تناقضات بين التفسير الآبائي وتفسير العلماء للكتاب المقدس
تناقضات بين التفسير الآبائي وتفسير العلماء للكتاب المقدس
تناقضات بين التفسير الآبائي وتفسير العلماء للكتاب المقدس
كيف يمكننا التغلب على أية تناقضات بين التفسير الآبائي للكتاب المقدس وتفسير علماء الكتاب أنفسهم؟
الأجوبة السابقة تناولت هذا الموضوع بصورة كبيرة ويمكنك قراءة موضوع ما هي الأساليب الأرثوذكسية في التفسير الكتابي؟. توجد في الحقيقة تشعبات كثيرة جداً في الأسلوب وبالتالي في النتيجة بين آباء الكنيسة وبين الذين يمارسون التفسير الكتابي اليوم. ففي كثير من الأوساط البروتستانتية والكاثوليكية تمّ وضع النبرة بصورة رئيسية على ما يدعوه الآباء المعنى “الحرفي” للنص، المُدرَك بالبحث التاريخي – النقدي. يسعى هذا إلى الإجابة على أسئلة أولية مثل: “مَن، ماذا، أين، ولماذا”، متعلقة بإنجيل معين أو رسالة معينة.
بدأ آباء الكنيسة عملهم بالتفسير الكتابي بحثاً عن المعنى الحرفي، مطبّقين الأساليب التاريخية – النقدية الدارجة في يومنا الحالي. إن المفسّرين العظماء من القرنين الرابع والخامس من مدرسة أنطاكية التفسيرية (ديودورس أسقف طرسوس، ثيؤذورس أسقف مبسوستيا “المصيصة”، ثيؤذوريتوسٍ أسقف قروش، والقديس يوحنّا الذهبي الفهم) قد اعتمدوا على علوم الفلسفة والآثار والنقد الأدبي وما شابه، لتفسير وتبشير الكلمة الكتابية، تماماً كما يفعل علماء الكتاب اليوم.
مع ذلك ميّزوا حقيقةً غالباً ما تغيب عن المفسّرين المعاصرين: حقيقة أن التفسير الكتابي يجب أن يسعى لا إلى المعنى الحرفي فقط، بل أن يكون هدفه الحقيقي هو أن يتبيّن معنى أسمى وأكمل، يُشار إليه بـ “المعنى الروحي” للكتاب. فخلال العصور الوسطى اللاتينية، ميّز المفسّرون ما بين معانٍ عديدة “روحية” كهذه: خريستولوجية (مبيّنة بالأسلوب بحسب النموذج)، وأخلاقية (مبيّنةً بالأسلوب بحسب المجاز)، وأخروية (تتعلق بالمطاف النهائي لحجّنا الروحي نحو ملكوت الله).
بالنسبة للآباء، هذه المعاني الثلاثة الأخيرة هي الأهم، لأن ما هو حاسم من أجل خلاصنا إنما هو هذه المعاني وليس مجرد تصريحات عن حقيقة تاريخية. وبالتالي، كان الآباء أقل اهتماماً من المفسّرين المعاصرين بما “حدث فعلاً” أو بمستوى الحقيقة القابلة للتحقق منها في القصص الكتابية. لقد أخذوا تقاليد مثل المذكورة في تكوين 1-11 على ما هي تقريباً، وهو أمر لا يأخذ به معظم الناقدين الكتابيين المعاصرين (خوفاً من اتهامهم بأنهم “متطرفون” أو “حَرْفيون”).
لكن قراءتهم “الحرْفية” للكتاب المقدس يجب ألا تُخلَط مع نوع القراءة الحرْفية الموجودة في أوساط مسيحية محافظة معينة في يومنا الحالي. “المتطرفون” اليوم يعتقدون بشكل عام أن الكتاب المقدس قد تمّ إملاؤه على الكتبة، كلمة كلمة، بالروح القدس. لم يشارك آباء الكنيسة سوء الفهم هذا، لأنهم احترموا مبدأ “التعاضد”. فالله والمؤلّف البشري “يتعاضدان” في إنتاج النصوص الكتابية، فعمل الروح القدس ليس أن يُملي بل أن يوجّه الحدثية الفكرية للمؤلّف بحيث لا يقدّم شيئاً سوى كلمة الله، الحقيقة، التي يكشفها الله من خلال الأسفار المقدسة من أجل خلاصنا.
عندما ينكر بعض العلماء الكتاب المعاصرين التعاليم الكتابية الأساسية، بناء على أن “العلم” قد أظهر أن هذه التعاليم لا يمكن الدفاع عنها، عندئذ يجب على الأرثوذكس أن يرفضوا خلاصاتهم. الكثير من أمثال هؤلاء العلماء اليوم ينكرون الولادة العذرية أيضاً، ويعتقد البعض أن القيامة هي مجرد قصة تقوية، تمّ اختراعها من قبل الكنيسة الأولى للتأكيد على أن يسوع هو “حقاً حيٌ في قلوبنا”.
إن التفاسير المماثلة لهذه تنتهك الشهادة الكتابية، وبالتالي يجب أن تُرفض. لا يمكننا البرهان أن تلك الشهادة هي صحيحة تاريخياً، بالطبع. لكن كتبة الأسفار الكتابية كانوا مقتنعين بدون شك بأن ما كانوا يسردونه، في شكل النبوات والقصص التاريخية والأناجيل والرسائل والرؤى، هو حقيقي بصورة مطلقة.
ومن جهة أخرى، علينا أن ندرك أن الآباء كثيراً ما يختلفون فيما بينهم حول التفسير الصحيح لنص كتابي معين. “التناقضات” نشأت فيما بينهم أيضاً. لهذا السبب نؤكد أن التفسير الكتابي يجب أن يستمر في حياة الكنيسة. ففي كل جيل، يؤمّن الروح القدس برؤية جديدة وطرق جديدة لفهم كلمة الله من أجل يومنا الحالي. هذا لا يعني أن محتوى وحقيقة الكلمة يتغيّران.
إنه يعني أننا نحتاج لقراءة وإعادة قراءة الأسفار الإلهية في موقف صلاة يتطابق مع الكلمات التي خاطب بها القديس أفرام السوري رهبانه والتي سبق وذكرناها: “كلما أمسكتم بالكتاب المقدس، صلّوا والتمسوا إلى الله لكي يكشف نفسه لكم”. (الأب جان بريك).
“ثابر على دراسة الإنجيل حتى نهاية حياتك. لا تتوقف أبداً. لا تظن أنك تعرف بما فيه الكفاية، حتى ولو كنت تعرف (الإنجيل) كله عن ظهر قلب” (القديس إغناطيوس بريانتشانينوف)
“لقد كنتَ في القبر بالجسد، وفي الجحيم بالروح بما أنك إلهٌ، وفي الفردوس مع اللص، وعلى العرش مع الآب والروح، ملئاً الكلً، أيها المسيح المنزّه عن أن يكون محصوراً” (القداس الإلهي)