مجرد إله؟ القضية الحقيقة في مجمع نيقية
مجرد إله؟ القضية الحقيقية في مجمع نيقية
لم يكن أحد ممن اشتركوا في مجمع نيقية يفكر في حقيقة أن ألوهية يسوع كانت موضوع مناقشة، فقد كان هذا أمراً مفترضاً مسبقاً. فبحلول الوقت الذي قام فيه الأساقفة بعقد مجمع نيقية في 20 مايو عام 325، كانت ألوهية يسوع قد تأكدت بواسطة معظم المسيحيين على مر حوالي ثلاثة قرون (انظر الفصول 12 – 14).
ومثل آبائهم السابقين في الإيمان، كان كل من الأساقفة المشتركين في المجمع – والكنائس التي كانوا يمثلونها – يشتركون بنشاط في عبادة يسوع والصلاة له والاعتراف به كرب وإله على الجميع. وقد كانت هذه الأعمال كلها بالطبع تفترض إيمانهم المسبق بكونه إنساناً كام من خارج هذا العالم. وهكذا فإن الادعاء الشائع حالياً بأن ألوهية يسوع تم اختراعها في نيقية هو من علامات أميتنا التاريخية.
فما يدعو للسخرية أن مثل هذا الادعاء كان يراه المسيحيون في القرن الرابع على أنه متخلف حقاً عن الزمن – ومتأخر بما يقرب من الثلاثمائة عام! لكن هذا لا يعني أن مجمع نيقية لم يكن حدثاً محدداً للاتجاه. ففي الحقيقة أن المجمع قد قام بحملة جديدة – حملة كاملة لها شعاراتها المحددة – لتوضيح وتعزيز موقفه الرسمي الجديد بشأن يسوع. إن تأثير هذا المجمع لا يزال يتردد صداه حتى اليوم.
ولكن هذا يسترعى السؤال: لو كانت ألوهية يسوع من أساسيات الاعتقاد المسيحي منذ زمان طويل، فما الذي جعل إجراءات المجمع وتصريحاته لها هذا التأثير الهائل؟ فما المزيد الذي يمكن أن يقال عن يسوع أكثر من أنه إله؟ بمعني آخر، لماذا كانت القضية الحقيقية لمجمع نيقية؟
مثل الآب، كذلك الابن؟
بدأ الطريق إلى نيقية في الإسكندرية، فبحكم موقعها على البحر المتوسط شمالي مصر، كانت الإسكندرية تتمتع بأكبر مكتبة في العالم القديم، واشتهرت بأنها مركز الفكر في زمنها، كما كانت أيضاً موطناً لبعض من أكثر اللاهوتيين البارزين في العالم القديم. وكان ألكسندر، وهو أسقف الإسكندرية من عام 313 وحتى عام 328، واحداً من هؤلاء اللاهوتيين البارزين. فكان ألكسندر، الذي قام بدوره كأسقف بمنتهى الجدية، يقوم بعقد حلقات دراسية دورية لكبار الكهنة تحت إشرافه.
وكان آريوس، وهو عضو من هؤلاء الكهنة الأساسين وكاهن لكنيسة في منطقة مهمة من الإسكندرية، على خلاف مع ألكسندر حول الطريقة المحددة لوصف مكانة يسوع الإلهية. وفي إحدى المحاضرات التي ثبت أنها محورية، أعلن ألكسندر بما لا يدع مجالاً للبس أن المسيح كان يشارك جميع الصفات الإلهية للآب – بما فيها السرمدية. وهكذا فإن آريوس، الذي كان ينكر أن الابن سرمدي، لزم حدوده. وكان آريوس يؤمن أن يسوع إله من حيث أنه يشبه الآب.
فقد كان يشبه الآب في أنه كان موجوداً قبل الخلق، وفي أنه لعب دوراً في نشأة الخليقة، وأنه سامي ومرتفع فوق كل الخليقة، ولكنه كان يعتقد أن الابن نفسه كان مخلوقاً. فبحسب فكر آريوس، قام الآب بخلق الابن (“من العدم”) في الأزل، ثم قام بدوره بتكليف الابن بخلق الكون. وهكذا، فبينما كان يسوع يشبه الآب في ألوهيته، إلا أن طبيعتهما الإلهية لم تكن متساوية أو متطابقة. فقد كان يسوع، من وجهة نظره، إلهاً بدرجة أقل.
لكن ألكسندر أثبت وأكّد بالحجة أن الألوهية هي مثل الحَبلَ، أي أنها مطلقة. فكما أن المرأة لا يمكن أن تكون حبلى وغير حبلى في نفس الوقت، كذلك يسوع لابد أن يكون إما إلهاً كاملاً أو لا يكون إلهاً على الإطلاق. وإذ كان ألكسندر يفهم أن ألوهية يسوع هي حجر الأساس في بنية الحقائق المسيحية الأساسية (خاصة الحقائق المتعلقة بالفداء)، فقد استخدم ألكسندر قلمه لتحدي تعاليم آريوس. ولكن آريوس كان مصراً على رأيه، لذلك كان لابد من اتخاذ موقف ما.
فإذا سقط حجر الأساس، فسوف ينهار بقية البناء معه. ورغم أن ألكسندر كان قائداً لطيفاً، وكان يتجنب الصراعات، إلا أنه علم أنه لن يستطيع أن يتجنبه ما دام الأمر يتعلق بطبيعة المسيح. وهكذا ففي علم 318، قام ألكسندر بجمع حوالي مائة من الأساقفة في الإسكندرية لمناقشة الأمر وتجريد آريوس رسمياً.
لكن آريوس ثار، ورفض تجريده من رتبته الكهنوتية، واعتزل في نيقوميديا (في تركيا الحالية)، وقام بحشد مؤيديه. وكان أقوي مؤيديهن يوسابيوس من نيقوميديا، على صلة نسب بالإمبراطور قسطنطين، كان هو اللاهوتي الخاص بالبلاط الإمبراطوري. فقام آريوس ويوسابيوس معاً بالشروع في حملة بالرسائل المكتوبة للأساقفة الذين لم يقوموا بتجريد آريوس، وقاما بالدعاية بدهاء لتعليمه.
كما قام آريوس بوضع تعليمه في شكل قوافي، وجعلها في “أغاني لكي يترنم بها البحارة والطحّانون والمسافرون.” ولم يمض وقت طويل حتى كانت الكتابات تغطي الجدران، وكانت النبذ تغطي الميادين العامة، وانتشر العنف في الشوارع. وهكذا، بمساعدة صديقه الذي كانت له علاقات جيدة، أشعل آريوس قضية كان لها تأثير سريع الانفجار. انتشرت أصداء ما يحدث في كل أنحاء الأراضي الإمبراطورية.
لكن قسطنطين، الذي أطاح بآخر أعدائه وبرز كالحاكم الوحيد للإمبراطورية الرومانية علم 324، شعر بالحرج للمشاحنات الحادثة بين أساقفته، فقد كانت وحدة إمبراطورتيه هي ما يحتاجه الإمبراطور الجديد أكثر من أي شيء آخر، وهكذا فقد شرع في تحقيقها في العيد العشرين لاعتلائه عرش روما. ولذلك ففي عام 325، قام قسطنطين باستدعاء جميع أساقفته لما أصبح أول مجمع مسكوني في تاريخ الكنيسة.
كان قسطنطين يقيم عادة في عاصمته مدينة بيزنطة (التي أطلق عليها فيما بعد القسطنطينية، إسطنبول حالياًن في تركيا)، لكنه في ذلك الوقت كان يمكث في قصره بجانب البحيرة في نيقية، حيث كان يقوم بتجديد المدينة التي كانت ستحمل اسمه فيما بعد. وهكذا كانت نيقية موقعاً ممتازاً لتجميع الأساقفة، الذين كانوا يعاملون مثل النبلاء. ووصل ضيوف قسطنطين المكرمين إلى نيقية بنظام الانتقال الملكي الفخم، وحجز لهم بريد ملكي، وانتقال كموظفين ملكيين.
وقد شملت تكلفة الرحلة التي دفعها الإمبراطور بالكامل هدايا ترحيبية ووجبات فاخرة ووسائل ترفيهية وتأميناً للسكن. لقد كانت الإقامة حقا “رائعة فوق الوصف” وابتعد قسطنطين عن طريقه الخاص لكي يوحد الكنيسة في إمبراطورتيه، ولكن الكلمة الأخيرة لم تكن له.
ولا ذرة واحدة
لقد كان الأساقفة في نيقية معتادين على الاضطهاد أكثر من التدليل. فالكثيرون منهم قد عاشوا في مظالم واضطهادات الإمبراطور دقلديانوس (الذي حكم من 284 – 305) وماكسيميان (الذي حكم من 286 – 305). فقد كان دقلديانوس متشوقاً لمصادرة الكتابات المسيحية وحرق المباني المسيحية والقبض على الكهنة المسيحيين. أما ماكسيميان فلم يكن يتردد في إعدام أو تعذيب أو نفي من كانوا يرفضون إنكار المسيح.
فكان واحد من الأساقفة في نيقية على الأقل قد اختبر شخصياً قسوة ماكسيميان. بافنوتياس مثلاً فقد عينه اليمنى وأصيب بعرج في رجله اليسرى – قبل أن يعزل إلى المناجم – نتيجة لاعترافه بإيمانه. وقد كان هناك المزيد من ضحايا الاضطهادات على يد آخرين أيضاً، البعض منهم فقدوا قدرتهم على استخدام أصابعهم لأن أعصابهم تم إتلافها بأسياخ ساخنة، بينما فقد آخرون أطرافاً كاملة.
وهكذا كانت آثار الاضطهاد شديدة الانتشار والكثرة حتى أن أحد الكتّاب القدماء قال: (كان المجمع يبدو وكأنه جماعة من جيش من الشهداء)! وبالطبع فإن الرجال الذين عانوا مثل هذه الإصابات الجسدية بسبب استقامتهم الروحية لم يكن من الممكن إخبارهم بما يجب أن يؤمنوا به بشأن المسيح – سواء تحت ضغوط ملكية أم غيرها.
فالحقيقة أن الأساقفة في نيقية كانوا منشغلين بالتبشير والوعظ أكثر من انشغالهم بالسياسة. وكانت همومهم تتعلق باجتماعاتهم وبأن يكونوا أمناء “للآباء القديسين” الذين كانوا يشيرون إليهم كثيراً. وقد كانوا أحرص على التقليد الرسولي من التجديد اللاهوتي، وكانوا يسعون للحصول على شهادة الروح القدس للحق في سياق تجمعهم.
بمعني آخر، لم يكن المجمع عبارة عن مجموعة من الأفراد لهم آراء مستقلة ومنفصلة عن بعضهم البعض، بل على العكس، فقد أحضروا معهم تحت سقف واحد الحكمة المجتمعة لآباء الكنيسة الذين سعوا من قبلهم لفهم طبيعة المسيح. لقد ترك الأساقفة مؤقتاً ممارسة اللاهوت في اجتماعهم لكي ينضموا ويتحدوا مع الجماعة المسيحية الأكبر لمناقشة ممارسة هذا اللاهوت.
ويجب ألا يتم تجاهل نتيجة هذا الحدث: فقد تم إبلاغ المجمع بالانعقاد – بل أنه كان مدفوعاً للانعقاد – بقوة الحياة المكرسة للكنيسة الكبرى – وقد علم قسطنطين أن أي حل سينتج من هذا الاجتماع كان يجب أن يفترض أنه يتفق مع المعتقدات العميقة التي يعتنقها أغلبية الأساقفة والكنائس التي يمثلونها. لم يكن الإمبراطور على علم كبير بالأمور اللاهوتية، لذلك فقد اعتمد على مستشاره اللاهوتي، هوسيوس، لكي يعلمه عن هذه الأمور قبل وصول الأساقفة.
وكان هوسيوس يعرف أن أغلبية الثلاثمائة أسقف أو نحو ذلك 7 المتوقع تجمعهم في نيقية، لن يكونوا إلى جانب آريوس، ففي الحقيقة أن أقل من ثلاثين أسقفاً فقط هم الذين جاءوا وهم مستعدين لأن يقولوا إن الأبن كان كائناً مخلوقاً. بينما كان هناك الكثيرون، وربما الأكثرية، ممن دخلوا إلى قاعة الاجتماع وهم يقفون على الحياد، فلم يكن لديهم بعد فهماً واضحاً للقضية.
وحيث أن قسطنطين كان مهتماً بالوحدة السياسية في إمبراطورتيه أكثر مما بالدقة والاستقامة اللاهوتية، فقد كان متحمساً للوصول إلى حل يتفق مع آراء أكبر عدد من الأساقفة – بغض النظر عن نوعية هذا الحل. وقد ساعده في ذلك أتباع آريوس عن غير قصد. فبعد فترة قصيرة من انعقاد المجمع، تمت الدعوة لتوضيح الموقف الآريوسي.
لم يكن في استطاعة آريوس التواجد في المجمع حيث أنه لم يكن أسقفاً، وهكذا قام صديقه يوسابيوس من نيقوميديا للتحدث باسمه، وأعطى الفرصة لعرض الموقف الآريوسي بمصطلحات واضحة لا لبس فيها. فقام يوسابيوس بالتأكيد بقوة على أن الابن لم يكن أبدأ مساوياً للآب، بل أنه كان في الحقيقة مخلوقاً محدوداً. وما أن قال هذا حتى شعر الأساقفة بالصدمة والعار.
ويصف المؤرخ الكنسي روجر إي أولسون المشهد قائلاً: أخذ بعض الأساقفة يضعون أيديهم على آذانهم ويصرخون طالبين أن يوقف أحدهم هذه التجاديف. وقام أحد الأساقفة الذي كان يقف بالقرب من يوسابيوس، بانتزاع المخطوطة من يديه، وإلقائها على الأرض ودوسها بقدميه. وحدث شغب بين الأساقفة لم يوقفه إلا أمر الإمبراطور.
أما الأساقفة الذين كانوا يقفون على الحياد فقد أدركوا فجأة ما يحدث وأخذوا يحدقون في آريوس في الجهة الأخرى، كان من الواضح أنهم لم يفهموا من قبل كيف كانت القضية بمثل هذه البشاعة.
فيسوع إما أن يكون محدوداً أو غير محدود، ولم يستطع معظم الأساقفة أن يتحملوا التفكير في الاختيار الأول. وهكذا، تمكن قسطنطين من جعل الأساقفة يعودون إلى هدوئهم وإلى أماكنهم حيث أرادهم – أو هكذا ظن. وإذ بدأ الهدوء يعود إلى الاجتماع مرة أخرى، تمت المطالبة بإصدار إعلان رسمي ضد الآيوسية. فلم يعجب الأساقفة ما قاله آريوس وأتباعه عن الطبيعة المحدودة للابن.
فقد كانوا يعلمون بوضوح ” ما لا يؤمنون به”. لكن كيف كان يمكنهم بالتحديد توضيح “ما كانوا يؤمنون به” بشأن ألوهية المسيح؟ وهنا تكمن القضية الحقيقية في نيقية: وهي تحديد كيف أن – وليس ما إذا كان – يسوع إلهاً. في النهاية اتفق الأساقفة والإمبراطور على أنه يجب توقيع هذه الوثيقة يتم عزله من منصبه القيادي داخل الكنيسة. فقام قسطنطين في الحال بتعيين هوسيوس كاتباً للوثيقة الجديدة، ولكن الأحاديث بين الأساقفة توقفت عند موضوع اللغة.
فقد أصّرت حفنة من الآريوسيين في المجمع على استخدام المصطلحات اللاهوتية الموجودة في الكتاب المقدس للكشف عن معاني الكلمات المستخدمة في الكتب المقدسة. فقام قسطنطين، على الأغلب بتأييد من هوسيوس، باقتراح حل لهذه المشكلة.
لقد اقترح الإمبراطور أن يوصف الإبن على أنه يحمل “نفس الجوهر” (باليونانية homoousios) الذي للآب. كان من الواضح أن قسطنطين كان يؤمن أن هذا الوصف يعّرف يسوع على أنه كامل (وهكذا فقد أرضى المعارضين لآريوس) بدون أن يوحي بالكثير أبعد من ذلك (وهكذا فقد خفف من مخاوف الآريوسيين). ولو ثبت أن هذه كانت هي الحالة فعلاً، لكان الإمبراطور بذلك قد جاء بشعار وحّد جميع الأساقفة – بغض النظر عن معتقداتهم بشأن ألوهية المسيح.
كان أغلبية الأساقفة في الحقيقة متحمسين لاستخدام هذا الوصف، ولكن الآريوسيين العنيدين كانوا يعتقدون أن الكلمة محملة بالكثير من المعاني، فمن وجهة نظرهم، كانت هذه الكلمة تعطي يسوع مساواة مع الآب، لكنها لم تكن تشرح بطريقة سليمة كيف تتدرج تلك المساواة في إطار الاعتقاد بالإله الواحد.
وبالرغم من أصوات الاعتراضات العالية من القليلين – بما فيها اعتراضات ابن أخيه، كاهن البلاط – فقد اتفق قسطنطين مع الأغلبية على كتابة قانون إيمان جديد يعلن أن المسيح له نفس جوهر الآب. وأصبح قانون الإيمان الناتج ينص على الآتي:
بالحقيقة نؤمن بإله واحد، الآب كلي القدرة، خالق كل الأشياء المرئية وغير المرئية، نؤمن برب واحد يسوع المسيح، ابن الله الوحيد، المولود من الآب، أي من جوهر الآب، إله من إله، نور من نور، إله حق من إله حق، مولود غير مخلوق، واحد مع الآب في الجوهر(homoousios)، هذا الذي به كان كل شيء، سواء ما في السماء أو ما على الأرض، هذا الذي جعلنا نحن البشر ولأجل خلاصنا نزل وتجسد وصار بشراً، وتألم وقام ثانية في اليوم الثالث، وصعد إلى السماء، وسيأتي ثانية ليدين الأحياء والأموات، ونؤمن بالروح القدس.
أما بالنسبة لمن يقولون، أنه كان هناك وقت لم يكن الابن موجوداً فيه، أو أنه قبل ولادته لم يكن موجوداً، أو أنه جاء للوجود من العدم، أو لمن يؤكدون أن ابن الله هو من أقنوم أو من جوهر مختلف، أو أنه مخلوق، أو أنه خاضع للتغير أو التحول – فهؤلاء تلعنهم الكنيسة الجامعة. قام جميع الأساقفة بالتوقيع على هذا القانون – باستثناء ثيوناس من الماماريكا وسكنداس البطليموسي.
كان البعض ممن قاموا بالتوقيع قد فعلوا ذلك على مضض، ولكن الرسالة العامة كانت واضحة، وهي أن الآريوسية لا تتفق مع الإيمان التاريخي ومع ممارسة الكنيسة، وأن من يعتنقونها سيجدون أنفسهم خارجاً بعيداً، لكن البعض ممن لم يكونوا راغبين في اعتناق الآريوسية كانوا رغم ذلك لا يشعرون بالراحة لاستخدام تعبير (homoousious). فقد كانوا قلقين من أن الكلمة التي يفترض معناها أن الآب والاين يشتركان في نفس الجوهر يمكن ان ينحرف معناها بأن الآب والاين هما نفس الشخص أو نفس الأقنوم.
فقام هؤلاء باقتراح أن التعديل البسيط على مصطلح (homoousios) يمكن أن يحل هذه المشكلة. في اللغة اليونانية، كان الفارق بين الكلمتين “نفس” (homo) و”مثل” (homoi)، هو حرف علة صغير يسمي “iota”. وهكذا فبتغيير كلمة homo-ouious إلى كلمة homoi-ousios، كان بعض المضادين لآريوس يصفون الاين بأنه يشارك جوهر “مثل” جوهر الآب.
وبهذا الأمر فإنهم كانوا يقومون بتأكيد ألوهية الابن ولكنهم يتعاملون معه على أنه أقنوم مميز عن الآب، ولكن الآخرين من المضادين للآريوسية اعترضوا على ذلك المصطلح المخفف، محاجين أنه لا ينصف المسيح بالكامل لأنه لا يجعله في مساواة جوهرية مع الله.
الأكثر من ذلك، كان آريوس وأتباعه متحمسين للغاية لاستخدام هذا المصطلح الجديد لوصف المسيح كمخلوق، ولهذه الأسباب، وقف الكثيرون من المضادين للآريوسية بتصميم خلف قرار وصف يسوع بالمصطلح (homoousios). وكان أثناسيوس واحداً من هؤلاء الرجال الذين لم يتزحزحوا – ولا بإضافة حرف “iota” واحد.
الإمبراطور يرد الضربة
كان أثناسيوس في العشرينات من عمره عندما رافق الأسقف ألكسندر لمجمع نيقية. وبعد ثلاثة سنوات، في عام 328، قام بخلافة معلمه كأسقف للإسكندرية. وبعد أربعة حقب، أثبت أثناسيوس أنه أعظم أبطال الكنيسة المسيحية في نيقية. ففي الحقيقة كان لابد من وجود بطل، إن كان للقرارات التي اتخذت في نيقية أن تصمد.
فبالرغم من التصريح الواضح لمجمع نيقية بأن يسوع يشارك نفس طبيعة الآب، إلا أن المشاحنات الداخلية على استخدام مصطلحي (homoousios)، و(homoiousios) ظلت مستمرة. فقد أعلن بعض أعضاء المجمع أن الصياغة القديمة هي انتصار للنظرة التي “لا تميز بين الأقانيم الإلهية” والتي تدعى “السابيليانية” (Sabellianism). وقد استغل الآريوسيين المخلوعون هذا الأمر لمصلحتهم، مجادلين بأن قانون الإيمان قد ذهب إلى مدى أبعد من اللازم. و
قاموا بسرعة بإثارة مشاعر الغضب واستطاعوا بوجه خاص إقناع المتعاطفين السريين مع الآريوسية بأن يتكلموا، حتى أن الكثيرين من المضادين للآريوسية بدأوا يناقشون موضوع الصياغة. نعم، يسوع المسيح كان هو الله حقاً، لكن هل فقت قانون الإيمان النيقاوي الباب لقول المزيد؟ فبالقفز خارج مقلاة الآريوسية بقانون الإيمان النيقاوي، ربما كانوا يستقرون عن غير قصد في نيران “عدم التمييز بين الأقانيم الإلهية” أي “السابيليانية” (Sabellianism).
فكان هناك احتياج لعمل توضيح محدد لطبيعة المسيح وعلاقته بالآب، ولكن على الكنيسة أن تنتظر على مدى أكثر من خمسين عاماً لكي تحصل عليه (في مجمع القسطنطينية عام 381). إن الجدل المطّول حول كيفية وصف ألوهية المسيح اظهر أن قسطنطين كان يفتقر إلى السلطة التي تمكّنه من فرض قرار على الكنيسة، والتي تمهّد له الطريق لكي يتصرف بحسب مخططاته الحقيقية. في عام 328، أعاد تجمع من الأساقفة آريوس وأتباعه إلى شركة العضوية.
وبدأ هؤلاء الأساقفة أيضاً في الضغط على الإمبراطور لكي يعيد آريوس رسمياً ككاهن اسكندري. وهكذا فإن قسطنطين، الذي منذ عدة سنوات مضت أمر بالحكم على آريوس على أنه هرطوقي، أذعن لمطالبهم. وفي عام 332، أعلن الإمبراطور آريوس كاهناً برتبة جيدة، وأمر الأسقف الجديد للإسكندرية – أثناسيوس الشاب – أن يعيد آريوس مرة أخري.
وبسبب إخلاصه لقانون إيمان نيقية ووقوفه ضد من أدانهم الإمبراطور من قبل، كان جزاء أثناسيوس النفي إلى الحدود الخارجية للإمبراطورية الغربية. وبهذا الفعل كشف قسطنطين أن مسألة الدقة والاستقامة في العقيدة كانت بالنسبة له أقل أهمية بكثير من وحدة الإمبراطورية.
ووجد أثناسيوس نفسه منفياً أربع مرات أخرى، فقضى إجمالي سبعة عشرة عاماً في المنفى. ولكنه لم يتزحزح ولو لمرة واحدة ولا ذرة واحدة عن تصريح نيقية بأن يسوع كان يشارك نفس طبيعة الآب عينها، فقد كان يمكن لأثناسيوس أن يقف ضد العالم كله، إن تطلّب الأمر، للدفاع عن هذا الحق.
لكن قسطنطين من ناحية أخرى، كان يمكن أن يموت وهو يعتنق الآريوسية، ولكن لا يتخلى عن رؤيته للوحدة. إن تأييده المتغير لأثناسيوس مرة، ثم لآريوس مرة أخرى. نستطيع أن نفهم معناه عندما ندرك أن مخطط قسطنطين الأساسي لم يكن هو مساندة العقيدة المستقيمة أو القضاء على الهرطقة، ولكنه كان تعزيز الوحدة والانسجام في إمبراطورتيه.
لذلك فإن افترض أن قسطنطين كانت لديه القدرة – أو حتى الميل – للتأثير على المجمع للإيمان بما لم يكن المجمع يعتنقه في الأساس، هو في أفضل حالاته، فكرة سخيفة، وفي أسوأ حالاته، كان الإمبراطور عبارة عن شرك في مسيرة الكنيسة نحو فهم أعمق لطبيعة المسيح. ورغم أن قسطنطين قد أطلق على نفسه لقب “أسقف الأساقفة”، إلا أن الكنيسة قد آمنت بما كانت تعرف أنها يجب أن تؤمن به – سواء بقسطنطين أو بدونه.
وقد آمنت الكنيسة، كما قد آمنت منذ البداية، بأن يسوع هو الله.