Site icon فريق اللاهوت الدفاعي

لماذا تأخرت كتابة الاناجيل؟ وماذا حدث في هذا الوقت

لماذا تأخرت كتابة الاناجيل؟ وماذا حدث في هذا الوقت

لماذا تأخرت كتابة الاناجيل؟ وماذا حدث في هذا الوقت

كيف يمكننا أن نعرف ما إن كان من كتبوا الأناجيل قد عرفوا القصة الصحيحة؟ ولماذا تأخرت كتابة الأناجيل لعدة حقب؟ وماذا حدث في ذلك الوقت؟ أليس من المحتمل أن يكون من كتبوا الأناجيل (أو البشيرون، كما يطلق عليهم  في بعض الأحيان) قد نسوا ببساطة معظم التفاصيل الخاصة بما قاله وفعله يسوع عندما بدأوا في الكتابة؟ وحيث أنه من الواضح أن جميع من كتبوا الأناجيل كانوا أناساً مؤمنين، فكيف نعرف ما إن كان إيمانهم لم يقف في طريق الرواية التاريخية الدقيقة؟ وحيث أنهم كانوا يكتبون إلى جماعات محددة، فكيف نعرف أنهم لم يعيدوا بتطرف كتابة المادة لكي تتوافق مع إحتياجات جمهورهم؟ سوف نقوم بمناقشة هذه الأسئلة وغيرها في هذا الجزء.

تعريف المصطلحات

كمهمة أولية، قد يكون من المهم أن نبدأ ببعض التعريفات الأساسية، لأن هذه المصطلحات سوف تستخدم في أجزاء الكتاب بواسطة العلماء الذين نقتبس عنهم. لذلك فمن المفيد أن نحدد بعض التعريفات الأساسية لكي نتمكن من فهم ما يقولونه.

نبدأ بتعبير “الأناجيل المتشابهة”. وكلمة “المتشابهة” هنا تشير إلى تلك الأعمال التي تتبنى نفس وجهة النظر، وهكذا فالأناجيل المتشابهة هي تلك التي تنظر إلى يسوع  بنفس الطريقة تقريباً. ويبدو أن هناك ثلاثة أناجيل تتداخل فيها المادة تقريباً (في كل من التعبيرات اللفظية وترتيب الروايات)؛ ولذلك فإنهم معروفون باسم الأناجيل المتشابهة، وهم إنجيل متى وإنجيل مرقس وإنجيل لوقا.

لكن نظرة إنجيل يوحنا إلى يسوع تختلف عن هذه الأناجيل، حتى أنه قدّر أن تسعين بالمائة من المادة التي وردت في إنجيل يوحنا ينفرد بها هذا الإنجيل، بينما هناك أقل من عشرة بالمائة من إنجيل مرقس يتفرد به هذا الإنجيل. ولذلك لا يعتبر إنجيل يوحنا واحداً من الأناجيل المتشابهة.

عندما نفكر في الأناجيل المتشابهة، يهتم العلماء بنقد المصدر. ويتعلق هذا الأمر بصورة خاصة بالمصادر المكتوبة التي إستخدمها البشيرون عند كتابة بشائرهم. و “النقد” بهذا المعنى يتعلق “بالبحث”، أو التقييم النقدي؛ وليس له علاقة بالاتجاه النقدي.

وعندما نأتي إلى نقد المصدر، يفكر معظم العلماء في نقطتي بداية للمناقشة:

 أولاً، أنهم يرون أن هناك علاقة أدبية بين الأناجيل المتشابهة. وهذا يعني أن أناجيل متى ومرقس ولوقا لم يكتبوا بمعزل تام عن بعضهم البعض، بل إن كاتبيهم قد اشتركوا في بعض الاقتباسات الأدبية.

ثانياً، فيما يختص بالعلاقة الأدبية، يعتمد معظم العلماء على أسبقية إنجيل مرقس، والصياغة المعتادة لذلك هي أن إنجيل مرقس هو أول إنجيل كتب، واستفاد كل من متى ولوقا، من مرقس بصورة مستقلة في كتابة كل منهما لإنجيله. ومع ذلك فهناك نسبة قليلة من العلماء يعتقدون بأسبقية إنجيل متى. والصياغة المعتادة لهذا هي أن إنجيل متى كتب أولاً ثم كتب لوقا بعده ولكن بصورة مستقلة عنه. ثم قام مرقس باستخدام كل ما كتبه متى ولوقا في كتابة إنجيله.

هناك نقطة أخرى بشأن نقد المصدر نحتاج أن نذكرها، وهي أن من يعولون على أسبقية إنجيل مرقس يعتمدون عامة على فرضية المصدر الرباعي، وهذا يعنى في الأساس أن متى ولوقا قد استخدما أربعة مصادر مختلفة في كتابة إنجيليهما. وقد تم تحديد هذه المصادر الأربعة كالآتي:

مرقس: إنجيل مرقس.

ك: إما مصدر مكتوب لم يعد موجوداً أو مصدر شفهي (مثل ما تسلموه من حياة وتعاليم يسوع بصورة خاصة من خلال الكلمة المنطوقة أكثر مما عن طريق نص مكتوب)، أو بعض من هذا وذاك.

م: مادة تفرّد بها متى. ويعتقد بعض العلماء أنها نوع من المصدر المكتوب، بينما يعتقد آخرون أنه شفهي؛ ولا يزال آخرون يعتبرون البشير هو مصدر المعلومات لنفسه، لو كان شاهد عيان.

ل: مادة تفرّد بها لوقا. وحيث أن إنجيل لوقا بالتأكيد لم يكتب بواسطة شاهد عيان (ففي لوقا 1: 1-4، يذكر الكاتب أنه استخدم مصادر في كتابته لإنجيله)، فلابد أن تكون هذه المصادر غير البشير نفسه.

قد تكون كل هذه المصطلحات مربكة، والأمور المرتبطة بها معقدة للغاية، لكن المفاهيم الأساسية تعتبر بسيطة بالمقارنة بذلك. كتوضيح غير كامل، فكّر مثلاً في الترجمات الحديثة للكتاب المقدس. فمعظم المسيحيين لا يدركون أن الكثير من الترجمات الحديثة هي تنقيحات واعية لترجمة أقدم منها. على سبيل المثال فإن الترجمات العربية الحديثة مثل ترجمة كتاب الحياة والترجمة العربية المبسطة وترجمات الكتاب الشريف، كلها تعبر تنقيحات لترجمة فان دايك التي صدرت عالم 1886.

ولو إفترضنا أن هذه الترجمات الحديثة لم يكن فيها إفتتاحيات أو مقدمات، أكان في إمكانك أن تميز أي منها هي الترجمة الأسبق وأيها التالية؟ بالتأكيد يستطيع معظم القراء أن يدركوا أن ترجمة فان دايك هي الأقدم بسبب إستخدامها بعض التعبيرات والأساليب والتراكيب اللغوية القديمة.

إن تحديد العلاقة بين هذه الترجمات يعبر عنه بمصطلح “نقد المصدر”. يتضح من ذلك أن التوصل إلى الفروق الدقيقة في العلاقات الأدبية بين الترجمات الحديثة يتطلب دراسة مستفيضة. ولكننا نحتاج إلى مجرد المعرفة الأساسية بتاريخ الكتاب المقدس باللغة العربية لكي نرى أن المصادر المتعددة تقف بالفعل وراء ترجماتنا الحديثة.

وبمواصلة القياس إلى مدى أبعد، تتضح نقطتان أخريان:

اولاً، هي أن الترجمات الحديثة لا تختلف عن ترجمة فان دايك فقط في مجرد حداثة اللغة، بل إن هناك أيضاً اختلافات تفسيرية. فإن ترجمة فان دايك تترجم بعض التعبيرات اليونانية والعبرية بطريقة مبهمة بالنسبة للقارئ الحديث، ولذلك فإن الترجمات الحديثة تحاول أن توضّح التعبيرات اللفظية.

ثانياً، هناك إختلافات نصية. حيث إعتمدت بعض الترجمات القديمة للكتاب المقدس، مثل ترجمة كينج جيمس الإنجليزية، على مخطوطات حديثة نوعاً عند ترجمتها، بينما تعتمد الترجمات الحديثة على مخطوطات ترجع إلى عدة قرون قبل تلك المخطوطات التي إستخدمت في ترجمة كينج جيمس. وسوف نقوم بمناقشة هذه الأمور في القسم التالي من هذا الكتاب.

فبالتأكيد، إن الترجمات الحديثة التي تعتبر تنقيحات لترجمات أقدم لا تقوم ببساطة بتكرار نفس صياغة الترجمات الأقدم، بل تقدم صياغة مختلفة، وتقوم بتصحيح التعبيرات المبهمة، وتقدم ترجمة مختلقة مبنية على مخطوطات مختلفة، ربما أقدم. بإختصار، رغم أن هناك إعتمادية أدبية، إلا أنها ليست اعتمادية إجمالية. لكن الحقيقة أنها تبدأ بتنقيح الترجمة الأقدم، مما ينم على عظيم تقدير الترجمة القديمة. ولكن الإختلافات في التعبير وفي النص توضّح أيضاً تركيزها الخاص على قرائها في العصر الحديث.

بلا شك أنك حتى ترى الكثير من التوازيات بين الأناجيل المتشابهة وبين ترجمات الكتاب المقدس: فنقد المصدر، ونقد التنقيح، والإعتمادية الأدبية هي كلها مصطلحات متصلة ببعضها البعض في كلا منطقتي الدراسة. ولذلك فليس من الصعب فهم المفاهيم الأساسية للدراسة البحثية في الأناجيل، رغم أن المصطلحات قد تبدو غريبة بالنسبة لك.

توجد العديد من المصطلحات الأخرى التي يمكننا مناقشتها، ولكن هذه ستكون كافية في المناقشة حتى لا تنشغل بمصطلحات كثيرة ومعقدة.

والآن دعونا نعود إلى موضوع هذا الفصل. يعتقد بعض المتشككين أن إيمان المسيحيين الأوائل قد أفسد ذاكرتهم عن يسوع بدرجة ما، وحوّله إلى ما لم يكن عليه حقاً. فإن صح هذا الأمر، يكون التحول قد تم بطريقة متناسقة وكان في هذه الحالة يمكن تصيّده وكشفه من خلال العالم اليوناني الروماني بسرعة فائقة.

وهكذا تمت الإجابة على جدل المتشككين بإسهاب . إن هدفنا ببساطة هو التركيز على بعض الأمور القليلة المتعلقة بشخص وبعمل يسوع المسيح. وحيث أن الكثير جداً من الأسئلة المرتبطة بيسوع التاريخي تتعلق أكثر بما حدث بعد كتابة الأناجيل، فإننا سنركز على تلك الموضوعات أيضاً في هذا الكتاب. وهنا نريد أن نتحدث عن السؤال الأول: هل كان لدى من كتبوا الأناجيل الرواية السليمة المختصة بيسوع؟

هذا يعني إكتشاف موضوع الإنجيل الذي وراء الأناجيل. ولهذا فإننا سنتعامل مع نشر كلمات وأعمال يسوع قبل تدوينها في الأناجيل، ويطلق على هذا التعليم الشفهي. كما سنبحث أيضاً في المقياس الذي يستخدمه العلماء لتحديد ما قاله يسوع والفصل فيه. وهكذا فإننا نحتاج أن نعرف مقاييس الصحة والأصالة. ولكن ما نحتاج أن نبقيه في إهتمامنا الأساسي في كل هذا هو السؤال. هل كان من كتبوا الأناجيل أمناء في تسجيل ما قاله وما فعله يسوع؟

لماذا الإنتظار؟ الإبطاء في كتابة الأناجيل

أياً كانت الحسابات فقد تمت كتابة الأناجيل بعد بضعة حقب من قيامة يسوع. ولذلك يعتبر بعض المتشككين هذا الإبطاء ضعفاً في الأصول التاريخية للإيمان المسيحي. ويجادلون أنه خلال هذه الحقب من صمت المسيحيين كانت تتشكّل  مؤامرة فيدّعي “إيرل دورتي” (Earl Doherty) بجرأة: “عندما ينظر المرء خلف ستار الإنجيل، يجد قطع تركيب يسوع الناصري تتفكك وتتحلل بسرعة شديدة إلى ماضٍ لا يمكن التعرف عليه”.

أما جماعة “مدرسة يسوع Jesus Seminar” فكانت أكثر تحديداً إذ قالت: “إن يسوع كما تخبرنا عنه الأناجيل هو بنية لاهوتية خيالية، نسجت داخلها آثار لغز ذلك الحكيم الذي من الناصرة. إنها آثار تصرخ طلباً للإعتراف بها والتحرر من القبضة القوية لمن سيطر إيمانهم على ذاكرتهم. إن البحث عن يسوع الحقيقي هو بحث عن يسوع الذي نسيناه”

موضوع النقاش هنا هو ما حدث فيما بين زمن قيامة يسوع وزمن كتابة الأناجيل. وهذا الموضوع يتضمن سؤالين: لماذا كان هذا التباطؤ في كتابة الأناجيل؟ وماذا حدث في الفترة ما بين قيامة يسوع وكتابة الأناجيل؟

هناك العديد من الأسباب التي يمكن أن تكون وراء التباطؤ في كتابة الأناجيل، ولكن حتى مجرد التفكير في هذا السؤال بهذه الطريقة ربما يأتي من منظور خاطئ. فقد يكون من الأفضل أن نسأل، لماذا كتبت الأناجيل من الأساس؟ فإذا فكرنا من منطلق التباطؤ، فإن هذا يفترض مسبقاً أن كتابة الأناجيل كانت في أذهان هؤلاء الكتّاب منذ البداية، ولكن بالتأكيد لم تكن هذه هي الحالة. فما كان يغلب على دوافع الرسل أولاً هو النشر والنقل الشفهي للبشارة.

فقد أرادوا أن ينشروا الكلمة بأسرع وقت ممكن، فابتداء من أورشليم، ثم الانتقال بعد ذلك إلى اليهودية والجليل والسامرة, أصبحت الأخبار السارة عن يسوع معروفة، وبعد ذلك أصبح بولس الفريسي مسيحياً، وعندها انتشرت البشارة بسرعة إلى مناطق أخرى في حوض البحر المتوسط. وفي الوقت الذي ذهب فيه بولس إلى تسالونيكي في نهاية الأربعينات من القرن الميلادي الأول، بدأ اليهود يشكون بولس وسيلا لمجلس المدينة، قائلين:

“إن هؤلاء الذين فتنوا المسكونة حضروا إلى ههنا أيضاً” (أعمال 17: 6).

ويكرر سفر أعمال الرسل أن البشارة كانت تنتشر وكانت الكنائس الصغيرة تنمو بسرعة (أعمال 2: 47، 6: 7، 9: 31، 12: 24، 13: 49، 16: 5، 19: 20، 28: 31). وقد أكد بولس هذا الأمر في رسائله، وكان يوصي أهل تسالونيكي أن يعرّفوا الآخرين بالإنجيل الذي بشرهم هو به (1تسالونيكي 1: 8-10)، ويخبر أهل رومية أن إيمانهم “ينادى به في كل العالم” (رومية 1: 8). كما نرى أيضاً دليلاً قوياً على إنتشار الإنجيل في رسائل أخرى (مثل يعقوب 1: 1، 1بطرس1: 1، يهوذا 3).

بكلمات أخرى، انشغل الرسل وقادة الكنيسة الناشئة بنشر الإنجيل شفهياً، ولم تكن هناك حاجة لأن يفكروا في إنجيل مكتوب في ذلك الوقت. فالسرعة الملحوظة التي إنتشرت بها الأخبار السارة عن يسوع المسيح في كل أنحاء الإمبراطورية الرومانية في السنوات القليلة من بدء الكنيسة هي شهادة لنجاح الرسل في مهمة الإعلان والتبشير الشفهي.

كثيراً ما يشير العلماء إلى وجود عاملين ساعدا على كتابة الأناجيل. الأول هو أن الرسل بدأوا يموتون الواحد تلو الآخر. والثاني هو أن مجيء الرب ثانية كان من الواضح أنه لن يحدث في خلال الحقب القليلة الأولى من وجود الكنيسة. فغالباً ما يفترض أن هذين هما السببان الأساسيان اللذان جعلا الرسل يبدأون في كتابة الأناجيل.

ومع ذلك، فإذا كان السبب في كتابة الأناجيل هو بداية موت الرسل، فإننا نتوقع منهم أن يكتبوها لمجتمعاتهم، ولكن هناك على الأقل إنجيلين من الأربعة (مرقس ولوقا)، وربما ثلاثة (إذا أضفنا يوحنا)، قد كتبوا إلى المسيحيين الأمميين. وكان الرسول الأساسي للأمم هو بولس وليس واحداً من الاثني عشر الأصليين. على أنه لم يكن في إمكان بولس على الإطلاق أن يكتب إنجيلاً، في المقام الأول لأنه لم يعرف يسوع في حياته الأرضية.

وإن كانت الأناجيل قد كتبت قبل الحرب اليهودية (66-70 م) – وهو إحتمال سوف نناقشه فيما بعد – فربما عندئذ لم تكن الأفكار الخاصة بتباطؤ مجيء الرب منتشرة تماماً. فالحقيقة هي أن كل إنجيل من الأناجيل كانت هناك أسباب خاصة لكتابته وكان موجهاً لأناس معينين عند كتابته. لكن النقطة الأساسية هي أن الإعلان الشفهي للإنجيل كان هو الإهتمام الأول لقادة الكنيسة في الحقب القليلة الأولى، وهذا أمر جدير بأن نذكره.

فأي نوع من التباطؤ هذا الذي نتحدث عنه؟ وكم إستغرقت كتابة الأربعة الأناجيل؟ يعتبر معظم العلماء أن مرقس كان هو الإنجيل الأول، وأنه كتب قبل ستينات القرن الميلادي الأول. فإن كان يسوع قد صلب في عام 30 أو 33 (هناك نوع من الجدل حول هذين التاريخين)،  يكون الإنجيل الأول عندئذ قد كتب خلال العقود الأربعة التالية لموت يسوع.

وحتى لو كان إنجيل مرقس قد كتب في هذا الوقت المتأخر، فكان هناك الكثير من الشهود العيان الذين مازالوا أحياء ليؤكدوا حقيقة ما كتب. لكن هناك دليل مهم يفترض أن مرقس قد كتب إنجيله قبل ذلك الوقت. يمكن أيضاً الحديث هنا عن تاريخ كتابة أسفار العهد الجديد، دون أن نحاول تبسيط الأمور أكثر مما يجب، ونود الإشارة إلى بعض النقاط القليلة.

النقطة الأولى: إذا كان لوقا قد استعان بإنجيل مرقس في كتابة إنجيله (كما يعتقد معظم العلماء)، يكون إنجيل مرقس بالتأكيد قد كتب قبل إنجيل لوقا.

النقطة الثانية: إن إنجيل لوقا في الحقيقة هو الجزء الأول من عمل أدبي يتكون من جزأين. إذ أن سفر أعمال الرسل هو الجزء الثاني منه. وهناك أدلة متزايدة على أن أعمال الرسل قد كتب في بداية الستينات. قبل محاكمة بولس في روما. (إذ أن السفر يبدأ بضجة ولكنه ينتهي بتذمر – إذ ينتقل من إصحاح إلى آخر في توقع للمحاكمة التي لم تحدث أبداً. لكن إذا كان يقصد بسفر الأعمال، جزئياً، نوعاً من “المذكرة بوقائع الدعوى”، يكون من الضروري أن هناك مغزى وراء عدم تطرقه للمحاكمة).

النقطة الثالثة: الحديث على جبل الزيتون، الذي تنبأ فيه يسوع بدمار أورشليم، يرد في (إنجيل مرقس 13). ينكر الكثير من العلماء ببساطة إمكانية صدق النبوات في الكتاب المقدس، ولذلك فإنهم يتوقعون تاريخاً بعد عام 70 بالنسبة لكتابة إنجيل مرقس (وبالتالي متى ولوقا). لكن جي إيه تي روبنسون، في “تنقيح العهد الجديد” ذكر أمراً مهماً، وهو أن النبوة الورادة في (مرقس 13) تبرهن فعلياً على تاريخ كتابة يسبق عام 66 م.

فيشير إلى تفاصيل الحديث على الجبل لا تتفق بالكامل مع ما نعرفه عن حرب اليهود: “فرجسة الخراب” لا يمكن، في حد ذاتها” أن تشير إلى تدمي الهيكل في أغسطس عام 70 م. أو إلى تدنيسه بواسطة جنود تيطس عندما قدموا الذبائح التي تتفق مع تقاليدهم. (وأكثر من ذلك)، ففي ذلك الوقت الذي أعتبر متأخراً أكثر من اللازم بالنسبة لأي إنسان في اليهودية أن يهرب إلى الجبال، التي كانت تحت سيطرة الأعداء، منذ نهاية عام 67م” لكن في (مرقس 13: 14), يخبر يسوع تلاميذه: “فَمَتَى نَظَرْتُمْ «رِجْسَةَ الْخَرَابِ» الَّتِي قَالَ عَنْهَا دَانِيآلُ النَّبِيُّ، قَائِمَةً حَيْثُ لاَ يَنْبَغِي. ­لِيَفْهَمِ الْقَارِئُ­ فَحِينَئِذٍ لِيَهْرُبِ الَّذِينَ فِي الْيَهُودِيَّةِ إِلَى الْجِبَالِ.”

ويقول روبنسون أيضاً: “إنني لا أرى أي دافع لاستبقاء، فما بالك باختلاق، نبوات بعد فترة من إستقرار الغبار في اليهودية، إلا إذا كان هذا لأجل إظهار يسوع على أنه متنبئ بدقة غريبة (وفي تلك الحالة يكون الإنجيليون قد أحبطوا تلك الممارسة بواسطة إدراج تنبؤات لم تتحقق بصورة ملموسة)”.

إن روبنسون محق في أن النبوة في مرقس 13 لم تتحقق تماماُ كما وردت، ولكن ما إذا كانت حرب اليهود هي كل ما كانت تشمله رؤية هذه النبوة أم لا، فهذا أمر مختلف. ومع ذلك فإن هدفه الأساسي ثابت، وهو زيادة إحتمالية كتابة مرقس إنجيله قبل عام 70 م.

إن ما يعنيه كل ذلك بالنسبة لمتى ولوقا هو ببساطة أنهما هما أيضاً في الأغلب قد كتبا إنجيليهما قبل عام 70 م. ومرة أخرى، فإن السببين الأساسيين للجدل حول هذه النقطة هما:

1- إن إنجيل لوقا هو الجزء الأول من كتاب “لوقا – أعمال الرسل”، وأن سفر الأعمال قد كتب في الأغلب في بداية الستينيات.

2- الجدل القائل بأن الأناجيل لابد وأن تكون قد كتبت بعد عام 70 م. لأن النبوة المتوقعة كان من المستحيل أن تأتي قبل الأوان في الحديث على جبل الزيتون (التي تم تدوينها في جميع الأناجيل الثلاثة المتشابهة) حيث أن النبوة لم تكن قد تحققت بالكامل في ذلك الوقت.

ماذا حدث في ذلك الوقت؟

هناك إختلاف أساس في الدوائر الدراسية حول حياة يسوع فيما يتعلق بالدور الذي لعبه التعليم الشفهي. فالمتشككون مثل دبليو فانك والعلماء في “مدرسة يسوع” يدللون بوضوح على أن التعليم الشفوي وراء الأناجيل كان منعزلاً وخاطئاً إلى أقصى حد:

يواجه دارسو الأناجيل مشكلة مشابهة: وهي أن الكثير من التعاليم المدونة في الأناجيل، تعتبر في أماكن أخرى من الكتاب المقدس من الفولكلور، مما يعني أنها مغلفة بذكريات تمت مراجعتها وحذفها وزيادتها ودمجها عدة مرات على مر السنين.

لكن، كما أشرنا من قبل، فإن الفترة ما بين قيامة يسوع وكتابة الأناجيل لم تكن فترة سبات، فالرسل وبقية شهود العيان الآخرين كانوا يذيعون الأخبار السارة عن يسوع المسيح في كل مكان يذهبون إليه. وحدث هذا بالطبع في الأماكن العامة وفي الإجتماعات الخاصة. فقد كان الناس، إذ يشعرون بالجوع للمعرفة عن الرب يسوع، يسألون الرسل، وهكذا فإن القصص عن يسوع وأقوال يسوع كانت تتكرر مئات بل آلاف المرات بواسطة العشرات من شهود العيان قبل كتابة الإنجيل الأول.

يدخل في فترة الإعلان الشفهي بعض المعاني الضمنية الخاصة بدقة الأناجيل المكتوبة. فإن كان التبشير الأول بيسوع قد تغير في سنوات لاحقة، لكان الجيل الأول من المسيحيين بالتأكيد عرفوا بهذا التغيير وإعترضوا عليه. بل لم يكن الأمر يحتاج إلى اعتراض من هم من خارج على “المسيحية الجديدة المحسّنة”، حيث أن من كانوا مؤمنين بالفعل في ذلك الوقت كانت لديهم عندئذ مشاكل عديدة وخطيرة تتعلق بالاختلافات في محتوى إيمانهم.

وليس هذا فقط، ولكن الانتشار السريع لرسالة الإنجيل كان يعنى أنه لم يعد هناك إمكانية للتحكم في محتوى الرسالة. فبمجرد انتشار البشارة خارج أورشليم، لم يعد في إمكان الرسل تغييرها بدون أن يلاحظ أحد هذا الأمر. وفي الحقيقة، إن الرسالة قد إنتشرت منذ اليوم الأول لتكون الكنيسة – يوم الخمسين – منذ أن بشر بطرس بالرسالة لليهود الذين كانوا قد أتوا من أماكن قصية قد تصل إلى روما (أعمال 2: 9-11). وهكذا، فإن كان هناك نوع من المؤامرة – أو الإيمان الذي “سيطر على ذاكرة المؤمنين بالمسيح”، كما تقول جماعة “مدرسة يسوع” – لكان ذلك قد حدث قبل يوم الخمسين.

ومشكلة هذا الإفتراض ذات شقين، الأول، هو أنه من الصعوبة بمكان الإعتقاد بأن الرسل إستطاعوا أن ينسوا كثيراً يسوع “الحقيقي” في غضون خمسين يوماً بعد صلبه وأنهم قد سمحوا لإيمانهم به أن يسيطر على ذكرياتهم عنه، والثاني، أنهم لم يكونوا هم فقط الذين شاهدوا يسوع المسيح عياناً، فالمئات من أتباع يسوع الآخرين قد عرفوه جيداً، ورأوا معجزاته، وسمعوا كلماته. فما علّمه يسوع وما فعله لم يحدث في السر أو في الخفاء. وهكذا فإن هذا الإفتراض ضعيف ومليء بالثغرات بحيث لم يلجأ إليه أي عالم.

هذا يترك أمامنا بديلين فقط، هما: إما رسالة الإنجيل قد تغيرت بصورة شديدة على مدى عدة سنوات، أو أنها استمرت باقية وثابتة عبر السنين – إلى الوقت الذي تم تدوينها فيه. البديل الأول، كما لاحظنا من قبل، لا يمكن حدوثه على الإطلاق. وقد لاحظ الباحث البريطاني فنسنت تيلور هذا الأمر منذ زمن طويل، ولا يزال فهمه للأمر جديراً بالذكر إلى اليوم. ففي مناقشته لنقد الصياغة (أي الرأي القائل بأن الأناجيل كانت خليطاً من الجهود التي تم فيها إختلاق مواقف تصاغ فيها قصص عن يسوع، لم يتصنع الكلمات التالية:

فيما يتعلق بمسألة شهود العيان، يعبّر نقد الصياغة عن موقف شديد الضعف. فإن كان ناقدو الصياغة على حق، لكان يجب أن ينتقل الرسل إلى السماء مباشرة بعد قيامة يسوع. وكما يرى بولتمان، فإن الجماعة البدائية كانت منعزلة عن مؤسسيها بواسطة أسوار الجهل المطبق. ومثل روبنسون كروزو، كان يجب أن تعمل أقصى ما في وسعها. وحيث أنها لم تكن تستطيع أن تتجه إلى أي شخص طلباً للمعلومات، كان لابد لها أن تختلق مواقف لكي تصوغ فيها كلمات ليسوع، ثم تضع على فمه أقوالاً لا يمكن للذاكرة الشخصية أن تتحقق منها.

لكن كل هذه أمور منافية للعقل… فتأثير شهود العيان على صياغة التعليم لا يمكن تجاهله، مهما كان هذا الأمر مربكاً نظرياً. فالمائة والعشرون شخصاً الذين كانوا موجودين يوم الخمسين، لم يذهبوا إلى خلوة منعزلة مستديمة؛ إذ أن جيلاً على الأقل قد تحرك وسط المجتمعات الفلسطينية الصغيرة، ومن خلال التبشير والشركة، كانت ذكرياتهم متاحة لمن يسعون لطلب المعلومات. فعندما يتم إستيفاء جميع الشروط الأخرى، يكون وجود الشهادة الشخصية عنصراً مهماً في عملية الصياغة ومن الحماقة أن نتجاهله.

كتب تيلور هذه الكلمات عام 1933 م. وبعدها بستين عاماً، أعلنت “مدرسة يسوع” أن الإيمان بيسوع قد سيطر على ذكريات الرسل، وأن يسوع الحقيقي قد تم نسيانه – وهي نفس النقاط التي كشف تيلور زيفها! فالحقيقة أن برهان تيلور قد تكرر بواسطة علماء آخرين على مدى عدة حقب، كما أنهم أضافوا براهين أخرى كذلك، ولكن معتقداته الأساسية لم تتم الإجابة عنها.

وهكذا يكون أمامنا في الأغلب بديل واحد: وهو أن إعلان البشارة كان له أساس ثابت تكرر في العلن كما في السر، وتأكد بواسطة شهود العيان. ونحتاج الآن أن نفحص كيف كانت “الثقافة الشفهية” أمينة في تذكر يسوع المسيح، الأمر الذي سنجعله موضوع الفصل الثاني.

لماذا تأخرت كتابة الاناجيل؟ وماذا حدث في هذا الوقت

Exit mobile version