نظرة شاملة لكتب العهد القديم
نظرة شاملة لكتب العهد القديم [3]
هل مازال العهد القديم مناسبًا لعصرنا؟
يعتقد البعض أنه طالما أن العهد القديم كتاب قديم، لم تعد له قيمة في عصر الطاقة النوويَّة واكتشافات كوكب المريخ. ويبدو أنه بإطلاق اسم “العهد القديم” اعتبر العديد من المسيحيين أن لديهم ما هو أفضل. ولكن هناك أسباب عديدة لأهميَّة العهد القديم.
- بالرغم من أن العهد القديم لا يتحدث عن المواضيع المعاصرة بشكل محدد، فإن الأمور الأساسيَّة المتعلقة بالطبيعة البشريَّة ما زالت كما هي. يعالج العهد القديم صراع الخير والشر، وسوء استعمال السلطة، وتوقنا إلى الأمان في عالم أفضل، وصراعنا مع الشك والألم، وبحثنا عن هدف ومعنى لوجودنا.
- إن إهمال العهد القديم يعني عدم تقديرنا لوصايا وشرائع سامية مثل الوصايا العشر التي أعطاها الله تعالى للعالم، وكانت أساسًا في تكوين العديد من الأنظمة القانونيَّة في العالم.
- يعتبر الكتاب المقدس دراما من فصلين. الفصل الأول هو العهد القديم والفصل الثاني هو العهد الجديد. وبالرغم من أن الفصل الثاني يقدم ذروة الأحداث، إلا أنه يتعذر فهم الدراما بشكل صحيح وجيد بدون معرفة الفصل الأول منها.
- العهد الجديد لا يُهمل العهد القديم بل يبني على أساسه. فمثلاً، لا يكرر العهد الجديد ما جاء في العهد القديم عن اهتمام الله بالعدالة وحمايته للفقير والضعيف لأن ذلك ورد سابقًا، ولا ضرورة لتكراره.
- في العديد من اختبارات الناس نجد أن العهد القديم يتكلم إليهم بشكل فعّال ومؤثر. فمثلاً، يمنح كتاب المزامير التعزية والتشجيع، وتقدّم كتب الحكمة أفكارًا عمليَّة لحياتنا. وبينما يقرأ الناس العهد القديم ويعرفون الله الذي يتدخل في التاريخ، فإن ثقتهم تزداد إذ يؤمنون أن الله يتدخل أيضًا في الحياة الشخصيَّة.
كيف تجد طريقك في مكتبة العهد القديم؟
مما لا شك فيه أن كتاب العهد القديم هو كتاب كبير الحجم، ولنفرض أنك ترى كتاب العهد القديم للمرة الأولى في حياتك، ورغبت بقراءته، فكأي كتاب آخر، من المتوقع أن تقرأه من بدايته.
إذا فعلت ذلك، فإنك ستجد متعة بذلك، ولكن إلى وقت قصير! بعد قراءتك لمجموعة من الأحداث الممتعة والقصص المشوقة، فإنك ستفاجئ حين ترى القوانين والشرائع الغريبة، والأعياد غير المألوفة، فلا بدَّ أن تصاب الإحباط. بالطبع لكل نسخة من الكتاب المقدس قائمة محتويات تساعدك على إيجاد الكتاب الذي تود قراءته، وبعض الترجمات العربيَّة الحديثة تتضمن أيضًا مقدمات عامة ومخطط لكل كتاب وعناوين للفقرات.
يعتبر كتاب العهد القديم مكتبة تضم 39 كتابًا وقد قسمته التقاليد اليهوديَّة إلى ثلاثة أقسام:
- التوراة. وتضم الكتب الخمسة الأولى.
- الأنبياء. ويضم هذا القسم إضافة إلى الأنبياء مثل إشعياء وغيره، الكتب التاريخيَّة مثل كتاب يشوع وأخبار الأيام، ومرد ذلك إلى أن اليهود اعتبروا أن الله يعمل ويتكلم في التاريخ كما يعمل ويتكلم في الأنبياء.
- الكتابات. وتضم الكتب الأخرى مثل المزامير وأيوب وراعوث وإستير.
عندما ترجمت كتب العهد القديم من العبريَّة إلى اليونانيَّة، ليتمكن من قراءته أولئك الذين لا يعرفون العبريَّة، فإن ترتيب الكتب قد تغير بعض الشيء، وقد حافظت التقاليد المسيحيَّة على الترتيب التالي:
- كتب الشريعة.
- الكتب التاريخيَّة.
- الكتب الحكمَّة والشعريَّة.
- الكتب النبويَّة.
قصة عن الله وشعبه
يحتوي العهد القديم على الكثير من القصص، ولكن كل هذه القصص تشكّل معًا قصة كبيرة عي قصة الله الذي يدعو سعبًا ليعرفه ويحبه، بهدف أن يتعلم كل العالم معرفته ومحبته. قبل الدخول في تفاصيل هذه القصَّة الكبيرة، من المستحسن أن نأخذ فكرة عامة عنها.
كان يا ما كان في قديم الزمان… كان هناك رجلاً يدعى أبرام (إبراهيم) عاش بين نهري دجلة والفرات في منطقة العراق حاليًّا. طلب الله تعالى من إبراهيم أن يذهب إلى أرض بعيدة هي أرض كنعان التي تبعد حوالي 400 ميلاً عن مدينة أور التي كان يقطنها. قصد إبراهيم كنعان ولكن بعد فترة من الزمن، حلت مجاعة شديدة بأرض كنعان، فاضطر وعائلته اللجوء إلى مصر. وفي مصر ازداد عدد عائلته وعملوا عبيدًا لفراعنة مصر، ولكن الله لم ينسهم قط، فقد دعا رجلاً اسمه موسى لينقذ الشعب من العبوديَّة القاسية.
وحدثت معجزة الخروج، واستطاع الشعب التمتع بالحريَّة أخيرًا. وخلال 40 عامًا في بريَّة سيناء أعطى الله للشعب الشريعة بتحكم حياتهم. بعد وفاة موسى استلم يشوع زمام القيادة، وقاد الشعب إلى أرض كنعان. وبسبب الهجمات المتكررة من الشعوب المجاورة أراد الشعب تنصيب ملكًا عليهم. فملك شاول ثم داود ثم سليمان، عُرف داود بالملك الذي استطاع تأمين الأمان لشعبه، وعُرف سليمان بالملك الذي بنى الهيكل. بعد ملك سليمان انقسمت المملكة إلى قسمين، مملكة شماليَّة عاصمتها السامرة، وجنوبيَّة عاصمتها أورشليم.
دامت المملكة الشماليَّة حوالي 200 عامًا إلى أن سقطت على أيدي الآشوريين وتمَّ سبي معظم سكانها. أما المملكة الجنوبيَّة فاستمرت حوالي 135 عامًا بعد سقوط الشماليَّة إلى أن سقطت على يد نبوخذ نصر البابلي، الذي دمَّر أورشليم، وسبى معظم السكان إلى بابل. لقد كان السبي ضربة قاسية لشعب آمن أن الله يمنحه الحماية والأمان. لماذا سمح الله بذلك؟
خلال فترة المملكتين أرسل الله النبي تلو الآخر ليعلنوا للناس إرادته ليحيوها وليعملوا بها. لقد حذر الأنبياء أن عقاب الله آتٍ لا محالة، إذا استمر الشعب في عصيانه، وأعلن الأنبياء أن بركات الله متوافرة ما دام الشعب يعلن الولاء والطاعة لله. ولكن في معظم الأحيان لم يكترث الملوك ولا الشعب بما حذر وأعلن الأنبياء. وهكذا كانت كارثة السبي! ولكن الله لم ينس شعبه. ففي بابل استطاع بعض المسبيين المحافظة على إيمانهم، وبعد حوالي 50 عامًا سقطت بابل نفسها أمام جيوش الملك كورش الفارسي، الذي سمح بعودة المسبيين إلى أرضهم.
وبالرغم من المشاكل الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة فقد تمت إعادة بناء الهيكل. وفي عهد نحميا بنيت أسوار أورشليم، وفي عهد عزرا كتبت الشريعة واستحوذت على اهتمام الناس.
ليس العهد القديم قصة شعب واحد فقط، بل هو قصة تعاملات الله التي فيها يعلن تعالى عن نفسه، ويتدخل في تاريخ البشريَّة جمعاء. والآن هيا لنبدأ تفاصيل قصتنا الكبيرة.
الأساسات
ليس الكتب الخمسة الأولى، التي يُطلق عليها اسم التوراة أو أسفار الشريعة، مجرد تشريعات وقوانين. فالكلمة العبريَّة “توراة” تفيد معنى التوجيه والإرشاد، إضافة إلى معنى التشريع. إذن هذه الكتب الخمسة تقدم توجيهًا وإرشادًا من خلال القصص ومن خلال الوصايا.
يمكننا أن نقسم كتاب التكوين إلى قسمين: يتألف القسم الأول من الفصول 1-11. في هذا القسم نجد قصة خلق العالم، ونرى كيف يتمرد الإنسان على إرادة الله. ويتألف القسم الثاني من الفصول 12-50. يبادر الله في هذا القسم إلى البدء بخلق بداية جديدة للبشريَّة، وذلك من خلال دعوة إبراهيم، تلك الدعوة التي هدفت أن تشمل كل البشريَّة. وهنا نجد القصص الشيقة التي قراءتها وسماعها تحبس أنفاس الصغار والكبار. هل من الممكن أن تحمل سارة وهي في شيخوختها؟ نعم، فالله وعد وهو سيفي بوعده بأن يكثر نسل إبراهيم.
ونقرأ أيضًا القصص الممتعة عن اسحق ويعقوب ويوسف، والقصَّة الأخيرة غاية في الروعة إذ تخبرنا كيف أن يوسف بسبب غيرة إخوته منه، بيع كعبد إلى مصر، وهناك استطاع بمعونة الله ومواهبه أن يصبح وزير الموارد الغذائيَّة في البلاط المصري. وتحدث مجاعة في أرض كنعان تُجبر عائلة يعقوب، والد يوسف، على النزوح من أرض فلسطين إلى مصر حيث يهتم يوسف بهم وتتم المصالحة بينه وبين أخوته الذين حسدوه وقرروا التخلص منه.
يركز كتاب الخروج على دور موسى كمحرر للشعب، وكمعطي للشريعة. بازدياد عدد الإسرائيليين في مصر، تبدأ مخاوف فرعون فيستعبدهم ويضطهدهم. وهنا يظهر دور موسى في إنقاذ شعبه من هذه العبوديَّة القاسية. إن لب كتاب الخروج هو الفصلان 19 و20، ففي الفصل 20 يمنح الرب بواسطة موسى الوصايا العشر للشعب، ولكن في الفصل 19 فإنه يذكرهم بما فعل لهم بإنقاذهم من عبوديَّة المصريين. ويتحدث الله عن عهد أو اتفاقيَّة يقيمها بينه وبين الشعب.
وبكلمات أخرى، الله يبادر بالعمل فيحرر، وينقذ شعبه ليكونوا على علاقة معه ومن ثمَّ يقدم الشرائع والوصايا، وذلك للحفاظ على علاقة صحيَّة وحميمة بينه وبينهم. في العهد القديم كما في العهد الجديد نجد الله هو المبادر في إعلان محبته للبشريَّة، وبعد هذا الإعلان ونشوء العلاقة معه فإنه يدعونا لحياة الطاعة.
من مصادفات الأمور أنني أكتب هذه الكلمات يوم الأحد بعد الظهر، وفي الصباح حضرت خدمة العبادة في إحدى الكنائس وقد حزنت حقًا إذ سمعت الراعي يقول في عظته ما معناه أنه في العهد القديم كان الأساس: افعل فتحيا أي اعمل الأعمال، أطع الوصايا، لتكون لك علاقة مع الله، ولكن في العهد الجديد – يتابع الراعي – الأمر انعكس تمامًا فالأساس الآن هو: احيا وافعل. لقد غاب عن ذهن أخي الراعي أن العلاقة مع الله في العهدين القديم والجديد لم تتغير، فأساسها هو مبادرة الله السبّاقة ومن ثمَّ طاعتنا لوصاياه.
يتألف كتاب اللاويين من العديد من التشريعات المتعلقة بالعبادة والمناسبات الدينيَّة المختلفة. ويهدف إلى دعوة الشعب لحياة القداسة أي الحياة المكرسة والمفرزة لله.
أما كتاب العدد فاسمه مأخوذ من إحصاء للشعب الذي نقرأ عنه في الفصل الأول منه، أما عنوان الكتاب في الأصل العبري فترجمته “في البريَّة” أي في بريَّة سيناء، وهذا العنوان يصف مضمون الكتاب بشكل أفضل، إذ يخبرنا عن رحلة الإسرائيليين إلى أرض كنعان، وعن صعوبات تلك الرحلة، وعن اهتمام الرب بتأمين احتياجاتهم خلالها. إن رحلة الإيمان ليست بالرحلة السهلة، ولكننا فيها نتعلم العديد من الدروس المفيدة لحياتنا، والأهم من كل هذا هو أن الله يرافقنا في هذه الرحلة.
يقدم لنا كتاب التثنية النبي موسى مخاطبًا الشعب على مشارف أرض كنعان، فيذكرهم بما فعل لأجلهم، وكيف اعتنى بهم وأيَّة استجابة يتوقعها منهم. إن إله كتاب التثنية هو إله التاريخ، الذي حرر شعبه من العبودية، وبالمقابل على الشعب أن يتذكروا ما فعل الله لأجلهم، ويتجاوبوا بمحبتهم له. هذه الذكرى وهذه المحبة ينبغي أن يتجليا بحياة العبادة والطاعة لإرادة الله.
يضع موسى أمام الشعب هذين الخيارين: “انظر قد جعلت اليوم قدامك الحياة والخير والموت والشر بما أني أوصيتك اليوم أن تحب الرب إلهك وتسلك في طرقه وتحفظ وصاياه وفرائضه وأحكامه لكي تحيا وتنمو ويباركك الرب إلهك في الأرض التي أنت داخل إليها لكي تمتلكها. فإن انصرف قلبك ولم تسمع بل غويت وسجدت لآلهة أخرى وعبدتها فإني أنبئكم اليوم أنكم لا محالة تهلطون لا تطيل الأيام على الأرض التي أنت عابر الأردن لكي تدخلها وتمتلكها” (تثنية 15:30-18).
الله في التاريخ
إذا طُلب إليك أن تخبر قصة حياتك، فإنك تستطيع فعل ذلك بطرق مختلفة. قد تفضل التحدث عن أيام المدرسة، أو عن إنجازاتك الرياضيَّة، أو عن حياتك العائليَّة. ولكن مهما تقل فإنك تختار عناصر معيَّنة توليها اهتمامك وتركيزك أكثر من غيرها. ولكل قصة هناك زاوية معيَّنة تُروى من خلالها. فمثلاً، قصتي عن قصاصي لأني غششت في الامتحان، تختلف عن القصَّة التي يرويها أستاذي. على المنوال نفسه، فقد اختار الإسرائيليون أن يركزوا في قصتهم على عمل الله الذي تجلَّى في حادثة خروجهم من مصر وتحريرهم من العبوديَّة.
بالطبع لو طلبت من مؤرخي فرعون آنذاك أن يرووا القصَّة لك فإنهم سيفعلون ذلك من زاوية مختلفة، ولكن المؤرخ المصري وكاتب كتاب الخروج كلاهما يوافقان على حدوث الحادثة، ولكن الأخير يرى فيها حضور الله.
قام المؤرخون العبرانيون بكتابة سجل تاريخي لأمتهم غطَّى الحقبة الزمنيَّة الممتدة من دخول الشعب بقيادة يشوع إلى أرض كنعان إلى السبي البابلي الذي حدث بعد ذلك بحوالي 600 عامًا. هذا السجل التاريخي مدون في كتب يشوع والقضاة وصموئيل الأول والثاني والملوك الأول والثاني. في هذه الكتب يُنظر إلى الأحداث من وجهة نظر معيَّنة.
نستطيع أن نُطلق تعبير “التاريخ اللاهوتي” على هذا السجل. لقد رأى هؤلاء المؤرخون أن الله يعمل في التاريخ، وأوضحوا كيف أن ازدهار الأمة، أو انحطاطها كان نتيجة لطاعة أو لعصيان الحكام والشعب.
يخبرنا كتاب يشوع عن كيفيَّة بدء الإسرائيليين بتثبيت أقدامهم في أرض كنعان. إن كلمات الله ليشوع وهو على أهبة البدء بمهمته تصلح كتشجيع لكل من يقوم بمهمة لله: “أما أمرتك تشدد وتشجع. لا ترهب ولا ترتعب لأن الرب إلهك معك حيثما تذهب” (يشوع 9:1).
أما كتاب القضاة فيرينا تهاون الشعب في إعلان ولائهم لله، وما نتج عن ذلك من متاعب وصعوبات، إذ عانوا من هجمات متتالية من قبل الشعوب المجاورة. ويسجل هذا الكتاب كيف أن الله أقام قادة لقبوا بالقضاة لقيادة الشعب ولمساعدته في التغلب على أعدائه. من أهم هؤلاء القضاة دبورة (4:4-16) وجدعون (1:6-28:8) وشمشون (1:13-31:16).
يرتبط اسم صموئيل، الذي كان مخضرمًا لقترتي القضاة والملكيَّة في إسرائيل، بكتابين اثنين هما صموئيل الأول والثاني. هذان الكتابان يسجلان قصة أول ملكين في إسرائيل: شاول وداود. بسبب الخوف من الفلسطينيين طلب الشعب من صموئيل أن يعين لهم ملكًا كسائر الأمم (1 صموئيل 1:8-22)، رأى صموئيل في هذا الأمر إخفاقًا في وضع الثقة بالله الملك العظيم، فطلب الشعب بأن يكون “كسائر الأمم” هو منافٍ لدعوة الله لهم ليكونوا شعبًا مميّزًا له قيمه التي وضعها الله تعالى.
ولكن لله طرقه الخاصة في تحويل أخطاء البشر ليحقق بواسطتها مقاصده. لقد أعطاهم شاول ومن ثم داود وسليمان ليملكوا عليهم، وقد تعلم الشعب من خلال التجارب الصعبة أنَّ الملوك يأتون بالمنافع، ولكن لا يخلو ذلك من “وجع الرأس”. فخلال عهد الملكيَّة عانى الشعب من أنظمة الضرائب والتسخير وما شابه، ولكنهم تعلموا أيضًا أن لله خطة خاصة جدًا لنسل داود، فمن نسله سيأتي المسيَّا – المسيح المنتظر الذي سيأتي بالسلام والحريَّة لكل البشريَّة.
إن رغبة إسرَإيل بأن يحكمها ملك هي إخفاق لإيمانها من ناحية، ولكن الله استخدم ذلك الإخفاق كوسيلة يُظهر بواسطتها محبته للبشريَّة جمعاء. وفي ذلك درس هام لنا، فالله ليس بعيدًا عنا بل قريب منا ليعرف احتياجاتنا. لقد منحنا حريَّة الاختيار لنختار إطاعته أو عصيانه، ولكن لا شيء يستطيع أن يقهر الله ولا حتى عصيان الإنسان! فالله بسيادته وسلطانه يستطيع أن يجد وسيلة لإعلان خطة محبته للعالم.
يتابع كتابا الملوك الأول والثاني قصة ملْك سليمان وبناء الهيكل، ويختتمان بذكر ما حدث نتيجة غزو نبوخذ نصر لأورشليم. من الملاحظ أن في هذين الكتابين قلما نجد الله يتدخل بطرق عجائبيَّة. وفي كل هذه الفترة فإن الأمة كانت تختبر الحقيقة المعلنة في تثنية 15:30-18: البركة تتبع الطاعة والعقاب يتبع العصيان.
نقرأ في هذين الكتابين أيضًا عن صراع الشعب بين عبادة الله وآلهة الكنعانيين. إنها قصة الشعب الذي فقد الرؤيا بأنه شعب الله، وأخفق أن يُري الأمم المجاورة ما هي مشيئة الله لهم. ولم يستطع الملكان الأمينان حزقيا ويوشيا تأخير دينونة الله التي ظهرت بسقوط مملكة يهوذا عام 587 ق.م. لقد هزت هذه الحادثة إيمان الشعب هزًا عنيفًا، ولكن حتى في ذلك كان هناك بريق من الأمل.
يكمل كتابا أخبار الأيام الأول والثاني قصة كتب صموئيل والملوك لأناس في فترة زمنيَّة لاحقة، هي فترة بعد العودة من السبي. وفي هذين الكتابين نجد العديد من الدروس التي على الإسرائيليين أن يتعلموها من التاريخ. يتابع عزرا ونحميا القصَّة في نفس الفترة (بعد العودة من السبي) ويخبران عن العودة وعن بناء الهيكل.
يصف نحميا مشروع بناء أسوار أورشليم، ويعيد وعزرا الشريعة إلى مركز حياة الأمة. يتناول هذان الكتابان مسألة كيفيَّة تعامل شعب الله مع الشعوب المجاورة التي لا تشاركه إيمانه. ويظهران كيف أن الله يستطيع استعمال القوى الغريبة والأجنبيَّة ليحقق الأمان لشعبه، وهذا ما نراه في تعاطف السلطات الفارسيَّة مع عزرا ونحميا ودعمها لعودة المسبيين.
التحدث باسم الله
في أيامنا عندما نصف أحد بأنه نبي، فإن ما نعنيه هو أن لديه موهبة تمكِّنه من معرفة ماذا يخبئ المستقبل، أو أن ما يقوله يشكّل تحدٍ للقيم السائدة في المجتمع. قد لا نولي هؤلاء الناس الاهتمام الكافي، ولكن قد ندرك في أعماق أنفسنا أنهم يتكلمون الحق. لقد كان في إسرائيل قديمًا أنبياء مثل هؤلاء.
الله يعلّق الآمال الكبرى على شعبه، فهو يتوق أن يراهم يسلكون في الطريق الأنسب لحياتهم، ولكنهم في أحيان كثيرة ينحرفون عن الطريق بمشغوليات الحياة وبأمور أخرى عديدة. لقد انجذب البعض إلى طرق عبادة الأمم المجاورة التي فقدت الحس الأخلاقي، والبعض – خاصة الأغنياء – بالرغم من أنهم حفظوا طقوس ومراسم العبادة، إلا أنهم عاشوا لأنفسهم ولم يهتموا بالفقير والمحتاج. وعمومًا، فقد أخفق الشعب ليكون قدوة للأمم المجاورة كما أراده الله أن يكون.
كان الأنبياء الواسطة التي استخدمها الله ليحوِّل مسار الشعب للوجهة الصحيحة. لم يكن للأنبياء وظيفة خاصة في التركيبة الاجتماعيَّة، بل كانوا مجرد أفراد تلقوا رؤيا معيَّنة من الله فتكلموا كلمات الترغيب والترهيب، كلمات العزاء والدينونة، وقد دفعوا ثمن جرأتهم غاليًا.
إن الترتيب الذي ترد فيه كتب الأنبياء في العهد القديم لا يتعلق بالترتيب الزمني الذي عاش فيه الأنبياء. من أقدم الأنبياء كان عاموس وهوشع وأشعياء.
عاش عاموس حوالي العام 750 ق.م.، وقد أتى من مملكة يهوذا الجنوبيَّة وقصد مملكة إسرائيل، المملكة الشماليَّة، ليتنبأ هناك. لذلك اعتبره الناس متطفلاً في شئون اقتصاديَّة واجتماعيَّة لا تعنيه! لقد حذر عاموس الناس معلنًا لهم أن الله غير مسرور بممارستهم الدينيَّة، بينما حياتهم اليوميَّة يسيطر عليها الظلم وعدم العدالة الاجتماعيَّة. تنبأ عاموس أن المستقبل لن يكون كما يتوقع الشعب، إن هو استمر في سلوكه المشين. وفي العام 722 ق.م. غزا الآشوريون مملكة إسرائيل وسبوا معظم سكانها.
إن رسالة النبي عاموس تدعونا لإعادة النظر بمواقفنا وبمقاييسنا الأدبيَّة والأخلاقيَّة. ومن هذه المواقف، الموقف السائد في عدد من مجتمعاتنا، وهو أنه لنا الحق بالتمتع بالرفاهيَّة والبحبوحة حتى وإن كان ذلك على حساب الآخرين.
بالتزامن مع النبي عاموس عاش هوشع النبي. ركز هوشع على المشكلة الرئيسية لفساد الأمة وهي الابتعاد عن الله. يصوِّر لنا هوشع الأمة كامرأة زانية تجافت لعهد الزواج، ولكن الزوج أظهر محبته بالسعي وراءها ليستمر الزواج. وفي ذلك صورة عن الأمة الزانية روحيًّا ومحبة الله التي لا تزال تلحق بالخطاة لاستردادهم إلى شركة معه.
أما النبي إشعياء فقد عاش في مدينة أورشليم، عاصمة المملكة الجنوبية. في ذلك الحين كانت تهديدات الآشوريين تكاد تصل إلى هذه المملكة. وفي أحد الأيام يرى إشعياء في الهيكل رؤيا مؤثرة عن عظمة الله وقداسته، دفعته هذه الرؤيا للكلام بجرأة وشجاعة فكانت رسالته مماثلة لرسالة النبي عاموس في المملكة الشماليَّة. لقد دان إشعياء ممارسات الظلم والتعسف، وحذَّر الملك آحاز من الاعتماد على القوة الأجنبيَّة، بل دعاه ليثق بالله وسط الأزمات. لم يجد إشعياء أذنًا صاغية لدى آحاز، لكنه وجدها لدى ابنه الملك حزقيا.
وفي العام 701 ق.م. عندما غزا سنحاريب الإمبراطور الآشوري مملكة يهوذا، وعد الله الملك حزقيا بلسان إشعياء أنه سيحفظ المملكة، وهذا ما حدث فعلاً إذ أصاب الوبأ جيش سنحاريب فاضطر إلى الانسحاب.
في أجزاء أخرى من كتاب إشعياء نرى النبي يحذر الشعب من إمكانيَّة حدوث السبي في حال استمرار عصيانهم، ولكن حتى في رسائل الدينونة كان يلوح شعاع الرجاء في الأفق: ستكون هناك بداية جديدة لأمة تثق بالله، وهذه الأمة ستكون بركة للأمم المجاورة.
تحمل الفصول 40-55 رسالة عزاء ورجاء للمسبيين في بابل، فهي تؤكد أن الله لم يُقهر بواسطة آلهة بابل، وأنه لم يتخل عن شعبه. الله الذي خلَّص الشعب قديمًا من عبوديَّة فرعون هو قادر أن يمنح الخلاص من عبوديَّة البابليين، والهدف من كل ذلك هو أن يدرك الشعب الدور الذي دعاهم الله إليه: أن يكونوا نورًا لكل الأمم.
تعكس الفصول 55-66 حالة العديد من الذين عادوا بعد السبي إلى يهوذا. ففي وضع مثقل بالمشاكل الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة احتاج العائدون ليسمعوا رسالة تشجيع، تظهر هذه الرسالة على شكل رؤيا مشرقة ليس فقط لأورشليم الجديدة، بل لكل العالم. ولكن مثل هذا المستقبل المشرق، لن يصبح حقيقة ملموسة دون تحمل شعب الله مسئولياته التي أناطه الله بها. الله القدوس يطالب أن يكون له شعبًا مقدسًا.
الشعر والحكمة
أحيانًا نشعر أننا نريد أن نغني فرحًا، وأحيانًا أن نصرخ غضبًا. ثمة أوقات في حياتنا نشعر فيها بالشك فنسأل الله: لماذا يا رب؟ في كتب العهد القديم هناك مجال لكل هذه المشاعر والأحاسيس، وهذا يؤكد أن الله يريدنا أن نخاطبه بكل صراحة وشفافية، ويدعونا بأن تكون كذلك مع بعضنا البعض.
يطلق على كتب الأمثال وأيوب والجامعة لقب “كتب الحكمة” لأنها تعبّر عن موقف الحكماء من الحياة، وبالمفارقة عما رأيناه في كتب الشريعة والتاريخ والأنبياء، فإن هذه الكتب لا ترتبط ارتباطًا مباشرًا بحياة وشعب إسرائيل. وفي بعض الأحيان هناك تشابه كبير بين الحكمة المدونة في هذه الكتب، وحكمة قدماء المصريين أو سكان ما بين النهرين. الحكمة الحقَّة هي حكمة بغض النظر عن مصدرها.
يتحدث كتاب الأمثال عن اختبارات وتجارب الحياة اليوميَّة. والكتاب في مجمله هو عبارة عن مجموعة أقوال حكميَّة موجزة، تستخدم التشبيه أحيانًا لتحثنا على التفكير. بموقف أو عمل ما فنسأل السؤال: هل هذا الموقف أو العمل يعبر عن حكمة أم عن جهل؟
- “خزامة ذهب في فنطيسة خنزيرة المرأة الجميلة العديمة العقل” (أمثال 22:11)
- “قال الكسلان الأسد في الخارج فأقتل في الشوارع” (أمثال 13:22)
- لا تسلب الفقير لكونه فقيرًا ولا تسحق المسكين في الباب” (أمثال 22:22)
إن قيمة هذه الحكم للمتدينين هي أن يهتموا بأمورهم الحاليَّة والحاضرة، وألا يحيوا فوق الغيوم! ولكن لو كان كتاب الأمثال هو الكتاب الوحيد الذي يبحث في موضوع الحكمة في العهد القديم، لانتابنا الشك بانحياز هؤلاء الحكماء لأنهم يصوِّرون الجانب المتفائل من حياة الإنسان. ولكن ماذا عن الجانب المظلم؟
وهنا يأتي دور كتاب أيوب الذي يعتبر من أروع القصائد الأدبيَّة في الأدب العالمي التي تتعلق بالسؤال: لماذا يتألم الأبرياء؟ أيوب رجل تقي، ولكنه يعاني ما يعاني من هول المصائب الالآم. يهرع ثلاثة من أصدقائه ليقدِّموا له التعزية، ولكن تعزيتهم تُضحي توبيخًا أكثر منها تعزية. لقد قالوا لأيوب ما معناه: “إن آلامك نتيجة لخطايا سريَّة ارتكبتها يا أيوب.
فاطلب من الله الغفران لعلَّ ذلك ينجيك من الآلام.” ولكن في النهاية، يتكلم الله ولكنه لا يمنح أيوب جوابًا مباشرًا للسؤال: “لماذا أتألم أنا؟”، بل يقول له تعالى: “هل تثق بي لأدبر شئون العالم حسب حكمتي؟”
ليس ثمة إجابة سهلة للسؤال: لماذا يتألم الأبرياء؟ ولكن في وسط الغضب والامتعاض يمكننا اكتشاف حضور الله، فهو ليس عنا ببعيد، وهو لا يوبخنا على أخطائنا، بل يقف تعالى معنا وسط الألم، ورغبته أن نعرفه كصديق يجتاز معنا هذه المرحلة بكل آلامها وصعوبتها.
أما كتاب الجامعة (أو الفيلسوف) فيبدو مؤلفه بأنه عايش الشك واليقين، الفرح والحزن، النجاح والفشل… لقد جرَّب كل أصناف الحياة ليحصل على الشبع والاكتفاء، ولكنه لم يجد ذلك. هناك رغبة دفينة في الإنسان ليطلب ويطلب ولكن الموت يضع حدًا لكل شيء. وكالكثيرين وكالكثيرات في أيامنا فإن كاتب الجامعة يتأرجح بين أمرين: فهو يشعر أن معنى الحياة بمتناول يده، ولكن يأتي الموت ليهزأ بمنجزات الإنسان، ومن ناحية ثانية فهو يرى أنه من الجميل والواجب التمتع بالحياة.
ربما لا توجد إجابة لهذا الصراع لدى الإنسان، إلا في حال إمكانيَّة التغلب على الموت. هذه الغلبة هي إجابة العهد الجديد لسؤال يطرحه العهد القديم.
كتاب المزامير هو كتاب التسابيح والصلوات. وقد استخدم هذا الكتاب وما زال يستخدم في العديد من خدمات العبادة في الكنائس المسيحيَّة. يرينا كتاب المزامير كيف عبَّر الإسرائيليون عن إيمانهم ورجائهم، عن شكرهم وامتنانهم لله. في هذا الكتاب نجد التنوع في التعبير عن مشاعر الإنسان، لذلك يساعدنا كتاب المزامير لنقول لله ما نعجز التعبير عنه بواسطة كلماتنا. يشجعنا كتاب المزامير على أنه من الصواب لنا أن نسأل الله، وأن نعبِّر له عن غضبنا وانزعاجنا وخيبة أملنا.
إنه كتاب يمنحنا التشجيع عندما نجتاز الظروف الصعبة، إذ يعلّمنا أن الله هو إله التاريخ الذي تعامل مع ظروف صعبة مماثلة في الماضي. وأخيرًا، يذكِّرنا كتاب المزامير أنه حتى عندما نشعر أننا نحيا في وحدة، فإننا جزء لا يتجزأ من جماعة الإيمان.
[1] J. R. W. Stott, Fundamentalism and Evangelism (Grand Rapids: Eerdmans, 1959), p. 41.
[2] لقد قام ولدنا تيمي قسيس ومجموعة من الشباب والشابات بتشكيل مجموعة تجتمع لدراسة الكتاب المقدس، وقد أطلقت حسنًا على نفسها اسم مجموعة 16:3 لأنها تتخذ من الآية “إِنَّ الكِتَابَ بِكُلِّ مَا فِيهِ، قَدْ أَوْحَى بِهِ الله، وَهُوَ مُفِيدً لِلتَعْلِيمِ وَالتَوْبِيخِ وَالتَقْوِيمِ وتَهْذِيبِ الإِنْسَانِ فِ الْبِرِّ، لِكَيْ يَجْعَلَ إِنْسَانَ الله مُؤَهَّلاً تَأْهِيلاً كَامِلاً، وَمُجَهَّزًا لِكُلِّ عَمَلِ صَالِح” شعارًا وهدفًا لها.
[3] هذا الملحق هو من أفضل المقدمات التي تقدِّم للقارئ نظرة شاملة عن العهد القديم، وقد كتبه صديقي الكاتب القس الدكتور Stephan Travis، أحد أساتذة اللاهوت في كلية القديس يوحنا، نوتنجهام، المملكة المتحدة، وقمت بتعريبه ببعض التصرف بعد استشارته والحصول على موافقته.