وجهات نظر الرابيين بخصوص آلام وموت المسيا
التضاد
أي شخص يدرس العهد القديم، ليتعرف على ما جاء فيه عن المسيا، قد يجد للوهلة الأولى تضاد. سيجد نفسه أمام صورتين مختلفتين للمسيا: الأولى، المسيا المتألم، المحتقر ثم يموت بعد ذلك. أما الثانية، فيجده مُمجداً، له القوة والسلطان على جميع الأرض. وقد تعرفّ الرابيون على هاتين الصورتين، لكن للأسف لم يقدروا أن يدركوا الحقيقة الكاملة ثم يقبلوها.
بناء على هذا التضاد، ذهب البعض من الرابيين إلى القول: إن أنبياء العهد القديم تنبأوا بمجيء مسيحيين مختلفين وقالوا إن المسيا الذي سيأتي ويتألم ثم يموت هو المسيا ابن يوسف، أما المسيا الثاني الذي سيأتي بعد الأول هو المسيا ابن داود. وهذا الأخير سيُقيم الأول إلى الحياة مرة أخرى، ثم يؤسس مملكة السلام على الأرض.
لكن الحقيقة التي لا يُريد الرابيون أن يقبلوها أن العهد القديم لا يتكلم أبداً عن مجيء مسيحيين اثنين. بل الواقع يقول، بأن العديد من الصور المتضادة للمسيا، نجدها في كثير من الأسفار، جنباً إلى جنب في نفس النبوة وهذا يعني أن المشار إليه هو شخص واحد، أي مسيح واحد يأتي مرتين، وهذا يُمثل عقيدة هامة بالنسبة للمسيحيين. ولقد رأى العديد من الرابيين أن وجهة نظر المسيحيين، تعتبر أفضل إجابة لهذا التضاد. وقد تمسك اليهود الأرثوذكس بوجهة النظر هذه لقرون عديدة، حتى فترة التلمود.
رغم أن المسيا ابن داود ظل يداعب خيال اليهود قلباً وفكراً، طوال تاريخهم، أما المسيا الآخر، ابن يوسف – المسيا المتألم – فكانوا يتجاهلونه، وهو موجود فقط عند علماء اليهود، عند الحاجة لشرح آلام المسيا التي تحتويها الأسفار المقدسة، او في حالة توجيه أسئلة شائكة أو للهروب من فقرة أو عبارة في آية. فيما عدا ذلك، فإن المسيا المتألم مُتجَاهَل على الإطلاق.
والمصدر الوحيد الذي يعتمد عليه الرابيون لتدعيم فكرتهم عن المسيا المتألم – ابن يوسف – هو سفر إشعياء الأصحاح 52، 53. في الوقت الحالي، سبب النزاع بين الرابيين أنفسهم، موضوعه يتعلق بما قاله العهد القديم عن المسيا، خاصة في هذين الأصحاحين من إشعياء. نبوة إشعياء تتحدث عن “عبد يهوه المتألم”، هذا العبد يخضع لعذابات وآلام مبرحة ثم يموت ميتة مهينة. وهذا العبد لا يموت من أجل ذنب فعله، ولكن من أجل خطايا غيره، أي موتاً نيابياً.
ثم تقودنا النبوة لتُعلن أن هذا العبد الذي مات، قام من الأموات مرة أخرى. فسبب النزاع، ليس ماذا تقول النبوة، ولكم عن مَنْ تتحدث؟ هل هذه النبوة تخص المسيا؟ يقول الرابيون، أن هذا القول هو التفسير المسيحي له وليس التفسير اليهودي. أما التفسير اليهودي فيقول: إن عبد يهوه المتألم، هو شعب إسرائيل الذي يُظلم من شعوب الأمم الاخرى.
تفاسير كبار الرابيين
لم يكن النزاع في تفسير ما ورد في إشعياء 52، 53، بين المسيحيين والرابيين محتدماً، بقدر ما كان بين الرابيين وأنفسهم. لسبب بسيط، هو أن تفسير إشعياء 52، 53 كونه يُشير إلى الشعب اليهودي، هو في الواقع تفسير حديث. فالتفسير القديم لهذه النبوة، والذي سجّله غالبية علماء اليهود من الرابيين، يُصرّح بوضوح أن إشعياء يتحدث عن شخص واحد فقط، هو المسيا ابن يوسف. وسأحاول في عجالة أن أسرد بعض ما قاله كبار الرابيين بخصوص ذلك:
من بين الترجومات القديمة، ترجوم يوناثان Targum Jonathan ben Uzziel، يعود إلى القرن الأول الميلادي. في هذا الترجوم سُجلت هذه الكلمات [هوذا عبدي المسيا يعقل…]. ترجوم يوناثان اقتبس الكثير في ترجمته التفسيرية من الرابيين القدامى، ولذا يُعتبر مرجعاً موثوقاً فيه للتفسير اليهودي للعهد القديم. ويُقرّ بوضوح أن نبوة إشعياء هذه تتحدث عن المسيا الآتي. من هنا نفهم، لماذا يتهم الرابيون الحداثي يوناثان بن عزئيل، بتبني التفسير المسيحي لهذه النبوة.
ليس فقط يوناثان هو وحده الذي فسّر هذه النبوة بأنها تخص المسيا فقط، بل أيضاً الرابي دون إتسحاق Rabbi Don Yaitzchak Abarbanel (في حوالي سنة 1500ميلادية)، فبينما هو لا يقبل فكرة أن نبوة إشعياء تخص المسيا، إلا أنه اعترف بها بطريقة شيّقة جداً، حيث قال [السؤال الأول، هو التحقق عن مَنْ يُشير إشعياء في هذه النبوة: لقد نشر المسيحيون تفسيراً يقول إن الشخص الذي صُلب في أورشليم في نهاية الهيكل الثاني، هو ابن الله – بحسب رأيهم – اتخذ جسداً من عذراء، كما هو مكتوب في كتبهم.
أيضاً رأى غالبية مُعلمينا المباركين في الميدراشيم Midrashim]. على الرغم من أن وجهة نظر Rabbi Don Yitzchak الشخصية فيما يتعلق بهذه النبوة، مختلفة، إلا أنه يُسلم بدون تحفظ، أن غالبية الرابيين في ميدراشهم يُقروّن أن النبوة تُشير إلى المسيا.
نأتي إلى كتاب هام جداً وهو “Zohar”، يرجع إلى القرن الثالث عشر الميلادي، والذي اهتم بدقة شديدة بكتابات كل من الرابي سيمون ابن يوخّيا Rabbi Simon bar Yochai (من القرن الثاني الميلادي)، وأحد الرابيين الأسبان (من القرن الثالث عشر)، وقد سجّل تعبيراً واضحاً لتفسير هذه النبوة من سفر إشعياء، فقال [في جنة عدن يُوجد مكان يُسمى “مكان أبناء الأوجاع والآلام، في هذا المكان سيدخل المسيا ويجمع كل الآلام والأوجاع والتأديبات التي لشعب إسرائيل، وكلها تُوضع عليه، وبالتالي يأخذها لنفسه عوضاً عن شعب إسرائيل.
لا يستطيع أحد أن يُخلّص إسرائيل من تأديباته لعصيانهم الناموس. إلا هو، المسيا. وهذا هو الذي كتب عنه “لكن أحزاننا حملها وأوجاعنا تحملها”]. هذا الجزء من كتاب “Zohar”، يستشهد بإشعياء 53: 4، ويبيّن أنه يُشير إلى المسيا نفسه. هذا الجزء أيضاً يُميز بين إسرائيل كشعب والمسيا كشخص واحد يُشير إليه إشعياء. علاوة على ذلك يُقّر كتاب “Zohar” بمبدأ ” الشخص البديلي”، الذي تكلّم عنه الأصحاح 53 كله. أي أن المسيا سيحمل في نفسه كل أوجاع وآلام شعب إسرائيل من أجل عصيانهم.
دليل آخر في خلال نفس الفترة، يزودنا به تلمود بابل Babykonian Talmud، هو [“المسيا” ما هو اسمه؟ أولئك الذين من بيت رابي يهوذا Rabbi Yuda يقولون: إنه “عبد يهوه المتألم”، كما قيل عنه “لكن أحزاننا حملها وأوجاعنا تحملها”] Sanhedrin 98b. إذاً، تلمود بابل يشابه “Zohar” في استشهاده بسفر إشعياء 53:4.
وإنه يُشير إلى المسيا نفسه وليس إلى شعب إسرائيل. أيضاً في ميدراش تانومي Thanhumi، نقرأ الآتي [رابي نامان Rabbi Nahman يقول: الكلمة “رجل” في قوله “رجل أوجاع” إشعياء 53: 3 تٌشير إلى المسيا ابن داود، الذي اسمه “Zemah”، حيث فسرّه يوناثان “هوذا الرجل المسيا”، لهذا قيل عنه “رجل أوجاع ومُختبر الحزن”].
كتاب الجلجاليم “Sepher ha-Gilgalim”، يرى في إشعياء 52: 13 على أنها إشارة إلى المسيا الملك، فيقول [“هوذا المسيا الملك يعقل يتعالى ويرتقي ويتسامى جداً” ويقول عنه علماؤنا الرابيين: سيكون أعلى من إبراهيم ويتسامى فوق آدم]. أما ميدراش كوهين Midrash Kohen، حينما يشرح إشعياء 53: 5، يضع الكلمات التالية على فم إيليا النبي، حيث يقول إيليا للمسيا [أنت أبرّ من أن تتألم وتجرح. كيف كليّ القدرة يُعاقب هكذا من أجل خطايا إسرائيل، ويُكتب عنك “مجروح لأجل معاصينا. مسحوق لأجل آثامنا”. إلى أن يحين الوقت، حيث تأتي نهاية الأزمنة].
في ميدراش آخر، لشرح نفس نبوة إشعياء، نقرأ التالي [كل الآلام تُقسم إلى ثلاثة أقسام: قسم من نصيب داود والبطاركة، والآخر من نصيب الجيل العاصي “إسرائيل العاصي”، أما الثالث فمن نصيب المسيا الملك] Midrash Tehillim and Midrash Samuel 19.
في كتاب قديم يحوي صلوات يوم الكفارة “يوم كيبور” (يُطلق على الكتاب الاسم العبري “Mahsor”)، يُلمّح أن هذا الأصحاح من إشعياء 53، يتحدث عن المسيا. ففي واحدة من هذه الصلوات تُسمى صلاة “Musaf”، كتبها الرابي إليعازر كالير Rabbi Eliezer Kalir (في حوالي القرن السابع الميلادي)، نقرأ الآتي [… المسيا برنا رحل عنا رعدة شديدة تستولي علينا. لا نملك أن نبرر أنفسنا. حمل نير معاصينا وآثامنا فجُرح من أجلها. حمل خطايانا على كتفه كي يصفح عن آثامنا.
سنتمسّك بجروحه إلى الوقت الذي فيه يأتي كآدم جديد] Prayer book for the day of Atonement/New York 1931. p.239.
الملفت للنظر في هذه الصلاة، أن نغمة الخوف تتملك عليهم، من أن يكون المسيا قد جاء ورحل عن الشعب، والذي يفترض أن المسيا قد جاء بالفعل إليهم وتركهم. أضف إلى ذلك، أن المسيا الذي رحل قد تألم بديلاً عن الشعب، حسب ما ورد في الصلاة، حيث أن خطايا الشعب قد وضعت على كتفه.
الآن، بعد أن تألم، رحل المسيا عنهم، هذه هي علّة زعرهم، أنهم يُصلّون أن يرجع المسيا مرة أخرى، نلاحظ أيضاً، أن أغلب هذه الصلاة مُقتبس من إشعياء 53، للأسف لم تعد تُستخدم هذه الصلاة، وقد اختفت من الكتب المستعملة في عيد يوم الكفارة، منذ قرون عديدة. لكن نستطيع من خلالها أن نقول: إنه على الأقل حتى القرن السابع الميلادي، ظل التقليد اليهودي يتمسك بأن هذه النبوة من إشعياء تُشير إلى المسيا.
بل أكثر من ذلك، نقول، إن هذا التفسير لنبوة إشعياء ظل المسيطر على الشعب اليهود حتى القرن العاشر. وهذا يتضح من تعليق رابي يافيت ابن عالي Rabbi Yepheth ben Alie، حيث يقول [بالنسبة لرأي فأنا أنحاز إلى رابي بنيامين النهاوندي Rabbi Benjamin of Nehawend في تفسيره لهذا الأصحاح، كونه يُشير إلى المسيا.
فالنبي إشعياء يريد أن يٌفهمنا شيئين: في المرحلة الأولى، إن المسيا هو الوحيد الذي سيصل إلى أعلى درجة من الكرامة والمجد، لكن بعد محن طويلة ومريرة، ثانياً: هذه المحن ستُوضع عليه كعلامة، لدرجة أو وجد نفسه تحت نير هذه المحن وظل مطيعاً وتقياً في تصرفاته وأفعاله، يعرف أنه هو المختار….
والتعبير “عبدي” يعود إلى المسيا، كما قيل أيضاً إلى أجداده “قطعت عهداً مع مختاري. حلفت لداود عبدي” مزمور 89: 3] هذا الرابي، يُعلن صراحة أن إشعياء 53 يتحدث عن المسيا، كما اقتبس من الأصحاح كون أن المسيا سيرتقي إلى أعلى درجة من المجد بتألمه.
أيضاً، في القرن الحادي عشر، فسّر الرابيون الأصحاح 53 من سفر إشعياء، أنه يتحدث عن المسيا. ففي كتاب “Bereshith Rabbah” لمؤلفه رابي موشي هادرشان Rabbi Moshe Hadarshan، يُقرر أن القدوس، أعطى فرصة للمسيا أن يُخلص النفوس، ولكن بضربات وتأديبات عديدة، يقول [… على الفور قبل المسيا تأديبات وضربات المحبة، كما هو مكتوب “ظلم أما هو فتذلل ولم يفتح فاه”… عندما أخطأ شعب إسرائيل، طلب المسيا لهم الرحمة والمغفرة، كما هو مكتوب “وبحبره شفينا” وقوله “وهو حمل خطية كثيرين وشفع في المذنبين”].
لقد اقتبس رابي موشي هادرشان من سفر إشعياء 53 الآيات 5، 12، 17 ليبرهن أن شخص المسيا، هو شخص واحد سيخلص كثيرين، لكن هذا الخلاص سيتم عن طريق آلامه أيضاً، هذه الآلام ينظر إليها كآلام بديليه من أجل خطايا شعب إسرائيل.
رابي آخر من القرن الحادي عشر، هو رابي طوبيا بن إليعازر Rabbi Tobiyyah ben Eliezer يقول في تفسير إشعياء 52: 13 [… سيجعل مملكته مرتفعة ومُمجّدة… هذا هو المسيا الذي قيل له “هوذا عبدي يعقل يتعالى ويرتقي ويتسامى جداً”] من كتاب “Lechah Tova”.
ومن بين الرابيين المشهورين في القرن الثالث عشر، رابي موسى بن ميمون Rabbi Moses ben Mainom ويُعرف ب “ميموندس Maimonides” واختصار اسمه رامبام هو أيضاً يتحدث عن المسيا الآتي، فيقول [ماذا ستكون مواصفات المسيا الآتي… سيبرز لكم فجأة هذا الشخص، لا أحد يعرفه من قبل. والمعجزات والآيات التي سيصنعها هي تبرهن أنه المسيا الحقيقي المنتظر. وفي الوقت الذي فيه سيظهر، بلا أب ولا أم ولا عائلة، لكن سيُعرف.
حيث قال عنه إشعياء “ينبت قدامه كفرح وكعرق من أرض يابسة” إشعياء 53: 2. ومظهر حضوره الفريد في تجلّيه، سيجعل كل ملوك الأرض يسقطون من شدة رهبته وهيبته. سيضعون أيديهم فوق أفواههم، ليتم ما قاله عنه إشعياء “من أجله يسدّ ملوك أفواههم لأنهم أبصروا ما لم يُخبروا به وما لم يسمعوه فهموه” إشعياء 52: 15].
بعد عرض كل هذه الأقوال من مشاهير علماء اليهود، يتضح لنا جلياً أن تفسيراتهم لنبوة إشعياء 52، 53 جاءت كلها لتُعبرّ عن أن المُشار إليه هو المسيا وليس شعب إسرائيل. أول من اقترح بأن النبوة تتحدث عن شعب إسرائيل وليس عن المسيا، هو رابي شلومو إتسحاق Rabbi Shlomo Yizchaki، الشهير ب RaSHi راشي. وبما أنه أول من خرج عن التقليد اليهودي المألوف فيما يتعلق بهذه النبوة، فقد قُوبل في الحل بردّ فعل مضاد من علماء كبار يهود آخرين.
وأول من تصدى للاقتراح الخاطئ الذي وضعه راشي، وهو الرابي موشي كوهين Rabbi Moshe Kohen Ibn Crispin، حيث كتب يقول […. بالطبع يسرني أن أُفسر ما جاء في إشعياء 53، وفقاً لتعاليم علماؤنا الكبار Rabbis، بأن هذا الأصحاح يتحدث عن المسيا الملك، وسأفعل ذلك بكل دقة وعناية، وبكل ما أملك من إمكانية. سوف ألتزم بحرفية التفسير بكل ما أُعطيت من قوة. وسأتحرر من قيود التفاسير المتكلفة والظاهرية التي وضعها قبلي آخرون قد أثموا في تفسيرهم ….
هذه النبوة نقلها إلينا إشعياء بأمر إلهي، بهدف أن يعرفنا شيئاً عن شخصية المسيا القادم الذي سيأتي ويُخلّص إسرائيل، وحياته من اليوم الذي سيظهر فيه حتى مجيئه كمخلّص. وبحسب هذا لو أن شخصاً ما ظهر وأعلن عن نفسه إنه المسيا، ينبغي أن ننتبه ونفكر ملياً أي الإثنين نتبع… أيهما تنطبق عليه السمات التي وضعها إشعياء في نبوته، لو انطبقت الصورة التي رسمها إشعياء على الشخص الآتي، حينئذ نؤمن به هو المسيا برّنا، وإن لم تنطبق فلا نؤمن به….]
يتبين من كلام رابي موشي كوهين، الآتي:
- يقصد بقوله [سأتحرر من قيود التفاسير المتكلّفة والظاهرية التي وضعها قبلي آخرون قد أثموا في تفسيرهم]، يقصد تفسير راشي.
- رابي موشي كوهين، يقاوم بشدة تفسير راشي، ويُصر أن إشعياء يقصد شخص المسيا وليس شعب إسرائيل.
- ما كّتب في إشعياء 53، القصد منه التمييز بين المسيا الحقيقي والمسيا المزيف.
- ينبغي إتّباع وطاعة المسيا الحقيقي، وقد دعاه “المسيا برّنا”.
القرن السادس عشر، ظهر الرابي سعادية ابن دانان Rabbi Saadyah Ibn Danan (في سنة 1500 ميلادية)، وقد كتب الآتي
[…. أحد هؤلاء رابي يوسف بن كاسبي Rabbi Joseph ben Kaspi، يذهب بعيداً، فيقول إن هؤلاء الذين يؤيدون القول بأن إشعياء يقصد المسيا، ويبوح به، هم يعطون الفرصة للهراطقة أن يفسروا ذلك بأنه يسوع الناصري… ليت الله يغفر لهم، لأنهم لم يقولوا الصواب. فمعلمونا الكبار، أساتذة التلمود، يستخرجون آراءهم من قوة النبوة ووحيها، متمسكون بالتقليد القديم فيما يتعلق بمبادئ التفسير وقد اتفقوا كلهم بأن المقصود في نبوة إشعياء 53 هو المسيا الملك].
مما سبق نستنتج أن هذا الرابي، هو أيضاً يقاوم تفسير راشي، ويُطالب المفسرين اليهود بأن يرجعوا إلى التفاسير التلمودية، التي تؤيد القول بأن نبوة إشعياء تتحدث عن المسيا وليس عن شعب إسرائيل. كما أراد أن يُلقى الضوء على سبب تحوّل البعض إلى التفسير الخاطئ بحجة تفاقم حدة النزاع بين المسيحيين والرابيين. فقد استخدم المسيحيون نبوة إشعياء لتبيان أن الرب يسوع المسيح هو المسيا المُشار إليه في النبوة، وكردّ فعل بدأ الرابيون يفسرون إشعياء 53 على كونه يخص شعب إسرائيل وليس المسيا… تماماً كما اقترح راشي.
أيضاً، في النصف الثاني من القرن السادس عشر، برز الكاتب الشهير رابي موشي الشيخ Rabbi Moshe El Shech، وطالب هو أيضاً المفسرين اليهود أن يرجعوا إلى التفاسير التقليدية، حيث قال [معلمونا الكبار Rabbis، كلهم برأي واحد يقبلون ويبرهنون على صحة التفسير القائل بأن إشعياء النبي يتحدث عن المسيا، وينبغي علينا جميعاً الالتزام بنفس الرأي].
وفي تعليق آخر على إشعياء 53: 3، كتب الرابي ايليا دي فيداس Rabbi Eliyyah de Vidas، في سنة 1575 ميلادية، الآتي
[…. قوله “وهو مجروح لأجل معاصينا ومسحوق من أجل آثامنا” معنى هذا: بما أن المسيا حمل آثامنا وخطايانا، والتي سببت كل هذه الآلام والتأديبات، بالتالي يكون كل من لا يقبل أن المسيا يتألم من أجل خطايانا وآثامنا، عليه أن يتحملّ ويتألم من أجل نفسه].
هذا الرابي، يُشير أيضاً إلى إشعياء 53 ويُقرر أنه يخص المسيا الذي سيتألم نيابة عن شعب إسرائيل، من أجل خطاياهم وآثامهم. بل يذهب إلى أبعد من ذلك، فيحذر كل من يرفض الإيمان به.
أيضاً، في القرن السابع عشر، ظل ردّ الفعل المضاد لتفسر راشي قائماً. فقد كتب رابي نفتالي بن أشير Rabbi Nphtali ben Asher (سنة 1650 ميلادية)، قائلاً […. أريد الآن أن أواصل شرح هذه الآيات عن المسيا الذي يخصّنا، الذي اختاره الله وسيأتي سريعاً في أيامنا هذه!… أنا مندهش من تفسير كل من رابي شلومو إتسحاق Rabbi Shlomo Yizchaki ورابي دافيد كيمشي Rabbi David Kimchi، لإشعياء 53، كيف لا يتطابق تفسيرهما مع الترجوم، الذي يؤكد أن الأصحاح يتحدث عن المسيا…]
في القرن الثامن عشر، التفسير الجديد الذي وضعه راشي (1040-1105 م)، وتبناه من بعد رابي دافيد كيمشي (1160-1235 م)، قُوبل باستحسان ضخم وتغلّب على كل تفاسير الرابيين القدامى، وصار هو السائد وحتى يومنا هذا. لكن لم يكن الانتصار كاملاً، فقد ظلّت قلة من الرابيين تقاوم بشدة تفسير كل من راشي ودافيد كيمشي. ها هو هيرتز هومبورج R. Herz Homburg في كتابه “Korem” (كلمة عبرية تعني صاحب الكرمة)، والذي وضعه سنة 1818 ميلادية، كتب يقول
[…. في الحقيقة، ما سجله إشعياء في الأصحاح 53، يُشير وبلا جدال إلى المسيا الملك، الذي سيأتي في الأيام الأخيرة، التي فيها يُسرّ الله بتخليص إسرائيل من بين الأمم المختلفة على هذه الأرض…].
أخيراً، مما سبق نخرج بنتيجة مفادها أن كل الرابيين في خلال 1000سنة كانت تفاسيرهم لنبوة إشعياء 52، 53 متفقة على أنها تخص المسيا الآتي.
وأول من خرج بتفسير جديد هو راشي Rabbi Shlomo Yizxhak (1040-1105م) ثم تبنى تفسيره رابي دافيد كيمشي Rabbi David Kimchi (1160-1235 م). ورغم ذلك قوبل برفض شديد من أغلب الرابيين الذين أتوا من بعدهما. لكن للأسف الشديد، أصبح تفسيرهما هو السائد في العصر الحالي.