العهد مع داود ونسله
العهد مع داود ونسله – القمص روفائيل البرموسي – دفاعيات
(عن كتاب: أما إسرائيل فلا يعرف – القمص روفائيل البرموسي)
سفر صموئيل الثاني
” وَالرَّبُّ يُخْبِرُكَ أَنَّ الرَّبَّ يَصْنَعُ لَكَ بَيْتًا. مَتَى كَمُلَتْ أَيَّامُكَ وَاضْطَجَعْتَ مَعَ آبَائِكَ، أُقِيمُ بَعْدَكَ نَسْلَكَ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْ أَحْشَائِكَ وَأُثَبِّتُ مَمْلَكَتَهُ. هُوَ يَبْنِي بَيْتًا لاسْمِي، وَأَنَا أُثَبِّتُ كُرْسِيَّ مَمْلَكَتِهِ إِلَى الأَبَدِ. أَنَا أَكُونُ لَهُ أَبًا وَهُوَ يَكُونُ لِيَ ابْنًا. إِنْ تَعَوَّجَ أُؤَدِّبْهُ بِقَضِيبِ النَّاسِ وَبِضَرَبَاتِ بَنِي آدَمَ. وَلكِنَّ رَحْمَتِي لاَ تُنْزَعُ مِنْهُ كَمَا نَزَعْتُهَا مِنْ شَاوُلَ الَّذِي أَزَلْتُهُ مِنْ أَمَامِكَ. وَيَأْمَنُ بَيْتُكَ وَمَمْلَكَتُكَ إِلَى الأَبَدِ أَمَامَكَ. كُرْسِيُّكَ يَكُونُ ثَابِتًا إِلَى الأَبَدِ». فَحَسَبَ جَمِيعِ هذَا الْكَلاَمِ وَحَسَبَ كُلِّ هذِهِ الرُّؤْيَا كَذلِكَ كَلَّمَ نَاثَانُ دَاوُدَ.” صموئيل الثاني 7: 11-17
كنا قد تكلمنا من قبل عن بعض النبوات التي تشمل في مضمونها على نبوتين يتم تحقيقها في زمنين مختلفين… ومع ذلك فإنه يبدو الحديث واحداً، دون إعطاء فاصل أو إشارة زمنية تفصل بين النبوتين… من هذه النبوات، نبوة سفر صموئيل الثاني التي نحن بصدد دراستها الآن. هذه النبوة تتحدث عن عهدٍ يقطعه الله مع داود ونسله. في الجزء الأول، يركز مباشرة على إعطاء ابن داود سيرث عرشه بعده مباشرة، ثم بعد ذلك حديث غير مباشر عن ابن داود، يأتي من نسله فيما بعد، وهو المسيا. والعهد مع داود ونسله يتمثّل في ثلاثة أمور هي:
– بيتٌ أبدي (سلالة حاكمة).
– مملكة أبدية.
– عرش أبدي.
وكإثبات فوري لصدق الله في وعده هذا، أن نسل داود سيُصان في ابن يأتي منه مباشرة، يبني هيكلاً للرب، الذي لم يُسمح لداود أن يبنيه. هذا بالطبع، هو هيكل سليمان…. وعندما أخطأ هذا الابن – سليمان – وسقط في عبادة الأوثان أدّبه الله وعاقبه، ولكن بقي عهد الله معه ثابتاُ. “إِنْ تَعَوَّجَ أُؤَدِّبْهُ….. وَلكِنَّ رَحْمَتِي لاَ تُنْزَعُ مِنْهُ”… كانت رغبة داود أن يبني بيتاً للرب وشاركه في هذه الرغبة ناثان النبي، الذي كان هو أيضاً ميالاً لأن يبني داود الهيكل. ولكن، على من رغبة داود وناثان، تكلم الرب على فم ناثان وقال “لا”. وسبب عدم اختيار الرب لداود لبناء الهيكل، أن داود سفك دماً كثيراً ” فَلاَ تَبْنِي بَيْتًا لاسْمِي لأَنَّكَ سَفَكْتَ دِمَاءً كَثِيرَةً عَلَى الأَرْضِ أَمَامِي.” أخبار الأيام الأول 22: 8. لكن سيبني الهيكل ابنه سليمان ومعنى اسمه رجل السلام Shalom.
نبوة ناثان – أيضاً – امتدت إلى أبعد من بناء هيكل أرضي إلى بيت عهد الله الأبدي، ولذا يُكمل ناثان النبوة قائلاً “وَأَنَا أُثَبِّتُ كُرْسِيَّ مَمْلَكَتِهِ إِلَى الأَبَدِ. أَنَا أَكُونُ لَهُ أَبًا وَهُوَ يَكُونُ لِيَ ابْنًا….. كُرْسِيُّكَ يَكُونُ ثَابِتًا إِلَى الأَبَدِ”. هذا الوعد لا يُمكن أن ينطبق على سليمان… هل حكم سليمان كملك إلى الأبد. فالعرش الأبدي، بحسب النبوة سيؤسسه ويثبته المسيا، الذي سيُعطى سلاماً أبدياً.
من جهة أخرى، غالبية الأنبياء الذين تنبأوا بعد موت داود الملك، عند حديثهم عن الأيام الأخيرة (الأزمنة الأخيرة يُقصد بها ملء الزمان أي الفترة التي تسبق مجيء المسيا مباشرة)، عادة استعملوا اسم داود كإشارة إلى هذا المسيا. فعلى سبيل المثال:
– “بَعْدَ ذلِكَ يَعُودُ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَيَطْلُبُونَ الرَّبَّ إِلهَهُمْ وَدَاوُدَ مَلِكَهُمْ، وَيَفْزَعُونَ إِلَى الرَّبِّ وَإِلَى جُودِهِ فِي آخِرِ الأَيَّامِ.” هوشع 3: 5. بينما تنبأ هوشع بعد موت داود بزمن بعيد. إذاً، النبي يتكلم عن داود العظيم أي المسيا.
– “وَأُقِيمُ عَلَيْهَا رَاعِيًا وَاحِدًا فَيَرْعَاهَا عَبْدِي دَاوُدُ، هُوَ يَرْعَاهَا وَهُوَ يَكُونُ لَهَا رَاعِيًا. 24وَأَنَا الرَّبُّ أَكُونُ لَهُمْ إِلهًا، وَعَبْدِي دَاوُدُ رَئِيسًا فِي وَسْطِهِمْ. أَنَا الرَّبُّ تَكَلَّمْتُ.” حزقيال 34: 23-24. ومعروف أن حزقيال جاء بعد داود بفترة طويلة.
– “فِي ذلِكَ الْيَوْمِ أُقِيمُ مِظَلَّةَ دَاوُدَ السَّاقِطَةَ، وَأُحَصِّنُ شُقُوقَهَا، وَأُقِيمُ رَدْمَهَا، وَأَبْنِيهَا كَأَيَّامِ الدَّهْرِ. ” عاموس 9: 11.
من جهة أخرى، غالبية الأنبياء، عندما تحدثوا عن عرش داود، ألمحوا إلى أن هذا العرش سماوي روحي وليس عرشاً عادياً أرضياً. ففي مزمور لأيثان الأزراحي، يتبين لنا أن العرش الذي ينسبه لداود ليس أرضياً، لأن الملك الذي يجلس عليه هو داود العظيم، ملك إلى دهر الدهور “أَنَا أَيْضًا أَجْعَلُهُ بِكْرًا، أَعْلَى مِنْ مُلُوكِ الأَرْضِ. إِلَى الدَّهْرِ أَحْفَظُ لَهُ رَحْمَتِي. وَعَهْدِي يُثَبَّتُ لَهُ. وَأَجْعَلُ إِلَى الأَبَدِ نَسْلَهُ، وَكُرْسِيَّهُ مِثْلَ أَيَّامِ السَّمَاوَاتِ…. مَرَّةً حَلَفْتُ بِقُدْسِي، أَنِّي لاَ أَكْذِبُ لِدَاوُدَ: نَسْلُهُ إِلَى الدَّهْرِ يَكُونُ، وَكُرْسِيُّهُ كَالشَّمْسِ أَمَامِي.” مزمور 89: 27-36. وفي مدراش رباه على سفر المزامير، يُعلّق على هذا المزمور قائلاً [ …. رابي ناثان Rabbi Nathan يقول: إن الله كلّم إسرائيل قائلاً، كما جعلت يعقوب هو البكر وكُتب عنه “أَنَا أَيْضًا أَجْعَلُهُ بِكْرًا” مزمور 89: 27 Midrash Rabbah Shemot.
أخيراً، نسل داود سيبلغ ذروته بميلاد أبن أبدي، وأبديته هو الضامن لبقاء بيت داود ومملكته وكرسيه إلى الأبد. إذاً، المسيا ابن داود سيجلس إلى الأبد على كرسي داود أبيه.
المسيح ابن داود
في النبوات التي درسناها سابقاً، وجدنا أن المسيا هو ابن داود بحسب الجسد، وله أحقية أن يجلس على كرسيّه. ولكن كيف نعرف أن الرب يسوع المسيح الذي جاء هو ابن داود وما هي أحقيته في أن يجلس على كرسي أبيه. وقف بطرس الرسول في يوم الخمسين، يخاطب الجمع قائلاً “َأيُّهَا الرِّجَالُ الإِخْوَةُ، يَسُوغُ أَنْ يُقَالَ لَكُمْ جِهَارًا عَنْ رَئِيسِ الآبَاءِ دَاوُدَ إِنَّهُ مَاتَ وَدُفِنَ، وَقَبْرُهُ عِنْدَنَا حَتَّى هذَا الْيَوْمِ. فَإِذْ كَانَ نَبِيًّا، وَعَلِمَ أَنَّ اللهَ حَلَفَ لَهُ بِقَسَمٍ أَنَّهُ مِنْ ثَمَرَةِ صُلْبِهِ يُقِيمُ الْمَسِيحَ حَسَبَ الْجَسَدِ لِيَجْلِسَ عَلَى كُرْسِيِّهِ…. فَيَسُوعُ هذَا أَقَامَهُ اللهُ، وَنَحْنُ جَمِيعًا شُهُودٌ لِذلِكَ.” أعمال الرسل 2: 29-32… أما بولس الرسول فوعظ الشعب في إنطاكية قائلاً “وَأَقَامَ لَهُمْ دَاوُدَ مَلِكًا، الَّذِي شَهِدَ لَهُ أَيْضًا، إِذْ قَالَ: وَجَدْتُ دَاوُدَ بْنَ يَسَّى رَجُلاً حَسَبَ قَلْبِي، الَّذِي سَيَصْنَعُ كُلَّ مَشِيئَتِي. مِنْ نَسْلِ هذَا، حَسَبَ الْوَعْدِ، أَقَامَ اللهُ لإِسْرَائِيلَ مُخَلِّصًا، يَسُوعَ.” أعمال الرسل 13: 22-23… كانت سجلات الأنساب محفوظة في الهيكل، وعندما ذاع صيت السيد المسيح بمعجزاته الخارقة والتفّ حوله الجموع، لابد وأن رؤساء الكهنة والكتبة والفريسيين، رجعوا إلى السجلات وتأكدوا من أنه من نسل داود. والدليل على ذلك، أن السيد المسيح نفسه، سألهم مرة قائلاً “وَفِيمَا كَانَ الْفَرِّيسِيُّونَ مُجْتَمِعِينَ سَأَلَهُمْ يَسُوعُ 42قَائلاً: «مَاذَا تَظُنُّونَ فِي الْمَسِيحِ؟ ابْنُ مَنْ هُوَ؟» قَالُوا لَهُ: «ابْنُ دَاوُدَ».” متى 22: 41-42. أيضاً، عند دخول السيد المسيح إلى أريحا، صرخ الأعمى يا يسوع ابن داود ارحمني (لوقا 18: 35-42).
كل من إنجيل متى وإنجيل لوقا، ذكرا سلسلة أنساب الرب يسوع، حيث أنهما اهتما بقصة ميلاد السيد المسيح وبداية حياته الأولى. ومن سلسلة أنساب الرب يسوع يتضح بكل يقين أن يوسف ومريم كلاهما من بيت داود. لكن تبرز أمامنا العديد من الأسئلة قد تبدو للوهلة الأولى صعبة، ولكن بقليل من القراءة بإمعان نجد أن الإجابة على هذه الأسئلة سهلة. والأسئلة هي:
- لماذا تُوجد سلسلتان من الأنساب، ألا تكفي واحدة؟
- مادام السيد المسيح ليس ابناً حقيقياً ليوسف البار (لأن السيد المسيح وُلد بدون زرع بشر)، بل هو فقط ابن للعذراء مريم بحسب الجسد… ما هي أحقيته لأن يجلس على عرش داود؟
- مشكلة يُكنيا Jeconiah في نسب السيد المسيح؟
وللإجابة على هذه الأسئلة، يحسن لنا أن ننبه ذهن القارئ، أن سلسة الأنساب بحسب القديس متى وردت في الأصحاح الأول من الإنجيل، أما بحسب القديس لوقا، فوردت في الأصحاح الثالث.
أولاً: رأي الكنيسة القبطية الأرثوذكسية
إن الذين دونا سلسلة أنساب الرب يسوع هما متى ولوقا، وقد أكدا أن الرب يسوع هو ابن داود، أي أن المخلّص هو ابن داود. وصلة الرب يسوع بداود هي أمر مهم، ليس بالنسبة للعهد القديم فقط، بل بالنسبة للعهد الجديد أيضاً. ففي الرب يسوع تتحقق الوعود والنبوات التي كان شعب الله ينتظرها منذ القديم. والكتاب يؤكد هذا فيقول “وَالْجُمُوعُ الَّذِينَ تَقَدَّمُوا وَالَّذِينَ تَبِعُوا كَانُوا يَصْرَخُونَ قَائِلِينَ: «أُوصَنَّا لابْنِ دَاوُدَ! مُبَارَكٌ الآتِي بِاسْمِ الرَّبِّ! أُوصَنَّا فِي الأَعَالِي!».” متى 21: 9 – “آخَرُونَ قَالُوا: «هذَا هُوَ الْمَسِيحُ!». وَآخَرُونَ قَالُوا: «أَلَعَلَّ الْمَسِيحَ مِنَ الْجَلِيلِ يَأْتِي؟ أَلَمْ يَقُلِ الْكِتَابُ إِنَّهُ مِنْ نَسْلِ دَاوُدَ، وَمِنْ بَيْتِ لَحْمٍ، الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَ دَاوُدُ فِيهَا، يَأْتِي الْمَسِيحُ؟»” يوحنا 7: 41-42 – ” عَبْدٌ لِيَسُوعَ الْمَسِيحِ….. الَّذِي سَبَقَ فَوَعَدَ بِهِ بِأَنْبِيَائِهِ فِي الْكُتُبِ الْمُقَدَّسَةِ، عَنِ ابْنِهِ. الَّذِي صَارَ مِنْ نَسْلِ دَاوُدَ مِنْ جِهَةِ الْجَسَدِ” رومية 1: 1-3.
إلا أن في العهد الجديد سلسلتين للنسب (متى ولوقا)، هاتان السلسلتان تؤكدان نسب يوسف وليس نسب مريم. ولكي يبين متى (1: 2-16) أن المسيح هو من نسل داود، يُقدم لنا سلسلة كبيرة من الأسماء، لينتهي بالقول “وَيَعْقُوبُ وَلَدَ يُوسُفَ رَجُلَ مَرْيَمَ الَّتِي وُلِدَ مِنْهَا يَسُوعُ الَّذِي يُدْعَى الْمَسِيحَ.” متى 1: 6. أما لوقا، فلكي يصل إلى القول أن يسوع هو ابن داود يقول” وَلَمَّا ابْتَدَأَ يَسُوعُ كَانَ لَهُ نَحْوُ ثَلاَثِينَ سَنَةً، وَهُوَ عَلَى مَا كَانَ يُظَنُّ ابْنَ يُوسُفَ، بْنِ هَالِي….. بْنِ دَاوُدَ….، بْنِ آدَمَ، ابْنِ اللهِ.” لوقا 3: 23-38.
لكن مع ذلك تبقى هناك مشكلة تقوم على أمر مفاده باختصار أن الميلاد العذراوي يأتي ليؤكد عدم نسب الرب يسوع ليوسف. من هنا، فإن الاعتراضات على نسبة الرب يسوع ليوسف تبقى قائمة وتحتاج إلى جواب!!
إذا كان متى لا يُعطي قائمة بأسماء أجداد مريم العذراء، فذلك لأنه يُعالج أمراً معروفاً وبديهياً في زمانه أعنى أن يوسف هو من داود، ومريم أيضاً هي من نسل داود. أما لوقا فكان بصدد الكلام عن عمل الخلاص الذي تم بالرب يسوع، من هنا إرجاعه شجرة النسب إلى آدم الجد الأول للبشرية. وإذا قلنا أن مريم ويوسف هما من العائلة، عندها تُحل المشكلة، لأن الرب يسوع سوف يكون ابناً لداود لجهة أمه العذراء أيضاً، وبذلك تتحقق فيه المواعيد والنبوات “فَبُهِتَ كُلُّ الْجُمُوعِ وَقَالُوا: «أَلَعَلَّ هذَا هُوَ ابْنُ دَاوُدَ؟»” متى 12: 23.
ولكن هل كانت مريم فعلاً من عائلة يوسف؟ وكيف السبيل إلى إثبات ذلك؟ وإذا كانت مريم من نفس عائلة يوسف، لماذا لم يذكر الإنجيليان ذلك؟
لقد كتب متى إنجيله حوالي سنة 65 ميلادية، ولوقا كتب إنجيله حوالي سنة 61 ميلادية. وبالتالي فإنهما يكتبان لأناس يعرفون الأمور على حقيقتها. أي أن كثيرين من الذين عاصروا الأحداث، كانوا على قيد الحياة في ذلك الحين. وإذا كانت الحقيقة مخالفة لهذه المعطيات، عندها نسأل: كيف يشدد متى ولوقا على عذراوية ميلاد الرب يسوع، الأمر الذي يدعونا حتماً إلى القول أن النسب عند متى ولوقا لا تُشكل أساساً في نسبة الرب يسوع إلى داود، إنما تأتي لتؤكدها… وبنتيجة هذه الخلاصة يكون يوسف أباً للرب يسوع بالتبنّي. وهكذا نستطيع أن نستشف مسألة تبنى يوسف البار للرب يسوع من قول الملاك “يَا يُوسُفُ ابْنَ دَاوُدَ، لاَ تَخَفْ أَنْ تَأْخُذَ مَرْيَمَ امْرَأَتَكَ. لأَنَّ الَّذِي حُبِلَ بِهِ فِيهَا هُوَ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ.” متى 1: 20 – “قُمْ وَخُذِ الصَّبِيَّ وَأُمَّهُ وَاهْرُبْ إِلَى مِصْرَ” متى 2: 13.
متى ولوقا يُسجلان لنا نسبة يوسف إلى داود دون أن يتكلما عن نسبة مريم لداود. كيف نفهم هذا الاغفال؟ كان الأمر طبيعياً إذ ذاك، فالعهد القديم لا يُقدّم النسب إلا من خلال الذكور. أما النسوة اللواتي ذُكرن في متى ولوقا فقد وردن بسبب ما جرى معهن من أحداث، لا بالنظر لأهميتهن في النسب، ولكن من أجل مغزى هام جداً وهو أن الرب يسوع جاء من أجل الكل: خطاة وأبرار – يهود وأمم، من أجل العالم كله. هكذا فإن كون يوسف ومريم محسوبين على نسل داود، لا يفقد البتة من قيمة عجائبية الميلاد العذراوي للسيد المسيح. ولا ننسى أن الشعوب التي كتب لها متى ولوقا كانت متأثرة إلى حد بعيد بالفكر اليهودي… “لَيْسَ يَهُودِيٌّ وَلاَ يُونَانِيٌّ. لَيْسَ عَبْدٌ وَلاَ حُرٌّ. لَيْسَ ذَكَرٌ وَأُنْثَى، لأَنَّكُمْ جَمِيعًا وَاحِدٌ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ. ” غلاطية 3: 28.
لماذا هناك سلسلتان للأنساب؟
إن اختلاف نظريتي النسب عند القديس متى والقديس لوقا، لا يُشير إلى تناقض في المعلومات بل إلى اختلاف في الزاوية التي منها ينظر كل منهما إلى النسب. القديس لوقا لا يُخالف القديس متى الذي ينادي بأن الرب يسوع ابناً لداود. إن ما يدعو إلى فهم السلسلتين هو الشريحة البشرية التي نٌقلت إليها البشارة. فبينما توجّه متى ببشارته إلى مسيحيين من أصل يهودي، نجد أن لوقا توجّه إلى مسيحيين من أصل يوناني. لقد أراد القديس متى والقديس لوقا
من هذين السلسلتين من الأنساب أن يُظهر أن الرب يسوع هو الوريث الشرعي للوعود الإلهية. لا سيما وأن الاثنين ينتهيان في سلسلتيهما من النسب عند يوسف البار خطيب مريم. فالرب يسوع كان لابد أن يكون ابناً شرعياً من جهة الشريعة اليهودية. وكما أسلفنا، فإن معرفة وجهة بشارة القديس متى والقديس لوقا، من شأنها أن يُعيننا على فهم الاختلاف بين شجرة الأنساب الواردة عند متى ولوقا بآن معاً.
وليست السلسلة من الأسماء – سواء حسب ترتيب متى أو لوقا – غير مهمة لاهوتياً. ليست هي شجرة عائلة كباقي الشجرات المعروفة في المجتمعات البشرية. إنما الغاية منها الاثبات أن يسوع المسيح هو ابن داود وابن ابراهيم. ففيه يتحقق أيضاً، وعد الله لإبراهيم” ” فيك تتبارك جميع أمم الأرض… “تكوين 15: 3- تكوين 22: 18. متى الإنجيلي كان يعي ذلك جيداً. وإلا ما قيمة أن يُرجع نسب الرب يسوع إلى إبراهيم. كذلك فإن الوعد بالمسيا الذي سيأتي من نسل داود، نجده في (2صموئيل 7: 12/ مزمور 89: 3/ مزمور 132: 11). وهكذا، فإذا وُفق متى إلى إعطاء الدليل من أن الرب يسوع هو ابن داود وابن إبراهيم، فإن هذا سيجعل اليهود يتلهفون أكثر لسماع وقبول بشرى الخلاص بالمسيح، المسيا المنتظر (يو4 : 25-26).
أما لوقا فكون السلسلة تنتهي بأن المسيح المنحدر من داود وإبراهيم، هو أيضاً ابن آدم ابن الله، فهكذا لكي يقتنع كل من يقرأ سلسلة أنسابه أن المسيح لم يأت من أجل اليهود فقط بل أيضاً من أجل الأمم كلها ابناء آدم. فالانفتاح الحقيقي على الشعوب، والخروج إليهم بالحب، هو من عطايا الله. فاللاب يسوع جاء إلى اليهود أولاً دون أن ينحصر فيهم …. هو للكل.
آراء أخرى بخصوص نسب الرب يسوع
السؤال الذي كنا قد ذكرناه من قبل، وهو: مادام السيد المسيح ليس ابناً حقيقياً ليوسف البار، بل هو فقط ابن للعذراء مريم… ماهي أحقيته لأن يجلس على عرش داود أبيه؟…. قد يتسرع البعض ويقول: لأن العذراء مريم هي أيضاً من نسل داود…. نعم هذا صحيح. ولكن، بينما الرب يسوع هو ابن للعذراء مريم – فقط – وليس ليوسف، لماذا يُذكر يوسف في سلسلة نسبه في كل من انجيل متى وانجيل لوقا؟ … هنا ويظهر رأي آخر.
هذا الرأي الآخر يقول: أن سلسلة نسب الرب يسوع حسب إنجيل متى، هي سلسلة نسبه من جهة يوسف البار، على اعتبار أن الرب يسوع يُعتبر ابناً شرعياً ليوسف البار (أي حسب الشريعة اليهودية، ابناً بالتبني وليس ابناً حقيقياً)… لكن سلسلة نسب الرب يسوع حسب انجيل لوقا، هي سلسلة نسبه من جهة العذراء مريم. نقطة أخرى هامة: انجيل متى يبين حقيقة هامة جداً، وهي لو أن الرب يسوع ابن حقيقي ليوسف، فلا يحق له أبداً أن يجلس على كرسي داود، والسبب في ذلك مشكلة يُكُنيا (سنتكلّم عن هذه المشكلة لاحقاً).
وهنا يؤكد متى على الميلاد البتولي للسيد المسيح. في حين أن لوقا بذِكر سلسلة نسب الرب يسوع من جهة أمه العذراء، ليُبيّن أحقية السيد المسيح لعرش داود أبيه، حين أن العذراء هي من بيت داود. وهنا يتضح لنا بسهولة – السبب الحقيقي – لوجود سلسلتين لأنساب الرب يسوع. لو أن السلسلتين الواردتين في كل من إنجيل متى وإنجيل لوقا، هما لتوضيح نسب الرب يسوع من جهة يوسف، لكان بالأولى الاكتفاء بواحدة فقط. فحسب هذا الرأي: سلسلة النسب – بحسب إنجيل متى – تُرد نسب الرب يسوع من جهة يوسف. أما سلسلة النسب – بحسب إنجيل لوقا – تُرد نسب الرب يسوع من جهة مريم.
مشلكة يكنيا Jeconiah
كل منا يوافق على أن القديس يوسف ليس أباً حقيقاً للمسيح، ولكن أباً شرعياً له، بالتبني (حسب الشريعة اليهودية). هذه هي نقطة الاتفاق الأولى.
بعد تقسيم المملكة بموت سليمان ابن داود، أصبحت الملوكية تتطلب شرطين: الأول، يتطابق مع عرش مملكة يهوذا (المملكة الجنوبية) في أورشليم بينما الآخر، يتطابق مع عرش مملكة إسرائيل (المملكة الشمالية) في السامرة. الشرط الأساسي لعرش يهوذا، هو أن يكون من نسل داود. لهذا السبب، كانت كل مؤامرة تُدبّر لبيت داود مصيرها الفشل (راجع إشعياء 7، 8). لكن شرط اعتلاء عرش إسرائيل في السامرة، كان بتعيين إلهي يُصدره نبي، وكل شخص كان يحاول أن يحكم دون إصدار قرار نبوي، كان يقتل (راجع ملوك الأول 11: 26-39/ 15: 28- 30/ 16: 1- 4/ 21: 21- 29/ ملوك الثاني 9: 6- 10/ 10: 29- 31/ 15: 8- 12).
سلسلة النسب في إنجيل متى، يتتبع نسب يوسف خطيب مريم. والنسب يبدأ بإبراهيم (متى 1: 2) ويستمر بالتدرج إلى أسفل ليصل إلى داود وسليمان (الآية 6)، ثم يصل إلى يُكُنيا Jeconiah (الآية 11). وهو آخر الملوك قبل سبي بابل. هذا الملك يُسمى أيضاً كونيا Coniah أو يهوياكين Jihoiachin، تولّى العرش بعد موت أبيه يهوياقيم Jehoiakim… سُبي كونيا Coniah إلى بابل سنة 597 ق.م. وقد حكم ثلاثة أشهر وعشرة أيام فقط. وليس إعتباطاً أن يذكر متى في إنجيله هذا الملك الشرير متعمداً، لأن لهذا مغزى هام فيما يتعلق به:
1 – كان هذا الملك شريراً “كَانَ يَهُويَاكِينُ ابْنَ ثَمَانِي عَشَرَةَ سَنَةً حِينَ مَلَكَ، وَمَلَكَ ثَلاَثَةَ أَشْهُرٍ فِي أُورُشَلِيمَ، وَاسْمُ أُمِّهِ نَحُوشْتَا بِنْتُ أَلِنَاثَانَ مِنْ أُورُشَلِيمَ. وَعَمِلَ الشَّرَّ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ حَسَبَ كُلِّ مَا عَمِلَ أَبُوهُ.” ملوك الثاني 24: 8- 9.
2 – هذا الملك الشرير لعنه الرب على لسان إرميا النبي، قائلاً “حَيٌّ أَنَا، يَقُولُ الرَّبُّ، وَلَوْ كَانَ كُنْيَاهُو بْنُ يَهُويَاقِيمَ مَلِكُ يَهُوذَا خَاتِمًا عَلَى يَدِي الْيُمْنَى فَإِنِّي مِنْ هُنَاكَ أَنْزِعُكَ، وَأُسَلِّمُكَ لِيَدِ طَالِبِي نَفْسِكَ، وَلِيَدِ الَّذِينَ تَخَافُ مِنْهُمْ، وَلِيَدِ نَبُوخَذْرَاصَّرَ مَلِكِ بَابِلَ، وَلِيَدِ الْكَلْدَانِيِّينَ. وَأَطْرَحُكَ وَأُمَّكَ الَّتِي وَلَدَتْكَ إِلَى أَرْضٍ أُخْرَى لَمْ تُولَدَا فِيهَا، وَهُنَاكَ تَمُوتَانِ.” إرميا 22: 24- 26. أما اللعنات فهي تشمل على “يَا أَرْضُ، يَا أَرْضُ، يَا أَرْضُ اسْمَعِي كَلِمَةَ الرَّبِّ! هكَذَا قَالَ الرَّبُّ: اكْتُبُوا هذَا الرَّجُلَ عَقِيمًا، رَجُلاً لاَ يَنْجَحُ فِي أَيَّامِهِ، لأَنَّهُ لاَ يَنْجَحُ مِنْ نَسْلِهِ أَحَدٌ جَالِسًا عَلَى كُرْسِيِّ دَاوُدَ وَحَاكِمًا بَعْدُ فِي يَهُوذَا.” إرميا 22: 29- 30. أي تتمثل اللعنات الثلاث في:
يكون عقيماً – لا ينجح في أيامه – لا ينجح أحد من نسله ليجلس على كرسي داود. هذا قد تم بالحرف الواحد، حيث نقرأ في سفر ملوك الثاني “فِي ذلِكَ الزَّمَانِ صَعِدَ عَبِيدُ نَبُوخَذْنَاصَّرَ مَلِكِ بَابِلَ إِلَى أُورُشَلِيمَ، فَدَخَلَتِ الْمَدِينَةُ تَحْتَ الْحِصَارِ. وَجَاءَ نَبُوخَذْنَاصَّرُ مَلِكُ بَابِلَ عَلَى الْمَدِينَةِ، وَكَانَ عَبِيدُهُ يُحَاصِرُونَهَا. فَخَرَجَ يَهُويَاكِينُ مَلِكُ يَهُوذَا إِلَى مَلِكِ بَابِلَ، هُوَ وَأُمُّهُ وَعَبِيدُهُ وَرُؤَسَاؤُهُ وَخِصْيَانُهُ، وَأَخَذَهُ مَلِكُ بَابِلَ…. وَسَبَى يَهُويَاكِينَ إِلَى بَابِلَ. وَأُمَّ الْمَلِكِ وَنِسَاءَ الْمَلِكِ وَخِصْيَانَهُ وَأَقْوِيَاءَ الأَرْضِ، سَبَاهُمْ مِنْ أُورُشَلِيمَ إِلَى بَابِلَ. ” ملوك الثاني 24: 10- 15.
في سلسلة النسب التي سجلها القديس متى، يُلاحظ أن يوسف يأتي من نسل كونيا أو يهوياكين (الآية 16)، هذا بالتالي يعني أن يوسف يحمل في عروقه دماً من يهوياكين، فهو غير مؤهل للجلوس على عرش داود (حسب اللعنة). هذا أيضاً يعني أن لا أحد من أبناء يوسف يحق له الجلوس على كرسي داود. عندئذ، لو أن السيد المسيح هو ابن يوسف فهذا يجعله غير مؤهل لأن يجلس على عرش داود. ولهذا السبب، بدأ القديس متى في سرد الأنساب تدريجياً إلى أن وصل إلى يوسف، ثم يتوقف ليسرد قصة الميلاد من العذراء، والتي من وجهة نظر متى حلّ لمشكلة كونيا.
فولادة المسيح من عذراء بالروح القدس، يعني عدم وصول لعنة كونيا للمسيح، ولذا فيحق له أن يجلس على عرش داود أبيه، حيث أن العذراء هي أيضاً من بيت داود. إذاً، خطة متى الإنجيلي، أن يُرينا أن الرب يسوع ليس حقيقة ابناً ليوسف، هو وُلد من العذراء مريم “أما ولادة يسوع المسيح فكانت هكذا…” متى 1: 18- 25. ومع ذلك هو ابن لداود، ليس من جهة يوسف ولكن من جهة العذراء مريم… وهذا يجعلنا في حاجة إلى سلسلة أنساب أخرى، أي نسب السيد المسيح لداود، لكن من جهة العذراء مريم… وهذا ما قام به القديس لوقا.
وردت سلسلة نسب السيد المسيح – بحسب إنجيل لوقا – في الأصحاح الثالث… لماذا لم يذكرها في الأصحاح الأول كما فعل متى الإنجيلي؟ … ماذا عن الأصحاح الأول والثاني…؟… بحسب التقليد اليهودي، ليس من المألوف أن تُثبت نسب شخص ما من جهة امرأة – أي من جهة الأم وليس من جهة الأب – هذا يُعتبر خروجاً عن التقليد. لكن بالتأكيد أن لوقا قد خرج عن المألوف، حيث أنه كتب باليونانية، من جهة… ومن جهة أخرى كتب للمسيحيين من أصل يوناني، بعكس متى البشير، الذي كتب بالعبرية والآرامية، وللمسيحيين من أصل يهودي.
لكن إذا أردت أن تتتبّع نسب امرأة ولا تُريد أن تذكر اسمها… ماذا يمكنك أن تفعل؟…. الإجابة أن تستعمل اسم زوجها. وهنا تبرز مشكلة: لو استعملت اسم الزوج، قد يقع القارئ في حيرة، كيف يمكنه أن يُميّز من هو المقصود في هذا النسب، هل الزوج أم الزوجة… حيث أنه في كلتا الحالتين اسم الزوج هو المُستخدم؟…. إجابة هذا السؤال يظل صعباً، بسبب الفارق في قواعد اللغة، بين اليونانية والعربية (أرجو ألا يغيب عن ذهن القارئ أن لوقا كتب باليونانية).
في قواعد اللغة العربية، لا يُستحسن وضع أداة التعريف “ال” قبل الاسم الشخصي، ونفس الشي أيضاً في اللغات الأخرى الأجنبية. فلا نقول مثلاً: المتى – اللوقا – اليوحنا – المريم…. إلخ. ومع ذلك فهذا مسموح به فعلاً في قواعد اللغة اليونانية. ففي النص اليوناني الذي كتب به القديس لوقا، نجد في سلسلة أنساب الرب يسوع، أن كل اسم ذُكر فيها يسبقه أداة التعرف اليونانية والتي تٌقابل في العربية “أل”، باستثناء اسم واحد فقط، لم يسبقه أداة التعريف “أل” هو اسم يوسف.
ماذا يعني هذا بالنسبة للقارئ الذي يقرأ سلسلة النسب هذه؟. عندما يرى القارئ أداة التعريف “أل” غائبة قبل اسم يوسف، بينما هو موجودة في بقية الأسماء، يعرف للحال أن سلسلة النسب هذه لا تخص يوسف (الزوج) ولكن تخص مريم (الزوجة) من كتاب [A Harmony of the Gospel. pages 259 -262. – Harper – San Franciscon].
بناء على ذلك، نقول أن القديس لوقا يتتبع نسب مريم، ويثبت أن مريم من بيت داود، وبذلك أحقية المسيح بعرش داود أبيه. ولوقا يبدأ سلسلة الانساب من الرب يسوع ثم يتتبعها حتى يصل إلى داود (آية 31-32). والنقطة الهامة جداً في سلسلة الأنساب بحسب القديس لوقا: أن ابن داود في هذه السلسلة مرتبط ليس بسليمان، بل بناثان. أي ان ميرم هي من بيت داود وفي نفس الوقت مُنفصلة تماماً عن كونيا أو يهوياكين (يكنيا).
ونُلاحظ اختفاء اسم كونيا من سلسلة الأنساب بحسب القديس لوقا. وبهذا يكون القديس لوقا حلّ مشكلة كونيا، ويكون السيد المسيح له أحقية الجلوس على كرسي داود أبيه. بهذا الأسلوب يتحقق فيه أول شرط في العهد القديم للملوكية على العرش، كونه ابن داود. رغم ذلك، فإن الرب يسوع ليس وحده من بيت داود، ومنفصل عن يُكنيا. حيث يوجد كثيرون من أنساب أخرى، على قدم المساواة مع الرب يسوع في أحقية عرش داود، لأنهم هم أيضاً لا يجري في عروقهم دم من يُكنيا.
عند هذه النقطة الهامة نُذكّر بالشرط الثاني في العهد القديم للملوكية: ألا وهو الوعد الإلهي أو الاختيار الإلهي. من كل بيت داود المنفصلين عن يكنيا، واحد فقط هو الذي تقبّل الوعد الإلهي، هو الرب يسوع… حيث نقرأ في إنجيل لوقا “فَقَالَ لَهَا الْمَلاَكُ: «لاَ تَخَافِي يَا مَرْيَمُ، لأَنَّكِ قَدْ وَجَدْتِ نِعْمَةً عِنْدَ اللهِ. وَهَا أَنْتِ سَتَحْبَلِينَ وَتَلِدِينَ ابْنًا وَتُسَمِّينَهُ يَسُوعَ. هذَا يَكُونُ عَظِيمًا، وَابْنَ الْعَلِيِّ يُدْعَى، وَيُعْطِيهِ الرَّبُّ الإِلهُ كُرْسِيَّ دَاوُدَ أَبِيهِ، وَيَمْلِكُ عَلَى بَيْتِ يَعْقُوبَ إِلَى الأَبَدِ، وَلاَ يَكُونُ لِمُلْكِهِ نِهَايَةٌ».” لوقا 1: 30-33.
إذاً، أحقية الرب يسوع في عرش داود تكمن في: نسبه من جهة العذراء مريم وليس من جهة يوسف – من بيت داود ومنفصل عن يكنيا – هو وحده الذي تقبّل الوعد الإلهي بهذا العرش.
أيضاً، يبدو الآن واضحاً، لماذا ذكر القديس لوقا سلسلة أنساب الرب يسوع في الأصحاح الثالث وليس في الأصحاح الأول كما فعل القديس متى…. حيث بدأ القديس لوقا إنجيله بالتركيز على الحديث عن العذراء وإعطاء الوعد الإلهي بولادة المسيا الملك الذي يجلس على عرش داود أبيه… مع لفت الانتباه إلى عذراوية هذا الميلاد… وقد استغرق ذلك من القديس لوقا اصحاحين.
دليل آخر: بالإضافة إلى ما سبق وقلناه في أن سلسلة أنساب الرب يسوع في إنجيل لوقا، هي من جهة أمه العذراء مريم، نقدم دليلاً آخر لذلك… هذا الدليل يتضح في خطين من البراهين:
أولاً: أن التلمود نفسه يُشير إلى مريم، مُستخدماً الاسم العبر لها “مِريام Miriam” كأبنة هالي Heli.
Jerusalem Talmud, Chagigah 2: 4; Sanhedrin 23: 3- Babylonian Talmud, Sanhedrin 44:2]
واضح – إذاً – إنه طوال التقليد اليهودي القديم، يعترف بأن مريم هي ابنة هالي. ثم سجّله التلمود البابلي وتلمود أورشليم. (تقليد الكنيسة القبطية الأرثوذكسية يقول أن مريم هي إبنة يواقيم… هل هالي هذا هو يواقيم؟؟)
ثانياً: معظم الترجمات، تُترجم لوقا 3: 23 كالآتي:
“وهو ابن (على ما يُظنّ) يوسف، ابن ال هالي”. مع ملاحظة أن اسم يوسف لا يسبقه أداة التعريف “ال” في حين بقية الاسماء مبتدأ من هالي، يسبقها أداة التعريف.
وخبراء اللغة اليونانية، يقولوا أن الآية حرفياً تُترجم كالآتي:
“وهو ابن (على ما كان يُظن يوسف)، ابن ال هالي”.
وقد فسرّوها من ناحية المعنى: بالرغم من أن يسوع، كان يُظن أو يُعتبر أنه ابن يوسف كان في الحقيقة ابن هالي.
آراء أخرى لحلّ مشكلة يُكنيا
اللعنات التي أنزلها الله على يُكنيا ونطق بها فم إرميا النبي تتلخص كما قلنا في :
- يكون عقيماً.
- لا ينجح في أيامه.
- لا ينجح أحد من نسله ليجلس على كرسي داود.
آراء بعض العلماء ذهبت إلى القول بأن كل اللعنات التي أنزلها الله على يُكنيا ونطق بها فم إرميا النبي، قد رفعها عنه الله أو ألغاها بسبب توبة يُكنيا وهو في السجن في سبي بابل. ودليلهم على هذا هو:
1- اللعنة الأولى، والتي تتعلّق بأن يكون يُكنيا عقيماً، فعلاً ظل يكنيا عقيماً حتى السبي إلى بابل، والدليل على ذلك، عندما جاء نبوخذ ناصّر إلى أورشليم وسباه يقول الكتاب ” وَسَبَى يَهُويَاكِينَ إِلَى بَابِلَ. وَأُمَّ الْمَلِكِ وَنِسَاءَ الْمَلِكِ وَخِصْيَانَهُ وَأَقْوِيَاءَ الأَرْضِ، سَبَاهُمْ مِنْ أُورُشَلِيمَ إِلَى بَابِلَ.” ملوك الثاني 24: 15. نلاحظ هنا قوله “نساء الملك” ولم يذكر أبداً أن له أبناء، وإلا كان قد سباهم هم أيضاً. بعد سبيه إلى بابل ووضعه في السجن، يبدو أنه قدّم توبة، فرفع الله عنه هذه اللعنة، ثم يعلن الكتاب بعد ذلك أن الله رزقه ابناء كثيرين “وابنا يُكنيا أسير وشألتيئيل ابنه. وملكيرام وفدايا وشنأصّر ويقميا وهو شاماع وندبيا” أخبار الأيام الأول 3: 17- 18. هؤلاء الأبناء أعطاهم الله ليكنيا في السبي.
2 – اللعنة الثانية، والتي تتعلّق بأنه لا ينجح في أيامه…. فعلاً لم ينجح يكنيا في أيامه، حيث أنه ملك على يهوذا، ثلاث سنوات فقط حتى سُبي هو والشعب إلى بابل. لكن يبدو أن الله رفع عنه هذه اللعنة أيضاً – بعد سجنه هناك – إذ قدّم توبة، والدليل على ذلك نقرأ في سفر الملوك الآتي : “وَفِي السَّنَةِ السَّابِعَةِ وَالثَّلاَثِينَ لِسَبْيِ يَهُويَاكِينَ مَلِكِ يَهُوذَا، فِي الشَّهْرِ الثَّانِي عَشَرَ فِي السَّابعِ وَالْعِشْرِينَ مِنَ الشَّهْرِ، رَفَعَ أَوِيلُ مَرُودَخُ مَلِكُ بَابِلَ، فِي سَنَةِ تَمَلُّكِهِ، رَأْسَ يَهُويَاكِينَ مَلِكِ يَهُوذَا مِنَ السِّجْنِ وَكَلَّمَهُ بِخَيْرٍ، وَجَعَلَ كُرْسِيَّهُ فَوْقَ كَرَاسِيِّ الْمُلُوكِ الَّذِينَ مَعَهُ فِي بَابِلَ. وَغَيَّرَ ثِيَابَ سِجْنِهِ. وَكَانَ يَأْكُلُ دَائِمًا الْخُبْزَ أَمَامَهُ كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِهِ.” ملوك الثاني 25: 27- 30. إذاً، خروجه من السجن واعتباره ملكاً، يبين أن الله رفع عنه هذه اللعنة.
3 – اللعنة الثالثة، والتي تتعلق بأن لا ينجح أحد من نسله ليجلس على كرسي داود، هي أيضاً قد رُفعت… فبما أن الله رفع عنه اللعنتين السابقتين، يكون من المقبول أنه رفع عنه هذه اللعنة أيضاً. علاوة على ذلك أن السيد المسيح لم ينحدر من سليمان من خلال يكنيا مباشرة.
وفي كتاب *Yalkut يشرح أن مشكلة يُكنيا قد حُلت بالطريقة الآتية: [… نبوخذ ناصّر قبض على يُكنيا ووضعه في السجن… فإجتمع قادة الدين اليهودي واعتبروا أن هذا الحدث خطير وخافوا من ان تنتهي مملكة داود التي كُتب عنها في المزمور “نَسْلُهُ إِلَى الدَّهْرِ يَكُونُ، وَكُرْسِيُّهُ كَالشَّمْسِ أَمَامِي. مِثْلَ الْقَمَرِ يُثَبَّتُ إِلَى الدَّهْرِ. وَالشَّاهِدُ فِي السَّمَاءِ أَمِينٌ” مزمور 89: 36- 37. ماذا نفعل من أجل هذا؟ نذهب ونترافع أمام الملك نبوخذ ناصّر، لعله يعفي عنه… رابي شبتاي Rabbi Shabatai قال : أن يُكنيا لم يُغادر السجن حتى تاب كلية، فغفر الله له خطاياه ورفع عنه اللعنات.. زوجته حبلت فولدت له أبناء، كما هو مكتوب “وابنا يُكنيا أسير وشألتيئيل ابنه” أخبار الأيام الأول 3: 7. اسير يعنى السجين أما شألتيئيل فيعني سألتُ الرب….]
ومن هنا فهم الرابيون أن يكنيا سأل الرب في السجن أن يغفر له، وأن الله بيّن له استجابة توبته بإعطائه أبناء.
بعد العودة من سبي بابل سنة 539 ق.م.، تعيّن زربابل حاكماً لهم. وواضح أنهم لم يُفكروا أن اللعنات ما زالت سارية المفعول… حيث أن زربابل انحدر من نسل يكنيا. اضف إلى ذلك، أن أنبياء مابعد السبي، رفعّوا زربابل ووضعوا آمالهم عليه، فعلى سبيل المثال زكريا النبي يقول “مَنْ أَنْتَ أَيُّهَا الْجَبَلُ الْعَظِيمُ؟ أَمَامَ زَرُبَّابِلَ تَصِيرُ سَهْلاً! … وَكَانَتْ إِلَيَّ كَلِمَةُ الرَّبِّ قَائِلاً: «إِنَّ يَدَيْ زَرُبَّابِلَ قَدْ أَسَّسَتَا هذَا الْبَيْتَ، فَيَدَاهُ تُتَمِّمَانِهِ، فَتَعْلَمُ أَنَّ رَبَّ الْجُنُودِ أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ».” زكريا 4: 7-9.
ويُعلق أحد الرابيين الكبار الذين آمنوا بالمسيح، على مشكلة يُكنيا قائلاً [ من الإنصاف أن نعتبر بأن اللعنات التي أرسلها الله إلى يُكنيا على فم إرميا النبي… قد رُفعت وأُلغيت، بسبب أنه تاب في سجنه في السبي، فغفر له الله… حتى أن ملك بابل عفا عنه وأطلقه من السجن. وبالتالي، لا يمنع أن يكون المسيح، من ناحية النسب، أن ينحدر من نسل داود وسليمان وحزقيا من خلال يكنيا]
Messianic Christology – Arnold G. Fruchtenbaum
رأي آخر يقول: أن الرب يسوع لم يأتِ مباشرة من يُكنيا. ففي التزاوج ضمن نطاق بيت داود، زربابل حفيد يُكنيا، من خلال ناثان ابن داود، يُعتبر جدّ أعلى للرب يسوع من ناحية أمه (أي من ناحية العذراء مريم). وبالتالي، حتى ولو أن يكنيا يُعتبر حجر عثرة، لا زال الرب يسوع يتصل بأجداده من خلال داود من جهة أمه. وفيما يتعلّق باختيار الشخص الذي يرث عرش داود، حسناً أن نتذكر كلمات الرب إلى زربابل، وهي “فَأَجَابَ وَكَلَّمَنِي قَائِلاً: «هذِهِ كَلِمَةُ الرَّبِّ إِلَى زَرُبَّابِلَ قَائِلاً: لاَ بِالْقُدْرَةِ وَلاَ بِالْقُوَّةِ، بَلْ بِرُوحِي قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ.” زكريا 4: 6.
فالمسيا سيكون من نسل داود ولكن لا يُعزّز بالقدرة (هذه القدرة قد تُشير إلى التوارث الطبيعي للمملكة للأبن البكر “رَأُوبَيْنُ، أَنْتَ بِكْرِي، قُوَّتِي وَأَوَّلُ قُدْرَتِي” تكوين 49: 3)، ولا الاختيار يُعزّز بالقوة، فعلى سبيل المثال، عندما يُمارس الملوك المقتدرون قوتهم ويستعملون حقوقهم في تلبية رغباتهم… بدلاً من ذلك كله، الاختيار سيكون من الروح القدس.
ملحوظة: لقد أوردنا الآراء السابقة كلها من أجل تكامل البحث من جهة… ومن جهة أخرى، من أجل منفعة القارئ العزيز.
* Yalkut: كتاب يهودي قديم، يجمع بداخله مقتطفات أدبية مختارة من أحداث العهد القديم، والتعليق عليها بصبغة روحية.