أين كان المسيح في طفولته وبداية بشارته ولماذا كانت الأناجيل صامتة حول هذه الفترة؟
لا نعرف الكثير عن صبا الرب يسوع من الأناجيل القانونية إلا مشهداً واحداً عندما ظهر يسوع في الثانية عشرة من عمره في الهيكل (لو 41:2-51). حتى هذا المشهد يبدو أنه مستقلٌ. وعلى الأرجح أُدخل هذا المشهد في هذا الموضوع لغاية لاهوتية. ففي الإصحاح الأول من لوقا، يأتي ملاكٌ ويخبر العذراء أن يسوع هو ابن الله. وفي الإصحاح الثالث يُخبر صوت الله أن يسوع هو ابنه. وفي الإصحاح الثاني، يتكلم يسوع ولأول مرة، وهو ابن اثني عشرة سنة، ويعرّف الله بأنه أبوه: “ألم تعلما أنه ينبغي أن أكون فيما لأبي؟” (لو 49:2).
لهذا فغاية هذا الظهور هنا غاية خريستولوجية: إن يسوع الذي يعمل وبتكلم خلال بشارته كابن لله قد سبق وتصرف وتكلم كابنٍ لله منذ أول ظهورٍ له علناً. فهناك تواصلٌ مستمر خلال حياة يسوع: إن ليسوع، وهو في حضن عائلته، المعرفة والقوة والوعي نفسها التي أظهرها خلال بشارته. وفي الأناجيل الباطنية (الابوكريفا) نجد هذه الفكرة من إسقاط أعمال وأقوال يسوع خلال بشارته على فترة طفولته وصباه.
وحتى الانتقادات التي تعرض لها خلال بشارته نجد صدى لها هنا. ففي ” إنجيل الطفولة لتوما” الباطني نجد أن الصبي يسوع قد صنع طيوراً من الطين وجعلها تطير. فشكاه يهوديٌ ليوسف لأن يسوع كان يعمل بالطين في يوم سبتٍ. لهذا فقصة ظهور يسوع في الثانية عشرة من عمره لها مدلولٌ لاهوتي أكثر منه تاريخي.
ومن جهة أخرى، من المعروف أن يسوع قد عاش مع عائلته في الناصرة خلال صباه، وكان يعمل في النجارة، مهنة يوسف، حسب عادات ذلك الزمان([1]). ولأن الإنجيلين لم يكونوا مهتميّن بالنواحي التاريخية من حياة الرب إلا بالتي ذات مدلول لاهوتي خلاصي يخدم بشارتهم (يو 30:20-31)، فإنهم تغاضوا عن ذكر تفاصيل تاريخية لا تخدم هدف كتابتهم. فالأناجيل ليست سيرة حياة المسيح Biography. هذه نقطة جوهرية لا يفهمها الكثيرون. فكاتب السيرة يهتم بتدوين كل حدث تاريخي في حياة صاحب السيرة.
بينما الأناجيل الأربعة لا تقع تحت هذا التصنيف. مثلاً: مرقس ويوحنا لم يخبرانا عن طفولة يسوع. مرقس لم يخبرنا عن اسم والد يسوع، ويوحنا لم يخبرنا عن اسم أم يسوع. لو كان لدينا إنجيل فقط لما عرفنا أن مريم هي أم يسوع، لأنه كان يشير إليها بلقب “أم يسوع”. رغم ذلك، فإن كتابات لوقا (إنجيل لوقا وأعمال الرسل) هي أكثر الكتابات الإنجيلية ذات طابع تاريخي.
ورغم أنه لا يوجد إنجيل واحد يعطينا وصفاً كاملاً لحياة يسوع، إلا ان الأناجيل بجملتها تعطينا معلومات تاريخية لا بأس بها عن حياة الرب يسوع. فالأناجيل أعمال لاهوتية بالدرجة الأولى. هذا اللاهوت أُعطي ضمن إطار تاريخي معين بحيث كان هذا اللاهوت تفسيراً لحياة حقيقية، لكلمات حقيقية، ولمآثر حقيقية.
الفضوليون الذين يتجاوزون هدف كتابة الأناجيل يتساءلون: هل ذهب يسوع إلى الهند أو بلاد فارس؟ هل تتلمذ على أيدي حكماء الشرق؟ الخ. كل هذه الأسئلة تدل على شيء واحد: أن السائل يُغفل الجوهر الرئيسي من كتابة الإنجيل: خلاص الإنسان. ومن جهة أخرى نره في السنة 12 من عمره يجالس علماء اليهود في الهيكل ويُدهشهم بعلمه. وخصّ اليهود برسالته فانحصر تعليمه في الوحي الإلهي لا بحكمة هذا العالم.
فهو عالم فذّ منذ صباه. ولا حاجة له إلى معلّم. هو رب العلم. وشخصه الإلهي أهمّ من كل علم وفلسفة. شخص يسوع هو الأهم. وإن تساءل أحدٌ: لماذا لم يذكر الإنجيليين فترة صبا يسوع؟ لرددنا بتساؤل آخر: لماذا أغفل الإنجيليين الكثير من التفاصيل التاريخية أثناء تدوين بشارة يسوع، ولماذا لم يكونوا دقيقين تاريخياً في كتاباتهم؟ الجواب مرة أخرى: لأن هذا لا يخدم هدف كتاباتهم([2]).
هذه القاعدة تنطبق أيضاً على أمثلة أخرى من العهد الجديد. فالقارئ المعاصر الذي يقرأ قصة ميت أُقيم من الأموات (مثل لعازر مثلاً) سيتساءل للوهلة الأولى: أين ذهب بعد موته، ما هي الحياة بعد الموت، ماذا شعر، ماذا وجد، من قابل؟، الخ…
لكن الإنجيليين يخيّبون آماله لأنهم لا يذكرون شيئاً من هذا القبيل. لماذا؟ مرة أخرى، لأنه لا يخدم هدف كتابتهم. لهذا يقول يوحنا: “وآيات أخرى كثيرة صنع يسوع قدام تلاميذه لم تُكتب في هذا الكتاب. وأما هذه فقد كُتبت لتؤمنوا أن يسوع المسيح هو ابن الله، ولكي تكون لكم إذا آمنتم حياة باسمه” (يو 30:20-31). (د. عدنان طرابلسي)
([1]) ذكر لوقا أنّه تربّى في الناصرة. وفي يوحنا يقول الأورشليميون فيه أنّه “لم يتتلمذ” أي لم يدرس في مدرسة الديانة. وأمره معروف لدى أهل النصرة الذين تعجبوا من علمه ومعجزاته وهو لم يتعلّم.
([2]) الأناجيل علامات على طريق الحياة للقراءة الإيمانية لا للاجترار العقلاني. هي لقطات من حياة يسوع تقوي قلب المؤمن بنار الروح القدس (اسبيرو جيور).