تحقيق النبوءات – نبوات العهد القديم وتحقيقها في العهد الجديد
يدعي العهد الجديد بالمطلق انه يحقق العهد القديم ويتمّمه وذلك على أساس قول السيد: “… موسى والأنبياء عني تكلّموا” (لوقا 27:24). وأيضاً استناداً إلى ما جاء على لسان أحباء الرب: “… وجدنا الذي ذكره موسى في الشريعة وذكره الأنبياء…” (يوحنا45:1). وأيضاً: “من بولس عبد المسيح يسوع دعاه الله ليكون رسولاً، واصطفاه ليبلغ بشارته، تلك البشارة التي سبق وعده بها على ألسنة أنبيائه في الكتب المقدسة، في شأن ابنه الذي ولد من ذرية داود…” (رومية 1:1-4). وأيضاً: “… فمنذ أيام يوحنا إلى اليوم ملكوت السماوات يؤخذ بالجهاد، والمجاهدون يختطفونه.
فجميع الأنبياء قد تنبأوا، وكذلك الشريعة، حتى يوحنا…” (متى 12:11-15)[1]. وأيضاً: “… كنت كل يوم أجلس في الهيكل أعلّم، فلم تمسكوني، وإنما حدث ذلك كلّه لتتم كتب الأنبياء…” (متى 56:26). وأيضاً: ” وإذا رجلان يكلّمانه، وهما موسى وإيليا، قد تراءيا في المجد، وأخذا يتكلمان عن رحيله الذي سيتم في أورشليم…” (لوقا 30:9-31). وأيضاً: “إن الله، بعدما كلّم أباءنا قديماً مرات كثيرة بلسان الأنبياء كلاماً مختلف الوسائل، كلمنا في هذه الأيام، وهي آخر الأيام بلسان ابنه الذي جعله وارثاً…” (عب 1:1-3). وأيضاً: “فإن المجد الذي كان أهلاً له يفوق مجد موسى بمقدار ما لباني البيت من فضل على البيت.
فكل بيت له بانٍ، وباني كل شيء هو الله. كان موسى أميناً لكونه خادماً يشهد على ما سوف يقال. أما المسيح فهو رب البيت لكونه إبناً ونحن بيته…” (عب 3:3-6). وأيضاً: (متى 1:1-17). وأيضاً: “أفنبطل بالإيمان عمل الشريعة؟ معاذ الله! بل نثبت الشريعة” (رومية 31:3). وأخيراً وليس آخراً: “ما جئت لأنقض بل لأتمم” (متى 17:5-18). وعلى سبيل المثال لا الحصر، فإن سفر أشعياء نفسه يؤلف في ذلته قفزة لا تستقر أبداً إلا في يسوع المسيح.
وكل هذا يأتي ليؤكد أن أسفار العهد القديم كلّها والنبوءات أيضاً، تصبح عديمة الجدوى والفائدة، ولا مبرر لها، إذا قرئت بغير أنوار يسوع المسيح في العهد الجديد، الأمر الذي نلاحظه بجلاء ووضوح في الليتورجيا الأرثوذكسية. من هنا، فالكتاب المقدس بعهديه هو تاريخ علاقة لا تنكسر بين الله والإنسان.
والتدبير الإلهي الرامي إلى خلاص الإنسان وتألهه، لا يتوقف عبر التاريخ رغم تبدّل الأمصار والأحوال. لهذا يستحيل بتر حلقات تاريخ الفداء، والفصل بينها، وذلك ببساطة لأن الرب قال: “ما جئت لأنقض بل لأتمم” (متى 17:5-18).
العهد القديم يُعدّ للعهد الجديد ليكتمل به. من هنا كام من البديهي أن يكون هناك وحدة لا تنفصم بين قديسي العهدين معاً، وذلك لأن للعهدين رباً واحداً وقدوساً واحداً (رومية الاصحاحان 8-9).
ووعي الكنيسة لوحدة العهدين، يقوم على تماسك حلقات تريخ الخلاص كما أسلفنا، بحيث أن محاولة ترمي إلى فصل العهدين، من شأنها أن تسيء للاثنين معاً، وذلك لأنها تقوم على بتر تاريخ العهد الإلهي مع الإنسان.
من هذه الزاوية أيضاًن لا يعود من غرابة البتة في أن نرى العهد الجديد يعتمد مقاطع من أشعياء مثل (متى 14:13-15)، (يوحنا 39:12-40). (أعمال 25-28-27)، (رومية 16:10)، (رومية 21:10)، وما هذا إلا غيض من فيض.
ويسوع، له المجد، اعتمد العهد القديم مرات ومرات كما يبدو لمن يطالع العهد الجديد، الأمر الذي يدعونا بشجاعة إلى اعتماده في قراءتنا الروحية وتفسيرنا له، إستناداً إلى شهادة الرب نفسه، والتي تأتي لتؤكد قدسية العهد القديم المطلقة.
ويبدو لمن يطالع العهد الجديد برويّة، أن يسوع، له المجد، يعتمد العهد القديم حرفياً أيضاً ليثبت سلطانه الروحي ككتاب موحى في صميم حياة الجماعة. إلا أننا نراه في الوقت نفسه يضفي على مضمون العهد القديم مسحة روحية، وكل ذلك لأن للعهد القديم قدسية في نظره. تُرى أين نجد مواقف الرب من العهد القديم؟ لنسمع:
“ناموسي جاء إلى يسوع يسأله ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية؟” (مرقس 19:10)، (مرقس8:7-9). ماذا كان جواب الرب؟ شرع الرب يلوم الفرسيين لتركهم الوصية. وعندما أُتهم بأنه نقض الناموس، قال: “كيف يقول الكتبة أن المسيح هو ابن داوود، بينما داود نفسه، وبوحي الروح القدس قال: “قال الرب لربي اجلس عن يميني حتى أجعل أعداءك موطئاً لقدميك…” (مرقس 36:12)، (متى 45:22). وكان داوود قد نطق بوحي الروح القدس، حسب شهادة العهد الجديد. وموسى وغيره من الأنبياء تكلموا بدورهم مدفوعين بالروح القدس: “وإذا رجلان يكلمانه، وهما موسى وإيليا قد تراءيا في المجد، وأخذا يتكلمان عن رحيله الذي سيتم في أورشليم” (لوقا 30:9-31).
إلا أننا من الناحية الثانية، نجد الرب يسوع ينطق من التفسير الحرفي للكتاب وذلك لينتقد مفهوم الفريسي للشريعة: “ثم قال لهم: السبت جعل من أجل الإنسان، لا الإنسان من أجل السبت. إذاً ابن الإنسان هو رب السبت أيضاً” (مرقس 27:2-28)، (مرقس 4:3). وفي موضع آخر نرى يسوع ينفي إمكانية الطلاق، فينتقد حرفية النص الكتابي، أو بالأحرى قبول المفهوم الحرفي للنص الكتابي (متى 31:5-34)، وهذا بدوره يحملنا إلى عالم التثنية (راجع تثنية 1:24) حيث نجد أن ما كتبه موسى، يتضمن مفهوماً أكثر قدماً ورد في (تك 24:2)، فلنسمعه: “… يترك الرجل أباه وأمه ويلازم امرأته فيصير الاثنان جسداً واحداً”.
بيد أننا نرى يسوع، في موضع آخر، في العظة على الجبل، ينأى عن التفسير الحرفي للناموس، فيقول: “قيل لكم، أما أنا فأقول لكم…” (متى 33:5-45).
وهذا كله يشير في النهاية إلى أن يسوع هو الذي يكمّل الناموس والأنبياء كما نسمع في الكنيسة: “أيها المسيح إلهنا، بما أنك أنت كمال الناموس والأنبياء. يا من أتممت كل التعبير الأبوي. أملأ قلوبنا فرحاً وسروراً كل حين…” (راجع خدمة القداس الإلهي افشين ما قبل الختم).
يسوع يعلن صراحة، وبسلطان، أن العهد القديم ناقص بدونه، رغم الإقرار بقدسيته: “لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس والأنبياء، ما جئت لأنقض، بل لأتمم…” (متى 17:5-19)، يعكس جملة من أمور خليق بنا التوقف عندها للتأمل فيها.
في موقف يسوع اقر إقراراً صريحاً أنه جاء ليتمم العهد القديم، لا ليلغيه. والإلغاء – كما يتبين – غير وارد. كذلك فإن كلام الرب يعني أن العهد القديم ناقص ويحتاج إلى تتمة، ويسوع هو من سوف يتممه ويكمّله. القارئ النبيه، لا بد أنه يدرك أن يسوع ليس هو فقط من يتمم العهد القديم، بل هو غاية العهد القديم أيضاً، وفيه تجد أقوال الأنبياء معناها: “ثم ابتدأ من موسى ومن جميع الأنبياء يفسر لهما الأمور المختصة به في جميع الأسفار…” (لوقا 27:24)، (يوحنا 45:1).
هكذا فهمت الكنيسة – برسلها ورجالاتها وقديسيها ومجامعها وقوانينها – طبيعة العلاقة بين العهدين المتحدين صميمياً تحت اسم واحد: الكتاب المقدس.
لقد عاشت الكنيسة الأولى بالعهد القديم، ومنه اغتذت. من هنا أخذت الليتورجية الأرثوذكسية رؤيتها إلى العهدين، فكان تفسير الكتاب المقدس بالليتورجيا أمراً يأخذ العهدين معاً، على أن القديم ظلّ للجديد الآتي في ملئه وتماميته في يسوع المسيح.
وفي حياة يسوع تتم الكتب، الأمر الذي يدفعنا إلى الكلام عن تلازم العهدين ووحدتهما (أعمال 18:3-24)[2]، (لوقا 6:24-8). وهذا بديهي لأن سر المسيح يستقطب الأنبياء (لوقا 25:24)، (أعمال 30:2)، (رومية 2:1)، (1 بطرس 11:1)، (2 بطرس 19:1-21).
وعليه، يبدو بجلاء أن يسوع الرب هو في مركز دائرة النبوءات. فزكريا (لوقا 36:1)، ويوحنا المعمدان وسواهما، كانوا يتطلعون إلى يسوع بالحنين. وزاد السابق يوحنا عنصراً جديداً حيث شرع يرنو إلى الرب لا بالحنين فقط، بل بالبنان أيضاً (يوحنا 26:1).
قلت إن العهد الجديد يطفح بالاقتباسات التي تجعله مرمى العهد القديم وغايته. ويستطيع المتتبع لخدمة الألآم الخلاصية الطاهرة أن يتبين لنفسه كثرة الأدلة على ذلك. في خدمة الألآم كثيراً ما نسمع عبارة: “قد تم”. ما معنى هذه العبارة؟
عند “متى” ترد العبارة قرابة العشر مرات، حيث أنها ترد بالنسبة لميلاد الرب، وهربه إلى مصر، وشفاء المرضى، ودخوله إلى أورشليم، وفضة يهوذا، الأمر الذي يجعلنا ندرك أن العهد القديم موجّه نحو يسوع ويتم بيسوع.
ومع يوحنا نأتي إلى ذروة الاتمام حيث يقول: “ليتم الكتاب” (يوحنا 28:19). والجدير ذكره هنا ان الفعل المستعمل في السبيعينية هو # وليس #، أي أن صلب يسوع هو خاتمة وذروة كل نبوة. ولوقا أيضاً لا يستعمل هذا الفعل إلا في صدد الكلام عن الألآم[3] (لوقا 50:12)، (31:18)، (37:22). وفي الرسالة إلى العبرانيين نجد الفكرة نفسها (عبرانيين 1:2)، (عبرانيين 8:5-9). ويؤكد ذلك كاتب الرسالة إلى أهل كورنثوس حيث يقول: “لأن جميع مواعيد الله صارت فيه” (2 كور 2:1).
يبدو لمن يطالع الكتاب المقدس، وقد تيّقن من حتمية تلازم العهدين ووحدتهما، أن تتميم النبوات يتجلّى في صعد ثلاثة:
1-صعيد التشابه أو التماهي (resemblance identification)
2-صعيد التباين (difference between the two testaments)
3-السمو أو التخطي (transcendence)
1-التشابه أو التماهي:
الكلام عن تشابه بين النبوءة وتحقيقها، هو في العمق كلام عن مقاربة العهد القديم للعهد الجديد، وذلك لأن ما جاء على لسان الأنبياء، بالروح القدس، ها هو الآن يتحقق في شخص الرب. وهذه النظرة هي من الوضوح بحيث أنها تجلّت في الكنيسة، في دستور للإيمان صاغته من خلال رجالاتها المستنيرين والمتقدسين عبر المجمعين المسكونين: الأول والثاني. وما نزال حتى اليوم، وإلى نهاية العالم، نتلو هذا الدستور في صلواتنا المختلفة، وقداسنا الإلهي.
وليس في التشابه بين العهدين مشكلة البتة. إذ يستحيل الكلام عن النبوءات وتحقيقها في غياب وجوه الشبه العديدة والكثيرة بين العهدين، دون أن يعني ذلك إمكانية ضياع الاتجاهية الكتابية. وغياب الاتجاهية الواحدة بين العهدين، يدعو إلى تفكيك وحدة التاريخ المقدس، كما ويدعو إلى تكذيب الرب نفسه الذي قال: “موسى والأنبياء عني تكلّموا” (لوقا 27:24).
مثل هذا الاستنتاج يعني حتماً تفكيك العهد الجديد نفسه كونه يحتضن العهد القديم على نحو ما نرى في افتتاحية إنجيل متى، وافتتاحية الرسالة إلى العبرانيين. وينسحب هذا التفكيك على صور عديدة أخرى اكتفي بأحدها: تجلي الرب على جبل ثابور (متى 1:17-10)، (مرقس 1:9-10)، (لوقا 28:9-36). وهذا غيض من فيض.
التشابه قائم أصلاً في الكتاب الإلهي، لا سيما عندما يقترن اسم يسوع، باسم موسى، لنسمع: “لذلك أيها الأخوة القديسون المشتركون في الدعوة السماوية، تأملوا الرسول والحبر الذي نشهد له، أعني يسوع، فهو أمين لمن أقامه كما كان موسى أميناً لبيته أجمع. فإن المجد الذي كان أهلاً له، يفوق مجد موسى بمقدار ما لباني البيت من فضل على البيت. فكل بيت له بانٍ، وباني كل شيء هو الله. وقد كان موسى أميناً لبيته اجمع لكونه خادماً يشهد على ما سوف يقال. أما المسيح فهو رب البيت لكونه ابناً ونحن بيته إن احتفظنا بالثقة والفخر بالرجاء”. (عب 1:3-6).
ولا يُخفى على قارئ هذا المقطع إن التشابه والمقابلة، تستدعي في الوقت نفسه الفارق الكبير بين خادم البين (موسى)، وبانيه (يسوع المسيح).
كذلك، هنالك مقابلة أخرى كالتي بين الكهنوت القديم، والكهنوت المسيحي، لنسمع: “فإن كل حبر يؤخذ من بين الناس ويقام لدى الله من أجل الناس، لقرّب قرابين وذبائح كفّارة للخطايا. وبوسعه أيضاً أن يشفق على الجهال والضالين لأنه هو نفسه متسربل بالضعف، فعليه إذاً أن يقرّب كفارة لخطاياه هذا المقام إلا إذا دعاه الله كما دعا هارون. وكذلك المسيح لم ينتحل المجد ليجعل نفسه حبراً، بل تلقى هذا المجد من الذي قال له: “أنت ابني وأنا اليوم ولدتك. وقال له في مكان آخر: أنت كاهن إلى الأبد على رتبة ملكي صادق. وهو الذي في أيام حياته البشرية رفع الدعاء والابتهال بصراخ شديد… ولما جعل كاملاً صار لجميع الذي يطيعونه علة خلاص أبدي لأن الله دعاه حبراً عل رتبة ملكي صادق” (عب 1:5-10).
وأيضاً هناك تقابل مماثل كالذي بين العبادة الأولى القديمة، وتلك النابعة من المسيح والمتصلة به (عب 1:9-14). إن هذه الأمثلة تكشف التقابل بين القديم والجديد، والشبه بينهما، بمعنى وحدة الهدف، ووحدة الاتجاهية، إلا أنها لا تقف عند حدّ التقابل. فبينما كان الهيكل الأول يهودي الطابع، فإن الهيكل الثاني، الذي يبنيه الرب، في جسده الطاهر، فيه يزدحم كل ملء الأمم، لنسمع:
“لأنه هكذا قال رب الجنود. هي مرة بعد قليل فأزلزل السماوات والأرض والبحر واليابسة. وأزلزل كل الأمم ويأتي مشتهى كل الأمم، فالملأ هذا البيت مجداً…” (حجاي 6:2-9). وأيضاً: “لي خراف ليست من هذه الحظيرة، ينبغي أن آتي بها…” (يوحنا 16:10).
كذلك ثمة صورة كتابية أخرى ترسّخ التقابل بين العهدين: سلّم يعقوب (التكوين) ومريم العذراء. عبور البحر الأحمر (الخروج)، والمعمودية (1 كورنثوس 1:10-4). يونان في بطن الحوت، ويسوع في القبر… وهذه الصور هي اقتباسات كتابية تعتمدها الكنيسة في لتورجيتها العامة وعبادتها، وكلّها تأتي لتؤكد التقابل والتشابه، لا بل الوحدة بين العهدين. إلا أن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد بل يتعدّاه إلى التباين والاختلاف بين العهدين. لنتابع.
2-الاختلاف والتمايز بين العهدين:
تكلمنا في الفقرة السابقة عن وجوه الشبه والتقابل بين العهدين. أما الآن فسوف نتكلم عن وجه ثان هو الاختلاف والتمايز بين العهدين.
التمايز أو الاختلاف، بين العهدين، هو أمر واجب أيضاً، وذلك لأن الحقيقة المعلنة في العهد الجديد، لا يمكنها أولاً أن تختلف عن رسالة العهد القديم، كما ولا يمكنها ثانياً أن تكون مشابهة لها إلى حد التماهي (Identification).
التمايز يعني أن الاكتفاء بوجه الشبه لا يكفي. وهكذا فالتمايز، بهذا المعنى، هو ضرورة عند الكلام عن العهدين، لأن التشديد على التشابه، من شأنه أن يؤدي بنا إلى إمكانية الاكتفاء بالعهد القديم. فالو دار الكلام عن شبه فقط بين العهدين، لكان من الطبيعي أن ينتج عن ذلك عدم ضرورة لعهد جديد، بحجة أن التشبه يدعو منطقياً إلى الاكتفاء بالعهد الأول، أي العهد القديم.
التمايز بين العهدين واجب، لأن الاختلاف بين العهدين قائم. ومع ذلك ليس من تناقض بين الشبه والتمايز في مسألة العهدين ووحدتهما. وهكذا فالتشابه ضروري، والتمايز ضروري، والاختلاف أيضاً ضروري.
بيد أن هذا التمايز المذكور، ليس أمراً مطلقاً، فهو يتضمن وجوه شبه. ووجوه الشبه، في حد ذاتها تتضمن التمايز.
التقابل بين العهدين هو في حد ذاته دعوة إلى قيام التمايز (عب 1:3-6)، (عب 1:5-10)، (عب 1:9-14). والتشابه في ذاته، يجعل النبوءة وتحقيقها، في إطار من وحدة. ولكن لماذا التمايز؟
السبب بسيط: “ما جئت لأنقض بل لأتمم” (متى 17:5). هذا يعني أن اللاحق متميز عن السابق لكونه تتمة له. وأيضاً أن الرب جاء ليتمم ما سبق البدء به. لذا يستحيل أن يكون من بدأ بالأمر، غير الذي يأتي الآن ليتمّه. قابل هذا مع: “قيل لكم أما أنا فأقول لكم…”. إن عبارة “ما جئت لأنفض…”، تعني أن القديم ما يزال قائماً. أما عبارة “لأتمم” فتعني أن القديم ناقص. القديم ناقص ويكتمل بالجديد. من هذا نستدل أن وحدة الفكر الكتابي جلية، وتاريخ الخلاص واحد، إلا أن هذه الوحدة، وهذا التاريخ، يتحركان في تدرج وارتقاء إلى حين يأتي ملء الزمان، الذي سوف يكشف معنى الحياة (غلاطية 4).
وهذا الارتقاء المذكور يعبر عنه في الكتاب المقدس على نحو بديع في افتتاحية الرسالة إلى العبرانيين، فلنسمعها: “بمراحل كثيرة، وبطرق عديدة…”[4] (عب 1:1). وهكذا فالتمايز والتشابه، بين العهدين، ليسا على تناقض، لا بل هما أمران طبيعيان في هذا الارتقاء البديع من مرحلة الوعود إلى مرحلة التحقيق. الارتقاء هذا يكشف الاتجاهية الكتابية ويؤكدها إلا أن التمايز يدعو إلى رؤية الملء الآتي والذي فيه نأتي إلى صعيد جديد هو: التخطي.
3-التخطي transcendence:
التخطي لا يعني انعدام الصلة بين العهدين القديم والجديد، فالعهدان ينطويان على تشابه وتمايز وتخطّ بآن معاً. التخطي هو على انسجام مع العهد الأول، بمقدار ما بين خادم البيت وبانيه من فارق وانسجام (عب 1:1-4). التخطي هذا لا يعني التنكر للقديم بعد مجيء المسيح، ويسوع يؤكد ذلك بقوله: “لا تظنوا أني جئت لأبطل بل لأكمل…” (متى 17:5-19).
التخطي لا يدعو إلى إلغاء القديم، بل إلى رؤية الحب الإلهي الذي دخل تاريخنا منذ بدء وجودنا. يسوع، لا ينقض الشريعة بل يحترمها ويخضع لترتيباتها كما تبين في عيد دخوله إلى الهيكل (2 شباط). يسوع يسند الشريعة ولا يلغيها. أنه يرقى بها ليجعلها السبيل إلى الكمال: “…أما الذي يُكبّ على الشريعة الكاملة، شريعة الحرية، فيواظب عليها، شأن من يعمل، لا شأن من يسمع ثم ينسى، … بل عاملاً بالكلمة، فهذا يكون مضبوطاً في عمله”. (يعقوب 25:1). وأيضاً: “… كل ما تريدون أن يفعل الناس بكم… هذا هو الناموس والأنبياء” (متى 12:7). وأيضاً: “… بهاتين الوصيتين يتعلق الناموس كلّه والأنبياء” (متى 40:22).
لنسمع أيضاً: “متى جاء الكامل، أبطل الناقص” (1 كور 10:13)، الأمر الذي يعني أن التخطي يلغي التشابه والاختلاف معاً. إلا أن إبطال الناموس لا يعني إلغاءه: “… لأن من أحب غيره، فقد أكمل الناموس…” (رومية 8:13-9). وأيضاً: “… لأن كل الناموس في كلمة واحدة يكتمل: “تحب قريبك كنفسك” (غلا 14:5).
الناموس إذاً لا يُلغى بل يأتي إلى كماله في المحبة التي يحياها المؤمن. وهذا يعني أن التخطي لا يزيل التشابه ولا يلغي الاختلاف. فلو أن مجيء الكامل يستتبع بطلان الشريعة، عندما لا يعود من معنى لقول الرب: “ما جئت لأنقض بل لأتمم”. التخطي لا يلغي التشابه. لو ألغي القديم بورود الجديد لماذا نجد موسى وإيليا مع يسوع؟
هذا يأتي ليؤكد أن إله الأنبياء هو إله الإعلان الكتابي وإله إسرائيل. أنه إله التاريخ في ماضيه وحاضره ومستقبله: “إن يسوع المسيح هو أمس واليوم وإلى منتهى الدهور” (عب 8:13). يسوع يُدرك في التاريخ، لأنه تجسّد، لكنه يتعذّر احتواؤه واستنفاذ ملئه. إنه في التاريخ، في صميمه، لكنه فوقه بآن معاً. وهكذا فدور الأنبياء يكمن في دعوة الناس إلى المسيح:
-
الأنبياء ووحدة الفكر الكتابي:
الأنبياء لا يتقوقعون في إطارهم التاريخي. إنهم منذ أن كانوا، إنفتاح مشرق على الحياة، وحنين دائم للركون في المسيح، وهذا ما يؤكده الرب حرفياً إذ يقول: “ثم ابتدأ من موسى ومن جميع الأنبياء يفسر لهما ما يختص به في كل الأسفار” (لوقا 27:24)، ويؤكده يوحنا (يوحنا 45:1) أيضاً.
النبي يكشف الأحداث. في الأنبياء شيء من شخصية مؤرخ. ولكن ما يكشفه النبي في الحدث قد لا يوافقه عليه أحد. وهكذا من البديهي أن يكون النبي بالنسبة للكثيرين من أبناء زمانه كاذباً كبيراً. بيد أن الأزمنة اللاحقة ستأتي لتؤكد وتثبت صحة نبوءته وصدق كلماته، فيتعرى الناس وتعتلن ضحالة أفكارهم وهشاشة رؤياهم وقلّة إيمانهم بالله الحي.
ومع كبير دورهم، فالأنبياء لم يعرفوا في زمانهم النجاح الدائم والكامل، لم يبرعوا أمام معاصريهم. وأحدهم لم ينل حظوة لدى سامعيه ومشاهديه.
الأنبياء بالنسبة لمعاصريهم، هم رجال الفشل والإخفاق. الخيبات والمرارات تتالت عليهم، دون أن يلينوا أو تنثني عزيمتهم وقناعتهم.
والواقع إن حالهم كان دائماً كحال ربهم الذي قال: “… ليس عبد أفضل من سيده، إن كانوا اضطهدوني فسوف يضطهدونكم أنتم أيضاً”. وأيضاً” “يا أورشليم يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها كم مرة…”.
إن كلمات الأنبياء تزعج المتقاعسين، لهذا يقوم الناس على الأنبياء لإسكاتهم (عاموس 11:2) (إشعياء 10:30-11)، (مرقس 4:6).
كثيراً ما يرفض السامعون دعوة الأنبياء، فيبدو النبي على هامش الحياة وحثالة بين الناس لا قيمة لدوره ولرسالته. لهذا فالأنبياء كانوا في ذاكرة الناس رمز الإخفاق (مرقس 2:4)، (اعمال 26:28)، (إشعياء 8:6). لكن رغم المرارة والتعب بقيت العيون النبوية شاخصة إلى النبي الآتي (تثنية 15:18)، (يو 25:4-26). ومع يوحنا المعمدان ندرك ن الآتي قد أتى والمنشود قد حلّ بيننا، وإن الانتظار زال لتحل المعاينة والمشاهدة. هنا يتبادر إلى الذهن سؤال: هل ضل المحدّقون في الآتي والمرتجى؟ هل نستطيع أن نتكلّم عن إمكانية ضلال عند الأنبياء؟
إذا تكلمنا عن إمكانية ضلال عند الأنبياء، فهذا يفتح علينا إمكانية تمزيق وحدة الفكر الكتابي. وإذا كانت الدعوة النبوية قابلة للبطلان، فوحدة التاريخ المقدس قابلة للطعن أيضاً. السؤال الكبير، وذلك لأن ضلال الأنبياء الملهمين وإمكانية إنحراف رؤياهم، من شأنها أن تؤول إلى كلام عن غياب وحدة تاريخ الخلاص.
ويدعونا هذا، إن قبلنا به، إلى الكلام عن عدم إتصال حميم بين العهدين. هنا يمكننا أن نصوغ السؤال نفسه على نحو آخر: هل النبوة الكتابية أصلية؟
نعم، إنها أصلية، فالنبي لم يتكلم من نفسه (تثنية 20:18). يسوع ينبهنا من الأنبياء الكذبة، وبالتالي فهو يقر بالأنبياء الحقيقيين. لا بل أن يهبنا المقياس لمعرفتهم وتمييزهم: “من ثمارهم تعرفونهم” (متى 15:7). ولكن أين تكمن أصالة الأنبياء؟
أنها في دعوتهم الناس إلى الإله الحقيقي رغم تلاحق الخيبات والفشل. الأنبياء على يقين من تلاحم الكلمة النبوية بالحقيقة المنشودة والمعلنة، وإلا لماذا غيرتهم وحرارتهم؟ ترى كيف تثبت الحقيقة المنشودة ويتم التحقيق من مجيئها؟
الحقيقة النبوية تنكشف بحكم الحال في الزمن الآتي. من هنا فالأنبياء كانوا عاجزين عن إثبات جدوى دعوتهم. ولهذا قسيت قلوب الكثيرين. لكن يسوع يقولها قوية جداً إلى توما: “لأنك رأيتني آمنت، طوبى للذين لم يروا وآمنوا” (يوحنا 29:20).
الحقيقة النبوية المنشودة والمعلنة بأن تأتي متدرجة عبر الزمن (عب 1:1). لكن الأمر في النهاية مرهون بجماعة تمتلك التمييز. كان في كل الأزمان عيون تبصر وآذان تسمع وقلوب تميز. ولكن مع هذا تبقى المفارقة قائمة.
في القرن الثامن قبل الميلاد، قدم إشعياء وميخا صورة لمصيرين مختلفين سيحلان بأورشليم. فأشعياء رأى أن سكنى الرب في صهيون هي ضمانة لها وحماية للتقاليد المتصلة برسوخ أورشليم. أما ميخا فرأى لأورشليم الدمار (12:3)، (6:1). ترى ماذا تقول أحداث التاريخ بالنسبة للمفارقات؟ هل نقدر أن نجعل النبوءات معياراً للسببية التاريخية؟
أن ما يقول النبي هو حقيقة ديناميكية ترتبط بإطاره الزمني أولاً. أما من جهة الأزمنة الآتية، فلا بد لهذه الحقيقة أن تأخذ شكلاً من التكيف، فالنشاط النبوي ملازم لحركة التاريخ إلا أن النبوة هي في تجاوز للتاريخ. الدعوة النبوية لا تتوازى مع السببية التاريخية وذلك لأن السببية ترى ما سوف يحدث على أساس من معطيات وتحليل. أما النبوة فلا تقوم على السببية. إنها رؤيا ومشاهدة وسببية. إنها قراءة للتاريخ القائم، من فوقه ومن داخله بآن معاً. وما معنى القول إن الحقيقة النبوية تتكيّف؟ هل يعني هذا أن الحقيقة قابلة للتعديل والصيرورة؟
يسوع هو أمس واليوم وإلى منتهي الدهور (عب 13). بيد أن الكلام عنه يأتي عبر قوالب الزمان المنطوق عنه فيها. أدوات التبشير تتغير. أما لب البشارة فعديم التحول. إن عبارة “المسيح قام” مثلاً ستبقى المعادلة المتكررة حتى انقضاء العالم. إنها أبداً الاجترار الجميل، لأنها قيام الدهر الآتي فينا بالإيمان.
لقد أدرك الملهمون أن أقوال الأنبياء تحققت (1 مل 13:12)، (2 مل 10:10). ولكن كيف يكون الكلام عن تحقيقها، والمسيح لم يكن قد جاء بعد؟
الروح القدس هو الذي سيجعلك تراها محققة قبل الأوان، فتحيا نجاز الأمور قبل حلولها. الكنيسة رأت في يسوع محقق الأنبياء (1 كور 3:1-5). والإنجيليين على يقين من أن حياة يسوع هي تحقيق للكتب النوبية (متى 21:4). متى بيقين تام تكلّم عن ثلاثين من الفضة تحقيقاً لقول زكريا (12:11). ويبقى السؤال: كيف السبيل إلى أن النبوات وتحقيقها أمران متوافقان لا ينفصلان؟
لوقا يؤمن أن الكتب لا يفهمها إلا من فتح الرب عيون قلوبهم (لوقا 25:24-35). ترى من الفائدة من مطالعة الأنبياء بدون نور يفتح العينين؟ ما قيمة الانتظار وأنت في حضرة الآتي؟
لقد تكلّم الأنبياء عن السيد (لوقا 27:24). والنصوص النبوية ضرورية لفهم سر المسيح لا بعين العقل بل بعين الإيمان. المسيحيون الأوائل أرادوا أن يتعرفوا على المسيح، فطالعوا الأنبياء.
[1] يوحنا المعمدان السابق هو آخر أنبياء العهد القديم وهمزة الوصل بين ذلك العهد والعهد الجديد. وقد مهد الطريق ليسوع المسيح (مرقس 1:1)
“فأتم الله ما أنبأ من ذي قبل بلسان جميع الأنبياء، وهو أن مسيحه سوف يتألم…” (أعمال 18:3-24).[2]
راجع العهد الجديد اليوناني. [3]
[4] In many and various ways God spoke of old to our fathers by the prophets…..