دليل الرسم التخطيطي – هل حقق يسوع صفات الله؟ – لي ستروبل
بعد فترة قليلة من مصرع ثمانً طالبات يدرسن التمريض في شقة سكنية في شيكاغو، إجتمعت الطالبة الوحيدة التي نجت من القتل وهي ترتجف مع رسام من الشرطة لرسم تفصيلي للقاتل الذي رأته من مخبئها السري الممتاز تحت أحد الأسرّة.
وبسرعة البرق أرسل الرسم إلى كافة أنحاء المدينة -إلى ضباط الشرطة، وإلى المستشفيات، وإلى محطات العبور، وإلى المطار. ووفور ذيوع الخبر إتصل طبيب بقسم الطوارئ مستدعياً المخبرين للتبليغ عن أنه كان يعالج رجلاً بدا بصورة مريبة مثل الهارب ذو العيون القاسية المرسوم في الرسم التخطيطي.
بهذه الطريقة ألقت الشرطة القبض على القاتل الفار ويدعى ريتشارد سبك، الذي أدين على الفور بقضايا قتل شنيعة، وانتهى به الحال بالموت في السجن بعد ثلاثون عاماً(١).
ومنذ ذلك الحين الذي حوّلت فيه الشرطة البريطانية -لأول مرّة – ذكريات شاهدة إلى رسم تخطيطي للمشتبه بجريمة القتل في سنة 1889، لعب الرسامين الشرعيين دوراً هاماً في تطبيق القانون. يعمل الآن أكثر من ثلاثمائة رسامين الرسوم التخطيطية مع وكالات الشرطة الأمريكية، وهناك عدد متزايد من إدارات الشرطة يعتمدون على نظام إليكتروني ويسمى “EFIT” (أسلوب تعريف وجهي إليكتروني).
هذه التقنية المتطورة حديثاً استخدمت بنجاح لحل مشكلة حادث إختطاف سنة 1977 الذي حدث في مركز تجاري يبعد بضعة أميال عن بيتي بضاحية شيكاغو. أعطت الضحية تفاصيل عن شكل المختطف لفني، الذي استخدم جهاز كمبيوتر لخلق تشابه إلكتروني للمجرم وذلك بإختيار من أشكال مختلف للأنوف، والأفواه، وخطوط الشعر، وهلم جرا.
وفي لحظات من إرسال الصورة بالفاكس إلى وكالات الشرطة في كافة أنحاء المنطقة، تعرّف محقق في ضاحية أخرى على الصورة التي تُشبه تماماً مجرماً كان قد قابله قبل ذلك. ولحسن الحظ، أدى هذا إلى قبض سريع على المختطف المُشتبه به(٢).
من الغريب، فكرة أن صورة يرسمها رسام يمكن أن تمدنا بصورة مشابهة يمكن أن تساعدنا في مسعانا للحقيقة حول يسوع.
ولكن كيف يمكن فعل ذلك هنا: يمدنا العهد القديم بتفاصيل عديدة عن الله ترسم رسماً تخطيطياً بدقة كبيرة عما يمكن أن تكون عليه صورته. على سبيل المثال، هو وحده الذي يوصف كالله الكلي الوجود، أو حاضر في كل مكان في الكون؛ وكلي العلم، أو كلي المعرفة؛ وكلي القدرة، وأبدي، أو أزلي، والذي يُغيّر ولا يتغير. وهو محب، وقدوس، وبار، وحكيم، وعادل.
والآن، حينما يزعم يسوع بأنه الله. فهل تتوافق صفاته المميزة مع خصائص الله؟ وبقول آخر، إذا تفحصنا يسوع بعناية، فهل يماثل شكله الرسم التخطيطي لله، الذي نجده في أماكن أخرى من الكتاب المقدس؟ فإذا لم تشبهها نستطيع أن نستنتج أن ادعائه بأنه الله باطل.
تلك قضية معقدة جداً ومحيرة للعقل. على سبيل المثال، عندما كان يسوع يلقي العظة على الجبل -على سفح تل خارج كفر ناحوم، لم يكن في نفس الوقت واقفاً على الشارع الرئيسي بأريحا، لذا في أي معنى يمكن أن يُسمّى الكلي الوجود؟ وكيف يمكن أن يُسمى كلي المعرفة إذا كان يعترف وبسهولة في إنجيل (مرقس 13 : 32) بأنه لا يعرف كل شيء عن المستقبل؟ وإذا كان أبدي، فلماذا تدعوه الرسالة إلى
(كولوسي 1 : 15) “بِكْرُ كُلِّ خَلِيقَةٍ”؟
بحسب النظرة السطحية فإن هذه المسائل توحي بأن يسوع لا يشبه الرسم التخطيطي لله. وبالرغم من ذلك، فقد تعلمت على مر السنين بأن الإنطباعات الأولية يمكنها الخداع. لهذا السبب أسعدني جداً إمكان مناقشة هذه المسائل مع الدكتور دي. أي. كارسون، العالم اللاهوتي الذي ظهر في السنوات الأخيرة كأحد المفكرين الأبرز في المسيحية.
المقابلة الثامنة: دونالد أي. كارسون، دكتوراه فلسفة:
دي. أي. كارسون، أستاذ أبحاث العهد الجديد في مدرسة الثالوث اللاهوتية الإنجيلية، أُلًّف أو حرر أكثر من أربعون كتابا، من ضمنها “العظة على الجبل the sermon on the mount “؛
“المغالطات التفسيرية Exegetical Fallacies”؛ “الإنجيل بحسب يوحنا the gospel According to john”؛ والحائز على جوائز “إسكات الله The Gagging Of God”.
وهو يستطيع القراءة ب 12 لغة (تأتي على رأسها الفرنسية الناجمة عن طفولته التي قضاها في كوييك). وهو عضو في “زمالة تيندال في أبحاث الكتاب المقدس”، “وجمعية أدب الكتاب المقدس”، و “معهد أبحاث الكتاب المقدس”. تتضمن مجالات خبرته ل يسوع التاريخي، وما بعد العصرانية، وقواعد اللغة اليونانية، وعلم لاهوت الرسولين بولس ويوحنا.
بعدما بدأ بدراسة الكيمياء (حصل على بكالوريوس العلوم من جامعة ماكجيل)، إستمر كارسون ليحصل على درجة الماجستير في علم اللاهوت قبل ذهابه إلى إنجلترا، حيث حصل على الدكتوراه في العهد الجديد من جامعة كامبريدج الرفيعة المستوى. وقام بالتدريس في ثلاث كليات مدارس أخرى قبل إنضمامه لكلية الثالوث في سنة 1988.
لم يسبق لي مقابلة كارسون قبل ذهابي بالسيارة إلى ديرفيلد كلية اللاهوت، في ولاية إلينويز، وهي أرض الجامعة التي كانت مقراً لحديثنا وحواري معه. بصراحة، كنت أتوقع أستاذ جامعي مُنّشَّئ. بيد أنني وجدت كارسون العالم غير الذي كنت أتوقعه، أذهلتني نبرة صوته الدافئة والمخلصة والرعوية، كما أجاب على ما ظهر، في بعض الحالات، أسئلة حارقة جداً.
أُجريت محادثتنا في غرفة جلوس عادة ما تكون مهجورة خلال أجازة أعياد الميلاد. كان كارسون مرتدياً سترة من الجلد الأبيض فوق قميص مزرّر، وبنطلون چينز أزرق، وحذاء أديداس. وبعد بداية مازحة حول تقديرنا المشترك لإنجلترا (وكان كارسون يعيش هناك على فترات متقطعة عبر السنين، وزوجته چوي كانت بريطانية الأصل)، ثم سحبت دفتر ملاحظاتي، وأدرت جهاز التسجيل، وسألته سؤالاً أساسياً للمساعدة على تقرير هل كان يسوع له “القدرة الصحيحة” ليكون مثل الله؟
يحيا ويغفر كالله
تمركز سؤالي الأول على: لماذا يعتقد كارسون مبدئياً أن يسوع إله؟ وما الذي قاله أو فعله فأقنعك بأنه قدوس؟ ولم أكن متأكداً كيف سيرد على سؤالي هذا، مع أني توقعت أنه سيركز على أعمال يسوع الخارقة للطبيعة. لكني كنت مخطئاً.
فقال كارسون فيما إتكأ إلى الخلف على الكرسي المُنّجَّدَ بإرتياح “يمكن لأي واحد أن يشير إلى مثل هذه كمعجزاته، ولكن هناك أناس آخرون صنعوا معجزات، لذا فبينما يُعتبر هذا دليلاً يدل على ألوهيته، لكنه ليس دليلاً حاسماً. وطبعا، القيامة هي الإثبات النهائي لهويته. ولكن من الأشياء الكثيرة التي فعلها، بحسب رأيي أن أحد أكثر الأفعال هو غفرانه للخطايا”.
“حقاً؟” قلت هذا وأنا أتحرك على كرسيَّ الذي كان وضعه عمودياً على كرسيه لكي أواجهه مباشرة “كيف تعتقد هذا؟”.
فقال “النقطة الهامة هي أنك لو قمت بشئ ضدي، فلديَّ الحق لأن أغفر لك، ومع ذلك، فلو أخطأت في حقي، وجاء شخص آخر ويقول “أني أغفر لك”، فما هذه الوقاحة؟” فالوحيد الذي يستطيع أن يقول هذا الكلام بكل ما فيه من معاني هو الله نفسه، لأن الخطية، حتى لو كانت ضد الآخرين، فهي أولاً وقبل كل شئ موجهة ضد الله وقوانينه.
“فعندما أخطأ داود بارتكابه الزنا وتدبير موت زوج المرأة، فإنه في النهاية يقول لله في (المزمور 51) إليك وحدك أخطأت، والشر قدام عينيك صنعت”. فهو يعترف بأنه برغم أنه ظلم أُناس، إلا أنه، في النهاية، إرتكب خطية ضد الله الذي صنعه على صورته، ويحتاج لغفران الله.
“لذلك يقول يسوع للخطاة “إني أغفر لكم خطاياكم” فاليهود في الحال إعتبروا هذا تجديفاً فكان رد فعلهم القائل “مَنْ هذَا الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِتَجَادِيفَ؟ مَنْ يَقْدِرُ أَنْ يَغْفِرَ خَطَايَا إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ؟” في رأيي، أن هذا هو أكثر الأشياء المميزة التي فعلها يسوع؟”.
فقلت له ملاحظاً “ليس فقط أن يسوع يغفر الخطايا، بل أيضاً صرّح بأنه نفسه كان بلا خطية. وبالتأكيد إن كونه بلا خطية، فتلك من صفات الألوهية”.
أجاب قائلاً “نعم، تاريخياً في الغرب، نُظر إلى الأشخاص الأكثر قداسة هم كانوا أيضاً الأكثر إدراكاً في ضمائرهم بنواحي إخفاقهم وخطاياهم. وهم الأشخاص المُدركون بضعفهم، ورغباتهم واستيائهم، ويجاهدون ضدها بكل أمانة بنعمة الله. وفي الحقيقة، لقد جاهدوا بشكل جيد جداً ضد هذه الأمور، لدرجة أن الآخرين يلاحظون ذلك فيقولوا “هذا رجل أو امرأة مقدسة”.
“ولكن هنا يأتي يسوع، الذي يستطيع أن يقول بوجه صريح “من منكم يستطيع أن يوبخني على خطية؟”، فلو أنا قلت هذه العبارة لكانت زوجتي وأبنائي وكل من يعرفوني يسعدهم أن يقفوا ويشهدوا لذلك، بينما لم يستطع أحد أن يفعل ذلك فيما يتعلق بالمسيح”.
ومع أن الكمال الأخلاقي ومغفرة الخطايا هما بلا شك من خصائص الله، لكن هناك صفات إضافية أخرى يجب أن يتحلى بها يسوع إذا أراد أن يتوافق مع الرسم التخطيطي لله. ولقد حان الوقت لننتقل إلى تلك الصفات الأخرى. فبعد أن قذفت كرات لينة بضربات منحنية على كارسون، إستعددت لرمي بعض الضربات المنحنية.
سر التجسد
باستخدام بعض الملاحظات التي أحضرتها معي، صدمت كارسون بسلسلة نارية من أكبر العقبات لإدعاء يسوع بالإلوهية.
فقلت له “دكتور كارسون، كيف يكون يسوع كلي الوجود في العالم إذا لم يستطع أن يتواجد في مكانين في نفس الوقت؟ وكيف يكون كلي المعرفة والعلم فيما يقول “وَأَمَّا ذلِكَ الْيَوْمُ وَتِلْكَ السَّاعَةُ فَلاَ يَعْلَمُ بِهِمَا أَحَدٌ، وَلاَ الْمَلاَئِكَةُ الَّذِينَ فِي السَّمَاءِ، وَلاَ الابْنُ، إِلاَّ الآبُ”؟ وكيف يكون كلي القدرة مع أن جميع الأناجيل تخبرنا صراحة أنه لم يستطع أن يصنع معجزات كثيرة في بلدته الأصلية؟”
ثم أشرت بقلمي نحوه مؤكداً ومختتماً حديثي، بقولي “دعنا نعترف أن: الكتاب المقدس نفسه يجادل ضد كون يسوع إله”.
وفي حين أن كارسون لم يجفل ولم ينزعج، لكنه إعترف بأن هذه الأسئلة ليس لها اجوبة بسيطة. ومهما يكن، فإن هذه الأسئلة تنفذ إلى قلب قضية التجسد-أن يصير الله إنساناً-الروح يتخذ جسداً، والازلي يصير محدوداً، والأبدي يصبح محصوراً في الزمن. لقد شغلت هذه العقيدة اللاهوت لعدة قرون. ومن هنا إختار كارسون أن يبدأ إجابته: بالرجوع إلى الطريقة التي حاول العلماء بها الإجابة على هذه الأسئلة عبر السنين.
“من الناحية التاريخية، كانت هناك طريقتان أو ثلاثة لفهم هذا الموضوع” هكذا أبدأ الإجابة وكأنه يلقي محاضرة للطلبة.
“فمثلاً، في نهاية القرن الماضي، قام العالم اللاهوتي العظيم بنيامين وارفيلد بدراسة الأناجيل ونسب بعض الفقرات إما إلى طبيعة المسيح البشرية أو إلى ألوهيته. فعندما يفعل يسوع شيئاً يعكس صورة له كإله، فإن هذا يُنسب إلى ألوهية المسيح. ولكن عندما نجد شيئاً يعكس محدوديته أو بشريته، مثلاً، دموعه؛ هل الله يبكي؟ فإن هذا يُنسب إلى إنسانيته”.
لقد بدا لي أن ذلك التفسير مشحون بالمشاكل، فسألته “إذا قلت بهذا، ألن ينتهي بك الأمر إلى يسوع المريض بالفصام؟”.
فأجاب “من السهل الإنزلاق إلى هذا الرأي بلا تعمد، فجميع العقائد والإعترافات أصرّت على أن كلً من طبيعة يسوع البشرية وألوهيته ظلتا متميزتان، ورغم ذلك جمعتا في شخص واحد.
وهكذا إنك تريد أن تتجنب حلاً يحتوي أساساً على عقلين: عقل يسوع كإنسان وعقل المسيح كإله. على أية حال، هذا نوع واحد من الحلول، وربما نجد شيئاً يقال عنه.
“أما النوع الآخر من فهو نوع من “kenosis”، الذي يعني “إفراغ”.
وهذا يظهر بوضوح في الرسالة إلى أهل فيليبي الإصحاح الثاني، حيث يخبرنا بولس أن يسوع “الَّذِي إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ اللهِ، لَمْ يَحْسِبْ خُلْسَةً أَنْ يَكُونَ مُعَادِلاً للهِ. لكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذًا صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِرًا فِي شِبْهِ النَّاسِ”، بحسب هذه الطريقة التي ترى “أَخْلَى نَفْسَهُ” يجب أن تترجم “لكنه أفرغ نفسه”، أي أصبح كأنه لا أحد”.
ولما كان هذا يبدو غامضاً لذلك سألته “هل يمكنك أن تكون أكثر وضوحاً؟ من أي شيء أخلى نفسه بالضبط؟”.
يبدو أني قد وضعت إصبعي على القضية، فأجاب بإيمانه “آه، هذا هو السؤال، فعلى مر قرون، اعطى الناس أجوبة مختلفة على هذا السؤال. على سبيل المثال، هل أخلى نفسه من ألوهيته؟ حسناً، إذن فلن يكون إله.
“هل أفرغ نفسه من صفات الألوهية؟ لديَّ أيضاً مشكلة في هذه النقطة، لأنه من الصعب فصل الصفات عن الحقيقة. فلو كان عندك حيوان يبدو مثل الحصان، ورائحته مثل رائحة الحصان، ويمشي مثل الحصان، وله جميع صفات الحصان، فإنك عندك حصان. لذا أنا لا أعرف ما معنى أن الله يخلي نفسه من صفاته ومع ذلك يظل إله.
“يقول البعض، أنه لم يُخلي نفسه من صفاته، بل أخلى نفسه من استخدام هذه الصفات، كنوع مت التحديد الذاتي. وهذا يقربنا من المعنى أكثر، مع أنه، في بعض الأحيان، لم يكن هذا هو ما كان يفعله، إذ كان يغفر الخطايا بنفس الطريقة التي يستطيع الله وحده أن يغفرها، والتي هي صفة لإله.
“ويذهب آخرون لأبعد بالقول “إنه أخلى نفسه من الاستعمال المنفرد لصفاته” بمعنى أنه كان يتصرف كإله عندما يعطيه أبيه السماوي موافقة صريحة لعمل ذلك. والآن، هذا المعنى أقرب بكثير. والمشكلة أن هناك إحساس بأن الابن الأبدي كان دائماً يتصرف حسب وصايا أبيه السماوي. وأنت لا تريد أن تفقد هذا الإحساس حتى في مسألة الأبدية. لكن المعنى أصبح أقرب إلى الفهم”.
وهنا شعرت بأننا اقتربنا من جوهر المسألة، ولكني لم أكن متأكداً أننا سنقترب أكثر من ذلك. ويبدو أن هذا كان شعور كارسون، أيضاً.
ثم قال “لو تكلمنا بدقة، فإن الرسالة إلى أهل فيلبي، الإصحاح الثاني لا تخبرنا على وجه التحديد مما أخلى نفسه منه الابن الأبدي؟ لقد أخلى نفسه؛ وأصبح لا أحد. نوع من الإفراغ موضع بحث، لكن دعنا نتكلم بصراحة، فأنت تتحدث عن التجسد، أحد الأسرار الجوهرية للإيمان المسيحي.
“إنك تتعامل مع روح ذات صلاحيات مطلقة، لا شكل لها، ولا جسم، وكلية المعرفة، وكلية الحضور، وكلية القدرة، كما تتحدث أيضاً عن مخلوقات محدودة ملموسة ومحدودة بالزمن. فلو تحول أحدهما إلى الآخر فلا يمكن أن تتجنب الدخول في دائرة الأسرار الغامضة.
“لذا فإن جزءاً من علم اللاهوت المسيحي المتعلّق به ليس معنياً “بشرح هذه المسألة كلها” بل بمحاولة أخذ الأدلة الموجودة في الكتاب المقدس، ويحتفظ بها كلها بإنصاف، وإيجاد طرق تركيبات مترابطة بشكل منطقي، حتى لو كانت غير قابلة للتفسير بشكل كامل”
لقد كانت هذه طريقة معقدة للتعبير عن أن علماء اللاهوت يمكنهم التوصل إلى التفسيرات التي تبدو معقولة، مع أنهم قد لا يكونون قادرون على توضيح كل فرق دقيق حول التجسد. وهذا يبدو منطقياً، إلى حد ما. فلو كان التجسد حقيقي، فليس من المفاجئ أن تلك العقول المحدودة لا تستطيع أن تفهمها كلياً.
بدا لي أن نوع من “الإفراغ” الطوعي من إستعمال يسوع المستقل للصفات المميزة ليسوع كان تفسيراً معقولاً لتوضيح لما لم يظهر يسوع الصفات الكلية: كلية المعرفة، وكلية القدرة، وكلية الحضور، في وجوده الأرضي، مع أن العهد الجديد يذكر بوضوح أن كل هذه الصفات المميزة في النهاية حقيقة عنده. ومع ذلك فإن هذا هو جزء من المشكلة فقط.
إنتقلت إلى الصفحة التالية من ملاحظاتي وبدأت سلسلة أخرى من الأسئلة عن بعض الفقرات المعينة من الإنجيل التي كانت تبدو أنها تتناقض مباشرة مع إدعاء يسوع بأنه الله.
خالق أم مخلوق؟
جزء من الرسم التخطيطي الذي يجب على يسوع أن يماثلها هي أن الله غير مخلوق، أبدي. ويصف (أشعياء 57: 15) الله بأنه “الْعَلِيُّ الْمُرْتَفِعُ، سَاكِنُ الأَبَدِ”. لكن، قلت لكارسون، هناك بعض الآيات التي توحي بشدة إلى أن يسوع كان كائناً مخلوقاً.
فقلت له “فمثلاً، (يوحنا 3: 16) يدعو يسوع إبن الله “الوحيد”، وفي الرسالة إلى أهل كولوسي أنه “بكر كل خليقة”، ألا يُشيرا ضمناً إلى أن يسوع وبشكل واضح قد خُلق، وهو ما يتعارض مع كونه خالق؟”.
من بين مجالات خبرة كارسون كانت قواعد اللغة اليونانية، التي لجأ إليها لتفسير كلا الآيتين.
قال “دعنا نتناول الآية التي في إنجيل (يوحنا 3: 16) تقول ترجمة الملك جيمس التي تُترجم الكلمات اليونانية ب “إبنه الوحيد المولود له”. فالذين يعتبرون أن هذه هي الترجمة الصحيحة يربطون هذا بالتجسد نفسه-أي بولادته من مريم العذراء-لكن في الواقع ليس هذا هو معنى الكلمة في اللغة اليونانية.
“إنها في الواقع تعني “الواحد الفريد”. والطريقة التي كانت تستخدم عادة في القرن الأول هي “الفريد والمحبوب”، لذا فـ (يوحنا 3: 16) تقول ببساطة أن يسوع هو “الإبن الوحيد والمحبوب”، أو كما تذكرها الترجمة الدولية الجديدة “الابن الوحيد الفريد” بدلاً من أن نقول إنه وجودياً قد ولد في حينه”.
فقلت له “إن هذا يفسر فقط تلك الفقرة وحدها”.
فقال “حسناً، دعنا ننظر إلى الآية في الرسالة إلى أهل كولوسي التي تستخدم التعبير “بكر” فإن الغالبية العظمى من المفسرين سواء المتحفظين أو المتحررين، يدركون أنه في العهد القديم كان الإبن البكر، بسبب قوانين الميراث، كان عادة يحصل على نصيب الأسد من الممتلكات، أو أن يصبح الابن البكر الملك في حالة العائلة المالكة. إذن ف”البكر” هو الوحيد الذي له كل حقوق الآب في النهاية.
“وفي القرن الثاني قبل المسيح، وجدت هناك أماكن حيث لا يعد للكلمة أي فكرة للولادة الفعلية أو للوليد الأول، لكنها تحمل فكرة السلطة التي تصاحب فكرة أن تكون الوريث الشرعي. وهذه هي الفكرة التي تنطبق على يسوع كما يعترف بها كل العلماء فعلاً. وفي ضوء هذا المعنى فإن التعبير ذاته “بكر” يُضلًّل بعض الشئ.
فسألته “ماذا ستكون الترجمة الأحسن؟
فأجاب: “أعتقد “الوريث الأعلى” ستكون أكثر ملازمة”.
وبينما كان يُوضّح آية كولوسي، فإن كارسون ذهب لأبعد من ذلك، إلى نقطة واحدة أخيرة.
“إذا كنت ستقتبس آية (كولوسي 1: 15) فيجب أن تحافظ على سياق المعنى بالإستمرار إلى (كولوسي 2 : 9) حيث يؤكد نفس “الكاتب فِيهِ [المسيح] يَحِلُّ كُلُّ مِلْءِ اللاَّهُوتِ جَسَدِيًّا”. فالكاتب ذا يُناقض نفسه. من ثمَّ فالتعبير “بكر” لا يستبعد أبدية يسوع، لأن هذه الأبدية جزء مما يعنيه إمتلاكه كل ملء اللاهوت”.
جعل هذا التوضيح المسألة ثابتة، بالنسبة لي. إلا أنه كان هناك فقرات أخرى مثيرة للقلق أيضاً، فمثلاً في إنجيل مرقس، الإصحاح العاشر، نجد شخص ما يُخاطب يسوع بصفة “الْمُعَلِّمُ الصَّالِحُ”، مما دفعه للإجابة “لِمَاذَا تَدْعُونِي صَالِحًا؟ لَيْسَ أَحَدٌ صَالِحًا إِلاَّ وَاحِدٌ وَهُوَ اللهُ”.
فسألته “أما كان يُنكر لاهوته بهذا القول؟”
أوضح كارسون قائلاً “كلا، أظن أنه كان يحاول جعل هذا الشخص يتوقف ويفكر فيما كان يقوله، والفقرة الموازية لها في إنجيل متى تتوسّع أكثر قليلاً ولا نجد يسوع يُقلل من ألوهيته مطلقاً.
“أعتقد أن كل ما كان يقوله هو “إنتظر دقيقة؛ لماذا تدعوني صالحاً؟ إنها فقط طريقة مؤدبة، مثلما تقول “يوم صالح” ماذا تعني بصالح؟ ماذا تعني بكلمة صالح؟ تدعوني معلم صالح، هل هذا لأنك تحاول أن تتملقني؟”.
ففي المعنى الأساسي لَيْسَ أَحَدٌ صَالِحًا إِلاَّ وَاحِدٌ وَهُوَ اللهُ. لكن لا يقصد يسوع “لذلك لا تدعوني صالحاً” إنما يقول “هل تُدرك فعلاً ما تقوله عندما تقول ذلك؟ هل تُنسب لي فعلاً ما يجب أن ينسب إلى الله وحده؟”.
وهذا يمكن تفسيره ليعني “أنا فعلاً صالح كما تقول؛ فأنت تتكلم أحسن مما تعرف” أو “إياك أن تتجرأ على دعوتي بذلك؛ في المرة القادمة إدعوني “يسوع الخاطئ” مثلما يفعل الآخرون”.
فمن معنى ما يقوله ويفعله يسوع في أماكن أخرى، بأي طريقة ذات معنى تفهمها؟”
في العديد من الآيات التي تدعو يسوع “بار”، “قدوس”، “صالح”، “بلا خطية”، “بلا دنس”، و “مختلفاً عن الخطاة”، كان الجواب واضح جداً.
هل كان يسوع أقل إلوهية من الله؟
إذا كان يسوع إله، فأي نوع كان هذا الإله؟ أكان مساوياً للآب، أم كان نوع أصغر من الله، يحوز صفات الألوهية ومع هذا يُخفق في مُضاهاة الرسم التخطيطي الكلي، بطريقة ما، التي يقررها العهد القديم للألوهية.
هذا السؤال مأخوذ من آية أخرى لفت نظر كارسون إليها “تقول يسوع في إنجيل (يوحنا 14: 28) “لأن أبي أعظم مني” بعض الناس ينظرون إليها ويستنتجون بأن يسوع لابد وأن يكون أقل ألوهية، فهل هم على صواب؟
فتنهد كارسون ثم قال “لقد كان أبي واعظاً، وكان له قول مأثور في منزلنا عندما كنت شاباً: نص بدون سياق يصبح ذريعة لنص تصحيحي”. من المهم جداً النظر لهذه العبارة في سياقها.
“فالتلاميذ يشتكون لأن يسوع قال لهم أنه سيمضي. فقال لهم “سَمِعْتُمْ أَنِّي قُلْتُ لَكُمْ: أَنَا أَذْهَبُ ثُمَّ آتِي إِلَيْكُمْ. لَوْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَنِي لَكُنْتُمْ تَفْرَحُونَ لأَنِّي قُلْتُ أَمْضِي إِلَى الآبِ، لأَنَّ أَبِي أَعْظَمُ مِنِّي”. بمعنى آخر، أن يسوع سيعود إلى المجد الذي يليق به، فلذلك لو كانوا فعلاً يعرفون من هو ويحبونه فعلاً كما ينبغي فسيفرحون بأنه سيعود إلى المملكة حيث سيكون فعلاً أعظم. ويقول يسوع في إنجيل (يوحنا 17: 5) “مَجِّدْنِي أَنْتَ أَيُّهَا الآبُ عِنْدَ ذَاتِكَ بِالْمَجْدِ الَّذِي كَانَ لِي عِنْدَكَ قَبْلَ كَوْنِ الْعَالَمِ”، بمعنى “أبي أعظم مني”.
“فعندما تستخدم مقولة مثلاً “أعظم”، فليس من الضرورة أن تعني أعظم وجودياً. فلو قلت مثلاً، أن رئيس الولايات المتحدة أعظم مني، فلا أقصد أن أقول إنه وجودياً يعتبر كائناً أعلى مقاماً ومنزلة وتفوقاً، بل أعظم مني في القدرة العسكرية، وبراعته السياسية، وفي تهليل الناس له، ولكنه ليس أكثر مني كإنسان فهو إنسان وأنا أيضاً إنسان.
“لذا عندما يقول يسوع “أبي أعظم مني” يجب أن ننظر إلى السياق ونسأل هل قصد يسوع قول “أبي أعظم مني لأنه إله وأنا لست إله”. بصراحة، أن هذه المقولة ستكون مضحكة وسخيفة.
إفترض أني صعدت إلى منصة لألقي عظة وقلت “أنا أعلن بجدية أن الله أعظم مني” فإن هذه الملحوظة ستكون عديمة الفائدة.
“وهذه المقارنة ذات مغزى فقط إذا كانوا على نفس المستوى وأن هناك قدر من التحديد. فيسوع كان في حدود التجسد، وكان ذاهباً إلى الصليب؛ وسوف يموت، ولكنه على وشك العودة إلى الآب وإلى المجد الذي كان له عند الآب قبل تأسيس العالم.
“فهو يقول: “أيها الرجال إنكم تحزنون من أجلي، لكن ينبغي أن تفرحوا لأني عائد إلى موطني الأصلي”، وبهذا المعنى إن “أبي أعظم مني”.
فقلت له “إذن ليس هذا إنكار ضمني لألوهيته”.
فاختتم حديثه قائلاً “كلا، ليست فعلاً كذلك. والسياق يجعل هذا واضحاً”.
فيما كنت مستعداً لقبول حقيقة أن يسوع ليس أقل ألوهية، فقد كان لديَّ مسألة أكثر حساسية مختلفة وأكثر إثارة: كيف يمكن ليسوع أن يكون رحيماً ومع ذلك يوافق على فكرة العذاب الأبدي للذين يرفضونه؟
مسألة جهنم المزعجة١
يقول الكتاب المقدس بأن الآب مُحب للبشر. ويؤكد العهد الجديد نفس الشئ عن يسوع. ولكن هل من الممكن أن يكونا فعلاً محبين للبشرية وفي نفس الوقت يرسلون الناس إلى جهنم؟ والمهم أن يسوع يعلمنا عن جهنم أكثر من أي شخص آخر في كل الكتاب المقدس. ألا يتناقض هذا مع شخصيته التي من المفترض أنها لطيفة، ورحيمة؟
عندما طرحت هذه المسألة على كارسون؛ إقتبست الكلمات الحادة القاسية التي قالها تشارلز تمبلتون “اللا أدري”: كيف يمكن لأب سماوي محب للبشر أن يخلق جهنماً لا نهائية، ويرسل ملايين من البشر إليها، عبر القرون، لأنهم لا يقبلون، أو لا يستطيعون أن يقبلوا، أو لن يقبلوا بعض المعتقدات الدينية؟”(٣)
ذلك السؤال، مع أنه قيل بصيغة تحدث أقصى تأثير ممكن، فلم يثير غضب كارسون، فبدأ بالتوضيح “أولاً، إني لست متأكداً أن الله يلقي الناس ببساطة في جهنم لأنهم لا يقبلون معتقدات معينة”.
ثم فكر لحظة، ثم إستعد لإعطائي إجابة أكثر شمولاً بمناقشة موضوع يعتبره كثير من المحدثين مفارقة تاريخية جذابة: الخطية.
فقال كارسون: “رُسمت صورة الله في بدء الخليقة مع رجل وإمرأة خُلقا على صورته. يستيقظون في الصباح ويُفكرون في الله. إنهم يحبونه حقاً، ويُسرّون بعَمل ما يريده؛ فتلك كانت مُتعتهم الأكمل. فهم بحق مرتبطون به كما أنهما بحق مرتبطين ببعضهما.
“ثم، بدخول الخطية والعصيان إلى العالم، بدأ أولئك الذين يحملون صورته بالإعتقاد بأنهم مركز الكون. وهذا ليس حرفياً، لكنهم هكذا كانوا يظنون. وتلك هي الطريقة التي نفكر بها، كل الأشياء التي نسميها “أمراض إجتماعية”، الحرب، والإغتصاب، والعنف، والمرارة، والغيرة الخفية، والكبرياء، ومركبات النقص كلها تتجمع في أول مرحلة وترتبط بحقيقة أننا لسنا بحق مرتبطين بالله.
“ومن منظور الله، هذه التصرفات تثير الإشمئزاز بفظاظة.
إذن ماذا ينبغي على الله أن يفعله إزاء هذه التصرفات؟ فلو أنه قال: “حسناً، لن أعطي هذا الأمر أي إهتمام” فكأنه يقول إن الشر لا يهمه. وكأنه يقول: “نعم، إنها المحرقة، لا يهمني”. ألن نشعر بصدمة لو إعتقدنا أن الله لا يحكم أحكاماً أخلاقية على هذه الأمور.
“لكن من حيث المبدأ، إذا كان لدى الله هذا النوع من الأحكام الأخلاقية على تلك الأمور، فلا بد أن يكون لديه أحكام أخلاقية على هذه المسألة الفظيعة الخاصة بكل حاملي صورته الإلهية، وهم يهزون قبضة أيديهم التافهة في وجهه ويغنون مع فرانك سيناترا “لقد فعلتها بطريقتي الخاصة” تلك هي طبيعة الخطية الحقيقية.
“وبعد قول ذلك، فإن جهنم ليست مكاناً يُودع فيه الناس لأنهم أشخاص طيبين ولكنهم لم يؤمنوا الإيمان الصحيح. يُدعون هناك، أولاً وقبل كل شيء، لأنهم يتحدون خالقهم ويريدون أن يكونوا في مركز الكون. ولن تُملأ جهنم بالناس الذين ندموا فعلاً، لكن الله ليس رحيماً لدرجة أنه يسمح لهم بالفرار. ولكنها مملوءة بالناس الذين يريدون، دائماً وأبداً، أن يكونوا في مركز الكون والذين يصرون في العصيان وتحدي إلههم.
“ما المفروض أن يفعله الله؟ إذا قال إن هذا الأمر لا يهمه، فإنه لن يُعدّ إلهاً جديراً بالإحترام. وهو إما أن يكون إلهاً لا أخلاقي أو إلهاً مخيفاً مريعاً. إذا تصرف بأي طريقة أخرى لمواجهة هذا التحدي الصارخ، فإن هذا سيقلل من ألوهيته”.
فقاطعته قائلاً “نعم لكن أكثر ما يزعج الناس ويقلقهم هو أن الله سيعذب الناس إلى الأبد. فإن هذا يبدو تصرفاً شريراً. أليس كذلك؟”
فأجاب كارسون “أولاً، يقول الكتاب المقدس بأن هناك درجات مختلفة من العقاب، لذا فلست متأكداً بأنه سيكون بنفس مستوى الشدة لكل الناس.
“ثانياً، لو أن الله رفع غضبه عن هذا العالم المنحل الأخلاق فلن تكون هناك أي ضوابط تكبح شرور البشر، وسنصنع جهنماً بأنفسنا. وهكذا لو سمحت لمجموعة كاملة من الخطاة أن يعيشوا في مكان ما في مكان محصور حيث لا يُلحقون أضرار بأي شخص إلا أنفسهم، فأي مكان تجده صالحاً لذلك غير جهنم؟ فهناك إحساس بأنهم من يُسبب ذلك لأنفسهم، وهو الشيء الذي يعوزهم لأنهم مازالوا غير نادمين”.
إعتقدت أن كارسون قد أنتهى من جوابه، لأنه تردد للحظة.
على أية حال، فمازالت لديه نقطة واحدة أكثر حسماً “أحد الأشياء التي يصر عليها الكتاب المقدس هي أنه في النهاية ستتحقق العدالة وليس هذا فقط، ولكن لابد من التأكد أن العدالة قد تحققت لكي تسكت جميع الأفواه”.
وهنا تشبثت بهذه الجملة الأخيرة وقلت “بعبارة أخرى، في وقت الدينونة لن يوجد إنسان في العالم سيُخلى من هذه التجربة ويقول إن الله قد عاملهم معاملة ظالمة. وكل واحد سيعترف بالعدالة الأساسية التي يحكم بها الله عليهم وعلى العالم كله”.
فقال كارسون بحزم “هذا صحيح، فإن العدالة لا تتحقق دائماً في هذا العالم؛ وهذا ما نراه في كل يوم. لكن في اليوم الأخير ستتحقق العدالة ليراها الجميع. ولن يكون هناك من أحد قادر على الشكوى يقول “هذا ليس العدل”.
يسوع والعبودية
كانت هناك قضية واحدة أخرى التي أردت إثارتها مع كارسون.
فنظرت إلى ساعتي وقلت له “هل لديك بضعة دقائق أخرى؟ فلما أشار لي بالموافقة، بدأت أقدم له موضوعاً مثير للجدل والخلافات.
“لكي يكون يسوع إله، يجب أن يكون كاملاً من الناحية الأخلاقية. لكن بعض نقاد المسيحية إتهموه بالتقصير لأنه-بحسب قولهم-صدّق ضمنياً على الممارسة المُقززة أخلاقياً للعبودية. وكما كتب مورتن سميث
كان هناك عبيد يفوق حصرهم العد في الإمبراطور والحكومة الرومانية؛ وقد إمتلك هيكل أورشليم (القدس) العبيد؛ وكذا لرئيس الكهنة (واحد منهم فقد إحدى أذنيه عند القبض على يسوع)؛ وكان لدى كل الأغنياء ومعظم الطبقة المتوسطة، عبيد. وبحسب ما قيل لنا، لم يهاجم يسوع هذه الممارسة…
ويبدو أنه كانت هناك حركات تمرد من العبيد في فلسطين والأردن في أيام شباب يسوع؛ والقائد صانع المعجزات لمثل هذه الثورة كان سيجتذب أتباعاً كثيرين. فلو شجب يسوع العبودية أو وعد بتحرير العبيد، لكنا بالتأكيد قد سمعنا بأنه قام به. فنحن لم نسمع شيئاً، لذا فعلى الأرجح بأنه لم يقل عنه شيئاً. (٤)
كيف فشل يسوع في الحث على إلغاء العبودية يتفق مع حب الله لجميع الناس؟ لماذا لم يقف يسوع ويصرخ قائلاً “العبودية نظام ظالم؟ هل كان ينقصه الحافز الأخلاقي لدرجة أنه لم يعمل على إلغاء قانون يحط من قدر الناس الذين خلقهم الله على صورته؟”
فاعتدل كارسون في جلسته على الكرسي ثم قال “أعتقد حقاً بأن الناس الذين يثيرون هذا الإعتراض يُخطئون في فهم الغاية، فلو سمحت لي، فسأمهد الطريق بالحديث عن العبودية، قديماً وحديثاً، لأنه في ثقافتنا، نجد أن هذه القضية مشحونة ومحملةً بمعاني إضافية لم تكن موجودة في العالم القديم”.
أومأت له للإستمرار، وقلت له “من فضلك إستمر”.
الإطاحة بالإضطهاد
“في كتابه “الأجناس والحضارة ” Race and Culture “(٥) أشار العالم الأفرو-أمريكي توماس سوديل بأن كل ثقافة كبرى في العالم حتى العصر الحديث-بلا استثناء-كان فيها عبودية”، وبدأ كارسون يشرح الموضوع “بينما كان من الممكن ربط نظام العبيد بالفتوحات العسكرية، إلا أن العبودية كانت تؤدي وظيفة إقتصادية. فلم يكن هناك قانون إشهار الإفلاس. ولذلك فإنك إذا وقعت في مشكلة رهن أو دين فظيعة، كنت تبيع نفسك و / أو عائلتك للعبودية. وبينما كانت العبودية تسدد الدين، فإنها كانت أيضاً توفر للعبد عمل. فلم تكن كلها سيئة بالضرورة، وعلى الأقل إنها كانت خيار للبقاء.
“من فضلك حاول أن تفهمني: فأنا لا أحاول مُغازلة العبودية بأية حال. ومع ذلك، ففي الأوقات الرومانية كان هناك عمال يدويين وكانوا عبيد، وكان هناك آخرين أيضاً ممن كانوا يضارعون العلماء المشهورين من حملة دكتوراه الفلسفة، وكانوا يقومون بالتدريس للعائلات. ولم يكن هناك أي إرتباط لعرق معيّن بالعبودية.
“وفي نظام العبودية الأمريكي، ولو أن، جميع الزنوج السود والسود وحدهم من كانوا عبيد. وكان هذا أحد مظاهر الرعب العجيب من العبودية، ونتج عنه شعور ظالم بالنقص لدى الزنوج ومازال الكثيرون منا يواصلون المحاربة حتى اليوم.
“والآن دعنا ننظر إلى الكتاب المقدس. ففي المجتمع اليهودي كان كل واحد يمكنه أن يحصل على حريته عند كل يوبيل، بحسب الشريعة. وبعبارة أخرى، كان هناك تحرير للعبيد كل سنة سابعة. وسواء أكانت الأمور تتم فعلاً بهذه الطريقة أم لا، وبالرغم من ذلك، كان هذا هو ما قاله الله، وكان هذا هو النظام الذي تربى فيه يسوع.
“لكن كان يجب أن تضع رسالة يسوع نصب عينيك. فهو لم يأتي أساساً، لقلب النظام الإقتصادي الروماني، الذي تضمّن نظام العبودية. لكنه جاء ليحرر الرجال والنساء من خطاياهم. وهنا نقطتي: إن رسالته تعمل على تحويل الناس ليبدأوا بمحبة الله بكل قلوبهم، وأرواحهم، وعقولهم، وقدرتهم، ولمحبة جيرانهم كأنفسهم. وبالطبع، كان لهذا أثره على فكرة العبودية.
“أنظر إلى ما يقوله بولس الرسول في رسالته إلى فليمون فيما يتعلق بعبد هارب يُدعي أونسيموس. فإن بولس لم يطلب الاطاحة بنظام العبودية، لأن كل ما كان سينتج عن ذلك هو حكم بالإعدام. وبدلاً من ذلك يُخبر فليمون أنه يستحسن أن يعامل أونسيموس كأخ في المسيح، تماماً كما سيعامل بولس نفسه. ثم أن بولس يؤكد ومذكَّراً له “إنك مديون لي بنفسك أيضاً”.
“فالإطاحة بنظام العبودية، إذن، كان عن طريق تحويل الرجال والنساء بالإنجيل، أفضل من خلال تغيير النظام الإقتصادي. وقد رأينا جميعاً ما الذي يمكن أن يحدث عندما تُسقط نظام إقتصادي وفرض نظام جديد. كان الحلم الشيوعي الكامل هو إيجاد “إنسان ثوري” يتبعه “الإنسان الجديد”. والمشكلة أنهم لم يجدوا “الإنسان الجديد” أبداً، ومع أنهم تخلصوا من مُضطهدي الفلاحين، إلا أن هذا لم يكن معناه أن الفلاحين أصبحوا أحراراً فجأة، لكنهم كانوا فقط تحت نظام جديد من الظلام. وفي التحليل النهائي، إذا أردت تغييراً دائماً، فعليك أن تحوّل قلوب البشر. وتلك كانت مهمّة يسوع.
“وتستحق هذه النقطة أيضاً أن تسأل السؤال الذي سأله سويل: “كيف أوقفت العبودية؟ يُشار إلى أن الحافز الذي أدى لإلغاء العبودية كان النهضة الإنجيلية في إنجلترا. فرض المسيحيون إلغاء العبودية في البرلمان في بداية القرن التاسع عشر وبعد ذلك إستخدموا القوارب المسلحة البريطانية، في النهاية، لإيقاف تجارة العبيد عبر المحيط الأطلنطي.
“وبينما كان هناك حوالي أحد عشر مليون أفريقي نُقلوا بالسفن إلى أمريكا، وكثيرون منهم لم يفعلوا ذلك، كان هناك حوالي ثلاثة عشر مليون أفريقي نقلوا بالسفن ليصيروا عبيداً في العالم العربي. ومرة أخرى كان البريطانيون-بتشجيع الناس الذين تغيرت قلوبهم من قبل المسيح-هم الذين أرسلوا سفنهم المسلحة إلى الخليج الفارسي لإعتراضها”.
بدا رد كارسون معقولاً ليس فقط من الناحية التاريخية، بل أيضاً من خلال تجربتي الشخصية. فمثلاً، منذ عدة سنوات، كنت أعرف رجل أعمال عنصري متطرف وكان له موقف متعالي شاعر بالتفوق على أي شخص من لون آخر. ولربما لم يكن يبذل أي مجهود لإخفاء إحتقاره للأمريكيين الأفريقيين، وكان كثيراً ما يسمح لطبعه المتعصب أن يتدفق على شكل نكات غير مهذبة وتعليقات ساخرة. ولم تستطع أي كمية من المجادلات أن تثنيه عن آرائه المثيرة للإشمئزاز.
ثم أصبح من أتباع يسوع. ولما راقبت مواقفه، ووجهة نظره، وقَيَمَه، التي تغيرت بمرور الزمن، حينما جدد الله قلبه. أدرك أنه لم يستطيع إضمار الحقد نحو أي شخص، منذ أن تعلم من الكتاب المقدس بأن كل الناس صُوروا على صورة الله. أستطيع اليوم القول بكل أمانة بأنه شفوق حقاً ويقبل الآخرين، ومن ضمن ذلك أولئك الذين هم مختلفون عنه.
لم تغيره القوانين المُشرّعة. ولا المجادلات المناشدة للمشاعر أن تبدله. وسيخبرنا بأن الله غيّره من الداخل للخارج بشكل حاسم، بالكامل، وبشكل دائم. ذلك أحد الأمثلة العديدة التي رأيت لقوة الإنجيل التي كان كارسون يتحدث عنها، قوة تحويل الحاقدين إلى مُحسنين، ومُحبي الإنتقام إلى محبين للخير، والبخلاء قساة القلوب إلى مانحين رقيقي القلوب، وتحويل المفتخرين بقوتهم إلى خدام ناكرين للذات، والمُستغلون للآخرين-عن طريق العبودية أو أي شكل آخر من أشكال الظلم -إلى أناس يحبون الجميع.
يتطابق هذا مع ما قاله بولس في رسالته إلى أهل غلاطية (3:28) ” ليس يهودي ولا يوناني. ليس عبد ولا حر. ليس ذكر وأنثى، لأنكم جميعا واحد في المسيح يسوع”.
يضاهي الرسم التخطيطي له
تحدثنا أنا وكارسون، بنشاط لساعتين، وملأنا أشرطة أكثر مما وُضع في هذا الفصل. وقد وجدت إجابته معقولة وسليمة وصحيحة من الناحية اللاهوتية. ومع ذلك، ففي النهاية، ظلت مسألة كيف يحدث التجسد، وكيف تتلاحم الروح مع الجسد، بقيت هذه المسائل مفاهيم مُحيرة للعقل.
ومع ذلك، وبحسب الكتاب المقدس، فإن حقيقة أنه حدث لا شك فيها. ويقول العهد الجديد أن كل صفة من صفات الله المميزة موجودة في يسوع المسيح.
* كلي المعرفة: في إنجيل (يوحنا 16: 30) يؤكد الرسول بأن يسوع ” اَلآنَ نَعْلَمُ أَنَّكَ عَالِمٌ بِكُلِّ شَيْءٍ، وَلَسْتَ تَحْتَاجُ أَنْ يَسْأَلَكَ أَحَدٌ. لِهذَا نُؤْمِنُ أَنَّكَ مِنَ اللهِ خَرَجْتَ”.
* كلي الوجود: يقول يسوع في إنجيل (متى 28: 20) “وَهَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ الأَيَّامِ إِلَى انْقِضَاءِ الدَّهْرِ”. وفي إنجيل (متى 18: 20) “حَيْثُمَا اجْتَمَعَ اثْنَانِ أَوْ ثَلاَثَةٌ بِاسْمِي فَهُنَاكَ أَكُونُ فِي وَسْطِهِمْ”.
* كلي القدرة: قال يسوع في إنجيل (متى 28: 18) “دُفِعَ إِلَيَّ كُلُّ سُلْطَانٍ فِي السَّمَاءِ وَعَلَى الأَرْضِ”.
* أبدي، أزلي: في إنجيل (يوحنا 1: 1) يعلن عن يسوع “فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ، وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللهِ، وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللهَ”.
* ثابت، غير قابل للتغيير: تقول الرسالة إلى (العبرانيين 13: 8)، “يَسُوعُ الْمَسِيحُ هُوَ هُوَ أَمْسًا وَالْيَوْمَ وَإِلَى الأَبَدِ”.
والعهد القديم أيضاً يرسم صورة الله باستخدام مثل هذه الألقاب والأوصاف ك البداية والنهاية، والرب، والمخلّص، والملك، والديان، والنور، والصخرة، ومانح الحياة، والراعي، والخالق، وغافر الذنب، والمتكلم بسلطة مقدسة. ومن الرائع أن تلاحظ أنه قيل العهد الجديد كل صفة من هذه الصفات المميزة تُطبّق على يسوع(٦).
وقد قال يسوع كل هذا في إنجيل (يوحنا 14: 7) ” لَوْ كُنْتُمْ قَدْ عَرَفْتُمُونِي لَعَرَفْتُمْ أَبِي أَيْضًا. وَمِنَ الآنَ تَعْرِفُونَهُ وَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ”
والترجمة الحرّة: عندما تنظرون إلى الرسم التخطيطي لله في العهد القديم، فسترون صورة مشابهة لي”.
مشاورات
أسئلة للتأمل ومجموعات الدراسة
■ إقرأ الرسالة إلى أهل (فيليبي 2: 5-8) التي تتحدث عن إخلاء يسوع لنفسه وأنه ولد في ظروف متواضعة، وكان الصليب هو مصيره. ما هي الدوافع المحتملة لأن يفعل يسوع ذلك؟ ثم إقرأ الآيات “9-11”. ماذا يحدث كنتيجة لمهمة يسوع؟ ما الذي يمكن أن يحثّ كل إنسان لإستنتاج، يوماً ما، أن يسوع هو الله؟
■ هل سبق وأن كانت فكرة جهنم عائقاً في رحلتك الروحية؟ كيف ترد على تفسير كارسون عن هذه المسألة؟
■ وجه كارسون بعض الآيات التي تبدو في ظاهرها أنها توحي أن يسوع كان كائناً مخلوقاً أو إله أقل من الله. هل وجدت إستنتاجاته مقنعة؟ لماذا نعم ولمّ لا؟ وماذا تعلمت من تحليله لهذه المسائل من حيث إحتياجك لمعلومات مساعدة مناسبة في تفسيرك للكتاب المقدس؟
مصادر أخرى حول الموضوع.
- Harris, Murray J. Jesus As God. Grand Rapids: Baker, 1993.
- Martin, W. J. The Deity of Christ. Chicago: Moody Press, 1964.
- McDowell, Josh, and Bart Larson. Jesus: A Biblical Defense of His Deity. San Bernardino, Calif.: Here’s Life, 1983.
- Stott, John. Basic Christianity. Grand Rapids: Eerdmans, 1986.
- Zodhiates, Spiros. Was Christ God? Grand Rapids: Eerdmans, 1966.
(١) يتناول الكاتب “لي ستروبل” هذا الموضوع بشكل مُفصّل في كتابه “القضية.. الإيمان”، حيث أجرى مقابلة مع “تشارلز تمبلتون” نفسه، وكذا مقابلات مع آخرين حول هذا الموضوع، وموضوعات أخرى ذات صلة. مكتبة دار الكلمة، مصر، القاهرة، 2007، ط ١ “.