المسيح في أسفار الأنبياء
المسيح في أسفار الأنبياء
بيت لحم أفراته
“أما أنتِ يا بيت لحم أفراته وأنتِ صغيرة أن تكوني بين ألوف يهوذا فمنك يَخرج لي الذي يكون مُتسلطاً على إسرائيل ومخارجه منذ القديم منذ أيام الأزل” ميخا 5: 2.
كنا قد درسنا من قبل العديد من النبوات التي تُشير إلى الطبيعة اللاهوتية، جنباً إلى جنب مع الطبيعة الناسوتية للمسيا. ونبوة ميخا 5: 2 التي نحن بصددها الآن، هي أيضاً تشير إلى كلنا الطبيعتين في المسيا. ميخا النبي كما هو معروف كان معاصراً لإشعياء النبي، وتنبأوا في نفس الوقت، ولكن في أماكن مختلفة من اليهودية (أي المملكة الجنوبية).
إشعياء النبي يُعلن أن المسيا سيُولد من عذراء، ويُكمل ميخا النبي فيُحدد مكان هذا الميلاد على وجه التحديد. سوف لا يُولد المسيا في أورشليم كما كان يتوقع بعض اليهود، بل في بيت لحم.
وقد لمخ إشعياء النبي من بعيد وبطريقة غير مباشرة عن ميلاد المسيا في بيت لحم، “يخرج قضيب من جذع يسّى” إشعياء 11: 1. كان يُمكن لإشعياء أن يذكر مباشرة أن المسيا سيأتي من جذع داود، ولكن ذكر اسم أبيه يسّى، على أساس أن اسم يسّى مقرون دائماً ببيت لحم “فقال الرب لصموئيل… تعال أُرسلك إلى يسّى البيتلحمي لأني قد رأيت لي في بنيه ملكاً “صموئيل الأول 16: 1 – “فأجاب واحد من الغلمان وقال هوذا قد رأيت ابناً ليسّى البيتلحمي يُحسن الضرب وهو جبار بأس” صموئيل الأول 16: 17.
لكن في نبوة ميخا، أصبح واضحاً الآن وبشكل مباشر، أن المسيا سيُولد في بيت لحم. وتحديداً يذكر ميخا النبي “بيت لحم أفراته، هي بيت لحم اليهودية، في مملكة يهوذا الجنوبية والتي تقع إلى الجنوب من أورشليم (حوالي 9 كم تقريباً).
وكما أشار ميخا النبي إلى طبيعة المسيا الناسوتية، بولادته في بيت لحم، هكذا أشار إلى طبيعته اللاهوتية بقوله “ومخارجه منذ القديم منذ أيام الأزل”. والذي يقرأ هذا التعبير في اللغة العبرية، يجد أن هذا التعبير من أقوى المصطلحات العبرية المستعملة للحديث عن أزلية الله في الأسفار المقدسة، وتُستعمل لله فقط على الوجه المطلق. ففي سفر المزامير نجد مثلاً “من قبل أن تُولد الجبال أو أبدأت الأرض والمسكونة منذ الأزل إلى الأبد أنت الله” مزمور 90: 1. وما قيل بحق عن الله الآب، قيل أيضاً وبحق في الله الأبن، الذي سيُولد في بيت لحم “ومخارجه منذ القديم. منذ أيام الأزل” ميخا 5: 2 – ” الرب قناني أوّل طريقه من قبل أعماله منذ القديم. منذ الأزل” أمثال 8: 22 -23.
إذا، من نبوة ميخا، نرى أن المسيا سيكون إنساناً – يولد في مكان محدد هو بيت لحم – وهو أيضاً إله، لأنه منذ الأزل، كونه كلمة الله.
دخول المسيا أورشليم
“ابتهجي جداً يا ابنة صهيون اهتفي يا بنت أورشليم. هوذا ملكُك يأتي إليك هو عادل ومنصور وديع وراكب على حمار وعلى جحش ابن أتان. وأقطع المركبة من أفرايم والفرس من أورشليم وتُقطع قوس الحرب. ويتكلم بالسلام للأمم وسلطانه من البحر إلى البحر ومن النهر إلى أقاصي الأرض” زكريا 9: 9-10.
إذا قرأنا بإمعان الأصحاح التاسع من سفر زكريا، من العدد 1 حتى 8، نستطيع أن نفهم بسهولة خلفية وضع النبوة الخاصة بدخول المسيا إلى أورشليم في هذا المكان بالذات. ففي الآيات من 1-8 نقرأ عن نبوة لملك غريب يقتحم ويغزو أورشليم وبلاد مجاورة، وهذه النبوة تحققت في الإسكندر الأكبر.
لكن في العدد 9 بالمقارنة مع هذا الملك الأممي المُقتحم، نجد إشارة واضحة لمجيء ملك يهودي. وبذلك أراد زكريا النبي أن يُبشر شعب إسرائيل بأخبار مفرحة “ابتهجي.. اهتفي …” لأنه “هوذا ملكُكِ” أي ملك إسرائيل، يأتي … ليس “ضدك” بل “إليك”. ينبغي أن تفرح أورشليم لأن ملكها ليس كالإسكندر الأكبر ولكنه:
– عادل: هو يتصف بالعدل والبر، إشارة إلى ما جاء عنه في إرميا 23: 5-6 “يُجري حقاً وعدلاً في الأرض”. بعكس الإسكندر الأكبر الذي كان جائراً وظالماً، وقد مات في غيبوبة وهو مخموراً.
– منصور: الكلمة أصلها العبري، تعني حرفياً “مانح أو مُقدّم الخلاص”. إذاً، المسيا سيأتي ومعه هبة الخلاص. بعكس الإسكندر الأكبر الذي جاء ومعه الخراب والدمار والموت.
– وديعاً متواضعاً: وديعاً وتعني أنه يحمل مشاعر الرقة واللطف – متواضعاً تعني بعده عن مظاهر القسوة والعناد. فالمسيا “ظلم ولم يفتح فاه”، “راكباً على حمار وعلى جحش ابن أتان”. أما الإسكندر الأكبر، فقد أتى ومعه العنف والقوة والاضطهاد وراكباً على جواده الأبيض…. وفي الأناجيل الأربعة، عندما ذكرت حادثة دخول السيد المسيح إلى أورشليم راكباً على أتان وعلى جحش ابن أتان – أردف السيد المسيح يقول “…. تجدان جحشاً مربوطاً لم يجلس عليه أحد من الناس قط” لوقا 19: 30.
هنا نفهم أن الجحش غير مُروّض. وبالتالي، نقول إن حتى هذا الحيوان غير المُروّض – هذه الخليقة غير العاقلة، عرفت خالقها. فبدلاً من أن يُلقيه الحمار من على ظهره، خضع له. ألا يذكر شعب إسرائيل قول الرب على لسان إشعياء النبي “الثور يعرف قانيه والحمار معلف صاحبه. أمّا إسرائيل فلا يعرف. شعبي لا يفهم” إشعياء1: 3.
ماذا قال الرابيون عن هذه النبوة:
في بعض النبوات الواردة في العهد القديم، قد نلاحظ أن في النبوة الواحدة إشارة إلى المجيء الأول للمسيح والمجيء الثاني – معاً – دون إعطاء علامة مميزة تفصل بين الحديث المُدمج. من هذه النبوات ما جاء في نبوة زكريا 9: 9-10. والتي نحن بصددها الآن.
ففي الآية التاسعة، نجد الإشارة إلى المجيء الأول للمسيا، في صورة متواضعة، ثم بعدها مباشرة في الآية العاشرة، تُدمج إشارة إلى مجيئه الثاني. فنبوة زكريا تحمل خطين من النبوات المسيانية – جنباً إلى جنب – الأول، المسيا المتواضع الوديع، ثم في الآية التي تليها، نراه ملكاً يمتد سلطانه ليشمل الأرض كلها.
حاول بعض الرابيين، التوفيق بين النبوتين – حسب وجهة نظرهم القاصرة والمتسرعة أنهما متناقضتان – فجاء تفسيرهم بوجود مسيحيين مختلفين: المسيا الأول سيُدعى ابن يوسف، وهو متواضع وفقير ومهان ومُتألم، ثم يتبعه مسيا آخر يأتي، سيدعى ابن داود، وهو المسيا الملك المنتصر.
ولو قرأ هؤلاء الرابيون التلمود بإمعان، لوجدوا خطأ رأيهم. حيث نقرأ في التلمود الآتي:
1 – في التلمود Talmud في قسم السنهدرين Sanhedrin 98b – 99a نقرأ التالي […. رابي هيلليل Rabbi Hillel قال: إن شعب إسرائيل لا يمكن أن يتوقع مجيء مسيا الآن، لأنهم أبادوه في أيام حزقيا. إنّ هذا خطأ فادح! أما الردّ المُفحم هو: متى عاش حزقيّا؟ أليس في أيام الهيكل الأول! لكن زكريا كان في أيام الهيكل الثاني، وهو يتنبأ الآن قائلاً “ابتهجي جداً…. “زكريا 9: 9].
2 – في التلمود Talmud في قسم السنهدرين Sangedrin 98a نقرأ التالي
[…. رابي يوسف بن ليفي Rabbi Joseph ben Levi في تفسيره لنبوة زكريا عن المسيا يقول: لقد كُتب عن المسيا القول “كُنت أرى في رُؤى الليل وإذا مع سحاب السماء مثل ابن انسان أتى وجاء إلى القديم الأيام فقربوه قدامه” دانيال 7: 13. ولكن في وضع آخر كُتب عنه “هوذا ملكك يأتي إليك هو عادل … وديع وراكباً على حمار وعلى جحش ابن أنان” زكريا 9: 9. والحلّ هو: لو شعب إسرائيل كان باراً، فسوف يأتي المسيا على سحاب السماء، أما إذا كان خاطئاً، فسوف يأتي المسيا وديعاً وراكباً على جحش ابن أتان].
3 – أيضاً في كتاب “Pesikta Rabbati”* في العظة رقم 53 (Piska 53) نقرأ الآتي [….أما ما جاء في زكريا 9: 9 بخصوص المسيا الوديع… فهو وديع لأنه ظُلم طوال هذه السنين في السحن، أما خطاه إسرائيل فأنكروه ورفضوه. من سمات المسيا، الشخص المقدس – مُبارك هو – إنه سيحفظك ويفديك].
هذه النوعية من أقوال الرابيين، تشرح مبدأ الاتجاهين للنبوة المسيانية الواحدة، وقرروا أن كل اتجاه من الاتجاهين في النبوة سيتم، لكن لم يقروا بمبدأ وجود مسيحيين اثنين.
نظرة العهد الجديد واضحة جداً بهذا الخصوص. فالعهد الجديد يُعلم بأن المسيا هو شخص واحد، ولكن سيأتي مرتين: المرة الأولى – يتألم ويُصلب ويموت ثم يقوم – وهذا المجيء قد تم بالفعل… أما المرة الثانية – فسيأتي في مجده ليدين الأحياء والأموات، وهذا لم يتم بعد.
ثمن المثمن -الراعي الصالح
” افتح أبوابك يا لبنان، فتأكل النار أرزك. ولول يا سرو، لأن الأرز سقط لأن الأعزاء قد خربوا. ولول يا بلّوط باشان، لأن الوعر المنيع قد هبط. صوت ولولة الرعاة لأن فخرهم خرب. صوت زمجرة الأشبال، لأن كبرياء الأردن خربت. هكذا قال الرب إلهي: ارع غنم الذبح الذين يذبحهم مالكوهم ولا يأثمون وبائعوهم يقولون مبارك الرب قد استغنيت. ورعاتهم لا يشفقون عليهم. لأني لا أُشفق بعد على سكان الأرض، يقول الرب، بل هأنذا مُسلّم الإنسان كل رجل ليد قريبه وليد ملكه فيضربون الأرض ولا أنقذ من يدهم.
فرعيت غنم الذبح. لكنهم أَذَلُ الغنم. وأخذت لنفسي عصوين، فسميّتُ الواحدة نِعمة وسميّتُ الأخرى حِبَالاً ورعيت الغنم. وأَبدتُ الرعاة الثلاثة في شهر واحدٍ، وضاقت نفسي بهم وكرهتني أيضا نفسهم. فقُلتُ: لا أرعاكم. من يَمُت فليمُت، ومن يُبدْ فليُبدْ والبقية فليأكل بعضها لحم بعض. فأخذت عصاي نعمة وقصفتها لأنقض عهدي الذي قطعته مع كل الأسباط.
فنُقض في ذلك اليوم وهكذا عَلِمَ أَذَلُ الغنم المنتظرون لي أنها كلمة الرب. فقُلتُ لهم: إن حَسُنَ في أعينكم فأعطوني أُجرتي وإلا فامتنعوا. فوزنوا أُجرتي ثلاثين من الفضة. فقال لي الرب: ألقها إلى الفخاري الثمن الكريم الذي ثمنوني به. فأخذتُ الثلاثين من الفضة وألقيتها إلى الفخاري في بيت الرب. ثم قصفتُ عصاي الأخرى حِبَالاً لأنقض الإخاء بين يهوذا وإسرائيل.
فقال لي الرب: خُذ لنفسك بعد أدوات راعٍ أحمق. لأني هأنذا مُقيم راعياً في الأرض لا يفتقد المنقطعين ولا يطلب المنساق ولا يُجبر المنكسر ولا يُربي القائم ولكن يأكل لحم السمان وينزع أظلافها.
ويل للراعي الباطل التارك الغنم. السيف على ذراعه وعلى عينه اليمنى. ذراعه تَيبس يبساً وعينه اليمنى تكلُ كلولاً”
سفر زكريا: الأصحاح الحادي عشر
الأصحاح الحادي عشر كله من سفر زكريا، يتعلّق بالمجيء الأول للمسيا، والأحداث التي صاحبته. يمكن تقسيم الأصحاح إلى ثالثة أجزاء:
– الآيات من 1: 3، تصف التدمير الكلي لأرض إسرائيل من الشمال إلى الجنوب. وهذا تحقق بالفعل إثر اندلاع ثورتين ضد الرومان: الثورة الأولى بدأت في سنة 68 ميلادية، والثورة الثانية بدأت في سنة 132 ميلادية.
– الآيات من 4: 14، تصف رفض المسيا في مجيئه الأول، كراعٍ صالح لشعب إسرائيل، ثم تصف الآيات الخراب العظيم الذي حدث في سنة 70 ميلادية عقب اندلاع الثورة الأولى.
– الآيات من 15: 17، تصف اختيار راعٍ أحمق، يقود إلى الخراب الثاني الذي حدث في سنة 135 ميلادية، عقب اندلاع الثورة الثانية.
1 – وصف خراب الهيكل
في مواضع كثيرة يُشار إلى الهيكل ب “أرز لبنان” أو “بيت الأرز”: “كما كلّم الرب داود أبي قائلاً إن ابنك الذي أجعله مكانك على كرسيّك هو يبني البيت لاسمي. والآن فأمُر أن يقطعوا لي أرزاً من لبنان ويكون عبيدي مع عبيدك وأجرة عبيدك أُعطيك إياها حسب ما تقول” ملوك الأول 5: 5-6 – “وأرسل حيرام إلى سليمان قائلاً. قد سمعت ما أَرسلت به إليّ.
أنا أفعل كل مسرتك في خشب الأرز وخشب السرو…. فكان حيرام يُعطي سليمان خشب أرز وخشب سرو حسب كل مسرته… لبناء البيت” ملوك أول 5: 8-18 (راجع أيضاً 2صم 7:2/ 1ملوك 6:18/ 7:3-11/ 1ملوك 4: 33/ 1ملوك 10: 11). النبوة تقول “افتح أبوابك يا لبنان فتأكل النار أرزك. ولول يا سرو لأن الأرز قد سقط” واضح أنه يتكلم عن حرق وهدم الهيكل، المصنوع من خشب الأرز والسرو. وهي إشارة غير مباشرة لخراب الهيكل والذي ظل العمل فيه حتى زمن نبوءة زكريا.
وقول النبوة “صوت ولولة الرعاة لأن فخرهم خرب”، فهو يتحدث عن رعاة شعب إسرائيل أي القادة اليهود، الذين بدمار الهيكل والمدينة سيتحول فخرهم إلى صوت ولولة ونواح.
وبقية الأصحاح يتحدث عن سببين لهذا الدمار والخراب: الأول، بسبب رفضهم للراعي الصالح – المسيا – وحقدهم عليه، وهذا قاد إلى الخراب الذي تم بحرق وهدم الهيكل وكل المدينة في سنة 70 ميلادية. الثاني، بسبب قبولهم للراعي الأحمق، وهذا قاد إلى الخراب الرهيب الذي حدث سنة 135 ميلادية.
2 – الله أوكل إلى زكريا بعمل خاص
” قال الرب إلهي ارع غنم الذبح الذين يذبحهم مالكوهم ….. ورعاتهم لا يشفقون عليهم… لكنهم أَذَلّ الغنم”. تحدثنا هذه الآيات عن أمر قد يبدو غريباً، ولكن كان عبارة عن وصف تفصيلي لما هو عتيد أن يحدث مع السيد المسيح في مجيئه الأول: فقد كلّف الله زكريا النبي بمهمّة يقوم بها، ليست في الأصل من عمله… بل كرسالة يريد الله أن يوصلّها إلى هذا الشعب العنيد: هو أن يقوم بدور المسيا في مجيئه الأول، فالمسيا يرمز إليه في هذه النبوة بالراعي الذي يقود ويُطعم الخراف أي شعب إسرائيل. والدقة المُذهلة التي كبت بها زكريا بوحي الروح القدس، في قوله “يذبحهم مالكوهم ولا يأثمون” هو إشارة للرومان… أما “رعاتهم لا يشفقون عليهم” هو إشارة إلى القادة اليهود الذين تركوا الرعية ولم يشفقوا عليهم.
“فرعيت غنم الذبح” يقصد شعب إسرائيل… ثم نرى في الآية 5، 6 أن الله تخلّى عنهم، وقرر أن يُسلّمهم إلى يد ملكهم “هأنذا مُسلّمُ الإنسان كل رجلٍ ليد قريبه وليد ملكه فيضربون الأرض ولا أُنقذ من يدهم”. قد يتبادر إلى ذهن البعض، أن هناك مشكلة بخصوص التعبير “ليد ملكه”، حيث أنه أثناء الاحتلال الروماني، لم يكن لإسرائيل ملكاً حقيقياً من نسل داود.
ونجد الإجابة على هذه المشكلة في العهد الجديد، فعندما وقف الرب يسوع – الراعي الحقيقي والملك الحقيقي – أثناء محاكمته أمام بيلاطس البنطي، قائلاً لهم “أأصلب ملككم” صرخوا كلهم قائلين “ليس لنا ملك إلاّ قيصر” يوحنا 19: 15. بما أنهم رفضوا المسيا كملك عليهم وأقروا بأن قيصر وحده هو ملكهم، أسلمهم الله إلى مشورتهم، فقد حكموا على أنفسهم ” من فمك أدينك أيها العبد الشرير” لوقا 19: 22.
وجلبوا على أنفسهم دينونة الله العادلة، وتمت النبوة، إذ في أثناء تدمير وخراب الهيكل وأورشليم سنة 70 ميلادية، قبل الرومان ما يقرب من 1،100،000يهودي، وحوالي 97،000 أُخذوا كعبيد (حسب بعض المراجع).
“فرعيت غنم الذبح. لكنهم أَذَلّ الغنم”، هنا ينفذ زكريا النبي، النهمة التي أوكلها إليه الله. فنجده يرعى غنم الذبح، ولكن بصفة خاصة “أُذُلُ الغنم” أي أضعفها، وحسب بعض الترجومات “المعوزة والمحتاجة”. وهذا تعبير شائع عند الأنبياء ويُشير عادة إلى البقية البارة من شعب إسرائيل. فبينما في كل العصور والأزمنة في تاريخ إسرائيل، الكل زاغوا وفسدوا، إلاّ أن بقية صغيرة بينهم ظلت محافظة على برّها بالإيمان.. وأطلق عليها “بقية إسرائيل”.
فبالرغم من أن المسيا يأتي من أجل كل إسرائيل، إلاّ أنّه يظهر كما لو أنه جاء تحديداً من أجل البقية المؤمنة. وتحقيق هذا نراه جلياً في إنجيل متى، حيث يقول “ولما رأى الجموع تحنن عليهم إذ كانوا منزعجين ومطروحين كغنم لا راعي لها” متى 9: 36.
وقد استعمل زكريا النبي في عمله عصوين، “فسَميّتُ الواحدة نعمة وسَميّتُ الأخرى حِبالاً”: العصا التي سُميّت “نعمة” هي من أجل الحماية وقيادة الغنم، أما العصا المسماة “حِبالاً” هي لحفظ الغنم مع بعضهم البعض، وصيانة وحدتهم. أثناء رعاية الغنم واجه زكريا مقاومة من ثلاثة رعاة “وأَبدتُ الرعاة الثلاثة في شهر واحدٍ وضاقت نفسي بهم وكرهتني أيضاً نفسهم”: هذا الأمر قد تحقق بدقة متناهية في أيام السيد المسيح أثناء خدمته بين شعب إسرائيل، إذ واجه ثلاثة رعاة، قاوموه بشدة، وهم: الكتبة والفريسيون والصدوقيون… هذه الفئات الثلاث كانوا هم قادة إسرائيل أثناء كرازة السيد المسيح.
وكانت إحدى مهام السيد المسيح التبشيرية، هي هدم تعاليم هذه الفئات الثلاث. من هنا نشأ حقد وكراهية في قلوبهم عليه، وانطبق قول زكريا “وضاقت نفسي بهم وكرهتني أيضاً نفسهم”، فنقرأ في إنجيل متى الآتي “ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون لأنكم تغلقون ملكوت السموات قدام الناس فلا تدخلون أنتم ولا تدعون الداخلين يدخلون. ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون لأنكم تأكلون بيوت الأرامل.
ولعلة تطيلون صلواتكم…. الويل لكم أيها الكتبة والفريسيون لأنكم … أيها الجهال والعميان…” متى 23 (رجاء قراءة الأصحاح كله). وقد ظهر قمة العداء الشديد الذي في قلب هؤلاء القادة نحو الرب يسوع، عندما تآمروا عليه لإدانته وإصدار حكم بالصلب وإعطاء رشوة ليهوذا الإسخريوطي ليسلّمه لهم.
“فقلت لا أرعاكم” هنا نقرأ عن انقطاع مُفاجئ لرعاية وإطعام الغنم. هذا ما عبّر عنه السيد المسيح نفسه قائلاً “فأجاب وقال لهم جيل شرير وفاسق يطلب آية (معجزة) ولا تُعطى له آية إلا آية يونان النبي… رجال نينوى سيقومون في الدين مع هذا الجيل ويدينونه لأنهم تابوا بمناداة يونان. وهوذا أعظم من يونان ههنا. ملكة التيمن… فتصير أواخر ذلك الإنسان أشرّ من أوائله. هكذا يكون أيضاً لهذا الجيل الشرير” متى 12: 38-40. قول السيد المسيح “جيل فاسق وشرير” يقصد به شعب إسرائيل في ذلك الوقت. وقوله “هكذا يكون أيضاً لهذا الجيل الشرير” يقصد وقوع شعب إسرائيل تحت دينونة الخراب المحتوم، والذي سيقع سنة 70م. من جهة أخرى، كان الرب يسوع قبل رفضه العلني من الكتبة والفريسيين، دائماً يُعلن عن نفسه بوضوح بأنه المسيا المكتوب عنه… لكن بعد رفضه، لم يُعلن عن نفسه مرة أخرى بهذا، وكان يمنع تلاميذه والأشخاص الذين شفاهم عن أن يكشفوا مسيانيته… أيضاً، قبل رفضه أجرى الرب يسوع العديد من المعجزات والآيات لكل الناس في المدن والقرى ويُطعم الجموع، لكن بعد رفضه، لم يجر أية معجزات أو أشفيه إلا للذين أعلنوا إيمانهم به شخصياً. وهذا يوضح قول زكريا النبي فجأة “فقلت لا أراعاكم”.
“فأخذت عصاي نعمة وقصفتها لأنقض عهدي الذي قطعته مع كل الأسباط. فنُقض في ذلك اليوم. وهكذا عَلِمَ أَذَلُّ الغنم المنتظرون لي أنها كلمة الرب”. بعد التوقف عن رعاية الغنم، أخذ زكريا العصا المسماة “نعمة” وكسرها، وهنا إشارة إلى نزع الحماية عن شعب إسرائيل وتركهم فريسة لإعدائهم. وهذا ما نطق به رب المجد يسوع عند اقترابه من المدينة “وفيما هو يقترب نظر إلى المدينة وبكى عليها قائلاً إنكِ لو علمتِ أنتِ أيضاً حتى في يومك هذا ما هو لسلامك.
ولكن الآن قد اُخفي عن عينيك. فإنه ستأتي أيام ويُحيط بك أعداؤك بمترسة ويُحدقُون بك ويحاصرونك من كل جهة. ويهدمونكِ وينيكِ فيكِ ولا يتركون فيك حجراً على حجرٍ لأنك لم تعرفي زمان افتقادك” لوقا 19: 41-44… “ويقعون بفم السيف ويُسبون إلى جميع الأمم. وتكون أورشليم مدوسة من الأمم” لوقا 21: 24.
من الآيات السابقة، يتضح كيف تخلّى الله عن حماية شعب إسرائيل، وهذا ما أشار إليه الوحي الإلهي في النبوة بقصف زكريا لعصاه “نعمة”. أما عن قوله “وهكذا عَلِمَ اَذَلُ الغنم… أنها كلمة الرب”، قلنا من قبل أن “أذل الغنم” هم البقية المؤمنة من شعب إسرائيل… وتتمثل في التلاميذ والذين تبعوا الرب يسوع. هؤلاء سيروا كسر عصا النعمة، ككلمة الرب ويفهموا مغزى ذلك.
وفعلاً عندما شاهد التلاميذ والمسيحيون متاريس الرومان تُنصب، والجيوش تتدفق لمحاصرة المدينة، هربوا كقول الرب يسوع لهم من قبل “ومتى رأيتم أورشليم محاطة بجيوش فحينئذ اعلموا أنه قد اقترب خرابها. حينئذ ليهرب الذين في اليهودية إلى الجبال. الذين في وسطها فليفروا خارجاً والذين في الكور فلا يدخلوها. لأن هذه أيام انتقام ليتم كل ما هو مكتوب” لوقا 21: 20-22. وهذا ما أشارت إليه النبوة “وهكذا عَلِمَ اَذَلُ الغنم… أنها كلمة الرب”.
3 – ثمن الراعي الصالح
“فقُلتُ لهم: إن حَسُنَ في أعينكم فأعطوني أُجرتي وإلا فامتنعوا. فوزنوا أُجرتي ثلاثين من الفضة. فقال لي الرب: ألقها إلى الفخاري الثمن الكريم الذي ثمنوني به. فأخذتُ الثلاثين من الفضة وألقيتها إلى الفخاري في بيت الرب”.
تقدّم الراعي الصالح إلى قادة إسرائيل وطلب أجرته… أن يدفعوا بحسب ما يظنوا إنه مستحق. فوزنوا أجرته ثلاثين من الفضة (شاقل Shekel). ويحسب ناموس موسى، فإن ثلاثين من الفضة، كانت قيمة الفدية التي تدفع عوضاً عن العبد الميت “إن نطح الثور عبداً أو أمة يعطي سيده ثلاثين شاقل فضة والثور يُرجم” خروج 21: 32.
أي أن قيمة عمل الراعي الصالح، قدر بمساواته بالعبد الميت. كونهم يدفعون ثلاثين من الفضة، كان أكثر إهانة له، من أن لا يدفعوا على الإطلاق. وهنا أريد أن أذكر نقطة في غاية الأهمية، وهي: إنه زكريا النبي الذي دفع له الثلاثين من الفضة، ثم أجرته كراعٍ… ولكن من هو المهان فعلاً في هذا التقدير؟
هل هو زكريا أم الله نفسه؟؟ للإجابة نُورد الآية مرة أخرى “فقال لي الرب (يهوه) ألقيها إلى الفخاري الثمن الكريم الذي ثمنوني به” الذي يتكلم هنا هو، الرب يهوه “فقال لي يهوه” الذي هو الراعي الصالح. هو الرب، الذي عمله مُحتقر ومرذول ومزدرى به، لدرجة أنه قدر بثلاثين من الفضة فقط، ثم يعود هو نفسه فيقول “الثمن الكريم الذي ثمنوني به”.
وبهذا يكون واضحاً أن زكريا النبي مجردّ ممثل يلعب دوراً في مهمة نبوية، وأن هذا الدور يُتممه الرب نفسه. لأن المتكلم هو الرب، وليس زكريا. إذاً، المسيا الراعي الصالح هو الرب “يهوه”. وأن هذا الثمن هو ثمن الرب.
أمر الرب زكريا بأن يأخذ الثلاثين من الفضة ويُلقيها إلى الفخاري، ففي الحال أطاع زكريا النبي القول “فأخذت الثلاثين من الفضة وألقيتها إلى الفخاري في بيت الرب” وهذا ما تم بكل دقة، إذ عندما أخذ يهوذا الإسخريوطي من قادة اليهود الثلاثين من الفضة، كي يُسلمهم الرب يسوع “حينئذ ذهب واحد من الاثني عشر الذي يدعى يهوذا الإسخريوطي إلى رؤساء الكهنة وقال ماذا تريدون أن تُعطوني وأنا أسلمه إليكم. فجعلوا له ثلاثين من الفضة” متى 26: 14-15.
لكن لما ندم طرح الفضة إلى رؤساء الكهنة والشيوخ. قائلاً قد أخطأت إذ سلمت دماً بريئاً. فقالوا ماذا علينا. أنت أبصر. فطرح الفضة في الهيكل وانصرف ثم مضى وخنق نفسه. فاخذ رؤساء الكهنة الفضة وقالوا لا يحل أن نلقيها في الخزانة لأنها ثمن دم. فتشاوروا واشتروا بها حقل الفخاري” متى 27: 3- 10. يمكن القول، بأن الثلاثين من الفضة التي دفعت ليهوذا، بواسطة رؤساء الكهنة، قد أخذت من خزانة الهيكل، حيث كانت تحفظ بعض الأموال لشراء الذبائح. ودون أن يعلموا – رؤساء الكهنة – بما هم يفعلون، اشتروا ذبيحة، هي المسيح، آخر ذبيحة عن الخطية.
4 – الراعي الكاذب – الأحمق
“فقال لي الرب: خُذ لنفسك بعد أدوات راعٍ أحمق….. لا يفتقد المنقطعين ولا يطلب المنساق ولا يُجبر المنكسر ولا يُربي القائم ولكن يأكل لحم السمان وينزع أظلافها. ويل للراعي الباطل التارك الغنم. السيف على ذراعه وعلى عينه اليمنى. ذراعه تَيبس يبساً وعينه اليُمنى تكلُ كلولاً”
عندما رفض شعب إسرائيل، الراعي الصالح – المسيا- الذي جاء ليرعاهم ويقودهم ويُطعمهم، نراهم يقبلون راعياً كاذباً واحمقاً بدلاً منه. ففي نهاية الأصحاح، يُخبرنا زكريا النبي بأنه سيلعب دوراً ثانياً، ليس كراعٍ صالح كما في السابق، ولكن في هذه المرة سيُمثل دور راعٍ أحمق كاذب، سيجلب الأذى والضرر للغنم.
كيف تحققت هذه النبوة؟ كانت النكبة التي مُني بها اليهود المتطلعون لتحرير بلادهم، في سنة 70 ميلادية، كفيلة أن تجعلهم بلا قوة ولا حراك، بل وبلا أي تفكير أو أمل في القيام بمحاولة من نفس النوع مدة لا تقل عن خمسين عاماً. وظل اليهود غير قادرين على عمل أن ثورة طاول هذه المدة. ولكن لم يستطع الشعب اليهودي أن يعيش هذه السكنية إزاء تصرفات أباطرة الرومان، مثل هادريان الذي تدخل في شؤونهم الدينية، هذا بالإضافة إلى محاولة هادريان مسخ يهودية مدينة أورشليم بأن أسماها “آيلا كابيتولينا” وقام بمشروع بناء هيكل كبير فيها للإله زيوس ولتعمير المدينة المخرّبة.
وقد كان قيام اليهود بثورتهم الجديدة والأخيرة أمراً مفاجئاً ومدهشاً، إذ في فترة وجيزة كانت اليهودية كلها تحمل السلاح بطريقة غير مترقبة. لأن نداء الواجب العنصري والديني عند اليهود كان في الواقع شديداً وكفيلاً أن يؤدي إلى أي ثورة في أي وقت. وكان اعتمادهم دائماً أبداً ليس على كمية السلاح ولا عدد المحاربين، بل على رجاء معونة يهوه وإيماناً بمجيء المسيا في لحظات الحرب الحاسمة ليقود ويعطي النصرة. في حين أنهم يعلمون جيداً ما تنبأ به زكريا النبي عنهم، إذ برفضهم المسيا الراعي الحقيقي، أسلمهم الرب إلى راعي كاذب أحمق (الرومان) لكي “يأكل لحم السمان (من الغنم) وينزع أظلافها” زكريا 11: 16.
وفي هذه الثورة بالذات برز عنصر الاعتقاد بمجيء المسيا وظهوره في شخص يُدعى سمعان باركوكبا Simon bar Cohoba (الذي معناه ابن الكوكب)، ودعي من اليهود “المسيا رئيس اليهود”، فكان سبباً في تتحمس كافة اليهود بجميع طبقاتهم وأحزابهم. ومما زاد في تضليل الشعب ورفع حماسهم إلى درجة الجنون، أن رابي عقيبة Rabbi Akiba، أكبر المعلمين الدينيين في اليهودية تولى إعلان وتقديم سمعان باركوكبا للشعب بصفته هو “المسيا المنتظر”، “رجاء إسرائيل” وزاد على ذلك أن أعلنوا بدء ملكوت المسيا، وصكوا نقوداً عليها “سمعان رئيس اليهود”، “لأجل تحرير إسرائيل”، “لأجل تحرير أورشليم”.
استغاث حاكم اليهودية بالإمبراطور هادريان، وجاءت النجدة تلو النجدة، لتواجه هذه الثورة العارمة المنتشرة في البلاد كلها. وفي ظرف ثلاث سنوات (132- 135 م) سلّم اليهود نهائياً، لما وجدوا أن العمليات الحربية أكثر مما كانوا يتوقعوا. وبذلك دُمرت أورشليم مرة أخرى سنة 135 ميلادية وسُوّيت بالأرض، وقُتل أكثر من نصف مليون يهودي، هذا بخلاف من مات بالجوع والوبأ. فلما انكسر اليهود في ثورتهم ضد الرومان بقيادة “سمعان باركوكبا” أي ابن الكوكب، سموّه اليهود “سمعان باركوزيبا” أي ابن الكذب.
طعن المسيا
“وأفيض على بيت داود وعلى سكان أورشليم روح النعمة والتضرعات فينظرون اليّ الذي طعنوه وينوحون عليه كنائح على وحيدٍ له ويكونوا في مرارة عليه كمن هو في مرارةْ على بكره” زكريا 12: 10.
بعض الشراح فسروا هذه الآية، كونها نبوة عن المجيء الثاني للمسيا. البعض الآخر، قالوا إن النبوة تشتمل على المجيئين: القادة اليهود سيرفضون المسيا في مجيئه الأول، ولكن عند مجيئه الثاني، سيندمون على رفضهم، ويترجون الله عودته. والواضح من هذه النبوة، هو أن زكريا النبي، يصف الأسى والحزن الذي سيلحق قادة اليهود – يوماً ما – بسبب قتلهم المسيا في مجيئه الأول.
تُوجد ثلاث نقاط هامة في هذه النبوة:
1 – التأكيد على رفض قادة اليهود للمسيا.
2 – يُخبرنا زكريا النبي، أن موت المسيا لم يكن طبيعياً، بل ناتجاً عن عمل إجرامي عنيف وهذا يتضح من القول “طعنوه”.
3 – المتحدث في النبوة هو “الرب نفسه” وليس زكريا، بدليل قوله “وأفيض على بيت داود” ثم يقول هو نفسه “فينظرون إليّ الذي طعنوه”، وهذا واضح جداً في اللغة العبرية “אלי = إ ل ي” أي أن الذي طُعن هو الرب نفسه. بناء على ذلك يكون المسيا هو نفسه “الرب يهوه”.
وقد تمت هذه النبوة، عندما طعن أحد الجنود الرومان الرب يسوع في جنبه، وقد سجّل يوحنا الحبيب ذلك بقوله “لكن واحداً من العسكر طعن جنبه بحربة وللوقت خرج دماء. والذي عاين شهد وشهادته حق… وأيضاً يقول كتاب آخر سينظرون إليّ الذي طعنوه” يوحنا 19: 33-37.
ساد في فترة ما قبل التلمود، تفسيران لهذه النبوة: التفسير الأول، يقول إن النبوة تخص المسيا ابن يوسف…. أما التفسير الثاني، يقول إن شعب إسرائيل سينوح من أجل طلب قتل الميول الشريرة التي فيهم. وعندما جاء التلمود حسم الموقف، وأعلن صراحة بأن النبوة تخص المسيا…. فنقرأ في التلمود الآتي [لماذا هذا النوح في زمان المسيا؟ يُوجد تفسيران مختلفان لكل من رابي دوسا Rabbi Dosa، والحكيم رعبنان Sages Rabanan: الرأي الأول، هو أنهم يوحون على المسيا ابن يوسف الذي قُتل، الآخر، أنهم ينوحون لطلب قبل ميولهم الشريرة.
إنه مقبول جداً يحسي ما شرحناه أن سبب النوح هو قتل المسيا. وهذا يتفق تماماً مع ما جاء في زكريا النبي 12: 10. لو أن النوح يتعلق بقتل ميولهم الشريرة، ينبغي أن نسأل: هل هذه مناسبة للنوح؟ ولا أيضاً مناسبة للفرح؟ فلماذا إذا سيبكون….] Talmud, Succah 52a.
الراعي الصالح
“فيقول له ما هذه الجروح في يديك. فيقول هي التي جُرحت بها في بيت أحبائي. أستيقظ يا سيف على راعيّ وعلى رجل رفقتي يقول رب الجنود” زكريا 13: 6- 7.
الراعي الصالح المذكور في هذه النبوة، هو نفس الراعي الصالح المذكور في سفر زكريا 11: 4-13. كما أن هذه النبوة، تكشف عن كون أن المسيا سيكون “إلهاً وإنساناً”. بالنسبة للطبيعة البشرية للمسيا واضحة في قوله”…. وعلى رجل ….”، أما بالنسبة إلى الطبيعة اللاهوتية، فللأسف الترجمة العربية، لا تُعطي المعنى الدقيق الوافي والمقصود به مثلما يُعطي النص العبري… فكلمة “رجل رفقتي” كما جاءت في النص العبري هي:
“גבר עמיתי = ج ب ر ع م ي ت ي” وهي تعني في العبرية حرفياً “رجل – مساوٍ لي” أو “رجل – معادل لي”. من هنا يتبين لنا أن الترجمة العربية عاجزة عن إعطاء المعنى المقصود. لذا، بعد العودة إلى الأصل العبري للآية، ينبغي أن تُترجم “….. على راعيّ وعلى الرجل – مساوٍ لي يقول رب الجنود”. بناء على ذلك، يكون المسيا هو الله، لأن المتحدث في الآية “رب الجنود”.
من جهة أخرى، فإن النبوة تُبين أن موت المسيا سوف لا يكون موتاً طبيعياً بل نتيجة آلام يُعانيها من أقرب الناس إليه، من بني جنسه، أي شعب اليهود، وهذا يظهر من القول “فيقول هي التي جُرحت بها في بيت أحبائي”. وقد تمت هذه النبوة، عندما سمروا الرب يسوع بالمسامير على الصليب “ولما مضوا به إلى الموضع الي يُدعى جمجمة صلبوه هناك” لوقا 23: 33 – “انظروا يديّ ورجليّ إني أنا هو …. ” لوقا 24: 39 – “فقال لهم (توما) إن لم أُبصر في يديه أثر المسامير وأضع إصبعي في أثر المسامير وأضع يدي في جنبه لا أُومن… ثم قال لتوما هاتِ إصبعك إلى هنا وأبصر يديّ وهاتِ يدك وضعها في جنبي ولا تكن غي مؤمن بل مؤمناً. أجاب توما وقال له ربّي وإلهي” يوحنا 20: 24 – 29.
كذلك، تذكر النبوة أن موت المسيا سيعقبه تشتت اليهود، حسب قوله “اضرب الراعي فتتشتت الغنم وأرد يدي على الصغار” زكريا 13: 7. أما الراعي فقد ضُرب حوالي سنة 30 ميلادية (احداث الصلب)، والرعية تبددت في سنة 70 ميلادية، عندما تشتت اليهود خارج أورشليم. أمّا عن قوله “وأردّ يدي على الصغار” فهو يقصد التلاميذ والذين آمنوا به من عامة الشعب “لا تخف أيها القطيع الصغير….” لوقا 12: 32.
ملاك لتهيئة الطريق
“هأنذا أُرسل ملاكي فيهيئ الطريق أمامي ويأتي بغتة إلى هيكله السيد الذي تطلبونه وملاك العهد الذي تُسرّون به هوذا يأتي قال رب الجنود” ملاخي 3: 1.
تُوجد في أسفار العهد القديم إشارتان تتحدثان عن “السابق” الذي يُهيئ الطريق لمجيء المسيا: الأولى، في سفر إشعياء “صوت صارخ في البرية أعدوا طريق الرب. قوّموا في القفر سبيلاً لإلهنا. كل وطاءٍ يرتفع وكل جبلٍ وأكمه ينخفض ويصير المعوجّ مستقيماً والعراقيب سهلاً. فيعلن مجد الرب ويراه كل بشرٍ جميعاً لأن فم الرب تكلم” إشعياء 40 :3-5. أما الإشارة الثانية، فهي في نبوة ملاخي التي ندرسها الآن.
بعض الشرّاح قالوا أن هذا “السابق” هو إيليا النبي، بحسب تفسيرهم لما جاء في سفر ملاخي 4: 5-6، حيث يقول “هأنذا أُرسل إليكم إيليا النبي قبل مجيء يوم الرب العظيم والمخوف، فيردّ قلب الآباء على الأبناء وقلب الأبناء على آبائهم”. ورغم ذلك لم تذكر نبوة إشعياء ولا نبوة ملاخي 3:1، اسم هذا “السابق”…. لكن الذي كشف عن اسمه هو العهد الجديد، وهو يوحنا المعمدان.
حيث جاء في إنجيل متى الآتي “….. ابتدأ يسوع يقول للجموع عن يوحنا. ماذا خرجتم إلى البرية لتنظروا. أقصبه تحركها الريح. لكن ماذا خرجتم لتنظروا. إنساناً لابساً ثياباً ناعمة. هوذا الذين يلبسون الثياب الناعمة هم في بيوت الملوك. لكن ماذا خرجتم لتنظروا. أنبياّ. نعم أقول لكم وأفضل من نبيّ. فإن هذا هو الذي كُتب عنه ها أنا أُرسل أمام وجهك ملاكي الذي يهيئ طريقك قدامك.
الحق أقول لكم لم يقم بين المولودين من النساء أعظم من يوحنا المعمدان. ولكن الأصغر في ملكوت السموات أعظم منه. ومن أيام يوحنا المعمدان إلى الآن ملكوت السموات يُغصب والغاصبون يختطفونه. لأنّ جميع الأنبياء والناموس إلى يوحنا تنبأوا. وإن أردتم أن تقبلوا فهذا هو إيليا المزمع أن يأتي. من له أُذنان للسمع فليسمع” متى 11: 7-14.
ملاخي النبي هو آخر أنبياء العهد القديم، والنبوات التي نطق بها تُعتبر آخر إعلانات الله للبشرية في العهد القديم، ولمدة حوالي 400 سنة حتى جاء المسيا في حوالي سنة 4 ق.م. على أن الاسم “ملاخي” تعني بالعبرية “رسولي” أو ملاكي”. “מלאכי = م ل أ خ ي”. والصوت النبوي القادم الذي سيُسمع في إسرائيل بعد 400 سنة من ملاخي، سيكون صوت “ملاكي – رسولي – ملاخي”، إنه يوحنا المعمدان…. هل لهذا مغزى مُعيّن!!!
بقية النبوة تُعلن عن دخول الرب المسيا إلى الهيكل المقدس “ويأتي بغتة إلى هيكله السيد الذي تطلبونه”. هذا هو الهيكل الثاني، الذي أعاد بناءه زوربابل، وجدده ووسعه هيرودس الكبير. إلى هذا الهيكل، جاء الرب يسوع في مناسبتين منفصلتين، من أجل تطهيره من الباعة والصيارفة (راجع يوحنا 2: 13-22، متى 21: 12-13). ما يهمنا في قوله “إلى هيكله” أي أن هذا الهيكل يخص المسيا، أو بحسب النص العبري “صاحبه”. وعندما طهره الرب يسوع، فقد مارس ألوهيته وسلطانه لأنه هو صاحب الحق الكامل فيه.
* Pesikta Rabbati: هو كتاب عظات تُقرأ في الأعياد. وهي عبارة عن تعليقات روحية للعديد من الرابيين، على قراءات التوراة التي تقرأ في مناسبات الأعياد.