نشيد الأنشاد سفر نشيد الأناشيد وثلاث طُرق لتفسيره – رياض قسيس
نشيد الأنشاد وثلاث طُرق لتفسيره – رياض قسيس
أسندوني بالتفاح..
أنا مريضة حبًا.
ها أنت جميلة ياحبيبتي
ها أنت جميلة – عيناك حمامتان من تحت نقابك.
شفتاك يا عروس تقطران شهدًا
تحت لسانك عسل…
ورائحة ثيابك كرائحة لبنان.
ما أجمل رجليك بالنعلين يا بنت الكريم…
عنقك كبرج من عاج…
أنفك كبرج لبنان الناظر تجاه دمشق
قامتك هذه شبيه بالنخلة
وثدياك بالعناقيد…
إن كتاب “نشيد الأنشاد” يعني “أفضل الأناشيد” وهو أحد الكتب الشعرية في العهد القديم، ويُنسب إلى سليمان الحكيم. إن قراءة هذا الكتاب وخاصة الآيات التي تتحدث عن وصف أعضاء الجسد (على سبيل المثال، اقرأ 4: 1-7، 5: 10-16، 6: 4-10، 7: 1-9، 10:8) تدفع الكثير من القراء العرب إلى االاستهجان والتعجب والقيام بمحاولات عدة لفهمهف وتفسيرها. فما هي أهم تلك المحاولات أو المواقف؟ هناك ثلاثة مواقف رئيسية هي:
- موقف تأويل المعاني الظاهرة: وذلك عن طريق الاعتقاد بأن هدف هذا الكتاب ليس كما يبدو للعيان من القراءة السطحية له، بل هو نبوة عن موقف المسيح وعلاقته بالكنيسة. فالعريس في نشيد الأنشاد هو المسيح والعروس هي الكنيسة.
- موقف الرفض: اعتقد البعض أن الموقف السابق هو موقف نابع من رغبة في التهرب من مواجهة الحقيقة الجلية، وأن هذا الكتاب قد سقط سهوًا ضمن بقية أسفار الكتاب المقدس وحيث أن لغته وتعابيره تقترب إلى حد الإباحية، فالوسيلة الأسلم هي بتجنبه وبالتالي رفضه.
- موقف الحيرة والارتباك: من الواضح أن هذا الكتاب لم يسقط سهوًا في الكتاب المقدس وقد قبلته الكنيسة المسيحية منذ تكوينها واعترفت بقانونيته. ومن الواضح أيضًا أنه يصعب جدًا (لا بل من المستحيل) البحث عن تأويل كلمات مثل: الشفة والسرة والبطن والثدي والعنق والأنف… لوصف الكنيسة بها.
إذن ما العمل؟ وكيف نستطيع معرفة ما يعنيه هذا الكتاب؟
من الضروري أن نستعرض ولو بإيجاز تاريخ تفسير هذا الكتاب في الدوائر اليهودية والمسيحية، وذلك قبل محاولة الإجابة على السؤال الأخير الذي يطرحه أصحاب موقف الحيرة والارتباك. برزت في تاريخ الكنيسة ثلاثة مناهج تفسيرية لكتاب نشيد الأنشاد، أستعرضها باختصار في ما يلي ثم أقومها:
المنهج الأول: التفسير المجازي الإستعاري
يتغاضى هذا النوع من التفسير عن الحقائق التاريخية، وينظر إلى معنى باطني أو محبوء للكلمات. وبالرغم من أنه لا يوجد لدينا دليل تاريخي كاف عن قدم هذا التفسير في ما يخص كتاب نشيد الأنشاد، فإن هذه الطريقة في التفسير هي الغالبة لدى مفسري اليهود قديمًا.
ففي حوالي العام 100 م دان الرابي اليهودي عقيبة كل من يفهم كتاب نشيد الأنشاد بأنه قصيدة حب بين رجل وامرأة، وكان الاعتقاد السائد عند مفسري اليهود بأنه يمثل العلاقة بين الرب وإسرإيل. فمثلاً، في شرح معنى “الثديين” علق أحد المفسرين بأنه كما أن الثديين هما زينة المرأة وجمالها، فكذلك موسى وهارون هما زينة وجمال إسرإيل!
واعتمد القديس أوريجانوس (185-254 ب. م.)، وهو أحد آباء الكنيسة، هذا المبدأ التفسيري متأثرًا التفسيري متأثرًا بالفلسفة الهلينية والفكر الأفلاطوني، وربما كان السبب في ذلك اعتقاد تلامذة الفكر الأفلاطوني والفلسفة الغنوصية بأن الأمور المادية والجسدية شرٌ ينبغي اجتنابه والابتعاد عنه إذا أردنا البلوغ في الحياة الروحية. وتبع أوريجانوس في تفسيره القديس غريغوريوس الكبير (540-604 ب. م.)، وهو راهب يتبع النظام البندكتي وقد أصبح فيما أحد بابوات روما.
في القرون الوسطى، كان كتاب نشيد الأنشاد محطًا لكتابات عديدة، ومادة خصبة للعظات والتأملات فاقت ما كُتب عن كتب أخرى من كتب العهد القديم. وكان روبرت الديوتزي (حوالي عام 1129 ميلادية) أول المفسرين الذي طبق صورة العروس في كتاب نشيد الأنشاد على العذراء المباركة القديسة مريم.
وبالرغم من محاولة المصلح الإنجيلي مارتن لوثر (1483-1546) تخطى ما وصل إليه الأقدمون، فقد اعتقد أن العريس هو صورة مجازية عن الله والمرأة صورة مجازية عن مملكة سليمان (وأحيانًا عن الكنيسة أو النفس البشرية). ودافع المصلح الإنجيلي جون كالفن (1509-1564) عن الاعتقاد بأن كتاب نشيد الأنشاد هو نبوة شعرية عن إتحاد المسيح والكنيسة. إن أسلوب لوثر وكالفن في التفسير يجمع في الحقيقة بين التفسير المجازي الإستعاري وبين التفسير الرمزي وهو التفسير الذي أتناوله الآن.
المنهج الثاني: التفسير الرمزي لنشيد الأنشاد
يختلف هذا النوع من التفسير عن التفسير المجازي الإستعاري في أنه يقر بوجود حقائق تاريخية معينة واردة في النص، ولكنه يجتهد في إيجاد موازٍ أو مكافئ لذلك في العهد الجديد. فمثلاً، كما أن آدم يمثل رأس الجنس البشري المخلص (رومية14:5). والحية النحاسية هي رمز للمسيح الذي رُفع على الصليب لنجاة العالم (يو3: 16-19). يستخدم الأخ متى بهنام مؤلف كتاب خمائل الطيب الصادر عن مكتبة كنيسة الإخوة بمصر التفسير الرمزي والتفسير المجازي الإستعاري معًا. وهو يرى أن الكتاب يشير بالأولى إلى علاقة الله بإسرإيل، ولكن بدرجة ثانية يشير إلى علاقة الله بالكنيسة المسيحية.
المنهج الثالث: التفسير الطبيعي أو الحرفي لسفر نشيد الأنشاد
بموجب هذا النوع من التفسير يتم فهم الكتاب كما يبدو بالطبيعة. فهو عبارة عن مجموعة من قصائد الحب الرقيقة التي تتحدث بصراحة ووضوح عن المشاعر العميقة والرغبات والأحاسيس الصادقة والاهتمامات والآمال والمخاوف التي تظهر بين حبيبين. وبالرغم من اتفاق أصحاب هذا التفسير عن كيفية فهم الكتاب إلا أنهم يختلفون على خلفية الكتاب أو شكله الأدبي. فيعتقد البعض أنه على شكل مسرحية.
وقد بدأ هذا الاعتقاد مع القديس أوريجانوس، واستقطب عددًا من المفسرين في القرن الماضي الذين قارب بعضًا منهم بين نمط الأعراس في القرى السورية وبين ما جاء في كتاب نشيد الأنشاد. أما البعض الآخر فيعتقد “بفرضية الراعي”، وملخصها أن شولميث تحب راعيًا فقيرًا، ويحاول سليمان الملك أن يجتذبها ويغريها بممتلكاته وهداياه، ولكنها تبقى أمينة ووفية لحبيبها الراعي.
يبدو أن أصول الفن المسرحي لا تؤيد فكرة اعتبار السفر على أنه مسرحية، لأننا نجد فيه الحوارات الطويلة، والنقص الواضح في تطور الشخصيات، والضعف في الحلكة المسرحية، كما أن عناصر شد انتباه القارئ أو المشاهد ليست قوية.
أما “فرضية الراعي” فهي غير مقبولة عمومًا، ولكن لها مؤيداتها فسليمان لم يكن مثالاً للزواج المثالي (كان له 700 امرأة و300 جارية، انظر سفر الملوك الأول 11)! هذه الفرضية يعتمدها مفسر كتاب نشيد الأنشاد في التفسير الحديث للكتاب المقدس والذي يصدر على أجزاء متتالية عن دار الثقافة بالقاهرة.
لم يكن التفسير الطبيعي باديًا بصورة واضحة في تاريخ الكنيسة، ولكن كانت هنالك بعض الأصوات التي دعت إليه. فقد اعترض ثيودور، أحد أساقفة كيليكية (392-428) على طريقة أوريجانوس في التفسير، واعتقد أن السفر هو عبارة عن قصيدة حب كتبها سليمان ردًا على اعتراض البعض على زواجه من امرأة سوداء البشرة. وقد أُدين ثيودور في المجمع الثاني الذي عُقد في القسطنطسنية عام 553م، لاعتقاده بأنه لا مكان لهذا الكتاب بين كتب الكتاب المقدس.
وفي تاريخ التفسير اليهودي للسفر كانت محاولات لتجاوز التفسير المجازي الاستعاري ولو بصورة جزئية أمثال محاولة موسى بن ميمون (1135-1204) واسحق أبربنل (1437-1508)، وإن لم تلقيا النجاح. وفي القرن السادس عشر دافع أراسمس عن رأي ثيودور. وشهدت القرون التالية للإصلاح نزعة نحو التفسير الحرفي للسفر. ومن هؤلاء المفسرين أذكر على سبيل المثال، هيجو كروتيوس وبوسيت ولوث وكارل بودي.
تقويم للمبادئ التفسيرية لنشيد الأنشاد
من مخاطر منهج التفسير المجازي الإستعاري هو عدم وجود قاعدة محددة وضوابط معينة ليتم التفسير على أساسها. فما يفسره عمرو من الناس، قد يختلف إختلافًا كليًا عما يراه زيد. وبذلك فإن المعنى الحقيقي لنص كلمة الله يكاد يفقد بين اجتهادات المفسرين.
وليس منهج التفسير الرمزي بمنجاة من هذه المخاطر. ولا ينبغي الاعتقاد بأنه لدينا الحرية أن نفسر رموز العهد القديم كما نشاء. إن ضوابط هذا التفسير ينبغي أن تكون حسب العهد الجديد. فإذا كان العهد الجديد يسمح لنا بفهم صورة ما أو تعبير ما في العهد القديم على أنه رمز ويقدم لنا بعض الإرشادات الواضحة لمعرفة المرموز إليه، فعندئذٍ يجوز لنا أن نجد المرموز إليه في العهد الجديد. ولكننا لا نملك الحق باكتشاف ما نريد من الرموز.
لقد أشرت في بداية حديثي إلى اقتباس من كتاب الأستاذ جود أبو صوان، وأعتقد هنا أن أولئك الرهبان فهموا بحق معنى نشيد الأنشاد! وعليه يبدو لي أن التفسير الطبيعي، أي فهم النص كما هو بحسب الظروف التاريخية التي كتب بها ووقائع الأحداث المترافقة واللغة التي كتب بها، هو أفضل الطرق وأكثرها أمانة وأمانًا.
وهنا قد يظهر الاعتراض: “هل تعني أن كتاب نشيد الأنشاد يتحدث عن علاقة حب ويصف المحاسن الجسدية للمرأة؟ حاشا، أن يكون ذلك وأن يدون ذلك في الكتاب المقدس”.
مهلاً، يا صديقي واسمح لي أن أوجه لك بعض الأسئلة، والتي أتوقع منك جوابًا إيجابيًا عليها:
- هل يهتم الله بكل نواحي حياتنا من روحية وجسدية ونفسية وعاطفية؟
- ألم يخلق الله أجسادنا وقال عن خليقته أنها حسنة جدًا؟
- ألا يعلم الكتاب المقدس بضرورة المحبة الصادقة الطاهرة بين الزوجين؟
- ألا ينبغي على الزوجين استخدام تعابير شاعرية رقيقة لوصف محبتهما لبعضهما البعض؟
- هل حاولت مرة كتابة قصيدة أو قراءة قصيدة حب لزوجتك، ولم يكن ردها إلا إيجابيًا؟
إن أول قصيدة حب كُتبت في العالم كانت عندما قال آدم لحواء: “هذه المرأة هي عظم من عظامي ولحم من لحمي…” (تكوين23:2)، أطربت هذه الكلمات أذني حواء فكان العرس السعيد الأول في أول كتاب من الكتاب المقدس! ويُختتم الكتاب المقدس بعرس سعيد آخر في كتاب الرؤيا (الفصل 22). وبين أول عرس وآخر عرس يضم الكتاب المقدس بين صفحاته المبادئ التالية:
- أجسادنا هي عطية الله لنا فلا ينبغي احتقارها ولا إذلالها ولا ترك العنان لشهواتها.
- الجنس عطية الله للإنسان للشركة وللتكاثر وللمتعة. فهو ليس شر في حد ذاته وإن نتج الشر عن سوء استخدامه.
- لقد وضع الله بحكمته ولصالح الجنس البشري شريعة الزواج وحددها بالارتباط بين رجل واحد وامرأة واحدة مدى الحياة. وضمن إطار هذه العلاقة الزوجية يتم التمتع بالعلاقة الجنسية التي تشكل فيها عبارات الحب، مثل تلك الموجودة في سفر نشيد الأناشيد، أساسًا لا غنى عنه.
وكأني بكتاب نشيد الأنشاد يقول لنا:
“أيها الشباب والشابات إن ممارسة الجنس والحب الشديد إلى حد الهيام هي ضمن إطار الزواج”.
“أيها الأزواج والزوجات أحبوا بعضكم بكل ما في قوة في المحبة. لأن المحبة قوية كالموت ومياه كثيرة لا تستطيع أن تطفئ المحبة والسيول لا تغمرها” (نشيد الأناشيد 8: 6 و7).
“أيها الأزواج والزوجات (وخاصة الأزواج)، عبروا عن هذه المحبة بالكلام وأنا أمنحكم الحق باستعمال كلماتي كدليل لكم وتوقعوا النتائج الرائعة في حياتكم الزوجية”.
“أيها الرعاة والوعاظ والكهنة هل أصلح لوعظكم في الأعراس وفي مشورتكم للمتزوجين حديثًا وقديمًا؟”
يخبرنا تاريخ الأدب العربي بأن المعلقات كانت تكتب بماء الذهب، ويستحق سفر نشيد الأناشيد أن يكى قلوبنا. يقع كتاب نشيد الأنشاد في قلب الكتاب المقدس. ومن موقعه “القلبي” فإنه يخاطب القلوب المحتاجة إلى حب، ويهدف إلى جمع قلبين في عهدٍ من المحبة الصادقة والطاهرة، ويتوق إلى أن تضرم نار الحب بين كل زوجين، في زمن كاد حطب هذه النار أن يصبح من القطع النادر!
ترتيب التجربة على الجبل ردًا على أبي عمر الباحث – الجزء الثاني – عندما يحتكم الباحث إلى الشيطان