قتل النساء والأطفال والإبادة الجماعية في العهد القديم
- “مَتَى أَتَى بِكَ الرَّبُّ إِلهُكَ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي أَنْتَ دَاخِلٌ إِلَيْهَا لِتَمْلِكَهَا، وَطَرَدَ شُعُوبًا كَثِيرَةٌ مِنْ أَمَامِكَ: الْحِثِّيِّينَ وَالْجِرْجَاشِيِّينَ وَالأَمُورِيِّينَ وَالْكَنْعَانِيِّينَ وَالْفِرِزِّيِّينَ وَالْحِوِّيِّينَ وَالْيَبُوسِيِّينَ، سَبْعَ شُعُوبٍ أَكْثَرَ وَأَعْظَمَ مِنْكَ، دَفَعَهُمُ الرَّبُّ إِلهُكَ أَمَامَكَ، وَضَرَبْتَهُمْ، فَإِنَّكَ تُحَرِّمُهُمْ. لاَ تَقْطَعْ لَهُمْ عَهْدًا، وَلاَ تُشْفِقْ عَلَيْهِم” (تثنية 1:7-2).
- “وَحَرَّمُوا (يشوع وجيشه) كُلَّ مَا فِي الْمَدِينَةِ مِنْ رَجُل وَامْرَأَةٍ، مِنْ طِفْل وَشَيْخٍ، حَتَّى الْبَقَرَ وَالْغَنَمَ وَالْحَمِيرَ بِحَدِّ السِّيْف” (يشوع 21:6).
في الفصول 1-11 من كتاب يشوع نقرأ عن الإبادة الجماعية التي أمر الله بها القائد يشوع ليقوم بها لعدد من المدن والقرى والجماعات:
- مدينة أريحا ومدينة عاي (21:6، 24:8 و26).
- مجموعة من المدن والقرى (28:10-41).
- بلدة حاصور (20:11).
- مدن القسم الشمالي (1:11-12).
- العناقيون ومدنهم (21:11).
من دلالات الكلمة “حرم” هي أنه لا يجوز استعمال الشيء أو الشخص موضوع التحريم (لاويين 28:27-29)، وأنه مقضيُّ عليه بالهلاك (تثنية 16:13)، وقد استعمل التحريم في درجات متفاوتة (انظر مثلاً: تثنية 34:2، 4:3، 16:13، 10:20-18، 1 صموئيل 3:15، يشوع 10:2، عدد 21:21).[1]
معضلة قتل الأطفال والإبادة الجماعية
إن الآيات الواردة أعلاه هي جزء من بعض المقاطع الواردة في كتب التثنية ويشوع واللاويين من العهد القديم، والتي تتحدث عن الحرب والقتل والإبادة. إن قراءة هذه الآيات وما شابهها، من قبل أي إنسان عادي، لا بدّ أن تثير في نفسه الاشمئزاز من هذه المشاهد الدمويَّة الرهيبة! إنها حقًا روايات مرعبة يحاول المرء أن يتخيلها، فلا يصدق حتى مخيلته، يقرأها وكأنه لا يحسن الرؤية، ويسمعها وكأن الأذن تخدعه.
ولولات… صيحات… بكاء… صمت. صمت لا يخابف كثيرًا عن صمت المقابر، ولولات تماثل ولولات الجنائز والمآتم، بكاء تنهمر فيه الدموع من العيون، وقطرات الدم من القلوب. وهل ما هو مرعب من أن يحصد الذين يمتلكون القوة أرواح الآخرين بما فيهم من أطفال وعجز ونسوة؟ وهل هناك أسوأ من غرز خنجر الحقد في قلوب الأبرياء فتكون النتيجة الألم والدماء والموت. مثل هذه الصور المؤلمة سمعنا عنه ورأيناه في كفر قاسم ودير ياسين وأرمينيا وكمبوديا وصبرا وشاتيلا والعراق وفلسطين والولايات المتحدة والسودان ورواندا… و… و… و.
مثل هذه الصور تقض مضاجعنا، فنطالب باحترام حياة الناس وضمان أمانهم وسلامتهم وأمنهم. مثل هذه الصور توجب على كل إنسان أن يدينها بشدة. ولكن كيف يمكن أن يدينها الإنسان بشدة، إذا كان الله الذي يعبده هذا الإنسان هو الذي يأمر بتنفيذها؟ وهل يُعقل أن الله المحب يصدر مثل هذه الأوامر للفتك والقتل والإبادة الجماعية؟ القول بأن الإنسان المتجرد من إنسانيته قد يرتكب مثل هذه الأعمال الوحشيَّة أمر، والقول إن قيام الإنسان بمثل هذه الأعمال الوحشية أمر، والقول إن قيام الإنسان بمثل هذه الأعمال الوحشيَّة ليحقق مشيئة الله وينفذ أوامره أمر آخر.
فما هو الحل لهذه المعضلة الأخلاقيَّة؟ وبالرغم من أن تركيزي سيكون على معالجة هذه المعضلة من الناحية الأخلاقيَّة، إلا أنه لا بدّ من الإشارة إلى أن هذه المعضلة تتعدى كونها أخلاقيَّة لتكون سياسيَّة أيضًا. إذ قد يتم استغلال ما قام به يشوع قديمًا لتبرير ما يحدث في عالمنا الحاضر وفقًا “للمنطق”: لقد احتل يشوع أرض كنعان بحد السيف، وحرّم المدن مرتبكًا المجازر تلو المجازر ليحقق وعد الله بامتلاك أرض كنعان. وكان كل ذلك بأمر من الله.
ولذلك، فإن ما فعلته إسرائيل في أرض كنعان، وما تفعله إسرائيل في أرض فلسطين، ليس إلا استمرارًا لتقليد سابق وضعه الله لتأمين الحماية والأمان والأرض لإسرائيل قديمًا ولإسرائيل حديثًا[2]، ومن المؤسف له حقًا أنه حتى بعض المسيحيين الغربيين قد يلجلأون إلى مثل هذا “المنطق”! والحقيقة أن الاستخدام السياسي لهذه المعضلة هو ما دفع الدكتور Bernhardt Reitsma، أستاذ محاضر في كليَّة اللاهوت للشرق الأدنى، بيروت، لتناول هذا الموضوع بالبحث.[3]
الحلول المطروحة
شكَّلت هذه المعضلة عائقًا ليس في فهم العهد القديم فحسب، بل في فهم هويَّة إله العهد القديم، وهي بالتالي تترك تأثيرًا هامًا في فهم علاقة العهد القديم بالعهد الجديد. لقد كتبت العديد من الأبحاث لمواجهة هذه المعضلة[4]، سأذكر باختصار أهم الحلول التي طرحت وما زالت تطرح في أيامنا جوابًا على هذه المعضلة، ومن ثم أقوم بتقويمها وتقديم بدائل أخرى. ولكن لا بدّ من الاعتراف مسبقًا أن هذه المعضلة معقدة، وليس بالإمكان الوصول إلى إجابة كافية ووافية بشأن حلّها. ولكن لا بدّ من المحاولة فهيّا بنا!
الحل الأول:
يبدو أن أسهل طريقة لمواجهة هذه المعضلة هو الاعتقاد بأن هناك عدم استراريَّة بارزة ونهائيَّة بين العهد القديم والعهد الجديد. وبموجب هذه النظرية فإن إله العهد القديم هو إله القتل والدمار، أما إله العهد الجديد فهو إله الرحمة والمحبة. وبالتالي على المسيحي النظر إلى يسوع المسيح، إله العهد الجديد وليس إلى إله العهد القديم، ليستمد منه فقط قيمه الأخلاقيَّة.
أعتقد أن هذه النظرية هي محاولة للهروب من المعضلة أكثر منها محاولة لمواجهتها. إن إنكار وجود أي استمراريَّة بين العهد القديم والعهد الجديد بما يتعلق بالله وطبيعته وصفاته لهو أمر لا يقرّ به العهد الجديد، وكنت سأتحدث عن هذا الأمر في الفصل الرابع من هذا الكتاب عندما أتناول موضوع العلاقة بين العهد القديم والعهد الجديد حيث أجيب عن السؤال: هل إله العهد القديم هو إله العهد الجديد؟
من ناحية أخرى، لا تقدّم هذه النظرية أي تفسير لماذا سمح “إله العهد القديم” بالإبادة الجماعية، ما عدا التفسير بأن إله العهد القديم هو إله سادي يهوى قتل الأبرياء وإراقة الدماء، ولكن حتى في العهد القديم ذاته لا نجد هذه الصورة عن الله، فهو أيضًا الإله المحب والرحيم والعطوف، ليس بتعاملاته مع إسرائيل فحسب، بل من ناحية موقفه من البشريَّة جمعاء. وهذه النظرية عاجزة عن أن توفق بين ما تدعيه عن إله العهد القديم السادي والقاتل، وبين ما يوصف به إله العهد القديم من محبة ورحمة ورأفة وحنان.
الحل الثاني:
يركز هذا الحل على النظرية بأن الشعوب التي كانت مقيمة في أرض كنعان امتازت بالشر والفساد الأدبي والأخلاقي إلى أقصى دركات الانحطاط، مما أوجب غضب الله ودينونته عليها، ولذلك استخدم الله شعب إسرائيل لينزل عقابه ودينونته بتلك الشعوب. فقد مارست تلك الشعوب عبادة الأوثان وانحط مستواها الأخلاقي فوصل إلى الحضيض (تكوين 16:15، تثنية 4:9-5)، فأراد الله أن يحقق عدله وينزل قضاءه. وعندما يعاقب الله فهو يختار وسيلة العقاب.
لقد اختار سابقًا الماء (الطوفان) ثم الكبريت والنار (سدوم وعمورة) وهنا يختار أن يحقق مقصده بواسطة البشر. من ناحية أخرى، كان التحريم وسيلة للدفاع عن النفس في بعض الأحيان (يشوع 1:9-2، 1:11-5) وليس للهجوم دائمًا. ومن يعترض على حق الدفاع عن النفس؟
ولتقريب مفهوم هذه النظرية من واقع الحياة، يُضرب المثال التالي: حسيب شاب في ريعان شبابه معروف بين أصدقائه وأقربائه بعضلاته المفتولة وكثيرًا ما لقبوه “بأبي الشباب”. تعرض حسيب لحادث بينما كان يقود سيارته فأصيبت رجله اليمني بجروح بالغة. بعد فترة طويلة من المعالجة استمرت الالتهابات تظهر في رجله، فكان يعاني من آلام مبرحة كانت سببًا في عودته إلى المشفى. وبعد معالجات متعددة حدث ما لم يتوقعه أحد.
فقد قرر الأطباء أنه حفاظًا على حياة حسيب، فإنه لا بد من إجراء عمليَّة بتر القسم الأسفل من رجله، من ركبته فما دون. لا تتصور كم كان وقع هذا الخبر أليمًا في آذان أهل الحي. وبدأ الناس يتساءلون هل سيقبل حسيب بقرار الأطباء؟ على الفور، زارته مجموعة من شباب الحي استقبلهم حسيب بابتسامته العريضة وهو في فراشه والورود تملأ غرفته. لم يجسر أحد أن ينطق بالسؤال الذي يعتمر قلوبهم، فبدأوا يتذكرون مع حسيب الأيام الحلوة الماضية، ويخططون لرحلات جديدة ومغامرات مسليَّة وألعاب رياضيَّة حماسيَّة، وصاروا يظمئنون حسيب أنه سيخرج سريعًا، ويعود إلى عافيته خلال وقت قصير.
أما حسيب فقد كان يعلم الحقيقة المرّة. سيضحي بساق واحدة مدى الحياة. وبشجاعة ممتزجة بالثقة بالنفس وبنغمة رجوليَّة تشوبها مسحة من القدر المحتوم قال حسيب: “الحقيقة يا شباب هي أن الحياة جميلة وهي عطيَّة لنا من الله”. ولكن، أردف حسيب، أحيانًا علينا أن نضحي بالقليل ولو كان عزيزًا للحصول على الأفضل والأهم، وأنا لكي أستمر في الحياة عليّ أن أقبل بقرار الأطباء الذي يقضي ببتر رجلي… صُعق الجميع ولم ينطق أحدهم بكلمة، وبعد هنيهات تمنوا لحسيب حياة سعيدة وإن اقتضت هذه الحياة خسارة. ألم يتصرف حسيب بواقعيَّة وعقل ومنطق؟
فلو استمرت الشعوب التي كانت مستقرة في أرض كنعان لكانت أزاغت شعب إسرائيل عن عبادة الله الواحد، ولذلك من الأفضل أن تبتر “ساق” (الشعوب التي طالها التحريم) بالرغم من الألم الذي يرافق ذلك على أن يتم القضاء على “حياة” (شعب إسرَإيل) بأكملها.
وتؤكد هذه النظرية على عدالة الله. فالله هو قاضٍ عادل لا يتغاضى عن فعل الشر والخطيَّة، وارتكاب الإثم والمعصية. ونتيجة لازدياد شرور الناس أمر الله بالطوفان، طوفان نوح. ونتيجة لتفاقم الفساد في مدينتي سدوم وعمورة أمر الله بالطوفان، طوفان نوح. ونتيجة لتفاقم الفساد في مدينتي سدوم وعمورة أمر الله بدمار المدينتين. هل نتهم الله بالظلم وبالقيام بعمل غير لائق لأنه أمر بالطوفان أيام نوح وأنزل الدمار على مدينتي سدوم وعمورة؟
فالحق لابد أن يظهر، والعدل لا بد أن يأخذ مجراه ولا يمكن لمجتمع أن يستمر بدون وجود مبدأ تحمل المسئوليَّة ومجازاة المذنب. إذن يتطلب عدل الله إنزال القصاص العادل عندما تُعصى شرائعه ووصاياه، وبالتالي كان التحريم بمثابة تحقيق لقضاء الله ودينونته.
تعتبر هذه النظرية الأكثر إنتشارًا في الأوساط الكنسيَّة من النظرية السابقة، وهي تبدو معقولة إلى حد كبير. أعتقد أن هذه النظرية تحتوي على بعض الحقيقة، ألا وهي أن الله العادل والقدوس لا بد أن يعاقب الشر والخطيئة والفساد، وقد يستخدم الله طرقًا عديدة لتحقيق ذلك كاستخدام إسرائيل في حالة الإبادة الجماعية. ولكنني أتساءل: إذا كان الله يشاء أن ينزل العقاب بالخاطئ الأثيم، فهل من المعقول أن يأمر الله بقتل الأجنَّة وهي في بطون أمهاتها، أو بقتل الأطفال والأولاد الصغار؟
يجيب أحد اللاهوتيين الذي يدعم هذه النظرية بأنه علينا قبول أمر الله بالإبادة الجماعية كما ورد في بعض أحداث العهد القديم، دون البحث لإيجاد جواب منطقي ومقنع لهذا السؤال. ويرى أن كل ما يقوم به الله هو صالح “بما في ذلك سماحه وتكليفه بالإبادة الجماعية”.[5]
لا يتعرض هذا اللاهوتي مباشرة إلى مسألة الأجنَّة والأطفال، ولكن لاهوتيَّا آخر يعلّق على مسألة الأطفال بشكل مباشر فيكتب قائلاً: “لا يفهم الكتاب المقدس هلاك الرجال والنساء والأطفال ودمار المدن على أن ذلك موت أبرياء، فحتى الأطفال لا يعتبرهم أبرياء، فهم جزء من حضارة شريرة أصلاً، فإن عاشوا سيؤثرون بشكل سلبي أخلاقيًّا ولاهوتيًا ويلوثوا شعب إسرائيل”.[6] إنني لا أستطيع قبول هذا الأمر، لأربعة أسباب، على الأقل.
أولاً، لو كان قصد الله التخلّص النهائي من أعداء إسرائيل بواسطة إستراتيجيَّة الإبادة الجماعية لكنَّا توقعنا أن يتم تشريع مثل هذه الواسطة في العهد القديم، وإن لم تشرّع كنا نتوقع تكرارها كنمط حربي لاحتلال الأرض والتخلّص من سكانها. ولكن عدم وجود شرعنة منظمة لها في العهد القديم، وعدم استمرار ممارستها كنمط حربي يشيران في الإتجاه أن الإبادة الجماعية لم تشكل الإستراتيجيَّة التي أرادها الله من إسرَإيل.
ثانيًا، لا شك أن الأمم التي سكنت أرض كنعان، والعديد من شعوب العالم القديم، كانت لها بعض الجوانب المتديَّة أخلاقيًّا وأدبيًا، ولكن في الوقت ذاته ينبغي أن نتذكر أن مقاييسنا لهذه الجوانب يجب أن تخضع لمقاييس الشرق الأدنى آنذاك، وليس إلى مقاييسنا في القرن الحادي والعشرين، فضلاً عن الحقيقة بأن إسرائيل نفسها قد مارست جوانب متدنيَّة أخلاقيًّا وأدبيًا أيضًا في عِدَّة مراحل من تاريخها.
ثالثًا، على الرغم من اعتقادي بأن قداسة الله وعدالته، تؤديان إلى اقتصاصه من الخطيَّة والخاطئ وإنزال الدينونة، إلا أنني لا أستطيع قبول فكرة قتل الأطفال سواء بطريقة الإبادة الجماعية الوحشيَّة أو بأيَّة طريقة أخرى. والقول بأن بقاءهم أحياء “يلوث إسرائيل أخلاقيًا ولاهوتيًا” هو قول مرفوض، لأنه على الرغم من إبادة هؤلاء الأطفال، وربما غيرهم من الأطفال، فهناك ألف إمكانيَّة وإمكانيَّة لتلوث إسرائيل أخلاقيًا ولاهوتيًا، وقد حدث ذلك مرارًا عديدة في تاريخ إسرَإيل.
رابعًا، إن القول بأن قتل الناس والأطفال كان لبلوغ هدف أسمى هو تحقيق القداسة لشعب إسرائيل وضمان الحصول على أرض كنعان تحقيقًا لوعد الله، فإن ذلك سيقودنا في متاهة أخلاقيَّة هي “الغاية تبرر الوسيلة”. هل نقبل أن تتحقق الأمور بأيَّة طريقة، حتى وإن كانت تنطوي على العنف والقتل والدمار، من أجل تحقيق أمور أفضل وأهداف أسمى؟
الحل الثالث:
من أجل وضع معضلة الإبادة الجماعية في إطار اللاهوت الكتابي الذي يحاول التوفيق بين العهد القديم والعهد الجديد، تأتي نظريَّة الاعتراف بالإبادة الجماعية أنها تعبير عن إرادة الله، ولكن في الوقت ذاته تعتبر هذه النظرية أنه علينا النظر إلى العهد الجديد لمعرفة أبعاد الحرب الروحيَّة، التي تشمل شكلاً من أشكال الإبادة الجماعية، وعندما يتم ذلك نلاحظ تدرجًا من حرب دمويَّة ماديَّا إلى حرب روحيَّة. يبين الدكتور Tremper Longman III المراحل الخمس المتعلقة بمفهوم الحرب الإلهيَّة في الكتاب المقدس.[7] أقتبس هذه المراحل مع بعض التعديلات الطفيفة عليها.
قبل تجسد المسيح
- المرحلة 1: الله يحارب أعداء إسرائيل (خروج 2:15-3)
- المرحلة 2: الله يحارب إسرائيل (إرميا 3:21-7، مراثي 4:2-5)
- المرحلة 3: رجاء يتوق إلى المحارب الإلهي (فترة ما بعد السبي) (زكريا 2:14-3)
بعد خدمة المسيح
- المرحلة 4: المسيح يحارب قوى الشر والشيطان بواسطة موته وقيامته وصعوده (كولوسي 14:2-15)
عند مجيء المسيح ثانية
- المرحلة 5: المسيح يحارب المعركة النهائيَّة وينتصر فيها (مرقس 26:13، رؤيا 11:19-12، 11:20-15
لا شك أن هذه النظرية تحاول التوفيق بين تصرف الله في العهد القديم والعهد الجديد، وبذلك تؤكد على العلاقة الوثيقة بين العهدين. فترى أن الحرب ضد الكنعانيين ما هي إلا مرحلة مبكرة للحرب التي خاضها المسيح على الصليب والتي ستكمل في الدينونة الأخيرة.
وهكذا ينتقل هدف غضب الله من الكنعانيين، إلى قوات الشر والسلاطين الروحيَّة، إلى التدمير النهائي لكل أنواع الشر. ونلاحظ بالطبع “روحنة” مفهوم الحرب في هذه النظرية. ففي العصر الحاضر يصبح المسيحي محاربًا وجنديًا (أفسس 6)، ولكنه لا ليخوض الحروب الماديَّة، أو ليرتكب العنف، بل ليحارب ذاته بما فيها من شر وخبث ورياء وطمع وحقد وكبرياء.
تنسحب على هذه النظرية اعتراضاتي التي أثرتها في ما يتعلق بالحل الثاني أعلاه، ولكن أود أن أضيف ثلاثة أمور أخرى.
أولا، إن مشكلة هذه النظرية هي محاولة جمع كل أنواع الحروب التي قادتها إسرائيل قديمًا دون التمييز بين الحروب العاديَّة وبين الإبادة الجماعية. لست هنا في معرض مناقشة مسألة “الحرب العادلة”، بل ما أريد قوله هو أنه ينبغي أن نميز بين ما يسمى “الحرب العادلة” وبين الإبادة الجماعية.
ثانيًا، إن ربط موضوع الإبادة الجماعية في العهد القديم بموضوع الحرب الروحيَّة التي يخبرنا عنها العهد الجديد، لا يقدّم تفسيرًا مقنعًا وكافيًا عن سبب سماح الله في العهد القديم بحدوث الإبادة الجماعية، خاصة للأطفال.
ثالثًا، هذه النظرية تدفعنا إلى طرح التساؤل: إذا كان الله راضٍ عن الإبادة الجماعية الدمويَّة في العهد القديم، فلماذا يتحول في العهد الجديد إلى الحرب الروحيَّة ضد الشر، ولا يستمر في شرعنة وترخيص الإبادة الجماعية الدمويَّة؟ من المؤسف له بعض أتباع[8] هذه النظرية يجيبون على هذا السؤال بالقول بأن الله سوف يرمي حتى الأطفال الذين لا يتبعون المسيح في بحيرة النار في الدينونة الأخيرة!
الحل الرابع:
يقدّم القس الدكتور نعيم عتيق منهجًا معيَّنًا في تفسير أو تأويل العهد القديم، حيث يرى أن يسوع المسيح هو المحور الأساس الذي يقرر كيفيَّة فهم العهد القديم وتفسيره: “ولكي يفهم الله، إذًا يبدأ المسيحي الفلسطيني، مثل أي مسيحي آخر، بالمسيح ويعود إلى الوراء إلى العهد القديم، ثم إلى الأمام إلى العهد الجديد وإلى ما بعدهما. وتصبح هذه هي القاعدة الرئيسية للمسيحي.”
ويطبّق القس الدكتور عتيق هذا المنهج في محاولة لإيجاد الحل لمشكلة التحريم في كتاب يشوع فيسأل: “هل يتوافق هذا النص الذي ينسب إلى الله، مع طبيعة الله كما ظهرت في يسوع المسيح؟ إذا كان الأمر عكس ذلك، فيجب أن نقول إنها تكشف فقط عن طبيعة فهم البشر لله ومقصده، وقد تم تغيير هذا الفهم وتصويبه بالظهور في المسيح وبكلمات أخرى، فإن مثل هذه النصوص تكشف عن مرحلة لتطور الفهم البشري لله التي يجب أن ننظر إليها على أنها غير مناسبة وغير تامة.”[9]
ويؤكد القس الدكتور عيسى دياب ضرورة “أن تكون صورة الله في يسوع المسيح مقياس مرجعي لكل الصور الأخرى التي يقدمها لنا النص المقدس”. أما عن معضلة الإبادة الجماعية فيعلّق قائلاً: “ومن المعروف، في الديانات الساميَّة القديمة (بلاد الرافدين وكنعان) أن الآلهة كانت شرسة، غضوبة، غيورة، تبطش بأعدائها، أو بعابديها الذين لا يحترمون تعليماتها وأصول التعامل معها.
في هذا المناخ كُتب القسم الكبير من النصوص المقدسة في العهد القديم وغيره، ومن هذا الموروث الاجتماعي الديني استقى الكاتب صوره عن الألوهة. فالأرض التي احتلت للإله، يجب أن يكون جميع سكانها من عباده، وإلا يأمر بتحريمهم (قتلهم)… وهكذا كان يمارس القتل والإبادة بأبشع صورها باسم الإله، وبادعاء القاتل بأنه يأخذ الأمر بالقتل منه.”[10]
لقد أكدت أعلاه على أهميَّة مركزيَّة يسوع المسيح في فهم العهد القديم، ولكنني لا أوافق مع منهجي القس الدكتور عتيق والقس الدكتور دياب. إن القول بأن يسوع هو المرجع النهائي لفهم كل العهد القديم أمر غير مقبول، على الرغم من أنني أعتقد بأن إعلان الله الكامل والنهائي نجده في شخص يسوع المسيح، لأن ذلك يختصر كتب العهد القديم الغنيَّة والمتنوعة والمفيدة، ويجردها من وحي الله النافع في سياقها التاريخي والديني والحضاري.[11]
والحق يقال إن إتباع هكذا منهجيَّة في فهم العهد القديم يدفعنا إلى شكل آخر من أشكال الماركيونية التي رفضت العهد القديم، والتي أدانتها الكنيسة المسيحيَّة عبر العصور.
الحل الخامس:
يُبنى هذا الحل على أساس “فرضيَّة الوثائق” (documentary hypotheses)، وهي فرضيَّة كنت قد أشرت إليها سابقًا. يؤكد هذا الحل أنه في العهد القديم ذاته، ثمة مناظرة دائمة بالنسبة لمشكلتي الحرب والإبادة الجماعية في العهد القديم، فالكتابات الكهنوتيَّة (أي الوثيقة الكهنوتيَّة) ترفض التقليد الحربي والدموي في العهد القديم، بينما الكتابات التثنويَّة تقدم الشعوب الكنعانيَّة كشعوب شريرة جدًا لتبرير فكرة الإبادة الجماعية.
ردًا على هذه النظرية أقول إن هذه النظرية تقدّم لنا أمرًا إيجابيًّا ومفيدًا للمفارقات في العهد القديم المتعلقة بموضوع الحرب والإبادة الجماعية، ولكن من ناحية أخرى فإن “فرضيَّة الوثائق” قد تعرضت في العقد الأخير للكثير من الانتقادات بحيث يصعب بنيان حل على أساسها فقط.
الحل السادس:
أعتقد أن هذا هو الحل الأكثر ترجيحًا للمعضلة “الأخلاقيَّة” الناتجة عن أحداث الإبادة الجماعية. سأقدِّم العناصر الثلاثة الرئيسية لهذا الحل، ثم أقوم بالتعليق عليها.
- إن لغة الحديث عن الإبادة الجماعية تتصف بالمبالغة والمغالاة.
- إن حدث الإبادة الجماعية لم يحصل بشكل واقعي في زمن تاريخي معين، على الرغم من حدوث الحروب على مستوى ما.
- إن ما يصفه كاتب أحداث الإبادة الجماعية هو ماذا كان ينبغي أن يحدث، وليس ما حدث فعلاً.[12]
يشير القس الدكتور Christopher Wright إلى شيوع عنصر التهويل والمبالغة في لغة الحروب في الشرق الأدنى القديم، ويلاحظ أن هذا العنصر متوافر بشكل واضح في العهد القديم، ففي كتاب يشوع نقرأ عن أنه تم احتلال كل الأرض، وتمت هزيمة كل الملوك، وتم القضاء على كل الأعداء (40:10-42، 16:11-20). ويضيف القس الدكتور Wright أنه لا يجوز أن يدفعنا ذلك للشك في مصداقيَّة العهد القديم، بل إلى إدراكنا بأن أسلوب الكتابة المتبع في العهد القديم هو جزء لا يتجزأ من الأسلوب الأدبي المتبع في الشرق الأدنى القديم.[13]
لم تتم كتابة كتب العهد القديم في وقت واحد، بل خضعت عمليَّة كتابتها لتطور مديد في الجمع والتوثيق والكتابة والتحرير والتنقيح خاصة في فترة السبي وبعده وصولاً إلى عهد القائدين عزرا ونحميا (حوالي 400 ق.م.). إن العهد القديم لا يتضمن تاريخًا بالمعنى الدقيق لمفهوم التاريخ كما نعرفه في عصرنا الحاضر، بل نستطيع أن نطلق عليه اسم “التاريخ اللاهوتي” (theological history)، وما أعنيه هو أن الأحداث التاريخيَّة في العهد القديم تم تصويرها وتدوينها من وجهة نظر لاهوتيَّة معيَّنة.
ينكر الكثير من اللاهوتيين الليبراليين أن الله كان وراء وجهة النظر اللاهوتيَّة هذه، وأن ما لدينا في العهد القديم هو مجرد انطباعات البشر وآرائهم. كلاهوتي إنجيلي أؤمن بوجود مفهوم “التاريخ اللاهوتي” في العهد القديم، وفي الوقت ذاته أؤمن بتدخل الله في تقرير وتوجيه هذا “التاريخ اللاهوتي” لخدمة مقاصده السامية ومشيئته الصالحة لبني البشر. كيف يساعدنا مفهوم “التاريخ اللاهوتي” في اقتراح الحل لمعضلة الإبادة الجماعية؟
خلال فترة السبي وخاصة بعد انتهائها، برز في إسرائيل شعور وطني قوي، وقد كان لهذا الشعور الوطني القوي تأثيره على الحياة الدينيَّة والاجتماعيَّة للشعب وخاصة من ناحية التعامل مع الأجانب وبالأخص الزواج من أجنبيات. يعبِّر القائد نحميا، الذي قاد إصلاحًا وطنيًا ودينيًا، عن ذلك قائلاً:
“فِي تِلْكَ الأَيَّامِ أَيْضًا رَأَيْتُ الْيَهُودَ الَّذِينَ سَاكَنُوا نِسَاءً أَشْدُودِيَّاتٍ وَعَمُّونِيَّاتٍ وَمُوآبِيَّاتٍ. وَنِصْفُ كَلاَمِ بَنِيهِمْ بِاللَّسَانِ الأَشْدُودِيِّ، وَلَمْ يَكُونُوا يُحْسِنُونَ التَّكَلُّمَ بِاللِّسَانِ الْيَهُودِيِّ، بَلْ بِلِسَانِ شَعْبٍ وَشَعْبٍ. فَخَاصَمْهُمْ وَلَعَنْتُهُمْ وَضَرَبْتُ مِنْهُمْ أُنَاسًا وَنَتَفْتُ شُعُورَهُمْ، وَاسْتَحْلَفْتُهُمْ بِالله قَائِلاً: “لاَ تُعْطثوا بَنَاتِكُمْ لِبَنِيهِمْ، وَلاَ تَأْخُذُوا مِنْ بَنَاتِهِمْ لِبَنِيكُمْ، وَلاَ لأَنْفُسِكُمْ. أَلَيْسَ مِنْ أَجْلِ هؤُلاَءِ أَخْطَأَ سُلَيْمَانُ مَلِكُ إِسْرَائِيلَ وَلَمْ يَكُنْ فِي الأُمَمِ الْكَثِيرَةِ مَلِكٌ مِثْلُهُ؟
وَكَانَ مَحْبُبًا إِلَى إِلهِهِ، فَجَعَلَهُ الله مَلِكًا علَى كُلِّ إِسْرَائِيل. هُوَ أَيْضًا جَعَلَتُهُ النِّسَاءُ الأَجْنَبِيَّاتُ يُخْطِئُ. فَهَلْ نِسْكُتُ لَكُمْ أَنْ تَعْمَلُوا كُلَّ هذَا الشَّرِّ الْعَظِيمِ بِالْخِيَانَةِ ضِدَّ إِلهِنَا بِمُسَاكَنَةِ نِسَاءٍ أَجْنَبِيَّاتٍ؟” وَكَانَ وَاحِدٌ مِنْ بَنِي يُويَادَاعَ بْنِ أَلْيَاشِيبَ الْكَاهِنِ الْعَظِيمِ صِهْرًا لِسَنْبَلُّطَ الْحُورُونِيِّ، فَطَرَدْتُهُ مِنْ عِنْدِي. اذْكُرْهُمْ يَا إِلهِي، لأَنَّهُمْ نَجَّسُوا الْكَهَنُوتَ وَعَهْدَ الْكَهَنُوتِ وَاللاَّوِيِّينَ. فَطَهَّرْتُهُمْ مِنْ كُلِّ غَرِيبٍ، وَأَقَمْتُ حِرَسَاتِ الْكَهَنَةِ وَاللاَّوِيِّينَ، كُلَّ وَحِدٍ عَلَى عَمَلِه” (نحميا 23:13-30).
إن ما أراده محرر نصوص الحرب المتضمنة أحداث الإبادة الجماعية هو أن يظهروا للشعب في فترة السبي أو بعدها أو في فترات لاحقة من تاريخ إسرَإيل، بأن عدم قيام يشوع وغيره بواجباتهم التي أوصاهم الله بها بشدَّة، والمتمثلة هنا بالقضاء النهائي على كل الشعوب الغريبة المحيطة بإسرَإيل، هو أحد الأسباب الرئيسية لما عانى الشعب في السبي وما يعانيه الآن من صعوبات.
إن هذه النصوص هي جزء من الدعاية (propaganda) ضد الأجانب، هذه الظاهرة التي انتشرت في فترة السبي وبعدها.[14] ليس من الضروري أن يكون القضاء حربي ودموي ومادي، بل بإمكانه أن يتَّخذ شكلاً غير مادي يتمثَّل بالابتعاد عن ممارسات هذه الشعوب التي تتنافى مع شريعة الله.
ومن الجدير بالملاحظة تركيز نصوص الحرب المتضمنة أحداث الإبادة الجماعية على القضاء ليس على كل البشر فحسب، بل بصورة خاصة على النساء (راجع يشوع 21:6، 25:8). إضافة إلى ذلك نلاحظ التشديد على موضوع الزواج من أجنبيات وخطورة هذا الأمر على الوضع الروحي لإسرَإيل:
“مَتَى أَتَى بِكَ الرَّبُّ إِلَهُكَ إِلَى الأّرْضِ الَّتِي أَنْتَ دَاخِلٌ إِلَيْهَا لِتَمتَلِكَهَا، وَطَرَدَ شُعَوبًا كَثِرَةً مِنْ أَمَامِكَ: الْحِثِّيِّين وَالْجِرْجَاشِيِّينَ وَالأَمُورِيِّينَ وَالْكَنْعَانِيِّينَ وَالْفِرِزِّيِّينَ وَالْحِوِّيِّينَ وَالْيَبَوسِيِّينَ، سَبْعَ شُعُوبٍ أَكْثَرَ وَأَعْظَمَ مِنْكَ، وَدَفَعَهُمُ الرَّبُّ إِلَهُكَ أَمَامَكَ، وَضَرَبْتَهُمْ، فَإِنَّكَ تُحَرِّمُهُمْ. لاَ تَقْطَعْ لَهُمْ عَهْدًا، وَلاَ تُشْفِقْ عَلَيْهِمْ، وَلاَ تُصَاهِرْهُمْ. بِنْتَكَ لاَ تُعْطِ لابْنِهِ، وَبِنتْهُ لاَ تَأْخُذْ لابْنِكَ. لأّنَّهُ يَرُدُّ ابْنَكَ مِنْ وَرَائِي فَيَعْبُدُ آلِهَةً أُخْرَى، فَيَحْمَى غَضَبُ الرَّبِّ عَلَيْكُمْ وَيُهْلِكُكُمْ سَرِيعًا.
وَلكِنْ هكَذَا تَفْعَلُونَ بِهِمْ: تَهْدِمُونَ مّذَابِحَهُمْ، وَتُكَسِّرُونَ أَنْصَابَهُمْ، وَتُقَطِّعُونَ سَوَارِيهُمْ، وَتُحْرِقُونَ تَمَاثِيلَهُمْ بِالنَّارِ. لأّنَّكَ أَنْتَ شَعْبٌ مُقَدَّسٌ لِلرَّبِّ إِلهِكَ. إِيَّاكَ قَدِ اخْتَارَ الرَّبُّ إِلهُكَ لِتَكُونَ لَهُ شَعْبًا أَخَصَّ مِنْ جَمِيعِ الشُّعُوبِ الَّذِينَ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ، لَيْسَ مِنْ كَوْنِكُمْ أَكْثَرَ مِنْ سَائِرِ الشُّعُوبِ، الْتَصَقَ الرَّبُّ بِكُمْ وَاخْتَارَكُمْ، لأَنَّكُمْ أَقَلُّ مِنْ سَائِرِ الشُّعُوبِ. بَلْ مِنْ مَحَبَّةِ الرَّبِّ إِيَّكُمْ، وَحِفْظِهِ الْقَسَمَ الَّذي أَقْسَمَ لآبَائِكُمْ، أَخْرَجَكُمُ الرَّبُّ بِيَدٍ شَدِيدَةٍ وَفَدَاكُمْ مِنْ بَيْتِ الْعُبُودِيَّةِ مِنْ يَدِ فِرْعَوْنَ مَلِكِ مِصْر” (تثنية 1:7-8).
وصفوة القول، إنني من خلال تحليلي أعلاه لا أرى معضلة أخلاقيَّة في موضوع التحريم المرتبط بسياسة الحروب الذي يتحدث عنه العهد القديم. إذ علينا التمييز بين ما يعرف بمفهوم الحرب العادلة التي هي جزء من كل وطن يُقام، وبين الإبادة الجماعية التي قد ترتبط بموضوع التحريم أحيانًا.
إذن تتعلق المسألة التي أمامنا بأسلوب أدبي هو جزء لا يتجزأ من حضارة الشرق الأدنى القديم، يسطِّر هذا الأسلوب تاريخًا لاهوتيًا لتحقيق غاية معيَّنة بقصد دعم إيدولوجيَّة محددة. تُحرّم هذه الإيدولوجيَّة الزواج من أجنبيات، للحفاظ على قداسة شعب إسرائيل من الانخراط في العبادات الوثنيَّة، والممارسات الخاطئة المترافقة وتلك العبادات. ولتأكيد هذه الإيديولوجيَّة وترسيخ أهميتها في عقول الشعب، يتم، في أيام السبي وبعده، إسقاط (projection) مفهوم الإبادة الجماعيِّة على ماض سحيق وكأنَّ الأمر قد حدث فعلاً.
وكأنَّ كاتب أو محرر نصوص الإبادة الجماعية يخاطب الشعب قائلاً: “سنعود أو ها نحن قد عدنا من السبي، وسندخل مجددًا أرض كنعان، لقد سبق ودخل آباؤنا هذه الأرض، ولكن ارتباطهم بأجنبيات كان السبب في زيغانهم وسبيهم إلى أرض غريبة، ولو اقتلعوا الأجنبيات بشكل جذري لما حدثت المأساة. فلنحذر مما وقعوا فيه لئلا نقع فيه نحن، فيصيبنا ما أصابهم من ويلات وكوارث!”
[1] لأجل التوسع في موضوع التحريم، راجع، على سبيل المثال: F. Gangloff. “Joshua 6: Holy War or Extermination by Divine Command (Herem)?” Theological Review XXV/I (2004). Pp. 3-23.
[2] لا بدّ من الإشارة في هذا السياق إلى أحد المبادئ التفسيرية الأساسية لفهم الكتاب المقدس، والذي على أساسه لا نستطيع مجرد عقد مقاربة بسيطة وساذجة بين ما حدث أيام يشوع وبين ما يحدث في أيامنا. فليس كل ما ذكر في الكتاب المقدس علينا العمل به في الوقت الحاضر. إذ يتوجب علينا التمييز بين نوعين من الأمور:
1 – هناك ما ندعوه بالأمور الوصفية (descriptive)،
2 – وهناك ما ندعوه بالأمور الواجبة (normative)، الأول يتضمن وصف حوادث أو قصص لنقرأها، ونأخذ منها النواحي الإيجابية ونتمثل بها. والثاني يتضمن أمور يوصينا الله أن نقوم بها بشكل مباشر، وهي ملزمة في كل مكان وزمان. والحرب بما فيها الإبادة الجماعية تقع ضمن الأمور الوصفية، وليس الواجبة.
[3] B. Reitsma, “Who is our God?” The theological challenges of the State of Israel for Christian Arabs.” A paper presented at Near East School of Theology/Arab Baptist, Theological Seminary Forum, Spring 2004.
لقد اشتركت الهيئة الأكاديمية لكلية اللاهوت المعمدانية العربية، منصورية المتن، لبنان وكلية اللاهوت للشرق الأدنى، بيروت، في حلقة خاصة عقدت في مبنى الكلية الأخيرة، لمناقشة هذه الدراسة، وقد رد عليها الدكتور طوني معلوف، أستاذ زائر في كلية اللاهوت المعمدانية العربية والدكتور فيليب غيوم، أستاذ العهد القديم في كلية اللاهوت للشرق الأدنى.
[4] من هذه الأبحاث:
S. N. Gundry, ed., Show Them No Mercy: 4 Views on God and Canaanite Genocide (Grand Rapids: Zondervan, 2003); G. von Rad, Holy War in Ancient Israel, ed, and trans. By Marva Dawn (Grand Rapids” Eerdmans, 1991);
P. D. Stem, The Biblical Herem: A Window on Israel’s Religious Experience (BJS 211; Atlanta: Scholars, 1991); M. C. Lind, Yahweh Is a Warrior (Scottdale; Herald, 1980); S. Niditch, War in the Hebrew Bible: A Study in the Ethics of Violence (New York/Oxford: Oxford University Press. 1993).
[5] E. H. Merrill, “The Case For Moderate Discontinuity,” In S. N. Gundry, ed., Show Them No Mercy: 4 Views on God and Canaanite Genocide (Grand Rapids: Zondervan, 2003), 94.
[6] Longman III, “The Case For Spiritual Continuity.” In Gundry, Show Them, pp. 173-174.
[7] Longman III, Making Sense of the Old Testament; Three Crucial Questions (Grand Rapids; Baker, 1998), pp. 79-86. من أجل دراسة مستفيضة عن هذا الموضوع راجع T. Longman III, & D. G. Reid is a Warrior (Grand Rapids: Zondervan, 1995).
[8] Longman III, “The Case For Spiritual Continuity.” In Gundry, Show Them, p. 185.
[9] القس الدكتور نعيم عتيق، الصراع من أجل العدالة: لاهوت التحرر الفلسطيني (لا مكان نشر: دار الكلمة، 2002)، ص. 90 و93-94.
[10] القس الدكتور عيسى دياب، “المسلك الديني الأصولي وصورة الإله.” بيروت: النهار، الأحد 11 تموز 2004.
[11] M. O’Brien, “Who Needs the Old Testament?” Theological Review XXVII/I (2005), pp. 23-24.
[12] Guillaume, “The Critique of the Herem within the Old Testament.” A paper presented at Near East School of Theology/Arab Baptist Theological Seminary Forum, Spring 2004, p. 2.
[13] C. J. H. Wright. Old Testament Ethics for the People of God (Leicester: IVP, 2004), pp. 474-475.
[14] Cf. J. Drane, Introducing The Bible With CD-Rom (Minneapolis: Fortress, 2005), p.352.