شهادة أسفار العهد الجديد للمسيح
العبادة الأسمى، شهادة أسفار العهد الجديد للمسيح
لقد رأينا الأناجيل تصوّر يسوع بوضوح على أنه أكثر من مجرد إنسان، بل على إنه إله بالحق وهذا البرهان يمكنه أن يحسم هذه القضية لصالح إلوهية يسوع، ولكن قد يجادل بعض الناس بأن التلاميذ قد صدموا بجلال وهيبة يسوع وبمعجزاته وأنهم بالغوا في وصفهم له، أو أن الأناجيل هي كتابات متأخرة وليس لها مصداقية تاريخية. غير أننا قد أجبنا بالفعل على هذه الاتهامات.
لذا فإننا في هذا الفصل سوف نأخذ مساراً مختلفاً، فسوف نعمل على فحص ما تقوله بقية كتابات العهد الجديد عن يسوع، ونبدأ بعدو سابق للإنجيل، وهو الرجل الذي انتهى به الأمر إلى أن يكتب حوالي نصف أسفار العهد الجديد العهد الجديد
الرسول بولس
لم يكن بولس واحداً من الاثنى عشر تلميذاً، فهو لم يجلس أبداً عند قدمي يسوع، كما لم يشهد أية معجزة أجراها، بل أنه حتى لم يلتقِ به في الجسد. وعندما بدأت الحركة المسيحية، كان بولس (أو شاول) يقاومها بضراوة. فقد كان، كما يعبّر هو عن ذلك، (عبراني من العبرانيين، من جهة الناموس فريسي من جهة الغيرة مضطهد الكنيسة) (في3: 5-6 ).
فما السبب الذي لأجله كان بولس شديد العداء لهذه الطائفة الجديدة المعروفة بإسم (المسيحيين)؟ كان الرسل يعلنون أن الله قد أقام يسوع من الأموات. ولكن بولس الذي قد تدرّب بصرامة على يد المعلم العظيم غمالائيل كان يعرف الكتب المقدسة. كان يعرف لعنة سفر التثنية: (ملعون كل من علّق على خشبة) (تث21: 23).
فلو كان يسوع قد أقيم من الأموات، لكانت الكتب المقدسة على خطأ، إذ كيف يمكن لله أن يبارك إنساناً بأن يقيمه من الأموات لو كان قد سبق ولعنه بأن علّقه على خشبة؟ كانت هذه هي المعضلة التي كان المسيحيون الأوائل يحتاجون أن يجيبوا عليها، وهي ما دفعت بولس الفريسي لاضطهادهم.
لكن في طريقه إلى دمشق لكي يمسك بالمزيد من أتباع هذه الطائفة الجديدة، تعرّض بولس لاختبار مميز لقد التقى بالمسيح المقام الذي صعد، وعندما سأله الصوت السماوي (شاول شاول لماذا تضطهدني؟) (أع9: 4).
ذهل بولس، ولا بد أنه فكّر في نفسه قائلاً، من هذا الذي يمكنه أن يفكر أنني اضطهده؟ إنني أعمل مشيئة الله بأن أقوم بالإمساك بهؤلاء الهراطقة ووضعهم في السجن! لذلك فقد سأل، (من أنت يا سيد؟) فأجابه الصوت السماوي بإجابة غيرت وجه التاريخ: (أنا يسوع الذي أنت تضطهده) (عدد5). لقد علم بولس الآن أمرين:
أولاً: أن اضطهاد الكنيسة كان في النهاية هو اضطهاد لمن يسكن السماء، ليسوع نفسه.
ثانياً: لقد علم أن يسوع حي! أصبح بولس الآن يعاني من الصراع، فهو كيهودي تقي، يؤمن بالكتب المقدسة في العهد القديم، فلعنة سفر التثنية لابد أن تكون حقيقية. ولكن تجربته في الطريق إلى دمشق لم يكن من الممكن إنكارها.{1} فبعد هذا اللقاء كان حل بولس لهذا اللغز هو المفتاح للكشف عن هوية يسوع المسيح. لقد أدرك سريعاً أن يسوع لا يمكن أن يكون قد لُعِن بسبب خطاياه هو الشخصية؛ وإلا لكان لا يزال في القبر.
نعم لقد لعنه الله_لعنة لأجل الخطايا، ولكن تلك الخطايا لم تكن خطاياه هو. بمجيء زمن كتابة الرسول بولس لرسالته الأولى، التي كتبت إلى كنائس غلاطية، حوالي عام 49، كان بولس قد توصّل بالفعل إلى هذا الاقتناع. فهو يشير في (غلاطية3: 13) إلى أن (المسيح إفتدانا من لعنة الناموس إذ صار لعنة لأجلنا لأنه مكتوب ملعون كل من علّق على خشبةٍ). كان هذا تعبيراً عن الكفارة البديلة، بأن يُقدّم شخص كامل بلا خطية كذبيحة نيابة عنا.
وعلى سبيل التعريف، إن كان المسيح بلا خطية، إذاً فهو لم يكن إنساناً عادياً، فهو ليس (مجرد بشر). لم يغير بولس مطلقاً ذلك التقييم للمسيح، وعلى مدى السنوات التالية، كتب كثيراً عن موت المسيح بدلاً عنا.
ولكنه لم يكن فقط يحاكي ما تقوله الأناجيل، وهذا لأن بعضاً من رسائله تمت كتابتها قبل أن يدوّن أي من المبشرين الأربعة إنجيله. وحيث أن بولس مات حوالي عام 64، فإن جميع رسائله كتبت في خلال ثلاثة عقود أو أكثر قليلاً من زمن حياة يسوع على الأرض. ورغم أن بولس لم يعرف يسوع في الجسد، إلا أن التجربة المفاجئة لبولس في الطريق إلى دمشق قد جاءت به وجهاً لوجه لكي يتقابل مع الرب المقام.
إذن بحسب كلام بولس، من هو المسيح بالتحديد؟ يخبرنا الرسول بولس عن ذلك في عدة أماكن، ولكننا سنتعامل هنا مع ثلاثة منها فقط. المقطع الأول هو (رومية10: 9-13)، عندما يناقش بولس الإيمان الخلاصي: (لأنك إن اعترفت بفمك بالرب يسوع وآمنت بقلبك أن الله أقامه من الأموات خلصت. لأن القلب يؤمن به للبر والفم يعترف به للخلاص. لأن الكتاب يقول كل من يؤمن به لا يخزى لأنه لا فرق بين اليهودي واليوناني لأن رباً واحداً للجميع غنياً لجميع الذين يدعون به.
لأن كل من يدعو بإسم الرب يخلص). في (رومية10: 9)، نجد إسناداً واضحاً وصريحاً للقب (الرب) ليسوع. فماذا يعني بولس بذلك؟ لاحظ أنه في هذا المقطع يبدأ نقاشه بالاعتراف بالمسيح، ثم يستمر قائلاً : (كل من يؤمن بهِ لا يخزى). إن موضوع الإيمان (أي به) لا يزال هو المسيح.(2) وفي العدد 12، يذكر بولس مرة أخرى لقب (الرب) : (لأنه لا فرق بين اليهودي واليوناني لأن رباً واحداً للجميع).
فالرب في عدد9 (الرب يسوع) هو نفسه (به) في عدد11 (كل من يؤمن به لا يخزى). وهو أيضاً (الرب) الموجود في عدد12 (لأن رباً واحداً للجميع). وأخيراً، يلخّص بولس نقاشه بالاقتباس من (يوئيل2: 32): (لأن كل من يدعو بإسم الرب يخلص). في النص العبري في يوئيل، نجد أن كلمة (الرب) هي يهوه. وهكذا فإن هناك اتصال بين عدد9 وعدد13؛ فنرى (رباً واحداً)، ثم يسوع المسيح، ثم يهوه نفسه.
وهنا نرى بولس يدلي بإعتراف مذهل: فالاعتراف بأن المسيح رب يعني الاعتراف بأن المسيح إله. وبذلك يكون هذا تعريفاً صريحاً ليسوع بأنه إله إسرائيل.(3) المقطع الثاني يوجد في رسالة بولس إلى أهل فيلبي. ففي (فيلبي2: 6-11)، نقرأ نصاً يمكن أن يكون جزءاً من ترنيمة قديمة تم دمجها في رسالة بولس.(4) (الذي إذ كان في صورة الله لم يحسب خلسة أن يكون معادلاً لله لكنه أخلى نفسه آخذاً صورة عبد صائراً في شبه الناس.
وإذ وجد في الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب. لذلك رفّعه الله أيضاً وأعطاه اسماً فوق كل إسم لكي تجثو بإسم يسوع كل ركبةٍ ممن في السماء ومن على الارضِ ومن تحت الأرض ويعترف كل لسان أن يسوع هو رب لمجد الله الآب). تظهر في هذا المقطع العديد من الموضوعات المهمة، ولكننا سنتناول ثلاثة منها فقط. الأول، أن المسيح كان موجوداً (في صورة الله).
عندما نفكر اليوم في لفظ (صورة) فإننا غالباً ما نفكر في صور تفتقد إلى الجوهر، مثل أن نقول (إنها جميلة من الخارج، ولكن قلبها قاسٍ). أو (أن شخصيته ليس لها عمق، فهو إنسان هش). فالصورة بالنسبة لنا، تعني شيئاً لا يتفق مع الحقيقة والواقع. ولكن ليس هذا هو معنى الكلمة في هذا النص.
لاحظ أيضاً التوازي والتشابه بين (في صورة الله) وبين (آخذاً صورة عبد). إن نفس الكلمة اليونانية التي تعني صورة (morphe) تستخدم في الحالتين.(5) وهنا يقارن بولس بين حالة يسوع السماوية في الوجود، التي فيها كان له (صورة الله)، وحالته الأرضية في الوجود، والتي فيها كان له (صورة عبد). فلم يكن يسوه مجرد إنسان منحه أتباعه فيما بعد إكراماً إلهياً. بل على العكس، يقول بولس إن يسوع كان إقنوماً إلهياً، موجوداً في صورة الله، ولكنه (أخلى نفسه) بأن أصبح إنساناً لكي يحقق لنا الخلاص.
إن ما يشير إليه بولس هنا يشبه عبارة يسوع في (مرقس10: 45)، (لآن أبن الإنسان أيضاً لم يأتِ ليُخدَم بل ليخدِم وليبذل نفسه فدية عن كثيرين.) وهكذا فإن كان يسوع عبداً حقاً على الأرض، فلابد أنه كان إلهاً في السماء، والمعنى القاموسي الأصلي لكلمة (morphe) يفترض هذا أيضاً.
بالرغم من أن المعنى المحدد لما كان بولس يقصده بهذه الكلمة قد تعرض لجدل ونقاش محتدم، إلا أنه من الأسلم أن نقول إنه يشير إلى الصورة التي تتفق بالكامل وبدقة مع الكيان الذي تشير إليه.(6) فإذا فكرنا في لفظ (صورة) على أنه طبق الأصل فإن هذا يعطينا فكرة جيدة عما يعنيه ذلك هنا. وهكذا فإن بولس يوضح هنا بإختصار كلاً من ألوهية المسيح وبشريته (صورة الله….. آخذاً صورة عبد).
أما الأمر المهم الثاني فهو موضوع العبادة العالمية الشاملة التي لابد وأن تقدم للمسيح: (لكي تجثو بإسم يسوع كل ركبة… ويعترف كل لسان أن يسوع المسيح هو رب.) وفي هذا التأكيد نجد رابطة فكرية بسفر (الخروج20: 4-5) وهي الوصية الثانية التي تمنع بوضوح تقديم أية عبادة إلا للرب (يهوه)، إله إسرائيل. في فيلبي2، يتلقى يسوع ليس فقط العبادة، ولكن نفس نوعية العبادة التي تقصرها الوصية الثانية على الله نفسه. لاحظ التشابه بين (خروج20: 4) وبين (فيلبي2: 10).
(خروج20: 4) “لا تصنع لكَ تمثالاً منحوتاً ولا صورة ما مما في السماء من فوق وما في الأرض من تحت وما في الماء من تحت الأرض”
(فيلبي2: 10) “لكي تجثو بإسم يسوع كل ركبةٍ ممن في السماء ومن على الأرض ومن تحت الأرض”
فمن ناحية ما، توظّف ترنيمة فيلبي تعبيرات لغوية أكثر قوة ووضوحاَ مما في سفر الخروج. والوصية هنا بعدم صنع (تمثال منحوت) بمعنى ألا يتم صنع مثل هذا التمثال لكي تتم عبادته. أما في فيلبي، فإننا نرى يسوع بوضوح أنه هو موضوع العبادة_وليس فقط للبعض، بل لكل الناس.
فما لا يمكن تصوره هو أن تنسى الكنيسة الأولى، التي كانت تتكون من اليهود فقط في البداية، هذه الوصية الثانية. وبلا شك أن الكنيسة حقاً لم تنسَ، ولكنها بدلاً من ذلك قامت بدمجها واستخدامها كترنيمة للمسيح. أي بمعنى آخر، ليس هذا هو نوع الكلام الذي يمكن أن يقال عن مجرد إنسان عادي.
ثالثاً: ليس (خروج20) فقط هو الخلفية لهذه الترنيمة، ولكن (إشعياء45: 23) يعتبر كذلك أيضاً.(7) فهنا يعلن الله قائلاً: (بذاتي أقسمت خرج من فمي الصدق كلمة لا ترجع إنه لي تجثو كل ركبةٍ يحلفُ كل لسان). في هذا المقطع، “يعلن تفرد إله إسرائيل ويتم الترحيب بنصرته الشاملة”.
فالرب، الذي قد أعلن بالفعل أنه لن يشارك إسمه أو مجده مع آخر، يحلف ويقسم بذاته (أنه تجثو لي كل ركبة يحلف كل لسان). (8) في مكان سابق من رسالته إلى أهل رومية، يستخدم بولس نفس هذا المقطع لكي يشير إلى الله (رو14: 11). فقد كان يعرف قرينة العهد القديم، أن الله، والله وحده هو الذي في هذا المشهد. وبالتالي، فإن تطبيق بولس للنص الموجود في (إشعياء45: 23) على المسيح ليس سهواً أو عن غير قصد؛ بل هو معتمد.
وقصده هو أن يظهر أن يسوع المسيح هو الله نفسه وأنه يجب أن تقدّم له العبادة على أنه كذلك. إن استخدام كُتّاب العهد الجديد لنصوص العهد القديم التي تتحدث بوضوح عن يهوه ليس تعجرفاً أو من قبيل المصادفة، بل أن استخدام مثل هذه النصوص للإشارة إلى يسوع المسيح يحدث مرات عديدة وفي سياقات متنوعة بحيث أن القصد منه لا يمكن أن يكون فيه أي لبس أو سوء فهم.
المقطع الثالث لبولس هو (كولوسي1: 15-20)، والمحتمل أنه كان ترنيمة أخرى قديمة عن المسيح.(9) (الذي هو صورة الله غير المنظور بكر كل خليقة. فإنه فيه خلق الكل ما في السماوات وما على الأرض ما يُرى وما لا يُرى سواء كان عروشاً أم سيادات أم رياسات أم سلاطين. الكل به وله قد خُلق. الذي هو قبل كل شيء وفيه يقوم الكل وهو رأس جسد الكنيسة.
الذي هو البداية بكر من الأموات لكي يكون هو متقدماً في كل شيء لأنه فيه سرّ أن يحل كل الملأ وأن يصالح به الكل لنفسه عاملاً الصلح بدم صليبه بواسطته سواء كان ما على الأرض أم في السماوات). لاحظ أنه في العددين16-17، يركز بولس على دور المسيح كخالق: (فإنه فيه خلق الكل ما في السماوات وما على الأرض).
ولكي يضمن الرسول بولس ألا يُخطئ القارئ ما يقصد، فإنه يقوم أولاً بتعريف ما تشمله كلمة (الكل)، فهي تشمل ما يُرى وما لا يُرى، سواء كان عروشاً أم سيادات أم رياسات أم سلاطين). فالملاحظ أن اللغة المُستخدمة هنا لا تركز على الأمور الدنيوية أو على الأمور الدنيا في الحياة، ولكن على أعظم الملوك والرياسات سواء على الأرض أم في السماء_ العروش والسيادات والسلاطين_ فالمسيح هو رب وسيد عليهم.
ثم يقوم بولس بعد ذلك بتعريف من أية ناحية يكون المسيح هو الخالق والحاكم المُتسلّط على كل الكون: (الكل به وله قد خلق، الذي هو قبل كل شيء وفيه يقوم الكل). كما أشار ريتشارد بوكام، أنه في الكتابات اليهودية في ذلك الوقت، كان ما يميز إله الكتاب المقدّس هو أنه (هو وحده خالق كل الأشياء وهو الحاكم والمتسلّط الوحيد على كل شيء). (10)
ولكي يستطيع المسيحيون الأوائل أن يُرّنموا للمسيح، على أنه بدرجة ما خالق وحاكم، فهذا كان يضعه على الأقل في نفس مكانة يهوه. ورغم أن هناك جدلاً بشأن دور المسيح بالتحديد في الخليقة، إلا أن الحدود التقليدية الصارمة لليهود فيما يخص الله كانت ترتبك عندما يدخل المسيح إلى المشهد.
وبالطبع فإنه من المستحيل بالنسبة للتعبيرات المستخدمة في (كولوسي1: 15-20) أن تصف مجرد إنسان بشري، فالبشر لا يخلقون الكون أو يحفظونه. يمكننا أن نذكر العديد من المقاطع الأخرى من رسائل بولس، ولكن الثلاثة مقاطع التي فحصناها كافية لإظهار أن الرسول بولس قد اعتنق عن وعي وعن قصد الإيمان بألوهية المسيح. (11)
كاتب الرسالة إلى العبرانيين
في (عبرانيين 1)، يقدّم الكاتب12 عرضاً لتفوق المسيح. أولاً يتفوق المسيح على أي نبي (العددان 2،1). هذه المناورة الافتتاحية تثبت بما لا يدع مجالاً للشك كيف أنه من غير المقبول أن نفكّر أن الكنيسة تؤمن بيسوع على أنه مجرد إنسان فقط، أو مجرد نبي.
ومثلما تحدّث بولس في الرسالة إلى أهل كولوسي، يتحدّث كاتب سفر العبرانيين عن المسيح على أنه الخالق والحافظ لكل الأشياء في نفس الوقت: فهو الشخص الذي ” جعله (الله) وارثاً لكل شيء الذي به أيضاً عمل العالمين الذي وهو بهاء مجده ورسم جوهره وحامل كل الأشياء بكلمة قدرته” (العددان 2-3). والآن إن كان المسيح في هذه المكانة السامية، يمكن للمرء أن يصل بحق إلى خلاصة مفادها أن يسوع أسمى حتى من الملائكة.
وفي أفضل تعاليم اليهودية التوحيدية، يرفض المؤلف أن يسمح للملائكة بأن تشارك الله الفضل في خلق أو حكم الكون. وهكذا فإن المفهوم السابق يتضمنه (العددان2-3)؛ والمفهوم اللاحق يوضّحه في (العددان 6-8): (وأيضاً متى أدخل البكر إلى العالم يقول ولتسجد له كل ملائكة الله. وعن الملائكة يقول الصانع ملائكته رياحاً وخدّامه لهيب نار. وأما عن الابن كرسيك يا الله إلى دهر الدهور قضيب استقامة قضيب ملكك).
ثمة تناقض واضح هنا بين الملائكة وبين المسيح. فوصف الملائكة في (عبرانيين1: 6-7) يتحدث عن دورهم كرعايا (في عبادة الله ـــ أو في هذا السياق، عبادة المسيح) وعن كيانهم الأدنى ( “الصانع ملائكته… لهيب نار” ). ولكن وصف المسيح هو على العكس من ذلك: فهو الشخص الذي تتم عبادته، والذي ملكه إلى الأبد. في الحقيقة أن كاتب الرسالة يذهب إلى مدى بعيد للغاية إذ يعرّف المسيح بوضوح بأنه الله: (كرسيك يا الله إلى دهر الدهور).
(13) يستمر كاتب الرسالة إلى العبرانيين في تأكيداته على رفعة وسمو يسوع بإقتباس من العهد القديم عن الرب الإله كخالق، والذي يطبّقه على يسوع: (وأنت يا رب في البدء أسست الأرض والسماوات هي عمل يديك). (عبرانيين1: 10؛ يقتبس من مزمور102: 25). بهذا الاقتباس، يقدّم كاتب الرسالة سياقاً من الكتاب المقدّس لعبارته السابقة بأن الله هو الذي عمل العالمين من خلال ابنه (عب1: 2).
في عبرانيين 1، يقدّم كاتب الرسالة يسوع المسيح على أنه متفوق على الأنبياء وعلى الملائكة، وبفعله هذا فإنه يطرح بعض المزاعم المذهلة:
- أن المسيح هو الخالق.
- أن الملائكة تؤمر بأن تعبده.
- وأن المسيح هو الله، الجالس على العرش؛ ولذلك
- فإنه الحاكم وهو القاضي. لا يمكن أن توجد طريقة أوضح من ذلك كان يمكن بها لكاتب الرسالة أن يوضّح أن يسوع هو إله كامل.
كاتب سفر الرؤيا
وأخيراً، سنلقي نظرة سريعة على سفر الرؤيا. تمت كتابة سفر الرؤيا ليس بعد عام96. وبهذا فإنه في الأغلب آخر سفر تمت كتابته في العهد الجديد. الأمر المثير للاهتمام هو أنه في كل من فيلبي2 ورؤيا5، نرى العبادة الكونية الشاملة للمسيح. فنجد (فيلبي2: 10)، يخبرنا أن (كل ركبة في السماء أو على الأرض أو من تحت الأرض) سوف تجثو للمسيح كرب.
ويقول رؤيا5 نفس الأمر، رغم أن المشهد هو في السماء نفسها: (وكل خليقة مما في السماء وعلى الأرض وتحت الأرض وما على البحر كل ما فيها سمعتها قائلة. للجالس على العرشِ وللخروف البركة والكرامة والمجد والسلطان إلى أبد الآبدين. وكانت الحيوانات الأربعة تقول آمين. والشيوخ الأربعة والعشرون خروا وسجدوا للحــي إلى أبد الآبدين). (رؤيا5: 13-14) إن كانت للعبادة الصحيحة أن تمارس في أي مكان، فإنها تمارس حقاً أمام عرش الله.
وهنا، أمام ذلك العرش، حيث الحمل المسيح، تتم عبادته مع الله.أحياناً يتم تصنيف هذا الأصحاح على أنه “لاهوت المسيح في السماء”. فإن تقييم السماء للمسيح هو بالطبع التقييم الصحيح. لكن الجدير بالملاحظة أن (رؤيا5: 13)، مثل (فيلبي2: 10)، يلمّح إلى (خروج20: 4) (لا تصنع لك تمثالاً منحوتاً ولا صورة ما مما في السماء من فوق وما في الأرض من تحت وما في الماء من تحت الأرض).
وإذا كانت عبادة المسيح ليست تعدياً على هذه الوصية، فإنها يمكن أن تكون فقط بسبب أنه هو أيضاً يعتبر الله. مرة أُخرى، نجد أنفسنا مجبرين على استنتاج أن من كتبوا العهد الجديد ليسوا ساذجين في صياغتهم أو على غير وعي بما يقولونه. فإنهم عندما يصفون تكريسهم وعبادتهم للمسيح، فهم يستخدمون لغة يملئها الوقار والعبادة، لغة لا لبس فيها، لأنهم يصفون بذلك عبادتهم لله.
بعض ملامح العبادة في العهد الجديد
إن إشارات العهد الجديد لعبادة يسوع المسيح تستدعي سؤالاً: هل كان يمكن لمسيحيي العهد الجديد أن يكونوا قد منحوا العبادة لأي شخص آخر سوى الله؟ هل كان مسيحيو القرن الأول يقبلون منح ألقاب إلهية وكرامة إلهية لمخلوقات متسامية؟ الإجابة الثابتة والأكيدة التي يقدمها العهد الجديد بأكمله هي كلا، على الإطلاق، بدءاً من يسوع نفسه.
فعندما جرّب إبليس يسوع في البرية اليهودية بأن عرض عليه ممالك العالم إذا فقط سَجَدَ له، أقتبس يسوع (ثتنية6: 13) (للرب إلهم تسجد وإياه وحده تعبد)، (مت4: 10). على أن أكثر ما يثير الدهشة هو أن نرى رد فعل يسوع تجاه إعتراف توما في (يوحنا20: 28)، (ربي وإلهي) قال توما هذا متعجباً للمسيح المقام، كما رأينا من قبل. لكن ماذا كان رد فعل يسوع؟ من الواضح أن يسوع لم يوبخه، بل على العكس قال له، (لأنك رأيتني يا توما آمنت. طوبى للذين آمنوا ولم يروا.) (عدد29).
لقد أكّد يسوع صحة اعتراف توما. لكن ربما كان يسوع مهذباً وحيث أنه كان سعيداً أن توما قد آمن بقيامته فإنه لم يرد أن يفسد تلك اللحظة ويخمد من حماسة توما. لكن لا، فهذه الإجابة لا يمكن أن تؤدي هذا الغرض كما سنرى في المقاطع التالية.
فعندما تكون كرامة الله على المحك، لا يكون التهذيب من الأمور التي يمكن اللجوء إليها. فبعد حوالي عشر سنوات من ذلك الموقف، كان الملك هيرودس أغريباس الأول، حفيد هيرودس الكبير، في نزاع مع أهل صور وصيدا. فجاء إلى قيصرية وألتقى مع جماهير الشعب في المسرح. كانت الجماهير متحمسة لحل النزاع لأن الملك أغريباس كان يتحكم في مؤن غذائهم (أع12: 20).
فقام بعمل افتتاحية فخمة تبعتها خطبة، محرضاً الجماهير على استجابة عظيمة له: (ففي يوم معين لبس هيرودس الحلة الملوكية وجلس على كرسي الملك وجعل يخاطبهم. فصرخ الشعب هذا صوت إله لا صوت إنسان.) (أع12: 21-22). إن التمجيد الذي قدمه الشعب لهيرودس لم يكن في مثل قوة ما قدمه توما ليسوع، فتعبير “إله” أقل من تعبير “إلهي”.
وأكثر من ذلك، فقد قبل يسوع بوضوح هذا التمجيد من توما، بينما هيرودس تقبّله ضمنياً فقط، على قدر ما تخبرنا رواية سفر الأعمال. ومع ذلك فقد كان هناك قضاء إلهي على هيرودس، وقد جاء بسرعة (ففي الحال ضربه ملاك الرب لأنه لم يعطِ المجد لله. فصار يأكله الدود ومات.) (أع12: 23). فكيف كان يمكن أن يقبل يسوع تمجيداً أعظم من قِبَل توما، ومع ذلك لا يضربه الله؟ إن هذه المقارنة ليست منطقية إلا إذا كان يسوع هو بالحقيقة الله الظاهر في الجسد.
بعد أصحاحين آخرين في سفر الأعمال نرى حالة أُخرى كان الناس فيها يعبدون أناساً كما لو كانوا آلهة. فقد جاء بولس وبرنابا إلى لسترة للتبشير بالإنجيل، وهناك شفى بولس رجلاً مقعداً. (فالجموع لما رأوا ما فعل بولس رفعوا صوتهم بلغة ليكأونية قائلين إن الآلهة تشبهوا بالناس ونزلوا إلينا. فكانوا يدعون برنابا زفس وبولس هرمس إذ كان هو المتقدم في الكلام.)
ومن الواضح أن الجمع جاءوا وأبلغوا الكاهن الوثني المحلي بأن الآلهة قد نزلت إليهم، لأنه هو بدوره، بدأ في إعداد ذبائح حيوانية. (فلما سمع الرسولان برنابا وبولس مزّقا ثيابهما وأندفعا إلى الجمع صارخين وقائلين أيها الرجال لماذا تفعلون هذا. نحن أيضاً بشر تحت آلام مثلكم.) (أع14: 14-15).
نرى هنا موقفاً مماثلاً لموقف (أعمال12)، فنرى أناساً تتم عبادتهم على أنهم آلهة بدون إدراك للإله الحقيقي. لقد قبل أغريباس العبادة وضربه ملاك الله، ولكن بولس وبرنابا صُدما بالتكريم الذي مُنح لهما. بل في الحقيقة أن رد فعلهما الأول كان أن مزّقا ثيابهما.
لنتذكر أن هذه كانت استجابة قيافا لإعلان يسوع أن ابن الإنسان سيجلس عن يمين الله، آتياً على السحّاب. لقد كانت اليهودية تعلّم أن تمزيق الشخص لملابسه رد الفعل المناسب لسماع التجديف.(14) لقد كان رد فعل بولس وبرنابا لتأليههما هو بالضبط عكس رد فعل هيرودس، كما أنه مخالف أيضاً لرد فعل يسوع عندما قدّم له توما العبادة.
وفي ضوء رفض بولس وبرنابا أن تقدّم لهما العبادة، لماذا كان رد فعل يسوع مختلفاً عنهما؟ فإن كان ما قاله توما تجديفاً، ألم يكن على يسوع أن يمزّق ملابسه هو أيضاً؟ إن التناقض بين رد فعل بولس ورد فعل يسوع تجاه تقديم العبادة لهما هو تناقض مذهل، ولا يمكن تفسيره على أي أساس إلا على أساس أن يسوع المسيح كان في الحقيقة إلهاً حقيقياً. والآن ربما هناك حاجة للتمييز بين أمرين هنا.
فعلى الرغم من أنه ليس مسموح للبشر أن يتقبلوا العبادة الموجهة لهم، ربما كان يمكن تقديم العبادة للملائكة، فهي على الأقل ليست بشراً، فلديها قوى فوق بشرية، وهي لا تشبهنا، ولذلك فمن الطبيعي أن تتطلب استجابة موقرة ومكرّمة من البشر.
لكننا مرة أخرى نعود إلى آخر أسفار الكتاب المقدّس، سفر الرؤيا، لطلب المعونة في هذه المسألة. ففي الأصحاح19، نقرأ أن يوحنا، الذي كتب السفر، تغلبه عواطفه في حضور ملاك مهيب، فيقول: (فخررت أمام رجليه لأسجد له.) لكن رد فعل الملاك كان سريعاً وحاسماً: (فقال لي أنظر لا تفعل. أنا عبد معك ومع إخوتك الذين عندهم شهادة يسوع. اسجد لله. فإن شهادة يسوع هي روح النبوة.) (رؤ9: 10).
إن رد فعل الملاك يظهر بما لا يدع مجالاً للشك أنه لا البشر ولا الملائكة يجب أن يتقبلوا العبادة، فلا يوجد استثناء. لقد أشرنا بالفعل في (متى4: 10) أن يسوع قال للشيطان، رئيس الملائكة الساقطين، إن العبادة هي لله وحده فقط. ومع ذلك ففي (عبرانيين1: 6)، يخبر الله الملائكة أن تعبد المسيح (“ولتسجد له كل ملائكة الله”).
فكيف يكون ممكناً أن يتم استثناء المسيح ــ والمسيح وحده ــ من العقاب الإلهي لتقبله العبادة؟ الوسيلة الوحيدة المنطقية لفهم شهادة العهد الجديد هذه للمسيح هي أن هؤلاء الذين كتبوا العهد الجديد قد آمنوا بالمسيح كإله حقيقي، فلا يمكن لأقل من ذلك أن ينصفهم في كلماتهم. وهكذا كما رأينا في حفنة فقط من النصوص، أن العهد الجديد يقدّم بوضوح وبقوة يسوع المسيح على أنه أكثر من مجرد إنسان بشري.
في الحقيقة، إنه يقدّمه على أنه أكثر من ملاك أيضاً: فهو الله نفسه. ولذلك فإن فكرة أن ألوهية يسوع تم اختراعها بعد حوالي ثلاثمائة عام من حياته على الأرض هي مجرد خرافية سخيفة، مبنية على لا شيء. وعلى الرغم من أن “شفرة دافنشي” رواية مثيرة، إلا أنها لا تتعدى كونها كذلك، فهي فقط مجرد قصة، أو أسطورة منسوجة بمهارة بواسطة مؤلف قصصي محترف.
العبادة الأسمى، شهادة أسفار العهد الجديد للمسيح.
هل الله يتغير؟ وهل يعبد المسيحيون الجسد؟ – المذيع المسلم يذيعها مدوية: أنا لا أعرف شيء