أليشع والدببة – الله الذي يرسل الدببة لقتل الأطفال؟!
“ثُمَّ ارْتَحَلَ (أليشع) مِنْ هُنَاكَ إِلَى بَيْتِ إِيلَ، وَفِيمَا هُوَ سَائِرٌ فِي طَرِيقِهِ خَرَجَ بَعْضُ الْفِتْيَانِ الصِّغَارِ مِنَ الْمَدِينَةِ وَشَرَعُوا يَسْخَرُونَ مِنْهُ قَائِلِينَ: “اصْعَدْ (فِي الْعَاصِفَةِ) يَا أَقْرَعُ!” فَالْتَفَتَ وَرَاءَهُ وَتَفَرَّسَ فِيهِمْ، ثُمَّ دّعّا عَلَيْهِمْ بِاسْمِ الرَّبِّ. فَخَرَجَتْ دُبَّتَانِ مِنَ الْغَابَةِ وَالْتَهَمَتَا مِنْهُمُ اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ فَتىً. وَانْطَلَقَ مِنْ هُنَاكَ إِلَى جَبَلِ الْكَرْمَلِ وَمِنْهُ رَجَعَ إِلَى السَّامِرَةِ.” (الملوك الثاني2: 23-25، الترجمة التفسيريَّة).
من أجل فهم صحيح لهذه الحادثة، أود أن أطرح مجموعة من الأسئلة وإلقاء الضوء عليها في السياق اللغوي والحضاري والتاريخي واللاهوتي للمقطع المشار إليه.
من هو هذا النبي الغاضب أليشع؟
إنه أليشع النبي الذي كان خلفًا للنبي إيليا (المعروف في الكثير من قرى الشرق الأوسط بمار إلياس الحي). امتدت خدمة أليشع في عهود الملوك يهورام وياهو ويهوآحاز ويوآش. وبحسب التقليد الكتابي فقد صعد إيليا حيًّا إلى السماء حوالي العام 860 ق. م.، وتوفي أليشع حوالي العام 795 ق. م. وبدراسة التسلسل التاريخي لحياة أليشع نستطيع أن نقدّر عمر أليشع عندما حدثت الحادثة المشار إليها أعلاه بحوالي 25 عامًا.
إذن كان أليشع في ريعان شبابه، وفي بداية خدمته بعد أن فارقه معلمه ومرشده النبي إيليا. لقد كان بحاجة إلى ما يؤيد ويدعم خدمته ليتمكن من القيام بمهمته النبويَّة وسط شعب عاص وقاس.
من هم هؤلاء “الفتيان الصغار”؟
إن قول البعض أن النبي أليشع تعرَّض لمجموعة من الأطفال الصغار هو أمر لا يتوافق مع قراءة دقيقة للنص. فالعبارة المترجمة إلى العربيَّة “الفتيان الصغار” (الترجمة التفسيريَّة) أو “الصبيان الصغار” (فاندايك – البستاني – سميث)، لا تفيد في أصلها العبري أولادًا صغارًا بين السادسة والعاشرة من العمر، بل تشير إلى فتيان بين الثانية عشرة والثلاثين سنة (راجع تكوين12:22، 1ملوك20: 14-15). لقد تعرض أليشع إلى مجموعة من الشبان عددها قد لا يقل عن خمسين شابًا. لقد كانت هذه المجموعة مصدر تهديد لحياة النبي، ومسيئة إلى الخدمة التي أوكله الله بها.
ماذا كانت تريد هذه المجموعة من أليشع؟
إن قراءة سطحيَّة للنص الكتابي تجعلنا نتساءل ونسأل: ما هو الجرم الذي اقترفه الشبان بحق أليشع ليحل بهم ما حل؟ وهل في عباراتهم إلا ما نسمعه من استهزاء وسخرية بين حين وآخر في شوارع مدننا وقرانا فنغض الطرف عنه؟ ولكن دراسة أعمق للنص ترينا أن عبارات هؤلاء الشبان كانت عميقة وهادفة إلى أبعد مما تبدو للوهلة الأولى.
كان الشبان يقولون: “اصعد”. إن هذه الكلمة بالذات استخدمت في الفصل السابق لتصف صعود إيليا إلى السماء (1:2 و11). وكأنهم كانوا يقولون: “هيا يا أقرع! اتبع سيدك الذي صعد قبلاً. هيا اصعد كما صعد هو. أرحنا منك ومن تعاليمك. اغرب عن وجوهنا. إننا لا نريدك!”
ولماذا كانوا يصفون أليشع بأنه “أقرع”؟ كانت الشعوب الوثنيَّة قديمًا تمارس عادة حلاقة الشعر، وقد حُرّم على الإسرائيليين إتباع هذه الممارسة (لاويين5:21، تثنية1:14). إذن فليس من المعقول أن يكون أليشع قد حلق شعره وخالف هذه الوصيَّة الصريحة. ولكن قد يقول قائل ربما كان أليشع أقرعًا بالطبيعة. هذا الأمر غير محتمل لعدة أسباب.
أولاً، كان أليشع في ريعان الشباب كما أسلفنا.
ثانيًا، كانت عادة الأنبياء تغطية رؤوسهم، وبالتالي لا يظهر في ما إذا كانوا قرعانًا أم لا.
ثالثًا، وهو الأهم استخدمت كلمة “أقرع” قديمًا ككلمة استهزاء واحتقار وسباب، وليس بالضرورة لتصف خلو الرأس من الشعر. وتشير موسوعة الكتاب المقدس أن هذه الكلمة استخدمت في هذه الحادثة بصورة مجازيَّة، أي ككلمة سباب على أليشع. فالأمر ليس مجرد تعيير بالقرع بل إهانة واحتقار هادفين.
لماذا غضب أليشع النبي؟
غضب أليشع للأسباب التالية:
أولاً، كانت حياته مهددة بالخطر. مجموعة كبيرة غاضبة من الشبان تسخر منه، وتكيل له السباب. من يدري ماذا سوف يحدث بعد قليل؟ هل يضربونه بالعصي؟ هل يطرحونه أرضًا؟ هل يرمونه بالحجارة؟ ويجدر بالملاحظة في هذا السياق، أنه في إحدى المخطوطات اليونانيَّة للعهد القديم Lucianic Recessions of LXX وردت عبارة “ورجموه بالحجارة” وفي هذا إشارة إلى توقع أحد النساخ قديمًا لما كان متوقعًا أن يحدث لأليشع من قبل الشبان.
ثانيًا، إن إهانة أليشع لم تكن مجرد إهانة شخصيَّة، بل كانت إهانة موجهة ضد الله (لاويين24: 10-16، تثنية19:18). فمعارضة النبي وخدمته هي بمثابة معارضة لله ومقاصده. ويشير القديس أوغسطينوس في تعليقه على هذه الحادثة أن أهالي المدينة كانوا وراء أولادهم في مقاومة نبي الله أليشع.
ثالثًا، إن أليشع لم يطلب من الله إرسال الدبتين للدفاع عنه. لقد نظر إلى الشبان ولعنهم. وكلمة “لعنة” في اللغة العبريَّة مشتقة من الفعل “قلّل”، أي أنه طلب من الله أن يقلل شأنهم. إن الذي يكرم أنبياء الله يكرمه الله، ومن يقلل من شأنهم يقلل الله من شأنه. وكانت النتيجة أن الله قلّل من شأن الشبان. فقد خرجت دبتان من الوعر… إن خروج الدبتين كان بتدبير إلهي لحماية النبي أليشع وللدفاع عنه، وهو ما يزال في بداية مهمته الموكولة إليه من قبل الله. ولكن هل يستحق الأمر خروج الدببة لتفتك بالشبان؟
وردًا على هذا السؤال أورد هذه الملاحظات الثلاث:
أولاً، يعتقد بعض المفسرين أن كلمة “افترستا” لا تعني بالضرورة الموت كليَّة، بل قد تشير إلى هجوم الدبتين على الشبان بقصد تفريقهم وتخويفهم عن طريق العض والنهش. وقد ترجمت الكلمة بالإنجليزيَّة إلى mauled وهي لا تعني القتل.
ثانيًا، إن الآية 42 التي تشير إلى عدد الشبّان لا يجب أن تُفهم حرفيًّا على أنها تشير إلى عدد محدَّد ودقيق، بل تشير إلى عدد تقريبي. وما يؤيد ذلك استخدام هذا الأسلوب الأدبي التعبيري في العهد القديم (الملوك الثاني14:10، رؤيا2:11،5:13)، وفي بعض الكتابات اليهوديَّة (b. Sota 47a).
ثالثًا، لم يتصرف الله بخلاف ما أعلنه في شريعته. إن الشريعة قضت بالعقاب الصارم – بواسطة الوحوش – لكل من لا يطيع صوت الرب: “وإن سلكتم معي بالخلاف ولم تشاءوا أن تسمعوا لي أزيد عليكم الضربات سبعة أضعاف حسب خطاياكم. أطلق عليكم وحوش البريَّة فتعدمكم الأولاد وتقرض بهائمكم وتقللكم فتوحش طرقكم” (لاويين26: 21-22).
كانت هذه الحادثة، التي ربما ذهب ضحيتها عدد من الشبان، بمثابة تحذير وتنبيه وتذكير للشعب في حال عدم طاعته وازدرائه بالله وبأنبيائه. إن دينونة مرعبة تنتظر من يفعل ذلك. فهل اتعظ الشعب آنذاك؟ يبدو أن الملك يهورام بن آخاب عامل أليشع باحترام بعد هذه الحادثة (الملوك الثاني3: 11-13)، ولكن يخبرنا السجل التاريخي أن الشعب ككل لم يتعظ، فكان لا بد من دينونة أقصي وعقاب أمر. وهذا ما حدث فعلاً عندما هجم الأشوريين عام 722 ق. م. وسبوا الشعب.
ويخبرنا التاريخ أن الأشوريين كانوا أشد شراسة بما لا يقاس من الدبتين: “فكانوا (الشعب ورؤساء الكهنة) يهزأون برسل الله ورذلوا كلامه وتهاونوا بأنبيائه (تمامًا كما فعلوا بأليشع) حتى ثار غضب الرب على شعبه حتى لم يكن شفاء. فأصعد عليهم ملك الكلدانيين فقتل مختاريهم بالسيف في بيت مقدسهم. ولم يشفق على فتى أو عذراء ولا على شيخ أو أشيب بل دفع الجميع ليده” (الأخبار الثاني36: 16-17).
لم يتعظوا فكان العقاب الموعود به!