لماذا قال يسوع: “إلهي إلهي لماذا تركتني” (متى 27: 46) وما معنى قوله هذا؟ هل يدلّ هذا القول أن الآب تخلّى عن يسوع؟
وما معنى قول الجموع: “لنرى هل إيليا يخلّصه” (متى 27: 49)
صلاة يسوع هنا “إلهي إلهي لماذا تركتني؟” مأخوذة من مزمور 22: 1. كان الرب يصلّي إلى الآب وهو يواجه الموت. ولأن هذا المزمور يقول (في السبعينية): “بعيداً عن خلاصي كلمات خطاياي” (22: 1)، وجد البعض صعوبة في قبول يسوع أن يستعمل هذا المزمور وهو الذي لم يفعل خطية.
فلماذا يصلّي يسوع مستعملاً مزموراً يقول: “إلهي إلهي لماذا تركتني؟ بعيداً عن خلاصي عن كلمات خطاياي” (22: 1، السبعينية)؟ توجد عدة نقاط هنا يجب الانتباه إليها:
1- إن يسوع يصلّي هنا وهذا يعني أنه لم يفقد الرجاء ولم ييأس، بل كان يدعو الله “إلهي”، مما يدل على الثقة بالله الآب.
2- لا توجد إشارة إلى أن الآب قد تخلّى عن يسوع في آلامه. فإن كانت عناصر الطبيعة نفسها قد غضبت بسبب صلب يسوع، فكيف لا يغضب الآب وكيف يتخلّى عن ابنه الحبيب الذي به قد سُرَّ. ونلاحظ مباشرة بعد موت يسوع أن الآب قد شقَّ حجاب الهيكل معلناً غضبه على اليهود ورفضه لهم، ويدفع وثنياً وهو قائد المئة إلى الاعتراف علناً ببنوّة يسوع الإلهية للآب (مرقس 15: 39). فهل تخلّى الآب عن يسوع؟ طبعاً لا.
3- يسوع نفسه يشير إلى سلطانه الإلهي وهو على صليب الموت. إذ يقول للص التائب: “آمين أقول لك: اليومَ تكون معي في الفردوس” (لو 23: 43). إن يسوع المصلوب يعبّر عن معرفته بأنه سيكون “اليوم”، يوم الصلب، في الفردوس. لا بل سيفتح الفردوس للص التائب.
فالآب لم يترك ابنه، بل ما زال للابن الحبيب ملء السلطان الإلهي وهو على خشبة الصليب. ألم يقل يسوع: “أنا لستُ وحدي لأن الآب معي… لكن ثقوا. أنا قد غلبتُ العالم” (يو16: 32و33)؟ والآب لا يتخلّى عن يسوع وهو القائل: “أنا والآب واحد” (يو 10: 30).
4- أيضاً إذا نظرنا إلى كامل المزمور 22 الذي سمعنا يسوع يرددّ افتتاحيته فقط(7)، لوجدنا أن الكلام في نهاية المزمور يتحوّل إلى كلام إنسانٍ منتصرٍ: “لأنه لم يحتقر ولم يرذل مسكنة المسكين، ولم يحجب وجهه عنه بل عند صراخه إليه استمع” (22: 24).
ومَن هو مسكينٌ أكثر من يسوع الذي قال عنه إشعياء: “هو ذا عبدي الذي أعضده، مختاري الذي سُرَّت به نفسي…. لا يصيح ولا يرفع ولا يُسمع في الشارع صوته. قصبةَ مرضوضة لا يقصف…”؟
عند الساعة الثالثة بعد ظهر يوم الجمعة العظيم، بعد ثلاث ساعات من الظلام على الأرض، يصرخ يسوع المصلوب لأول مرة وآخر مرة: “إلهي إلهي لماذا تركتني؟”: صلاة صادرة من ابن الله بملء قوته، من الأعماق، كما صرخ الشهداء في رؤيا 6: 10 بصوت عالٍ إلى الله كي يتدخل. لقد كانت الصلوات بصوت عال شائعة نسبياً في الأدب الكتابي(8).
مع الصراخ العالي يوجد بُعدٌ آخر أيضاً. فالصراخ عالياً وتسليم الروح في مرقس 15: 37 ومتى 27: 50 يؤلّفان علامة أخروية مشابهة للعناصر الأخروية الأخرى التي صاحبت موت يسوع في الأناجيل الأربعة (الظلام، انشقاق حجاب الهيكل، تشقق الصخور، الزلزال، قيامة الموتى، …).
ففي يوحنا 5: 28 تُسبّب صرخُة ابن الإنسان كلَّ الذين في القبور أن يسمعوا، وفي 11: 34 يدفع صراخ يسوع العالي إلى إقامة لعازر. وفي 1تسالونيكي 4: 16 تُرافق صرخةُ رئيس الملائكة مجيء الرب لإقامة الموتى(9).
إن يسوع لا يتساءل عن وجود الله أو عن قوته. إنه يتساءل، باسم البشرية الخاطئة المجروحة، عن صمت الذي يدعوه “إلهي”. فصرخة “لماذا”، هي صراخ من غرق في أعماق الهاوية وقد شعر أن الظلام قد اكتنفه. وإذا انتبهنا إلى البنية العامة لمرقس – متى، لوجنا أن شكل مخاطبة الألوهة هو بحد ذاته مهم، لأن يسوع لم يخاطب الألوهة أبداُ بلقب “إلهي” من قبل.
ففي مرقس – متى، يخاطب يسوع الله ب “أبي”، “أبتاه”، وهو شكل يعبّر أكثر عن الثقة بالله الذي لن يجعل ابنه يجتاز الساعة أو يشرب من الكأس(10).
أما هنا فيسوع، وهو شاعرٌ بالتخلّي، لا يعد يتكلّم بحميمية إلى الكلي القدرة مثل “أبتاه” لأن يسوع هنا لا يصلّي من أجل نفسه بل يصلّي بالنيابة عن البشرية الخاطئة، لهذا يستعمل نداءً عاماً مشتركاً بين البشر جميعاً: “إلهي”.
ويُبرز مرقس هذا التضاد بين هاتين الصلاتين، ويجعل هذا التضاد حاداً بذكر صيغة المخاطبة في كل صلاة ليسوع بلغته الأمّ “أبّا”، وبصيغة الصلاة هنا “إلوي”، مما يعطينا الانطباع عن كلمات آتية بإخلاص من قلب يسوع متميزة عن بقية كلماته الأخرى التي حُفظت في لغة أجنبية (هي اليونانية). فعندما يواجه يسوع كرب الموت، فإن مرقس يصوّره عائداً إلى لغته الأمّ.
إذاً على الصليب عاش يسوع ملء آلام البشرية وبؤسها. لقد نزل إلى أدنى درجة من الابتعاد عن الله بأبشع صورة ممكنة، لكي ينتشل البشرية من لجّة الضياع والخطيئة والظلام إلى ذروة النصر والقداسة والنور. لقد حمل خطايانا كلها، ومعها حمل كل نتائجها البغيضة. يسوع لم يكن يمثّل الآلام والموت على الصليب. لم يكن يمثّل الابتعاد عن الله. هذه نقطة غاية في الأهمية. لقد عاش الرب فعلاً وواقعاً واختبر هذه الآلام وهذا الموت.
لقد أمعن الإنجيليون الأربعة في تصوير آلام الرب وعذاباته وكربه وموته أكثر مما وصفوا قيامته. كلما كان آلام الخطيئة وموتها بشعة، كلما عاينا فداحة خطايا البشرية وفداحة تغرّبها عن الله، وكلما رأينا عظمة فرح القيامة وظفرها(11). وهكذا تذوّق يسوع المصلوب الجحيم (أي التغرّب عن الله) حتى قبل موته، وقبل نزوله إلى الجحيم.
وكما نزل إلى الجحيم منتصراً ليحطّمها ويُبيد قوّتها، كان المسيح حتى في آلامه وموته منتصراً على الآلام والموت، فصار صليبه صليب الحياة لا صليب الموت.
بعدما صرخ يسوع بصوت عالٍ: “إلهي إلهي لماذا تركتني؟”، قال قومٌ من الحاضرين لما سمعوا: هو ذا ينادي إيليا. فركض واحد وملأ اسفنجة خلاًّ وجعلها على قصبة وسقاه قائلاً: اتركوا. لنرَ هل يأتي إيليا ليُنزله” (مر 15: 35-36).
إن ذِكْر إيليا موجودُ فقط في مرقس – متى، بينما في الأناجيل الأربعة تذكر تقديم الخلّ وإنما في إطار خاص بكل إنجيل. تقديم الخل مذكور في مزمور 69: 21: “ويجعلون في طعامي علقماً، وفي عطشي يسقونني خلاً”. متّى يعكس هذا المزمور لأنه يذكر العلقم (27: 34).
بينما مرقس أقل نوعية لأنه يضع كامل إطار 15: 36 كصدى للنصوص الكتابية بما فيها المزمور 22. أما في لوقا فلا توجد إشارة إلى تحقيق المزمور 69، إذ يُقدَّم الخلُّ وسط تهكمات بيسوع (23: 36). أما في يوحنا 19: 28- 30، يُقدَّم الخلُّ بعد قول يسوع: “أنا عطشان”، وعندئذ يقول يسوع “قد أكمل”.
من هذه النصوص الأربعة يمكن إعادة صياغة الحدث كما يلي: في المرحلة الأولى من الصلب توجد إشارة إلى تقديم الخل تُظهر كيف تمَّ التهكم بيسوع مثل المتألّم في مزمور 69: 22(12). وقد دمج التقليد ما قبل مرقس تقديم الخل هذا بإشارة أخروية إلى إيليا.
بينما عدَّل متّى هذا الدمج ليخفّف من غرابة دمج الخلّ بمجيء إيليا. أما لوقا فقد حذف عنصر إيليا وأزاح تقديم الخل إلى مرحلة أبكر في رواية الآلام، أي إلى تقليد التهكمات الثلاثة بيسوع على الصليب. أما يوحنا فقد ربط تقديم الخلّ بالكلمات الأخيرة ليسوع، جاعلاً الربط أكثر منهجية (أوضح)، بإعطاء إشارة كتابية إلى عطش يسوع.
أما من جهة توقع مجيء إيليا فهو عنصر مهم ويلائم سلسلة مرقس من الحوادث الأخروية التي رافقت موت يسوع (الصرخة، الظلام، تمزق حجاب الهيكل)، والتي زاد متّى عليها الزلزال وانفتاح القبور وقيامة الموتى. لقد كان النبي إيليا بارزاً جداً في التوقعات الشعبية عن نهاية الأزمنة، كصانع عجائب في أيام الحاجة، وكسابق لمجيء الله، وبشكل أخص كسابقٍ لمجيء المسيح الرب: “ها أنذا أرسل إليكم النبي قبل مجيء يوم الرب، اليوم العظيم والمخوِّف” (ملاخي 4: 5).
لقد عرض لنا مرقس ومتّى سابقاً سوء فهم مجيء إيليا من قبل اليهود، خاصة من جهة علاقته بآلام ابن الإنسان وقيامة الموتى (مر 9: 9-13؛ مت 17: 9-13): “لماذا يقول الكتبة إن إيليا ينبغي أن يأتي أولاً؟”. يُجيب يسوع: “إن إيليا يأتي أولاً ويردّ كلَّ شيء” (مر 17: 10و11).
ويُضيف متّى على مرقس: “إن إيليا قد جاء ولم يعرفوه… وكذلك ابن الإنسان أيضاً سوف يتألّم منهم” (17: 12). لقد أظهر مرقس ومتّى سلسلة من الآيات التي سبق الأنبياء وأخبروا عنها عن آخر الأيام وذلك عندما كان ابن الأنسان على الصليب، إنما كان جواب الواقفين هو إعادة لسوء الفهم الشائع عن مجيء إيليا.
فرغم أن الحاضرين قد رأوا الظلام وسمعوا صراخ يسوع، فقد فسّروه بأنه يصرخ إلى إيليا. لقد حوّلوا مجيء إيليا المتوقَّع إلى تهكم بيسوع: “لنرَ هل يأتي إيليا ليُنزله” (مر 15: 36). حتى إنهم استهزأوا بيسوع قبل ساعات من هذا قائلين: “لينزل الآن المسيح ملك إسرائيل عن الصليب” (مر 15: 32).
ويزيد متّى من عدائية هذا التهكم بذكره قول بعض الواقفين: “إنه ينادي إيليا” (27: 47). إن الكلمات التي يستعملها الحاضرون ليلقوا الشكّ على يسوع: “خلَّصْ نفسك إن كنتَ ابن الله….” (مت 27: 40)، و”…. أما نفسه فما يقدر أن يخلصها” (27: 42).
وفي حين لم يتدخل إيليا لمصلحة يسوع فإن الله الآب سيتدخل وبصورة منظورة جداً. عظيماً جداً كان مجد يسوع المصلوب، ولم يقل عظمةً عن مجده بعد قيامته من الأموات! (د. عدنان طرابلسي)
” أخيراً الآن بدأت أصير تلميذاً! فلا يمنعني شيء منظور أو غير منظور من الوصول إلى يسوع المسيح. تعالي أيتها النار، تعال أيها الصليب، تعالي يا قطعان الوحوش الضارية كلها، …. مبعثرة العظام، مقطعة الأعضاء ساحقة الجسد بأكمله، ويا ضربات الشيطان المرعبة كلها: لتأتِ هذه كلها عليَّ، فقط لأكون مع المسيح” (القديس إغناطيوس الأنطاكي)
“أيها المخلّص، إن كل عضو من أعضاء جسدك المقدّس كابد إهانةً من أجلنا. فالهامة بالشوك، والوجه بالبصاق، والخدّان باللطمات، والفم بمذاقة الخلّ الممزوج بمرارة والأذنان بالتجديف المفعم بالإلحاد، والظهر بالسياط، واليد بالقصبة، وتمديد الجسم بالصلب، والأطراف بالمسامير، والجنب بالحربة. فيا مَن تألّم من أجلنا وأعتَقَنا من الآلام، وتنازل إلينا ورفعنا بمحبته للبشر، أيها القادر على كل شيء ارحمنا” (خدمة أناجيل الآلام)
(7) على الأرجح تلا يسوع المزمور 22 كله وإنما لم يستطع الواقفون قربه أن يسمعوا إلا افتتاحيته، وبعد ذكل صلاته همساً بسبب ضعفه.
(8) لو 17: 15؛ 19: 37-38؛ 1ملو 8: 55؛ حز 11: 13؛ نح 9: 4؛ الخ….
(9) راجع أيضاً: عام 1: 2؛ يوئيل 4: 16؛ ارم 25: 30؛ مز 46: 7؛ رؤ 10: 3.
(10) مر 14: 35-36؛ متى 26: 39.
(11) يوجد ما يُدعى ب “الموت الهنيء” عند الرواقيين. لم يمت يسوع موتاً هنيئاً بل موتاُ حقيقياً بسبب خطايا العالم. هذا ما حرص الإنجيليون على تصويره.
(12) نجد صدى لهذا في أناشيد قمران عندما كان الكاذبون الذين يقاضون الأبرار يُطفئون عطشَ أعدائهم بالخل.