ما معنى قول الكتاب: “أعداء الإنسان أهل بيته” (متى 36:10)؟
“لا تظنّوا أنّي جئتُ لأُلقي سلاماً على الأرض. ما جئتُ لأُلقي سلاماً بل سيفاً. فإنّي جئت لأُفرق الإنسان ضدّ أبيه والابنة ضدّ أمّها والكنّة ضدّ حماتها. وأعداء الإنسان أهل بيته. مَن أحبّ أباً أو أمّاً أكثير مني فلا يستحقّني. مَن وجد حياته يضيعها. ومَن أضاع حياته من أجلي يجدها” (متى 34-36).
هكذا قال الربّ يسوع المسيح لنا قولة جديدة تنتقض قولة سابقةً له: “سلامي لكن سلامي أُعطيكم” (يو 27:14) والآن نقرأ في متَى: “لا تظنّوا أنّي جئت لأُلقي سلاماً على الأرض. ما جئت لأُلقي سلاماً بل سيفاً” (متى 34:10).
كيف والربّ أظهر ذاته متجسّداً لإنقاذ البشريّة من كُره العدو الشيطان لها، كي يفتّتها بالكره والحقد والقتل والحروب وأنانية الاستكبار.
كما قَلَب الربّ الطاولة في الهيكل، هيكله، على رأس باعة الحمام لأنّهم دنّسوه بالتجارة وحبّ المال، هكذا في هذا المقطع الإنجيلي يقلب لنا نحن شعبه مفاهيم العلاقات العائلية التي وضعها المجتمع للإنسان…
“أحبّوا بعضكم بعضاً كما أنا أحببتكم” والسيد أحبّنا في الآب أي في الفداء… أحبّنا في الحبّ الكوني الذي هو حبّ لا تقوقع فيه على العلاقات العائلية التي تجعلنا نرتبط بذواتنا وأنانيّاتنا أكثر من ارتباطنا به وبأحكامه هو لتجعلنا عبيداً لعلاقة الدم التي تقسرنا على أن نحبّ أهلنا، أولادنا وأنفسنا أكثر من الذين يضعهم الربّ على دربنا لنحبّهم لا بأنفسنا بل بالمسيح.
الربّ يسوع المسيح لم يأت العالمين ليحقّق لنا أنانيّتنا في التقوقع على ذواتنا المريضة الساقطة. بل أتى ليكرّس لنا الكون كلّه مطرحاً له ولنا. لتصير كل البشريّة عائلة لنا وكل الأهل أهلاً لنا وكل الأولاد والذريّة لنا باسمه.
الربّ يسوع تجسّد وأتانا ليخرجنا من ثنائية آدمٍ وحوّاء في مواجهتها بعضها البعض ولقايين وهابيل ذريّة لهما بعد السقوط… أتى ليفكك العلاقات والربطات التي تحدّنا بأنفسنا وبالآخر قريبنا باللحم والدم والعائلة والمحتد والبلاد واللغة واللون.
تجسّد ليقول لنا، أنا هو الإله نَفَسُكمْ، وروح حياتكم، وأنتم إن أحببتموني فلن تستطيعوا أن تحبّوا أباً أو أمّأً أو ابناً أو ابنتاً أكثر منّي… أتى ليقلب موازين الحبّ، فلا تعلّق بعده وفيه بأي فردٍ كان مَن يكون… أتى ليقول لنا أنّ إله الكون هدر دمه على الصليب ليسيله فيصبح غذاء لكل أهل الأرض فيتغيّر دمنا ونصير نحن دماً من دمه ولحماً من لحمه وفي الأخير عظماً من عظامه التي لا تنكسر.
هذا هو القصد الإلهي في التجسّد. أن يميت الربّ فينا الموت الذي ورثناه من احتيال الحيّة الشيطان ومن إصغاء آدم وحوّاء لصوت معرفة الموت التي سعى الشيطان ليجرّهم إليها…
كان على الإنسان أن يولد من جديد! لا بناموس الطبيعة التي سقطت في الموت بسقوطه من حضن الإله، بل مع الطفل الإلهي المولود من الروح القدس ببشارة الملاك جبرائيل. سقوط الإنسان صار ومنذ السقوط يولد من لحم ودم، من شهوة الحياة في جسد ونفس وكيان الإنسان، أما الإنسان الإلهي الذي تجسّد الإله ليولد منه، فأعطاه الربّ الكرامة الكاملة والهدية الملوكية، لأن يولد من جرن المعمودية، من غسل الماء المهراق من جنب السيّد على الصليب. ومن جسده المكسور في العشاء السّري أمام تلاميذه، تالياً أمام الملأ، في الكون الذي هو أبدعه وبدل بدمه طبيعة دم سقوطنا.
لذا فلهذه الولادة الجديدة في المسيح من الإله الآب بالروح القدس ناموس جديد. ناموس حبّ جديد… لها ناموس السيف الذي نرفعه نحن أمام وجوهنا لنقطع به شوائب وشواذب هذريّتنا في الحبّ للإله… هذه الولادة الجديدة التي تشدّنا إلى وجهه، إلى اسمه، إلى كلمته، إلى حياته في كل تفصيل فيها إلنا نحن، لنجبل ترابيّتنا بجسده بدمه وماء جنبه المهراق على صليب لخلاصنا لنولد بحبّه هو لكل مَن وما نعرف ونلتقي وللكون…
وهذا صعب مَن يقبله؟! المختار من الله بالروح القدس. “أنا أريد الجميع أن يخلصوا”… لكن الخلاص الجديد المتجدّد له ناموس فكر وحياة جديدة… إنّه ناموس طبيعة جديدة تبعد الإنسان عن كل مَن ليس من المسيح فيه وله حتى أهله إن ودّوا أسره فيه… لذلك كتب الربّ في متّى: “أعداء الإنسان أهل بيته”. لأنّ أهل البيت يقيّدون بعضهم البعض بعيداً عن المسيح الذي يطلق ويحرر… أهل البيت يأسرون ذواتهم والمختصين بهم لشهواتهم… أهل البيت في غالبيتهم لا يدفعون جعالتاهم لسيّدهم السماوي بل لسيّدهم الأرضي “مامون”، ويرسمون حياة أزواجهم وأولادهم والمختصين بهم بحب العالم.
إنّ هذه أول دعوة لشهادة أطلقها الربّ للإنسان تابعه المؤمن به… وإخبارهم بأنّ سّر الأسر وأعداء الإنسان “المؤمن” هو أهل بيته… لأنّهم لم يقبلوا ولا يقبلون شهادة الربّ على صليب للخلاص… بل يأسروهم بعواطف الحبّ الشائكة فيزداد تخضّبهم بشهوات الجسد والنفس فيبعدون هم تلقائياً بعد أن يبعدهم ذووهم من اختيار المسيح والتعلّق به وبإكليل شوك رأسه ليلبسوه هم تاجاً للخلاص. كل مَن يحبّ الربّ من كل ننفسه وفكره، وقلبه يكره ذاته من كل فكره وقلبه وكيانه… يكره خطيئته التي يعي أنه ليس قادراً على التخلص منها إلاّ بقبول شهادة حقّ… فإن لم يمت تالياً عن أهوائه، عن نفسه، عن أنانيته، عن كبريائه، عن ماله، عن ذكائه، عن رأيه لن يمكنه أن يصير شاهداً وشهيداً للربّ يسوع المسيح… وإن لم يقدر أن يشهد له يومياً فإنّه لن يبلغ مرتبة الشهادة له وبه حين يدعوه للالتحاق به في مسيرته على الصليب.
هكذا يحيا الإنسان في المسيح منه وإليه وهكذا يشهد له وهكذا يموت عنه طوعياً!!!
مَن يبعدني عن محبّة المسيح؟ أشدّة أم غضب أم ضيق؟! فإني وطوعياً أتوب فأتمتم له: أنا لكَ الشاهد فاجعلني شهادة لاسمك وشهيداً لمجدك آمين. (الأم مريم زكا).
“هذا هو أصل كل الشر: الجهل بالأسفار الإلهية. أنتم أولاد العالم، إن كنتم لا ترغبون أن تفعلوا أي شيء أكثر، فعلى الأقل استروا نسخة من العهد الجديد، وأعمال الرسل، والأناجيل، التي ستكون معلّميكم الدائمين”. (القديس يوحنا الذهبي الفم)
“أنتِ هي الفائقة على كل البركات يا والدة الإله العذراء، لأن الجحيم قد سُبيت بواسطة المتجسّد منك، وآدم دُعي ثانية، واللعنة بادت، وحواء انعتقت، والموت أُميت، ونحن قد حُيينا. لذلك نسبّح هاتفين: مباركٌ أنت أيها المسيح إلهنا، يا مَن هكذا سُرّ، المجد لك” (خدمة جناز المسيح)