عهدان ام عهد واحد؟ لماذا ضمّت الكنيسة العهد القديم لعهدها الجديد؟
يتوهّم المرء إذا ظنّ ان المسيحين، في الزمن المعاصر، كتابيون او أهل الكتاب. المسيحيون لا يرتكزون علي الكتاب المقدس في برمجة شؤون حياتهم. الكتاب المقدس، كما يبدو للمتأمل، ليس معيار الحياة بالنسبة للمسيحيين. لا يطالعه سواد المسيحيين إلاّ متى قدموا إلى الكنيسة، ليسمعوه يتلى فيها.
أنا نفسي لم اترعرع في بيت يطالع الكلمة الإلهية، رغم ان ابي وامي لم يكونا من الكفار والملحدين قولاً وفكراً. امي نفسها ـ رحمها الله ـ كاثوليكية في الإنتماء والمعتقد، كانت تقودنا اخوتي وانا إلى الصلاة مع كل قرع جرس. لقد تفتحت عيوننا على أن الصلاة جزء مهم من حياتنا. ومع كل هذه الدقة في المواظبة على الصلوات الجماعية (يوم الأحد)، لم تكن العبادة في بيتنا لترتبط بمطالعة الكتاب المقدس.
وحالة بيتنا هي حالة بيوت اغلب الناس، لا بل ان كثيرين من اهل التقوى لم يألفوا مطالعة الكتاب المقدس.
كثيرون من المسيحيين لا يمتلكون الكتاب المقدس في بيوتهم. كثيرون سواهم يمتلكونه، لكنهم لا يطالعونه. وكثيرون يزعمون فهمه عندما يدور حديث يغلب عليه طابع سياسي. ماذا يعني هذا؟
بإختصار، غالبية المسيحيين تحيا في نمط مدهرن[1] من العيش. اغلب المسيحيين لا يرون ارتباطاً بين الكتاب المقدس والحياة. ان حالة من مقاطعة او طلاق مع الكتاب تسود اوساط الكثريين من المسيحيين.
والوصف هذا ليس دعوة إلى اليأس، في أي حال، فأنا من المقتنعين ان البشرية لم تكن يوماً في عصر ذهبي، فالعصر الذهبي في حياة الشعوب، هو شيء من وميض سرعان ما يختفي، او هو سراب لا تطاله الأيدي مهما اشرأبّت.
والكتاب المقدس الذي نجله ونتقدس من مطالعته، يُقرأ في افراح الناس، وفي أتراحهم، وفي معموديتهم داخل الكنيسة. انه يُقرأ في صلوات الكنيسة العامة وعبادتها. ويحتل حيزاً هاماً جداً في حياتي كمؤمن اولاً، وككاهن وراعٍ ثانياً.
ويحز في نفسي ان أرى الإهمال واللامبالاة في الإقبال علي الكتاب المقدس. الناس يتزاحمون في المواسم المعروفة ليتبرّكوا به ويقبّلوه في تطوافه وتمركزه. ينحنون أمامه بصمتٍ وتهيّب دون ان يكون له معنى وانعكاس علي حياتهم وحياة عائلاتهم.
كثيرون من الناس يتسألون عن جدوى الكتاب المقدس وقيمته في هذا الزمان، فيقولون: لماذا العهد القديم [2]؟ ما علاقتنا به كمسيحيين؟ لماذا العهد القديم، طالما انه لا يتجاوب مع الفكر المعاصر؟ لقد شاخ القديم وعتق. مادته اصبحت بالية، ورجالاته هم ذوو اسماء غريبة ومستهجنة. وعلاوة على كل هذا، فالعهد القديم هو كتاب اليهود، ولا شأن لنا به. ويصل بهم الأمر إلى حد المطالبة بإلغائه.
بإختصار، الناس في الأجمال، لا يآلفون العهد القديم، من هنا استعجالهم في الحكم عليه. ولكن رويداً وعذراً، لماذا المطالبة بالإلغاء، بينما الناس لا يقرأون العهد الجديد؟ ما معنى استبقاء العهد الجديد إذا كانوا لا يطالعونه؟ الا يتساوى الإلغاء والأهمال علي هذا الصعيد؟
في ظني واعتقادي ان بوناً هائلاً وعميقاً يقوم في هذا الزمان بين فئات الناس. ثمة بون كبير بين الرعاة والمرعيين، بين الرعاة ورؤسائهم، بين الوالدين والمولودين، بين المواطنين والمسؤولين، بين المعلمين والمتعلمين، بين العقائد ودعاتها والمنتمين إليها؛ بين الإيديولوجيات وانصارها، وبين الأديان والمحسوبين عليها. وتنسحب هذه البونات (gaps) لتشمل بونا آخر يرتجى بين العهدين: القديم والجديد. ترى هل المطالبة بالإلغاء هي مجرد صرعة من صراعات هذا الزمان؟
لقد أثار العهد القديم حفيظة بعض المعاصرين، فاعترضوا وطالبوا بإقتطاع العهد القديم عن الجديد، ودعوا إلى إلغائه وحذفه من جملة اسفار الكتاب المقدس، وذلك بحجة ان المسيحية انتصرت في فجر البشارة بعيد مجمع اورشليم الرسولي.
لقد اقر المجمع هذا، الدخول إلى رحاب المسيحية بدون التقيّد بالأعراف اليهودية وتقاليدها، الأمر الذي أودى بالبعض إلي حدّ المطالبة برفض العهد القديم بحجة انه ليس من التراث المسيحي.
وهنا اجد نفسي ملزماً علي طرح باقة من التساؤلات من شأنها أن تعينني علي رفع الحجب، واماطة اللثم عن غوامض لابدّ من ازالتها بغية التصدّي للمسألة المطروحة. لماذا نلغي العهد القديم؟ أليست المطالبة بالإلغاء وجهاً ماركونياً مستحدثاً neo-Marcionism تصدّت له الكنيسة أيام ماركيون؟ هل صحيح ان العهد القديم ضُم إلى العهد الجديد؟ هل صحيح أن المسيحيين لم يعتنقوا دينهم بالتوراة؟ ولماذا التوراة إذا كان الناموس قد بطل بمجيء المسيح؟ وهل صحيح ان المسيح ازال الناموس من الوجود؟ وهل صحيح ان المسيحيين من أصل يهودي، هم الذين ضمّوا التوراة إلى العهد الجديد؟
هل صحيح ايضاً أن اليهود المسيحيين، او المسيحيين من أصل يهودي، هم الذين تعاونوا مع اليهود كي يضم القديم إلى الجديد؟ وما مبرر الضم (annexion)، وماذا كسب اليهود من الضم؟ أليس في الأمر تناقض من جهة اليهود الذين لا يؤمنون ان المسيح قد جاء لأنهم ما يزالون ينتظرون؟ وهل صحيح ان المسيحيين يطالعون التوراة قبل الإنجيل؟ ومن هم المسيحيون من أصل يهودي؟ ولماذا يعتنق اليهود المسيحية ما داموا يُصّرون على مركزية التوراة، وما داموا يؤمنون ان المسيّا لم يأت بعد؟ ما معنى تسميتهم مسيحيين ما داموا توراتيين في الصميم؟ ألا يعني دخولهم – ان وافقنا على الصيغة – أنه كان لغرض مبيّت دفين؟
أيجوز الإستنتاج انه كان من اجل دمج الدين بالسياسة؟ وهل صحيح ان ضم العهد القديم إلى الجديد كان كي يتبنى المسيحيون- في التحليل الأخير – أركان اليهودية التوراتية؟ وهل صحيح ان الدمج هذا حفظ هوية اليهود وكيانهم؟ وهل صحيح انه لو رفض المسيحيون التوراة، لما سمع العالم باليهودية؟ ومن قال ان إلغاء كتاب يُلغي شعباً؟ أيجوز القول أن إلغاء العهد القديم يلغي المسيحيين والمسيحية بآن معاً؟
نأتي بعد هذه التساؤلات، إلى تساؤلات اخرى ذات طابع آخر: ألا يقرّ العهد القديم ان المسيح آتٍ؟ وإذا كان الجواب بالإيجاب، فلماذا الإلغاء؟ وإذا كان المسيح قائماً؟ في العهد القديم، عندها ما علينا إلا القول بجهل اليهود لكتابهم؟ وإذا كان العهد الجديد يؤكد نبوءات الأنبياء عن المسيح، فلماذا نلغي القديم؟ الا يدعونا الأمر إلى دراسة الجديد لأنه يؤكد نبوءة الأنبياء عن المسيح؟ لماذا نلغي القديم؟ ألا يدعونا الأمر إلى دراسة الجديد بعمق وتمحيص؟ ألا يدعونا الأمر إلى اتصال عميق يقوم بين العهدين: القديم والجديد؟
بيد انه لابدّ من القول أن المطالبة بالإلغاء ليست هاجساً عالمياً، وفي هذا إشارة إلى محدودية المطالبة وضعف قيمتها من الوجهة العلمية.
ويري المطالبون بالإلغاء ان الإنقسامات التي حصلت في صفوف النصرانية الغربية هي نتيجة لمؤمرات اليهود. بهذا تكون حركات الإصلاح الديني في اوروبا علي أيدي لوثر وكالفن وزفينكلي ومن لاذ بهم ولف لفّهم، شكلاً من اشكال الردة إلى اليهودية.
والدليل علي ذلك، هو أن النصرانية الغربية، لا تقيم انجيلاً بدون توراة، ولا ترى المسيح بمعزل عن موسى. ومفاد القول، وخلاصة الكلام، ان المسيحيين الغربيين هم المدافعون الأوائل عن اليهود واليهودية.
ويدّعي الإلغائيون ان مسيحيي الشرق انفسهم، ساروا في ركب اخوانهم الغربيين، وناصروهم، وحذوا حذوهم، فسقطوا ضحايا استحالة فصل الصهيونية عن اليهودية، بحيث ان الكلام عن الواحدة بات مقترناً بالأخرى، وبحيث ان الفصل بين الصهيونية واليهودية بات غير ممكن. وفي هذا الجدل المحتدم، وهذا الصراع المستفحل، تنبثق النصرانية شكلاً من تأليف synthesis، بين اليهودية والمسيحية، الأمر الذي يعني، على مبدأ التحليل والدرس والإستنتاج، ان الكنائس القائمة في الشرق هي نصرانية في طابعها، وان المسيحية شيء، والنصرانية شيء آخر، فالنصرانية تتعايش والعهد القديم، لا بل أنها تأخذ بمادته وفحواه، في حين ان المسيحية لا تقبل بالتعايش بين العهدين جملة وتفصيلاً.
وهنا اتساءل: إذا كانت المسيحية الأصلية ترفض العهد القديم برمّته، فهذا يعني ان مثل هذه المسيحية لا وجود لها في الشرق. فالكنائس القائمة في المشرق العربي تُكرم التوراة كل الأكرام، وتجلّه كل الأجلال، وهو بالنسبة إليها جزء لا يتجزء من مكتبة الكتاب المقدس الضخمة (العهدان معاً). فهل نقول بعد هذا ان المسيحية غير موجودة في الشرق؟ ألا يعني هذا الكلام ان المطالبين بالالغاء ليسوا مسيحيين؟ ترى هل عندنا كنائس ترفض العهد القديم ولا تأخذ بقدسيته؟ انا لا يروقني مثل هذا الإستنتاج، لأن التحليل والدرس سيدفعني عندئذ إلى القول ان العالم العربي غير متنّبه لصهيونية المسيحيين، وان المشرق المسيحي، صهيوني، لاسيّما وان الدول العربية تحتضن كنائس جميعها تكرم العهد القديم في المعتقد وفي العبادة معاً.
ومن أراد الوقوف على تفاصيل هذا المنهج من التفكير يمكنه مطالعة “رد على التوراة” للأستاذ ندرة اليازجي، باب “ازمة المسيحية المعاصرة” ص: 194- طبعة 1990. بعد هذا، هل يعني موقفي انني ادافع عن إسرائيل لمجرد انني انتمي إلى كنيسة تؤمن بقدسية العهد القديم؟
لست من المهتمين بالدفاع عن اسرائيل، فهذا ليس شأني واهتمامي اصلاً. ولست معنياً بكل ما يتصل باسرائيل من الوجهة السياسية، فأنا اتكلم عن موقعي ككاهن ومؤمن، رغم قناعتي ان إسرائيل الحالية هي عدوة الشرق، ومفجرة الجراح في قلوب ابنائه. من هنا، فكلامي ينحصر في إطار الإيمان واللاهوت الذي تحمله كنيستي في فكرها وحياتها ومعتقداتها وعبادتها وتراثها.
وهكذا لابدّ من القول في هذا الباب، ان قراءة مسيّسة لهذا الفصل هي وقوف على الخطأ، لأنها تعتمد خطاً لم آخذ به، وليس شأني في الأساس.
ويستطيع المرء إذا شاء، ان يطالع العهد القديم على غير صعيد. يمكن ان يكون هناك اكثر من قراءة للعهد القديم، وهذا امر قائم. إلا ان قراءة مسيّسة للعهد القديم، ليست عنصراً يعوّل عليه، ويؤخذ به، من الوجهة الكنسية. القراءة على قاعدة السياسة شيء، وعلى قاعدة الإيمان واللاهوت، شيء آخر. الخلاصات السياسية ليست هي نفسها الخلاصات اللاهوتية. نحن نؤمن كما يعلّمنا الإلهي بولس ان الكتاب كله موحى، لنسمع: “كل الكتاب هو موحى به من الله نافع للتعليم والتوبيخ للتقويم والتأديب الذي في البرّ، وذلك ليكون إنسان الله كاملاً متأهباً لكل عمل صالح” (2 تيموثاوس 16:3).
لقد تقدّست الكنيسة الأولى من مطالعة العهد القديم، فالعهد الجديد لم يكن قد دوّن بعد. ولا ننسى ان العهد القديم الذي طالعه بولس بشغف، واعتنقه من صميم القلب، هو الذي قاده في النهاية إلى سرّ المسيح. من هنا فإن استعمال الكنيسة للعهد القديم في عبادتها، يخلو من اي حرج. الكنيسة الأولى عاشت بالكلمة، وتقدست بالكلمة. لم يكن العهد الجديد قد دوّن بعد عندما شرع الإلهي بولس يتنقل من مكان إلى مكان يعلّم الناس ويحاجج من يحاجج من اليهود والأمم بشأن الخلاص الحاصل في يسوع المسيح.
كانت حواراته كلها، مع اليهود، على قاعدة العهد القديم. نحن نرى بولس من خلال رسائله يبحث ويفتش في المجامع عن اليهود الذين يعرفون الكتب المقدس. وهذا ما سوف ابيّنه من خلال الإقتباسات الكتابية التالية: “وللوقت جعل يكرز في المجامع بالمسيح ان هذا هو ابن الله. فبهت جميع الذين كانوا يسمعون وقالوا أليس هذا هو الذي اهلك في اورشليم الذين يُدعون بهذا الأسم. وقد جاء إلى هنا لهذا، ليسوقهم إلي رؤساء الكهنة” (اعمال 9: 20-21 ).
وايضاً: “ولما صارا في سلاميس ناديا بكلمة الله في مجامع اليهود” (اعمال 5:13). وايضاً: “وحدث في ايقونية انهما دخلا معاً إلى مجمع اليهود وتكلما حتى آمن جمهور كثيرمن اليهود واليونانيين. ولكن اليهود[3] غير المؤمنين غرّوا وافسدوا نفوس الأمم علي الأخوة” (اعمال 14: 1-3). وايضاً: “وكان يحاجج في المجمع كل سبت ويقنع يهوداً ويونانيين” (اعمال 4:18). ترى كيف نفهم اتصال بولس باليهود؟ أليس من البديهي ان يقوم قاسم مشترك بين المتحاورين وإلا كان حواراً بين طرشان؟ ما معنى ان يبشر بولسُ جماعة اليهود بيسوع المسيح (اعمال 14:13)؟ أليس مسلماً به ان الربط بين العهدين هو امر بديهي عند بولس وعند سامعيه؟
ولكن ما معنى ان يبشر بولسُ اليهود بيسوع المسيح؟ كيف سيسمعه اليهود، وعلى اي اساس وبأي معيار سيقبلون كلامه وبشارته؟ ألا يعني هذا وبكل وضوح وجلاء ان رسالة العهدين واحدة؟
وفي حديثه مع اليهود، يحرص بولس كل الحرص على التأكيد ان وعود الله في العهد القديم، تحققت في يسوع المسيح في العهد الجديد. بدون هذا المنطلق، يبدو مستحيلاً اي جهد يبذل لتحقيق التفاهم بين بولس وسامعيه.
في الواقع لا نجد في الموقف ما يدعو إلى التناقض، لاسيّما وان افتتاحية “متى” تحمل القراء إلى يسوع وتشدّهم اليه عبر الأجيال السحيقة. يتضح من (متّي 1: 1-17) و(عب 1:1)، ان الكنيسة لا تستغرب النظر إلى يسوع من خلال الخلفية التي أعدّت لمجيئه.
لقد اندمج العهد القديم في نسيج عبادة الكنيسة على نحو بات معه من المستحيل فصل احدهما عن الآخر دون الإساءة له. كذلك فإن الغاء العهد القديم يستتبع منطقياً تشويه العهد الجديد، لأن الجديد مليء بالإقتباسات من العهد القديم.
الدعوة إلى احتقار العهد القديم، إلى حدّ المطالبة بإلغائه، تشير ضمناً إلى تشكيك فاضح بالعهد الجديد الذي ارتوت مادته من عيون العهد القديم، فالعهد الجديد هو فهرس العهد القديم. على صفحات الأول، يمكننا ان نتلمس معالم الثاني ونحدد تطالعته ومرماه.
ليس العهد القديم متوثباً نحو الجديد وحسب، فالجديد بدوره، يرنو إلى القديم[4] الذي منه انبجست انوار المسيح للبشرية (عب 1:1)، وإلاّ، يستحيل ان نفهم لماذا تقوم الإقتباسات التوراتية في العهد الجديد. بالطبع، احوال البشارة هي التي استدعت العودة إلى العهد القديم، وذلك لتأكيد صدق الوعود الإلهية التي اعلنت بأفواه الأنبياء القديسين.
وعليه من الخطأ، ان نفهم العلاقة بين العهدين القديم والجديد في صورة حدثين مستقلين او تاريخين منعزلين احدهما عن الآخر، وذلك لأن اللحمة عميقة بين الأثنين بحيث ان القديم كان ظلاً للآتي كما نتعلم من الرسالة إلى العبرانيين (1:1)، تماماً كما ان صورة الإنسان المنعكسة علي الأرض، هي إشارة واضحة إلى الإنسان نفسه لا إلى سواه.
والنقلة من القديم إلى الجديد، من الوعود إلى تحقيقها، من الظلال إلى الحقيقة، هي بمثابة اماطة اللثم عن السر الإلهي تدريجياً (عب 1:1). وهذه التدرّجية تقاس في نور ملء الزمان عندما ارسل الله ابنه مولوداً من امرأة… (غلاطية 4:4).
ان تدبير الله لخلاص الإنسان يعتمد التدرّج، ويتأقلم واحوال انسانيتنا الساقطة، وظروف حياتنا وكسلنا، او حرارة جهادنا لبدء عمل النعمة فينا. الله عند كل منعطف من حياتنا، وعبر تاريخ الإنسانية الطويل، لا يدع نفسه بدون شاهد، الأمر الذي يعني ان تاريخ الإنسانية يشهد لحضور الله. من هنا تأتي المطالبة بإلغاء العهد القديم، لتنم عن تنكّر للحضور الإلهي في كل معارج تاريخنا الطويل.
ثم ان المطالبة بإلغاء العهد القديم تحمل في طياتها بذار هرطقة تقوم علي التنكّر للنشاط النبوي الذي شهد لمجيء الرب. الإلغاء دعوة ماركونية مستحدثة. مركيون رفض العهد القديم، وفي رفضه له اخطاء وثغرات: إلغاء العهد القديم يعني أن الله لم يكن موجوداً قبل تجسده، وان التنبؤات عنه كاذبة، وهذا من شأنه ان يلغي حضور الله الشامل علي كل التاريخ omni-presence. وحضور الله الناقص، من شأنه ان يخفّض من جلالة الله وسيادته المطلقة علي الكون. واخيراً وليس آخراً فإن التنكّر لقدسية العهد القديم، يستتبع رفض إله الإعلان المسيحي ايضاً الذي تّم التحضير له في العهد القديم.
بعد هذا، ليس من السهل على الإطلاق، إلغاء العهد القديم، فالصعوبات كثيرة، ونتائج الإلغاء قاسية ولا تطاق. ولا اظنّ المسألة تتوقف عند الإلغاء وحسب، إذ يجب أن نتصدى لمسألة وجود مواضيع العهد القديم في القرآن الكريم نفسه: “يا بني اسرائيل، اذكروا نعمتي التي انعمت عليكم واني فضّلتكم علي العالمين” (سورة البقرة: 46). وايضاً: “قالت اليهود ليست النصارى على شيء. وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب. كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم، فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه مختلفين” ( سورة البقرة: 112-113).
وأيضاً: “سل بني اسرائيل كم اتيناهم من آية بيّنة، ومن يبدّل نعمة الله من بعد ما جاءته فإن الله شيّد العقاب” (سورة البقرة: 210-211). كذلك فإن مطالعة سورة إبراهيم، تحمل القاريء إلى عالم سفر الخروج. وهنا ادعو القاريء ان يتبينّ هذا لنفسه. كذلك، فإن مطالعة سورة “هود” من شأنها ايضاً ان تحمل القاريء إلى اجواء سفر التكوين. وما هذا إلاُّ غيض من فيض.
ان المطالبة بالغاء العهد القديم تدعم مداورة إلى التعديل والحذف في القرآن الكريم نفسه وهذا ما لا يقبل به احد من الأخوة المسلمين. فلينتبه الإلغائيون ويتريثوا.
مفهوم التاريخ
لقد تساءل كثيرون من المفكرين عن معنى التاريخ الذي فيه سطرت أعمالنا ومنجزاتنا: كولينغ وود Colling Wood آسهم في الجواب علي هذا التساؤل من خلال عمله الرائع: “ما هي فكرة التأريخ؟”[5] وكارل لويث وضع كتاباً بديعاً سمّاه: “معني التاريخ”[6]. قسطنطين زريق أيضاً قدّم بلغة الضاد رائعته: “نحن والتاريخ”. جيرارد كروغر بدأ بحثه في التاريخ بمقولة شهيرة: “التاريخ عبء علينا نرزخ تحت ماضيه وحاضره ومستقبله…”. إن الجهود العلمية الجبارة تأتي لتؤكد وحدة الزمن لا تجزئته، تماسك ماضيه وحاضره ومستقبله، لا الفصل بينهما.
وتساءل اللاهوتيون أيضاً عن معنى الزمن وقيمته وجدواه خارج الله. بردياييف تكلم عن حركة التاريخ، وعن الجدلية التاريخية. المتنطسون والمدافعون عن الايديولوجيات المادية توغلوا في المادة حتى بالغوا في شأوها وقدرتها، فأودى بهم الأمر إلى عبادة الصنم وتأليه التاريخ. لقد اهملوا الإنسان واضع التاريخ.
لابدّ أن يكون للتاريخ معنى في وجداننا وإيماننا، ولابدّ أن ندرك ان حلقاته لا تتجزأ، وان فحواه واحد هو الف الكون وياؤه، البداية والنهاية على نحو ما نتعلم من الكتاب: “لأن يسوع المسيح هو هو امس واليوم وإلى منتهى الدهور” (عبرانيين).
[1] Secularized
[2] السؤال عند الناس، لا يطال العهد القديم فقط ، بل ينسحب على الجديد أيضاً
[3] هناك يهود مؤمنون، ويهود غير مؤمنين
[4] هذا ما نتعلمه في الليتورجيا الأرثوذكسية
[5] What’s the nation of historicity?
[6] Meaning of history
انجيل توما الأبوكريفي لماذا لا نثق به؟ – ترجمة مريم سليمان
رائحة المسيحيين الكريهة – هل للمسيحيين رائحة كريهة؟ الرد على احمد سبيع