا الامتداد، لا السنهدريم ولا المجمع، ولا الخلاف ولا ضيق الأفق الفكري، ولا السجن ولا التآمر. وهكذا فمن المرجح جداً أن يكون لوقا البشير قد قصد للكنيسة أن تكون بالصورة عينها التي رسمها في سفر أعمال الرسل، لكن بمعنى أشمل، بدلاً من أن يجعل سفر أعمال الرسل نموذجاً أو مثلاً محدداً تقف عنده الكنيسة.
مثال للتفسير الاستنتاجي
دعونا الآن نتفحص هاتين القصتين الموجودتين في (1:6-7، 1:8-25) ونلاحظ نوع الأسئلة الاستنتاجية التي يحتاج الشخص إلى تعلُّم طرحها على نصوص سفر أعمال الرسل.
كما هو الحال دائماً، عادة يبدأ الشخص بقراءة المقطع المختار وقرينته المباشرة المرة تلو الأخرى. وكما هو الحال أيضاً في الرسائل تظل الأسئلة المرتبطة بالقرينة والتي يجب طرحها على سفر أعمال الرسل هي: ما المقصود من هذه القصة؟ أو ما النقطة الجوهرية في هذه القصة أو هذا الكلام؟ ما وظيفتها في مجمل قصة لوقا البشير؟ لماذا تعند لوقا ذكرها هنا؟ نستطيع عادة وبشكل مؤقت الإجابة عن هذه الأسئلة بعد مرة أو مرتين من القراءة المتأنية. لكنك أحياناً وخاصة مع سفر أعمال الرسل تحتاج إلى قراءات خارجية للإجابة على بعض الأسئلة المتعلقة بالمضمون قبل أن تبدأ بالشعور بالثقة بأنك على الطريق السليم.
دعنا نبدأ بـ 1:6-7 وانظر كيف يؤدي هذا المقطع دوره في الصورة العامة الشاملة؟ هناك أمران يمكننا التصريح بهما على الفور:
أولاً: لوقا يعمل على إنهاء الجزء الأول (1:1-7:6).
ثانياً: لوقا يستعمل هذه القصة كفقرة انتقالية نحو الجزء الثاني أي (8:6-31:9) لاحظ كيفية قيامه بذلك. ينصب أيضاً اهتمام لوقا البشير في 1:1-7:6 على تصوير حياة الكنيسة الأولى وكذلك امتدادها داخل أورشليم. والقصة (1:6-7) تشمل هذين الجانبين لكنها تشير أيضاً إلى أول توتر حدث داخل المجموعة نفسها، والذي كان قائماً بين الفئتين التقليديتين في المجتمع اليهودي، وهما يهود أورشليم (الناطقون بالآرامية) ويهود الشتات (الناطقون باليونانية)، وكيف تم التغلب على هذا النزاع داخل الكنيسة بالاعتراف بالقيادة التي بدأت تبرز بين المؤمنين بالمسيحية من اليهود الناطقين باليونانية.
لقد قمنا بصياغة الجملة الأخيرة بتلك الطريقة الخاصة، لأن على الدارس عند وصوله إلى هذا الجزء أن يقوم هو ببعض البحث الخارجي حول هذه القرينة التاريخية. فبقيامنا ببعض الدراسات المختلفة (مقالات في الموسوعات الكتابية عن الشمامسة والهلينيين وكتب الشروح وكتب تاريخ أورشليم في زمن المسيح) يمكننا اكتشاف الحقائق الهامة التالية:
1-نكاد نكون متأكدين تقريباً من أن الهلينيين كانوا يهوداً ناطقون باليونانية، أي يهود شتات عاشوا آنذاك في أورشليم.
2-فقد عاد كثير من أولئك الهلينيين في أواخر أيامهم ليموتوا في أورشليم ويدفنوا قرب جبل صهيون. وبما أنهم لم يكونوا من مواليد أورشليم لم تكن أراملهم يملكن باباً للرزق أو سبيل عيش منتظم يوقتهن.
3-لقد تمت رعاية تلك الأرامل بواسطة إعانات يومية، مما سبب ضائقة مادية وعبئاً اقتصادياً في أورشليم.
4-يتضح لنا أيضاً من قرائتنا لـ 9:6 أنه كان للهلينيين مجمعهم الناطق باليونانية والذي كان شاول الطرسوسي (كانت طرسوس تقع في مقاطعة كيليكيا) واستفانوس عضوين فيه (عدد 9).
5-وأخيراً يبرهن الأصحاح السادي من سفر أعمال الرسل أن الكنيسة الأولى قد شقت طريقها إلى داخل ذلك المجمع – لاحظ ذكر كلمة أرملهم وحقيقة أن جميع السبعة الذين كلفوا بحمل تلك المسؤولية كانوا يحملون أسماء يونانية. وأن المعارضة الشديدة كانت صادرة عن مجمع يهود الشتات.
إن معرفتك هذه بالمضمون، ستساعدك بصفة خاصة على فهم ما سيلي وذلك لأن لوقا يركز في 8:6-1:8 على أحد السبعة كشخصية رئيسية في أول امتداد خارج أورشليم. فهو يصرح لنا علانية بأن استشهاد استفانوس أدى إلى تلك النتيجة (1:8-4). عليك أن تلاحظ أيضاً من هذا المقطع الأخير مدى أهمية المجتمع الناطق باليونانية من مسيحي أورشليم لخطة الله. لقد أُجبروا على ترك أورشليم بسبب الاضطهاد، وهم تركوا أورشليم وجالوا يبشرون بالكلمة في أنحاء اليهودية والسامرة.
إذاً ما نستنتجه مما سبق أن القصد من 1:6-7 لم يكن إخبارنا عن تنظيم الكنيسة الأولى إلى رجال دين ورجال علمانيين. بل الغاية من القصة إبراز دورها في الإعداد لمشهد الامتداد الأول للكنيسة خارج نطاق قاعدتها في أورشليم.
أما القصة في 5:8-25 فهي من نوع آخر، لأنها القصة الفعلية لأول توسع معروف لدينا للكنيسة الأولى. تكتسب هذه القصة أيضاً أهمية خاصة لاحتوائها على عدة صعوبات في التفسير الاستنتاجي ولأنها كانت مراراً عديدة مسرحاً لنزاعات المفسرين أثناء إجراء التفسير الحياتي.
وكما اعتدنا دائماً نبدأ أولاً بعملية التفسير الاستنتاجي بحرص، ومرة أخرى نقول، لا بديل لنا ولك عزيزنا الدارس عن قراءة النص مرة تلو الأخرى، مدونين ملاحظاتنا واستنتاجاتنا. وفي هذه الحالة وعند وصولك إلى السؤال: “ماذا” في القصة، حاول الإجابة عليه بكلماتك الخاصة. أما ملاحظاتنا المختصرة فهي كما يلي:
هذه القصة صريحة بما فيه الكفاية، فهي تحدثنا عن خدمة فيلبس الأولى في السامرة والتي رافقها الشفاء والتحرر من الأرواح الشريرة (5:8-7). وعلى ما يبدو وبسبب هذه الزيارة، صار كثير من السامريين مسيحيين إذ آمنوا واعتمدوا. واضح جداً أن المعجزات كانت من القوة بمكان بحيث جعلت سيمون الساحر المحترف والسيئ السمعة يؤمن أيضاً (9:8-13).
لدى سماع كنيسة أورشليم بما حدث قامت بإرسال بطرس ويوحنا، وما أن وصلا السامرة حتى نال أهلها الروح القدس (14:8-17). لقد أراد سيمون آنذاك أن يقتني بماله ما كان لدى بطرس ويوحنا (18:8-19). فقام بطرس عندها بتوبيخ سيمون، ولكن لم يكن واضحاً من خلال رده الأخير (24:8) ما إذا كان سيمون قد تاب أو كان سينال الحكم الذي نطق به بطرس عليه (20:8-23).
من الواضح واستناداً على الطريقة التي دوّن بها لوقا البشير هذه القصة أن آمرين اثنين قد سيطرا على اهتمامه:
أولاً: إيمان السامريين.
ثانياً: قضية سيمون.
أما المشاكل المتعلقة بالتفسير الاستنتاجي بهاتين القضيتين فقد نشأت بسبب المعرفة والقناعات المسبقة. فهم – أي المفسرون – يميلون للظن ببساطة أن الأمور لا ينبغي لها أن تحدث بهذه الطريقة. فبما أن بولس يُصرّح في رومية 8 أنه بدون الروح القدس ليس إيمان، فكيف أن يكون هناك مؤمنون لم ينالوا الروح القدس بعد؟ وماذا عن سيمون؟ هل كان حقاً مؤمناً ثم ارتد، أم أنه اعترف بالإيمان بالكلام فقط؟!
من الصعب لنا الإصغاء إلى مقطع كتابي كهذا دون القيام بإقحام تحيزاتنا السابقة فيه، وهذا ينطبق علينا أيضاً نحن مؤلفي هذا الكتاب، إذ نحن لسنا معصومين من هذا الخطأ. ومع ذلك سنحاول معاً عزيزنا الدارس الإصغاء إلى وجهة نظر لوقا. تعال نسأل: لماذا اهتم لوقا بتقديم هذه الواقعة؟ وما هو دورها في اهتمام البشير لوقا الإجمالي بالسفر؟
والإجابة يمكن أن تكون: بشأن إيمان السامريين، هناك أمران يبدوان مهمين في نظر لوقا:
الكرازة إلى السامرة، والتي كانت أول امتداد جغرافي للإنجيل بقيادة واحد من الهلينيين الأمر الذي كان بعيدا صعن أي خطة أو ترتيب من جانب الرسل.
ومع ذلك، فقد كان هاماً للقُراء بالنسبة للوقا أن يعرفوا أن تلك الإرسالية قد حظيت برضي إلهي ورسولي، كما هو ثابت من إمساك الروح القدس عن الحلول إلى أن قام الرسولان بوضع الأيدي. وما يتنفق مع الاهتمام الكلي للوقا هو إظهار أن عمل الإرسالية الهلينية لم يكن حركة خارجة أو منشقّة رغم كونها قد حدثت دون أي مجمع رسولي للبحث في أمر نمو الكنيسة.
ومع أننا لا نستطيع إثبات ذلك – لعدم قيام النص بالتصريح به ولأن الأمر على ما يبدو خارج عن اهتمامات لوقا – فمن المرجح أن الذي تم إمساكه إلى حين قدوم بطرس ويوحنا كان “البرهان” المحسوس لحضور الروح القدس والمتمثل في المواهب. ونحن لدينا ثلاثة أسباب لهذا الاستنتاج:
(أ) إن كل ما قيل عن السامريين قبيل مجيء بطرس ويوحنا قد قيل في مواضع أخرى من سفر أعمال الرسل ، إذاً لقد كانوا فعلاً وفي واقع الأمر قد ابتدأوا حياتهم المسيحية.
(ب) إن حضور الروح القدس – كما في مواضع أخرى من سفر أعمال الرسل مثلما هنا أيضاً – هو عنصر هام في الحياة المسيحية. وإلا فكيف كان يمكنهم البدء بالحياة المسيحية بدون مثل هذا الحضور الهام؟
(ج) إن حضور الروح القدس وبحسب قصد لوقا في سفر أعمال الرسل كان يعني عادة القوة (8:1، 8:6، 38،10) فهو يظهر عادة مصحوباً ببرهان محسوس. لذلك ومن أجل إعطاء هذا البرهان القوي والمحسوس على حضور الروح والذي لم يكن قد تجلى بعد في السامرة استخدام لوقا كلمة “مجيء” أو “قبول” الروح القدس.
أما دور سيمون في هذه القصة فهو بنفس درجة التعقيد. وقضية اتصاله القصير الأمد مع الكنيسة، على الأقل كمؤمن معترف بإيمانه، هي قضية هامة للقصة.
ونحن نعترف ونقر بأن شرحاً استنتاجياً من النوع الذي يبحث في “ماذا ولماذا” في قصة لوقا ليس بالضرورة شيقاً من ناحية القراءة التعبدية للكتاب المقدس، لكننا نشدد على كونه الخطوة الأولى الإلزامية لفهم سفر أعمال الرسل ككلمة الله. فليس من الضروري أن تخبرنا كل جملة في كل قصة أو خطبة شيئاً ما، لكن كل جملة في كل قصة أو خطبة قد تسهم إلى حد ما في إيضاح ما يسعى الله لقوله لنا بصورة كاملة من خلال سفر أعمال الرسل .
بعض المبادئ العامة
كما سبق وأشرنا، فإن اهتمامنا هنا هو مسألة واحدة، وهي كيف يمكن للقصص الفردية في سفر أعمال الرسل ، أو لأي قصة كتابية أخرى أن تخدم الكنيسة كسابقة وكمثل تسترشد به فيما بعد؟ وهل حقاً تخدم هذه القصص الكنيسة معطية فعلاً هذا المعنى؟ بكلمات أخرى، هل سِجل سفر أعمال الرسل يقوم فقط على وصف الكنيسة الأولى، أم أنه أيضاً يقدم لنا معياراً للكنيسة في كل وقت؟ وإن كان هناك مثل هذا المعيار، فكيف يمكن للشخص اكتشافه أو وضع مبادئ تساعد على رؤيته؟ وإن لم يكن كذلك، فما الذي سنفعله إذاً بمفهوم السابقة التاريخية؟
باختصار، ما الدور المطلوب من السابقة التاريخية أن تؤديه في العقيدة المسيحية أو في فهم السلوك المسيحي؟
وهنا يجب الإشارة في مستهل هذا البحث إلى أن نهج جميع المسيحيين تقريباً يميل إلى إعطاء السابقة سلطة معيارية بدرجة ما أو بأخرى. ولكنهم للأسف قلما يقومون فعلاً بذلك بتناغم وثبات على المبدأ. فنرى بعضهم يميل إلى اتباع أو السير وراء بعض القصص كأنماط ملزمة لهم، في حين أنهم يتجاهلون غيرها. والاقتراحات التي نقدمها ليست مطلقة أو كاملة أو مُلزمة لك، لكنها ستساعدك على الإمساك بزمام هذه المشكلة التفسيرية.
إن المسألة التفسيرية الحاسمة هنا تكمن فيما إذا كانت القصص الكتابية والتي تصف “ماذا حدث” في الكنيسة الأولى تصلح أيضاً كمعيار مقصود منه تصوير “ماذا ينبغي أن يحدث” في الكنيسة على مر العصور. فهل هناك وفي الأحداث المسجلة بسفر أعمال الرسل ما يصح أن يقال فيه، “يجب أن نفعل هذا” أم أننا يمكن أن نكتفي بالقول: “يجوز لنا أن نفعل هذا”؟
في الحقيقة إن افتراضنا هو كافتراض كثيرين غيرنا، فنحن نؤكد على أن ما لم يخبرنا الكتاب المقدس صراحة بضرورة فعله كأمر ما ملزم، فهو مجرد حادثة ما قد رويت أو وصف لا يمكن أبداً أن يكون مقياساً مطلقاً لنا. ولدينا أسباب جيدة لهذا الافتراض.
وبصورة عامة، فإن التعاليم العقائدية المأخوذة من الكتاب المقدس تقع في أبواب ثلاثة:
1-علم اللاهوت المسيحي (أي ما يؤمن به المسيحيون).
2-علم الأخلاق المسيحي (وهو ماذا ينبغي أن يكون عليه السلوك المسيحي).
3-السلوك أو الممارسة المسيحية (ما يفعله وما يعيشه المسيحيون).
وضمن هذه التصنيفات، يمكن لك صديقنا الدارس أن تميز مستويين من التعاليم، أطلقنا عليها اسمين “التعاليم الرئيسية والتعاليم الثانوية”. ففي التعاليم الرئيسية، نرى التعاليم المشتقة من التوجيهات الصريحة أو الصيغة الأمرية في الكتاب المقدس (وهو ما ينوي الكتاب المقدس تقديمه). والتعاليم الثانوية، هي تلك التعاليم المستخلصة سواء بشكل ضمني أو بواسطة السابقة التاريخية.
فعلى سبيل المثال: التعاليم المتعلقة بعلم اللاهوت المسيحي مثل: الله واحد، الله محبة، ألوهية المسيح، الجميع أخطأوا، مات المسيح من أجل خطايانا، هي كلها عقائد مشتقة من مقاطع قصدها التعاليم فهي بالتالي تعاليم رئيسية. أما على المستوى الثانوي فيمكن أن نجد تلك التعاليم التي تُعد بمثابة الانسياب المنطقي لتلك التعاليم الرئيسية. وهي – أي التعاليم الثانوية – يتم اشتقاقها ضمنياً من الآيات الكتابية.
وبناء عليه، فإن حقيقة لاهوت المسيح تعليم رئيسي أما كيف تتحد وتتلقي طبيعتاه في وحدة واحدة فذلك تعليم ثانوي. هذا لا يعني أن التعاليم الثانوية ليست ذات أهمية. فكثيراً ما يكون لها الأثر الهام على إيمان الفرد بما يتعلق بالتعاليم الرئيسية. في الحقيقة إن القيمة اللاهوتية النهائية للتعاليم الثانوية تتصل بمدى إسهامها في حفظ تكامل التعاليم الرئيسية.
والجدير بالملاحظة في هذا الشأن هو أن جميع ما يشتقه المسيحيون تقريباً من الكتاب المقدس بطريق السابقة التاريخية يندرج تحت الباب الثالث والذي اسميناه السلوك أو الممارسة المسيحية، وهو دائماً جزء من التعليم الثانوي. فعلى سبيل المثال أن يكون عشاء الرب ممارسة مستمرة ولازمة في الكنيسة هو التعليم الرئيسي، لان يسوع المسيح أوصي بذلك ويقف سفر أعمال الرسل والرسائل شهوداً على ذلك.
أما عدد مرات تكرار تلك الممارسة حيث يختلف المسيحيون عادة بهذا الشأن فهذا أمر يعتمد على التقليد والسابقة. فالكتاب المقدس وبكل بساطة لا يتحدث مباشرة عن هذه المسألة. فقيام المؤمنين مثلاً “بالاجتماع معاً” هذا أمر (رئيسي) أما عدد مرات هذا الاجتماع الذي يجتمعون فيه فهو أمر (ثانوي). نعود لنكرر القول بأن ما قلناه لا يعني التفليل من شأن التعاليم الثانوية.
إن المبدأ الأساسي لعلم التفسير الحياتي يقول بأنه علينا إيجاد كلمة الله في إطار قصد الكتاب المقدس. وهذا الأمر يكتسب أهمية خاصة في قضية تفسير القصص التاريخية. لأن قيام الكاتب بتدوين حادثة ما لكونها تخدم القصد الأكبر من عمله هذا شيء. وقيام المفسر باستخدام تلك الحادثة باعتبار أن لها قيمة تعليمية منفصلة عن القصد الأكبر للكاتب فهذا الشيء آخر.
ومع أن الهدف الأشمل والذي من أجله قد أوحي للوقا البشير كتابة سفر أعمال الرسل قد يكون قضية مثيرة للجدل عند البعض، فإن افتراضنا لا يزال مبنياً على التفسير الاستنتاجي السابق وهو أنه كان يحاول إظهار أن الكنيسة قد بدأت فعلاً وبشكل رئيسي كظاهرة أممية أساساً وعالمية النطاق، وذلك من جذورها الأساسية في أورشليم ومن طائفة المؤمنين من أصل يهودي ومن ذوي التوجه اليهودي.
لقد كان لوقا البشير يحاول أيضاً إظهار مسؤولية الروح القدس المباشرة في هذه الظاهر الخلاصية الشاملة النطاق والمؤسسة على عمل المسيح. ولعل تكرار هذا الدافع المختص بفكرة أن شيئاً لا يستطيع إعاقة تقدّم حركة الكنيسة بقيادة الروح القدس لعله يجعلنا نظن بأن لوقا البشير أيضاً قد قصد أن يرى قراؤه هذا التقدم كنموذج لوجودهم.
وحقيقة كون سفر أعمال الرسل ضمن الأسفار القانونية يزيد في اعتقادنا بأن أسلوب حياة الكنيسة في سفر أعمال الرسل هو الأسلوب والطريقة التي قصد الله دائماً للكنيسة أن تحياها في أن تكون كنيسة مبشرة، مبتهجة، ومزودة بقوة الروح القدس.
ولكن ماذا عن تلك التفاصيل الدقيقة في هذه القصص، والتي إذا أخذناها فقط بعين الاعتبار، ستكون مُعيناً لنا في إدراك قصد لوقا البشير الأشمل؟ هل لهذه التفاصيل القيمة التعليمية نفسها؟ هل يمكن أن تفيدنا كقصص نموذجية فيها أمثلة يُحتذى بها؟
لا نعتقد ذلك، وذلك لأن معظم تلك التفاصيل عرضية بالنسبة إلى الغرض الأساسي للقصة، ولان التفاصيل عادة تختلف من قصة إلى قصة أخرى.
وهكذا فإننا كما سبقنا ودرسنا أعمال 1:6-7 رأينا كيف أن هذه القصة قد أسهمت في الخطة الشاملة للوقا البشير، كخاتمة لمقطعه الأول الرئيسي، وفي الوقت نفسه خدمت في تقديم الهلينيين إلنا. ولربما كانت أيضاً جزءاً من قصده لإظهار الأسلوب الودي الذي حُسم به أول توتر داخل جماعة المسيحيين.
قد نستطيع أيضاً تعلُّم ولو بشكل عرضي عدد آخر من الأمور. فعلى سبيل المثال، من الممكن أن تتعلم صديقنا الدارس أن إحدى الطرق الجيدة لمساعدة أقلية من الناس في الكنيسة هي بمنحها قيادة خاصة بها، عن طريق قيام أعضائها باختيار تلك القيادة (3:6). فهذا ما حدث في واقع الأمر في سفر أعمال الرسل ، لكن هل يلزم علينا أن نحذو حذوهم؟ ليس بالضرورة طبعاً خاصة وأن لوقا البشير لا يوصينا بذلك ولا يوجد لنا حتى أي مبرر للظن بأن مثل هذا الأمر قد دار فعلاً في ذهن لوقا البشير أثناء كتابته للسفر. من جهة أخرى، فإن مثل هذا الأجراء فيه من الحكمة ما يجعلك كدارس تتساءل لماذا يقوم أحد ما بمعارضته.
والمراد قوله هنا هو أنه مهما استخلص أحد أي شيء آخر من قصة كهذه، فإن مثل هذه الخلاصات تبقي عرضية أمام قصد لوقا البشير وخدمته. هذا لا يعني أن الأمور العرضية خطأ، أو أنها تخلو من القيمة اللاهوتية، بل هذا يعني أن كلمة الله لنا في تلك القصة هي في الأساس مرتبطة بما قصدت تلك القصة أن تُعلّمه.
وبناء على هذا النقاش تبرز أمامنا المبادئ التالية المتعلقة بعلم تفسير القصة التاريخية:
إن كلمة الله في سفر أعمال الرسل والتي يمكن الأخذ بها كمقياس أو معيار للمسيحيين هي بالدرجة الأولى متعلقة بالتعليم الذي قُصد إيصاله من خلال أي قصة.
إن ما هو عرضي بالنسبة للقصد الأساسي للقصة قد يعكس فعلياً الفهم الموحى به للكاتب عن الأمور، لكنه لا يمكن أن يكتسب القيمة التعليمية التي قصد للقصة أن يتعلّمها. هذا الأمر بالطبع لا يبطل ما هو عرضي ولا يعني عدم احتوائه على رسالة موجهة لنا. وما يهمنا هو عدم جعل الأمور العرضية أموراً أساسية، رغم كونها تؤدي دائماً مسانداً للتعاليم الأساسية في مواضيع أخرى.
وإن كان على السابقة التاريخية أن تكتسب قيمة معيارية، فيجب عليها أن ترتبط أولاً بالقصد. ومعنى هذا أنه إذا ظهر أن قصد القصة هو إقامة “سابق تاريخية”، يجب إذاً أن ننظر لهذه السابقة كمعيار أو مقياس. مثال: إذا استطعنا إثبات أن هدف لوقا البشير من أعمال 1:6-7 بناء على الدراسة السابقة الاستنتاجية، كان تسجيل سابقة للكنيسة لاختيار وانتقاء قادتها، فعلى عملية الاختيار والانتقاء تلك أن تُتبع لدي مسيحيي اليوم. أما إن لم يكن تأسيس هذه السابقة هو القصد من القصة، فينبغي أن تراعي قيمة هذه السابقة عند مسيحيي اليوم بموجب هذه المبادئ الخاصة والمقترحة.
بعض المبادئ الخاصة
بينما لا تزال تلك المبادئ والمقترحات العامة نُصب أعيننا، من المفيد أن نقدم المقترحات التالية والخاصة بتفسير السوابق الكتابية:
1-من غير الصحيح أبداً أن نستخدم مثالاً مؤسساً على السابقة الكتابية لإضفاء صبغة السلطة الكتابية على ممارسات أو أعمال يومنا الحاضر. فعلى سبيل المثال، لقد تكرر استخدام جزة الصوف التي استعملها جدعون في الماضي كقياس لمعرفة مشيئة الله. فإن كان الله قد تعاطف مع افتقار جدعون للثقة به فإنه قد يفعل ذلك أيضاً مع آخرين، لكن المهم في الأمر أنه ليس هناك أي سلطان كتابي أو حتى تشجيع لمثل هذه الممارسات.
2-مع أن القصد الأساسي للكاتب قد لا يكون إظهار النص كسابقة، لكن للقصص الكتابية قيمة إيضاحية، وأحياناً “نموذجية”. وفي الحقيقة، هكذا كان الأمر عندما قام الناس في زمن كتابة العهد الجديد من وقت لآخر باستخدام سابقات تاريخية من العهد القديم. فبولس الرسول، على سبيل المثال، استخدم بعض الأمثلة من العهد القديم كتحزير لأولئك الذين انخدعوا بأمن زائف بناء على الاختار الإلهي لهم (1كو 1:10-13)، وقد استخدم الرب يسوع الرب أيضاً مثال داود كسابقة تاريخية ليبرز أفعال تلاميذه في يوم السبت (مر 23:2-28) وما يوازيها.
لكن لا يملك أحد منا سلطاناً من الله لقيام بما قام به كُتّاب العهد الجديد بناء على العهد القديم. وهنا وبالتحديد وفي الحالات التي تبرر فيها السابقة فعلاً راهناً يجب التنبيه إلى أن “السابقة لا تؤسس معياراً أو قياساً لعمل معين”. فليس المطلوب من الناس المواظبة على أكل خبز التقدمة أو التقاط القمح في أيام السبت لإثبات أن السبت قد صُنع للإنسان. لكن السابقة الأولى توضح مبدأ متعلقاً بالسبت.
يجدر بنا هنا أيضاً أن نقوم بالتحذير التالي: إن كان للسابقة الكتابية أن تبرر تصرفاً حالياً، فعلى مبدأ هذا الفعل أن يكون مُعلّماً في مقطع أخر من الكتاب المقدس، وهو أي التعليم الرئيسية من المقطع. مثال: أن يقوم أحدهم باعتماد سابقة الرب يسوع في تطهير الهيكل من أجل تبرير ما يُدعى بالغضب المقدس – وهو عادة ما يكون “وصفاً مهذباً” للغضب الأناني – فهذا إساءة استخدام لذلك المبدأ.
3-أما فيما يتعلق بالسلوك المسيحي، فإن السوابق الكتابية قد تعد أحياناً نماذج قابلة للتكرار حتى وأن لم تكتسب الصبغة المعيارية. ويصح هذا خاصة إذا كانت الممارسة نفسها ملزمة لكن طريقتها غير ملزمة، أو غير إجبارية.
ينبغي عند تقرير ما إن كان بالإمكان تكرار ممارسة ما أو نموذج معين أن نتبع الاعتبارات التالية:
(أ) لعل أقوى الحجج التي يمكن إقامتها هي في حالة وجود نموذج واحد فقط، متكرر في العهد الجديد نفسه (مع الحرص على وجود عدم افتراض أو استنتاج ما هو أكثر من اللازم عندما يختار الكتاب المقدس الصمت).
(ب) عندما يكون هناك التباس بين النماذج، أو عند حدوث نموذج مرة واحدة فقط، فإن تكراره بعد المسيحية وفي العصور اللاحقة لا ينبغي أن يتم ما لم يكن منسجماً مع ما يُعلّمه الكتاب المقدس في مواضع أخرى.
(ج) إن ما يكون مرتبطاً بالبيئة أو المجتمع، فهو إما لا يمكن تكراره أبداً، أو أمر ينبغي أن تتم ترجمته إلى ما يقابله في البيئة الحضارية المختلفة.
وأخيراً نقول:
نحن لا نزعم بأننا بهذا قد قمنا بحل كل المعضلات، لكننا نعتقد بأن هذه المقترحات ستكون عملية، ونأمل أن تدعوك إلى التفسير الاستنتاجي لبلوغ مقدار أكبر من التفسير الحياتي أثناء قراءتك لكلمة الله.
خطوات عملية لفهم النصوص الكتابية 6 – سفر أعمال الرسل – السابقة التاريخية
انجيل توما الأبوكريفي لماذا لا نثق به؟ – ترجمة مريم سليمان
رائحة المسيحيين الكريهة – هل للمسيحيين رائحة كريهة؟ الرد على احمد سبيع