لماذا يصعب على الغني دخول ملكوت السموات؟
” قَالَ الْجَاهِلُ فِي قَلْبِهِ: «لَيْسَ إِلهٌ»”…. واستفاق الغني على تفّق مخازنه بالخيرات فنظر حوله أين أضع الفائض؟ “أَهْدِمُ مَخَازِنِي وَأَبْنِي أَعْظَمَ…… “يَاغَبِيُّ! هذِهِ اللَّيْلَةَ تُطْلَبُ نَفْسُكَ مِنْكَ”!!!
“لأَنِّي جُعْتُ فَأَطْعَمْتُمُونِي. عَطِشْتُ فَسَقَيْتُمُونِي. كُنْتُ غَرِيبًا فَآوَيْتُمُونِي. عُرْيَانًا فَكَسَوْتُمُونِي”….
وكانت الدعوة الأولى ليسوع حين عاد إلى الناصرة حيث كان قد تربّى وإذ دخل المجمع يوم السبت قرأ في سفر إشعياء النبيّ حين فتحه: “رُوحُ الرَّبِّ عَلَيَّ، لأَنَّهُ مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ الْمَسَاكِينَ، أَرْسَلَنِي لأَشْفِيَ الْمُنْكَسِرِي الْقُلُوبِ، لأُنَادِيَ لِلْمَأْسُورِينَ بِالإِطْلاَقِ ولِلْعُمْيِ بِالْبَصَرِ، وَأُرْسِلَ الْمُنْسَحِقِينَ فِي الْحُرِّيَّةِ، وَأَكْرِزَ بِسَنَةِ الرَّبِّ الْمَقْبُولَةِ” (لو 4: 16)
فأين الغني من دعوة الربّ هذه؟!
هذا ما أتاه الإله على الأرض… سمع الروح في كلمات إشعياء النبيّ وكان له أن يقرأ سرد الأنبياء لأنهم هكذا كانوا يسمعون ويقرأون ليفهموا وليبقى العمل… “هكَذَا تَكُونُ كَلِمَتِي الَّتِي تَخْرُجُ مِنْ فَمِي. لاَ تَرْجعُ إِلَيَّ فَارِغَةً”….
بعضهم لا يسمعون ولا يفقهون ولا يعملون بما أوصاهم به الربّ الإله…
مشكلة الإنسان الغني والفقير والعادي المغتنين بأنفسهم هي أنّهم لا يسمعون قولة الربّ وإن سمعوها يعرضون عنها وأن أعرضوا عنها يرتاحون إلى ما يبنون لأنفسهم في حياتهم وأيامهم القصيرة المعدودة على الأرض.
“لا تعبدوا ربّين الله والمال”… فالعبادة تلزم العابد بالخضوع أمام المعبود سيّده، عند قدميه ليل نهار، ليرضيه.
خلق الإنسان من حشا أمّه مرتبطاً بها “بحبل الصرّة” وإذ ينقطع ليخرج منها يبقى مرتبطاً… لا يمكن للمخلوق من العدم، من التراب ونفخة الروح القدس، من الإله، إلاّ أن يعي حقيقته هذه!
كل ما في الكون حوله يأسره، يربطه، يستعبده له، إلاّ وعيه الإله. لأنّه هو مرسل من أبيه السماوي ليبشّر المساكين، وكل إنسان مسكين إن لم يعرف خالقه… وليشفي منكسري القلوب. وأي إنسان على وجه الأرض إن أحبّه الربّ يؤدّبه بالألم، بالتجارب، بالمرض، بالحزن، بالفشل، بالموت أو بما شابه؟! لهذا يقول الناس حين يُجرّبون، ماذا فعلنا لكَ يا الله، بدلَ “أشكرك يا الله”….
مَن يقبل الأحزان؟ مَن يقبل الضربات والضيقات والتجارب؟ مَن يقبل الفقر والموت؟!
هذه صارت طبيعة السقوط، أنّ الإنسان لا يقبل…. بل يرفض!!! يرفض الحضرة الإلهية. يرفض أحكام الربّ ووصاياه… يرفض الخلاص بالصليب!!! لذلك يطلب الإنسان الغني ويستغني بماله عن الله وعن الآخر، عن كل آخر لا يأتيه بمال أكثر… “أَحبِبْ قَريبَكَ حُبَّكَ لِنَفسِكَ”.
الغني مجبول بالإعراض عن الله… أن يحبّ ماله أكثر من محبّته الآخر!
الغني لا يمكنه أن يقسم غنائمه على مَن حوله لأنّه إذ يفعل ذلك لا تزداد أمواله بل تنقص. فيخاف إذ يناقص ملكه فتضعف سيطرته على الآخرين.
الغني يسعى كل حياته لأن يحكم بماله الآخرين ليحتاجوه.
الغني يستعبد الناس كما هو عبد لماله!!!
الغني يسجد للمال الذي يغنيه عن الإله ليذكر الإله – إن ذكره – عديلاً له…
الغني يسخط ولا يشكر وإن شكر فلأنّه اغتنى أكثر بماله…
الغني لا يحبّ بل يطلب أن يكون محبوباً…
الغني يأخذ ولا يعطي…. الغني يتكلم ولا يسمع… الغني يأمر ولا يطيع… الغني لا يعرف الحبّ الحقيقي حتى لزوجته وأولاده… هؤلاء يمتلكهم…
الغني لا يحزن، بل إذ أصابته ضربة يجلس ليعد أمواله فيتعزّى بها….
الغني يخبئ ما عنده حتى لا يشتهيه الآخرون فيعطيه لهم مضطراً….
الغني يكذب بما عنده ويقول أنا تعبت بما جنيت فهل فعل الآخرون هكذا؟….
الغني لا يصادق ولا يأمن ولا يفرح بالآخرين لأنّه يظن أنّ الجميع يحبّونه لينالوا منه خيراته ومجده…
الغني يأمر وينهي، يسخط ويقسو على العاملين معه وعنده ليظهر شأو ماله…
الغني يستبدّ ويستعبد… لا يسمع ولا يحاور بل يحابي وجوه الذين هم أغنى منه. يتملّقهم، يغدق عليهم العطايا ليحبّوه ويغضوا عن ضعفاته…
الغني يكره الفقير لأنّه سارقه وهو تالياً ضميره فيسعى للخلاص منه…. يبتعد عنه وعن معاشرته ويغضي العلب عنه إن التقاه….
الغني يشمت بالفاشلين الذين لم يخلق لهم هو المجال ليغتنوا….
الغني يستغني بماله، بفكره، بعلمه، بنفسه…. الغني ليس غنيّاً بالمال فقط بل بما رزقه إيّاه خالقه فيجيّره لنفسه…
الغني بخيل، طمّاع مداهن كذّاب، لا يحبّ ولا يرحم ولا يقرض….
الغني شيطان تلبس بالحقّ وهو مقيم في الباطل…
فنجّنا يا الله من أن نستغني عنك أنتّ الغني بالرحمة والرأفة والحبّ….
“الَّذِي يُرِيدُ أَنَّ جَمِيعَ النَّاسِ يَخْلُصُونَ، وَإِلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ يُقْبِلُونَ”!…
لهذا وهكذا يرتّب الربّ خلاصاً لجميع البشر…. يفتح لهم باباً لا يعرفوه لكنّه يدق عليه ليفتحوا له فيدخل ويتعشّى عندهم… يكسر الخبز لهم ليريهم وجهه…
للغني خلاص إذا أتى إلى الربّ. إذا تبنّى الرحمة. إذا اتضع بماله وعرف أنّه عطيّة الله له ليوزّعها على مّن حوله. ليطعم الجائع ويرحم الفقير ويسامح الخاطئ، ويعطي ثوبه ورداءه لكل مَن يطلبه.
الغني يخلص إذا صار وكيلاً على أمواله يقسمها للمحتاج والفقير، للكنيسة وأعمال البرّ ويبقي لنفسه ما يحيا به بوادعة الإنجيل. “تَعَلَّمُوا مِنِّي، لأَنِّي وَدِيعٌ وَمُتَوَاضِعُ الْقَلْبِ، فَتَجِدُوا رَاحَةً لِنُفُوسِكُمْ”….
فنجّنا يا الله من سقوطنا، من شهوة الاستغناء عنك للغرق في غنى هذا العالم، كي لا نموت عنكَ بل نموت بكَ إليكَ. (الأم مريم زكا)
“ماذا تقول؟ ليس شأنك أن تنشغل بالأسفار الإلهية، لأنك متورّط بألف اهتمام؟ هذا هو بالذات سبب وجوب انشغالك بها، أكثر بكثير من هؤلاء. لأنهم (المتوحّدون) لا يحتاجون إلى تعزية ومعونة الأسفار الإلهية بمقدار ما يحتاج إليها الذين هم في وسط دوامة وجود مشتّـت” (القديس يوحنا الذهبي الفم)
“إن دانيال دعاك جبلاً عقلياً، وأشعياء والدة الإله، وجدعون رآك كجزّة، وداود سمّاكِ مَقدساً، وآخر باباً، أما جبرائيل فهتف نحوك قائلاً: افرحي يا ممتلئة نعمةً، الرب معك” (سحر عيد البشارة)