لماذا أمر الرب الذين من حوله أن لا يقولوا أنه كان المسيح “المسيا”؟
لماذا أمر الرب الذين من حوله أن لا يقولوا أنه كان المسيح “المسيا”؟
للإجابة على هذا السؤال، يجب أولاً تعريف كلمة “المسيح” العربية التي هي تعريب لكلمة “المسيّا” العبرية.
لمحة تاريخية:
كلمة المسيح في اللغات السامية تعني الممسوح. موسى رسم مسحة (خروج30: 31…). شملت المسحة هارون ونسله الكهنوتي (خروج29: 7 و30: 30 والمزمور132/133: 7). ثم مُسِح الملوك. وبين الاعوام 1000 إلى 587ق.م، عندما حكمت الملكية الداؤودية اليهودية، كان كل ملك يُمسح ويُعتبر ممسوحاً (أو مسيح) الرب وممثل الله أمام الشعب[1].
كانت المرتبة المسيانية للسلالة الحاكمة الداوودية تتمتع بالميزات التالية: إنتخاب داود من قبل يهوه، الوعود بالنصر والسيطرة الواسعة، تبنّي داود وخلفائه كأبناء، الوعد بسلالة حاكمة أبدية غير مشروطة بإخلاص خلفاء داود ليهوه. كان الملك أداةً للأمن السياسي ورفاهية الشعب. في القرن الثامن قبل الميلاد، حدث تطور في المسيانية المَلَكية، بعد أن عتّم ملوكٌ أشرارٌ على مجد السلالة الداوودية ولطًخوا الرجاء المسياني بفكرة أن كل ملك سيكون مخلّصاً لشعبه.
أشعياء على الخصوص أثار رجاءاً مختلفاً: ستوجد قوة ليهوه ستُحيي السلالة الحاكمة وتضمن إستمراريتها، لأنه بالمستقبل القريب سيُقيم الله خليفة مستحقاً لداود. (أشعياء7: 14-16 و9: 6-7) تصفان الوارث الذي سريعاً ما سيولد كآية على أن الله ما يزال مع شعبه المختار (عمانوئيل). سيؤسس الوارث العدالة، ويبني إمبراطورية فسيحة، ويورد السلام إليها، وسيستحق أن يُدعى بألقاب مثل: عجيباً، مشيراً، إلهاً قديراً، أباً ابدياً، رئيس السلام. حدث تبدل جذري بعد النفي في مفهوم الرجاء الداوودي المسياني.
فلم تعد سلالة الداوودية حاكمة بعد في أورشليم، وبالتالي فالممسوح (المسيح) المنتظر بالكاد يستطيع أن يكون الملك التالي. فالملك المثالي المنتظر سيأتي في مستقبل غير معين عندما يُستعاد عرش داود. هكذا بزغت تدريجياً فكرة الملك المسياني بالمعنى الذي إعتاد الكثيرون أن يفكروا به. بالطبع ما يزال المسيح شخصاً بشرياً سيأتي في حدود التاريخ، لكن عمله سيكون ظهوراً خاصاً لقوة يهوه، وسيحرّر الشعب بدون حدود ويمنحهم الخيرات الروحية والمادية معاً.
مع ذلك، بما أنه لم توجد سلالة حاكمة منظورة لتُنتج هذا الشخص، فقد ظهرت آمال وتوقعات يهودية اخرى غلى جانب التوقعات الداودية، مثل الخلاص بكاهن مثالي، او نبي مثل موسى، أو بالله بدون معونة بشرية. في أيام الرب يسوع نجد توقعات مختلفة تتعلق بالمسيح المرجو. فلم يتوقع كل اليهود مجي المسيح، والذين كانوا يتوقعون مجيئه كان لهم تصورات مختلفة عنه كما تدل عليها المصادر اليهودية في تلك الفترة[2].
والأدب اليهودي بين 200ق.م و100م ذكر مرات قليلة هذا اللقب بالإشارة إلى شخص مستقبلي. توجد اكثر من 15 مرة تّذكر فيها كلمة “المسيح” في مخطوطات البحر الميت المؤلفة خلال 150سنة. بالإضافة غلى ندرة الإشارات (أقل من30) خلال300 سنة عن توقع مجيء المسيح، نضيف حقيقة أخرى أنه رغم أن يوسيفوس، المؤرخ اليهودي المشهور المعاصر للمسيح، قد وصف كل أنواع الشخصيات التاريخية (أنبياء، كهنة، ملوك، مثيري شغب) في القرن الأول الميلادي، إلا أنه لم يدعُ احداً منهم قط مسيحاً.
إلا أن يوسيفوس يشير إلى يسوع بلفظة “مسيح، خريستوس” مرتين. إذاً قبل هذا لا يوجد شخص في هذه القرون قد أعتبره اليهود أنه المسيا المَلكي سوى يسوع الناصري. ولكن في كتاب الصلوات اليهودي_العبري_العربي (القاهرة1917) تتردّد كثيراً عبارة: “وليأتِ المسيح في أيامنا وايام أولادنا ولتحلّ علينا بركته” فدخول الأمر الصلوات اليومية أهمّ شأناً من ذكره عضاً أو قصداً في الكتب الأخرى.
وهذا مؤيد بحادثة وردت في إنجيل يوحنا: كان يسوع قد ذكر رفعه على الصليب، فأجابه الجمع: “نحن سمعنا من الناموس أن المسيح يبقى إلى الأبد، فكيف تقول أنت أنه ينبغي أن يرتفع إبن الإنسان؟” (يو12: 34). المقصود هنا بالناموس الكتاب المقدس. فعقيدة مجيء المسيح وبقائه إلى الأبد كانت، إذاً، آنذاك شعبية لدى الجموع. وسماه كثيرون “إبن داود” وبخاصة في يوم أحد الشعانين.
“المسيح في الاناجيل”:
إختصاراً للوقت، سنذكر هنا أربعة حوادث ترد فيها مسألة لقب “المسيح” ليسوع، وهي: سؤال يوحنا المعمدان، إعتراف بطرس، سؤال رئيس الكهنة اليهودي في محاكمة السنهدرين، وحديث الرب مع السامرية.
شهادة يوحنا المعمدان: “أرسل اليهود من أورشليم كهنة ولاويين ليسألوه مَن أنت؟. فاعترف ولم ينكر وأقرّ أني لستُ المسيح. فسألوه: إذاً ماذا؟ إيليا أنت؟ فقال: لستُ أنا. ألنبي أنت ؟ فأجاب لا… فسألوه وقالوا له: فما بالك تعمّد إن كنتَ لست المسيح ولا إيليا ولا النبي؟ (يو1: 19-25). يوحنا أجاب أولاً: “لست المسيح”.
الفريسّيون قالوا: “إذا لم تكن المسيح…”. وحين النزول من جبل التجلّي سأل التلاميذ الثلاثة يسوع: “فلماذا يقول الكتبة إن إيليا ينبغي أن يأتي أولاً؟” (متى17: 10). والكتبة فريسّيون. والفريسّيون هم علماء الدين. ففي أيام يسوع كان تعليمهم عن مجيء إيليا أولاً والمسيح ثانياً تعليماً مقرّراً رسمياً. وكان الشعب يردّد كلام الكتبة والفريسّيين. فبعض النقص في المدونات اليهودية لا يؤثر على الحقيقة الثابتة في هذا الحوار.
إعتراف بطرس: جواباً على سؤال الرب يسوع لتلاميذه “من يقول الناس إني انا؟”، “أجاب بطرس وقال له: انت المسيح” (مر8: 29-33)، “أنت هو المسيح إبن الله الحي” (مت16: 15-23)، “ومسيح الله” (لو9: 20-22). بعد هذا الإعلان ينتهر الرب يسوع تلاميذه كي لا يُخبروا عنه. لا يعني هذا أن إعتراف بطرس خاطئ، لأن الرب يمدح بطرس على هذا الإعتراف. لكن يسوع يبدي تحفظاً هنا تجاه مفهوم المسيّا لدى الناس، لأنه لن يقبل بتعريفهم للمسيّا بدون عنصر الآلام المرتبط به إرتباطاً جوهرياً.
من هنا نفهم لماذا وبّخ الرب تلميذه بطرس بقسوة لأنه رفض، بدون إدراك، هذه العلاقة بين المسيا وبين آلام يسوع (مت16: 22-23). إذاً لم يرفض الرب يسوع لقب المسيّا وإنما رفض المفهوم الشائع له لدى الناس عامةً والتلاميذ خاصةً والذي يفصله عن الإرتباط بالآلام.
سوء فهم هذا اللقب هو الذي رفضه الرب. بعد تكثير الخبزات الخمس سعى اليهود لتنصيبه ملكاً، ففّر من وجوههم (يوحنا6). ما كان يسوع يريد مثل هذه المغامرة اليهودية ذات الطابع المدني الثائر ضد الرومان. وأعلنه للسامرية لأن السامريين لا يفكرون في مغامرة كهذه، بل قالوا فيه: “… مخلّص العالم حقاً” (يوحنا4: 42) مخلّص العالم لا مخلّص اليهود أو السامريين وحدهم.
سؤال رئيس الكهنة في محاكمة السنهدرين: سأل رئيس الكهنة: “أنت المسيح إبن المبارك؟” أجاب يسوع في مرقس: “أنا هو” (مر14: 62)، وفي متى: “أنت قلت” (مت26: 64)، وفي لوقا: “إن قلت لكم لا تصدقون؛ وإن سألتُ لا تجيبونني” (لو22: 67-68). يدل هذا على أن مسألة “المسيح” قد أُثيرت خلال حياة يسوع. ففي مرقس كان جواب الرب بالإيجاب؛ وفي متى “… أنت إذاً إبن الله؟” … قال: “أنتم تقولون إني أنا هو”. يوافق الرب في جوابه الإيجابي على السائل رئيس الكهنة.
لم ينجح على شهادات متطابقة، فلجأ إلى إستجواب يسوع لينتزع منه إقراراً قضائياً يكفي للحكم على يسوع. لم يخف يسوع. إعترف بالحقيقة، فحكم عليه السنهدرين بالموت. وفي لوقا جواب الرب موجّه إلى المجمع بصورة تجمع نصّي متى ومرقس. في يوحنا قالوا: “إن كنت أنت المسيح فقل لنا جهراً، أجابهم يسوع: إني قلتُ لكم ولستم تؤمنون” (يو10: 24-25). أيضاً لم ينكر الرب أنه المسيّا، لكنه كان يعرف أنهم لن يؤمنوا بالمعنى الحقيقي لهذا اللقب ولن يفهموه.
حديث الرب مع السامرية: هنا تقول السامرية للرب: “أنا أعلم أن مسيّا الذي يقال له المسيح يأتي. فمتى جاء ذاك يُخبرنا بكل شيء. قال لها يسوع: أنا الذي أكلمك هو” (يو4: 25-26). على مستوى القصة، كان جواب الرب أنه المسيّا تأكيدي وإيجابي ومدعوم بـ(يوحنا1: 41). إن الفهم السامري للمسيّا لم يكن يحمل التلّون السياسي الذي كان للفهم اليهودي، ولأن السامريين لم يتوقعوا المسيح لأنهم رفضوا العهد بين الله وداود عن إستمرار التعاقب الملوكي لسلالة داود.
حديث الرب يسوع مع السامرية (يوحنا4: 20-25) قادها إلى معرفة كون الخلاص ياتي من اليهود، وإلى عبارة الآب بالروح القدس والحق فآمنت بإنه نبيّ وأن كان يهودياً. فأعلن لها يسوع عبارة الآب ومسيحيانته. إذاً، من الأناجيل الأربعة نعرف أن الرب يسوع لم ينكر أنه كان المسيح، وإلا لكان تلاميذه قد قالوا أنه كان قد صُلِب بتهمة كاذبة (تهمة كونه ملك اليهود، أي المسيح). لكنه كان مسيحاً وملكاً من نوع آخر.
المفهوم الشعبي للمسيح: كما رأينا، تلوّن مفهوم المسيّا في اليهودية المعاصرة ليسوع بلون سياسي قومي، وأكتسب تحت الحكم الروماني نبرات سياسية قوية، وصار يُنظر إلى المسيّا كملك قومي لليهود من نسل داود، وظيفته أن يحرّر اليهود من الإستعمار الروماني ويؤسس مملكة أرضية يهودية. فعند الدخول الأخير إلى أورشليم في أحد الشعانين، عبّرت الجموع عن تطلّعاتها القومية بأن يكون يسوع الناصري ملكاً وطنياً مثل ياهو (2 ملو9).
وحتى قبل حلول الروح القدس على التلاميذ يوم العنصرة، نجد أن التلاميذ أنفسهم كانوا ما يزالون يشاركون اليهود بعض هذه التطلّعات. إذ قال إثنان منهما عندما قابلهما الرب في الطريق غلى عمواس: “ونحن كنا نرجو أنه هو المزمع أن يفدي إسرائيل” (لو24: 21). والصدى نفسه نجده في سؤال التلاميذ ليسوع قبل صعوده إلى السماء: “يا رب، هل في هذا الوقت ترّد المُلك إلى إسرائيل؟” (أع1: 6). لهذا كان الرب متحفّظاً جداً من دعوة أي واحد له بالمسيح (مر1: 34؛ مر5: 43؛ مر9: 9).
لكن الرب يسوع كان ملكاً، قد أتى ليؤسّس مملكة، وليحرّر شعبه وليرد المُلك إلى إسرائيل؛ لكنه كان ملكاً من نوع آخر، ملكاً كونياً إلهياً أتى ليؤسّس مملكة ليست على هذه الأرض، ملكاً يحرّر شعبه من أهم عدو له وهو الخطيئة، ملكاً يرد المُلك إلى إسرائيل الجديد وهو الكنيسة، ملكاً ترتبط ملكيته ومسيانتيه إرتباطاً بالآلام والموت (عبد يهوه في أشعيا) وبالتالي بالقيامة.
هذا المسيح الملك تمّم مسيانيته بإنجازه خروجاً exodus من نوع جديد في أورشليم (لو9: 31)، خروجاً يترادف مع موته على الصليب، فيه خلّص شعبه من عبودية الخطيئة والموت فأخرجهم منهما، ومنحهم حياة أبدية وملكوتاً سماوياً، ومواطنة جديدة في أورشليم السماوية الجديدة[3].
لاهوتياً: قال غريغوريوس اللاهوتي ويوحنا الدمشقي إن لاهوت يسوع هو مسحة لناسوته. وقال كيرللس الإسكندري إن الروح القدس مسح يسوع وسكن في ناسوته يوم البشارة. أما سرمدياً فالروح القدس ساكنٌ في يسوع الإله. ولذلك لقب “المسيح” في اللاهوت يدلّ على لاهوت يسوع أيضاً. (د. عدنان طرابلسي)
[1] راجع: مز2: 2؛ 2صمو7؛ مز89؛ 1 تاريخ17.
[2] مخطوطات البحر الميت؛ مزامير سليمان (القرن الأول ق.م)؛ إلخ.
[3] راجع للإستزادة: R.E. Brown: the death of the Messiah, p. 473 وشرح إنجيل متى للقديس يوحنا الذهبي الفم، ترجمة د. عدنان طرابلسي، الجزء الثالث، دراسة: “مَن يقول الناس إني أنا”