هل كان يسوع مقتنعا حقا بأنه إبن الله؟ – لي ستروبل
هل كان يسوع مقتنعا بأنه ابن الله؟ – لي سترويل
جون دوجلاس كان لديه قدرة غريبة للنظر في عقول الناس الذين لم يقابلهم أبداً.
ولكونه أصلاً “محلل نفسي” لمكتب التحقيقات الفيدرالي، كان دوجلاس يجمع المعلومات من مسرح الجريمة ثم يستخدم بصيرته للنظر داخل شخصية المجرم الذي ما زال حراً طليقاً.
مثال ينطبق على هذه الحالة: توقَّع دوجلاس أن “قاتل تريلسيد” ان قاتل متسلسل يطوف بالمناطق المشجّرة قرب سان فرانسيسكو من سنة 1979 إلى 1981. بانه سيكون شخص لديه صعوبة في التكلم بالإضافة إلى ميول نحو الوحشية الحيوانية، والتبول اللاإرادي، وإحراق المباني عمداً. وكما هو متوقع، ألقى القبض على هذا الشخص أخيراً وأدين في هذه القضية، وكان مطابقاً لهذه الأوصاف تماماً(1).
ومع حصوله على الدكتوراه في علم النفس، وما لديه من خبرة سنين كمخبر، وموهبة طبيعية لفهم السلوك البشري، أصبح دوجلاس مشهوراً ببراعته العالية في التشخيص. ولقد شارك في تأليف العديد من الكتب الأكثر رواجاً حول هذا الموضوع، وعندما فازت جودي فوستر بجائزة الأوسكار عن ادانتها في فيلم “صمت الحملان” شكرت دوجلاس علناً لكونه الشخصية الواقعية من واقع الحياة الذي كان وراء توجيهها كمستشارة بمكتب التحقيقات الفيدرالي.
كيف يقدر دوجلاس على فهم عملية التفكير لدى أشخاص لم يسبق له أن قابلهم؟ وقد شرح دوجلاس هذه البراعة لمجلة “سيرة حياة” بعبارة “السلوك والتصرفات تعكس الشخصية”(2).
وبعبارة أخرى فأن دوجلاس يفحص بدقة الأدلة المتروكة في مسرح الجريمة وحيثما كان ذلك ممكناً، يجري مقابلات مع الضحايا ليكتشف بالضبط ما قاله وفعله المجرم. ومن هذه الأدلة المتروكة والتي هناك نتاج لسلوك الشخص يستنتج التركيب النفسي للشخص.
والآن نعود إلى يسوع، بدون أن نجري حوار معه. كيف نستطيع أن ننقب في عقله لنحدد ما إذا كانت دوافعه، ونواياه، وفهمه لذاته؟ كيف نعرف ما إعتقده عن نفسه، وما الذي كان يفهمه عن ماهية مهمته؟
فبالنظر إلى تصرفاته، سيقول دوجلاس: إذا أردنا فهم إن كان يسوع يعتقد بأنه هو المسيا او ابن الله ـــــ أو كان يعتبر نفسه كمجرد معلم يهودي أو نبي ـــــ فإننا نحتاج إلى معرفة ما فعله، وما قاله، وكي كانت علاقته بالآخرين.
إن السؤال عما كان يسوع يعتقده عن نفسه يعتبر مسألة حساسة. فبعض الأساتذة يؤكدوا أن أسطورة الوهية المسيح قد فُرضت على التقليد المتعلق بيسوع من قبل مؤيدين مبالغين في حماسهم بعد موته بسنوات. ويعتقد هؤلاء الأساتذة، أن يسوع الحقيقي، سينقلب في قبره لو علم أن الناس تعبده. فإذا تخلصت من الأساطير وأعدت المادة إلى أقرب معلومات عنه، فسنجد أن لن يكون أي شيء أكثر من معلم يهودي متجول ومثيراً للرعاع من حين لآخر.
لكن هل شهادة التاريخ إلى جانبهم؟ لاكتشاف ذلك، سافرت جواً إلى ليكسنجتن، بولاية كنتاكي، وذهبت بالسيارة في طرق متعرجة ماراً بسلسلة من مزارع الخيل الرائعة لتعقب أثر العالم الذي يؤكد كتابه الرائج “كرستولوجيا يسوع The Christology of Jesus” لمواجهة هذا الموضوع بالذات.
المقابلة السادسة: بن وذرنجتون الثالث، دكتوراه فلسفة
ليس هناك الكثير في مدينة ويلمور الصغيرة جداً، بولاية كنتاكي، فيما عدا معهد آزبيري اللاهوتي، حيث وجدت مكتب بن وذرنجتون في الطابق الرابع لبناية على طراز مباني المستعمرات بالقرب من الطريق الريفي الرئيسي. وطبقاً لكرم الضيافة لرجل جنوبي، قدم لي مواطن كارولينا الشمالية كرسي مريح وبعض القهوة حين جلسنا لمناقشة ما الذي إعتقده يسوع الناصري عن نفسه؟
هذا الموضوع أرضاً مألوفة لوذرنجتون، وهو الموضوع الذي تضمنته كتبه “يسوع الحكيم Jesus the Sage ; وجوه كثيرة للمسيح The many Faces of the Christ ; البحث عن يسوع The Jesus quest ; ويسوع، وبولس ونهاية العالم Jesus، poul، and the End of The World ; والنساء في إرسالية يسوع Women in the Ministry of Jesus” والذي ظهرت مقالاته عن يسوع في قواميس متخصصة ومجلات أكاديمية.
وقد تعلم في معهد جوردون كونويل اللاهوتي (ماجستير في اللاهوت بامتياز مع مرتبة الشرف)، وجامعة دور هام في انجلترا (دكتوراه في اللاهوت بتركيز على العهد الجديد). وقد درَّس وذرنجتون في معهد آزبيري، ومدرسة آشلاند اللاهوتية، كلية اللاهوت بجامعة ديوك، وجوردن كونويل. وعضويته تشمل جمعية دراسة العهد الجديد، وجمعية الأدب الكتابي، ومعهد أبحاث الكتاب المقدس.
وكان وذرنجتون يتكلم بحرية ووضوح، يزن كلماته بعناية، وبذلك كان يبدو فعلاً كعالم فعلاً. ومع ذلك كان صوته يكشف عن روعة، أو حتى رهبة، خفية لكنها جلية واضحة. وقد ظهر هذا الاتجاه أكثر من ذلك عندما أخذني في جولة في الأستديو عالي التقنية حيث كان يمزج صور يسوع بالترانيم التي تلقى كلماتها ضوءاً على الحنان، والتضحية، والإنسانية، والعظمة في حياته وإرساليته.
بالنسبة لعالم يُدوّن حواشي بغزارة، ملوّنة بشكل حذِر. ونثر دقيق أكاديمياً على الموضوعات التقنية عن يسوع، وهذا التزاوج الفني للفيديو والموسيقى يعتبر منفذاً شاعرياَ لاكتشاف أحد جوانب يسوع التي تستطيع الفنون الخلاقة وحدها الاقتراب من إدراكه.
رجعنا الى مكتب وذرنجتون. وقررت البدء بفحص مسألة إدراك يسوع لنفسه بسؤال كثيراً ما يقفز إلى اذهان القراء عندما يتعرفون على الأناجيل لأول مرة.
“الحقيقة بأن يسوع كان غامضاً نوعاً ما بخصوص هويته، أليس كذلك؟” سألت هذا السؤال فيما كان وذرنجتون يسحب كرسياً من الجانب المقابل لي. “وقد كان ميالاً لتجنب الإعلان الصريح عن نفسه كالمسيا أو ابن الله. أليس هذا لأنه لم يكن يظن في نفسه أنه المسيا أو ابن الله أم كانت لديه أسباب أخرى؟”
أجاب وذرنجتون بعدما أستقر على كرسيه واضع ساقاً على ساق “كلا، لم يكن لأنه لم يعتقد في نفسه ذلك. فلو كان أعلن ببساطة “مرحبا، أيها الناس، أنا الله” وهو ما كان يمكن أن يُسمع كـ “أنا يهوه”، لأن اليهود وقتئذٍ لم يكن لديهم أي فكرة عن مفهوم الثالوث. فقد كانوا يعرفون فقط الله الآب، الذي اسمه يهوه، وليس الله الابن أو الله الروح القدس.
: إذن لو قال شخص ما أنه الله، وهذا ما ليس له أي معنى عندهم إلا أن يُرى ككفر واضح. وهو ما كان يؤدي إلى نتيجة عكسية لجهود يسوع في الوصول إلى الناس ليستمعوا إلى رسالته.
“بالإضافة إلى ذلك، كانت هناك فعلاً مجموعة كبيرة من التوقعات لما يمكن أن يكون عليه شكل المسيا، ولم يرد يسوع أن يُصنف في فئة شخص آخر. بالتالي، كان حريصاً جداً في كل ما كان يقوله علناً. لكن حينما ينفرد بتلاميذه كان الموقف يختلف. لكن الأناجيل كانت في المقام الأول تخبرنا عما فعله يسوع علناً”.
استكشاف التقاليد المبكرة
في سنة 1977 ظهر كتاب من تأليف عالم اللاهوت البريطاني جون هيك وستة من زملائه ذوي عقلية مماثلة أثاروا زوبعة نارية من الجدال، مفترضين أن يسوع لم يعتبر نفسه أبداً الله المتجسد أو المسيا. وقالوا فيما كتبوا، أن هذه المفاهيم نشأت فيما بعد وكتبت في الأناجيل ولذلك بدا أن المسيح ادعى لنفسه هذه الادعاءات.
ولاستكشاف هذا الادعاء، رجع وذرنجتون إلى أقدم التقاليد عن يسوع، المادة الأكثر بدائية، والاكثر أمنا من التطوير الاسطوري، واكتشف أدلة مقنعة تتعلق بمسألة كيف كان يرى يسوع نفسه حقاً.
أردت التنقيب في هذا البحث، فبدأت بهذا السؤال: “ما هي الأدلة التي يمكن أن نجدها حول فهم يسوع لنفسه من خلال علاقاته بالآخرين؟”
وهنا فكر وذرنجتون لحظة ثم أجاب قائلاً “أنظر إلى علاقته مع تلاميذه، فقد كان لدى يسوع إثنا عشر تلميذاً، ومع ذلك لاحظ أنه لم يكن واحداً من الاثنا عشر”.
وفيما يبدو ذلك كتفصيل بدون أي اختلاف، إلا أن وذرنجتون قال إنها مهمة جداً وذات مغزى.
“فإذا كان الاثنا عشر تلميذاً يمثلون إسرائيل الجديدة، فأين يكون موقف يسوع؟ فالرابطة لا تعني بإنه ليس مجرد جزء من إسرائيل، وليس جزءاً من المجموعة المُخلّصة، فهو الذي يشكل المجموعة تماماً مثلما شكل الله شعبه في العهد القديم وهيأ أسباط إسرائيل الاثنا عشر. تلك إشارة عما إعتقده يسوع عن نفسه”.
ثم استمر وذرنجتون في وصف مفتاح حل اللغز الذي يمكن وجوده في علاقة يسوع بيوحنا المعمدان. “يقول يسوع: الحَقَّ أَقولُ لَكُمْ: لَمْ يَقُمْ بَيْنَ المَولوُدينَ مِنَ النِّساءِ أعظَم مِنْ يُوحَنا المَعمَدان وَلكِنْ الأَصْغَرْ فِي مَلَكُوتِ السَّموات أَعظَمْ مِنهُ”. وبعد أن قال هذا، يذهب لما هو أكثر في إرساليته مما فعل يوحنا المعمدان بصنع المعجزات مثلاً. فماذا يعني ذلك عن إعتقاد يسوع حول نفسه؟
“وعلاقته بالزعماء الدينيين ربما كانت الأكثر وضوحاً. فقد أعطى يسوع التصريح الجوهرية حقاً “لَيسَ مَا يَدْخُلُ الفَمْ يُنَجِّسُ الإِنسَانَ بَل مَا يَخرُجُ مِنَ الفَمِ هَذَا يُنَجِّسُ الإنسانَ”. بصراحة، هذا التصريح يُبطل أجزاء هائلة من سفر اللاويين في العهد القديم، بقواعد شديدة التدقيق فيما يتعلق بالطهارة.
“حينها، لم تعجب هذه الرسالة الفريسيون. وكانوا يريدون بقاء الأمور كما هي، ولكن يسوع يقول “كلا، فلدى الله خطط أُخرى، فهو يفعل شيئاً جديداً”. وهنا لابد أن نسأل “ما نوع هذا الشخص الذي يعتقد بأن لديه السلطة لإبطال جزء من كتاب اليهود المقدس والموحى به من الله ويستبدلها بتعاليمه الخاصة؟
“وماذا كانت علاقته-لو أمكننا أن نسميها علاقة-مع السلطات الرومانية؟ لابد لنا أن نسأل لماذا صلبوه؟ فلو كان مجرد حكيم مسالم يحكي أمثال صغيرة، لطيفة، عاقلة، غير مؤذية، فكيف ينهي به الحال على صليب، خصوصاً في موسم عيد الفصح، عندما لم يكن هناك يهودي يريد أن يعدم أي يهودي؟ لابد أن هناك مبرراً لللافتة التي كانت فوق رأسه والتي كتب عليها “هذا هو ملك اليهود”.
ترك وذرنجتون هذا التعليق الأخير معلقاً في الهواء، قبل أن يشرحه بنفسه “إمّا أن يسوع كان قد قال هذا الادعاء عن نفسه، أو أن شخصاً آخر اعتقد وبشكل واضح أنه قاله”.
بإصبع الله
بينما تفتح علاقات بسوع أمامنا نافذة توصلنا إلى طريقة معرفته لذاته، قال وذرنجتون بأن أعمال يسوع-وخصوصاً معجزاته. تعطينا بصيرة إضافية. ومع ذلك، رفعت يدي لكي أستوقفه.
“بالتأكيد لا يمكنك لقول بأن معجزات يسوع تثبت أنه اعتقد أنه الله. لأن التلاميذ خرجوا، فيما بعد، وفعلوا نفس الأشياء، وبالتأكيد أنهم لم يقدموا أي ادعاء بالألوهية”.
فأجاب وذرنجتون قائلاً “كلا، ليست حقيقة أن يسوع صنع معجزات هي التقي تلقي ضوءاً على معرفته لذاته. لكن ما هو مُهم هو كيف تُفسِّر معجزاته”
فسألته “ماذا تقصد؟”
فأجاب “يسوع يقول: إِنْ كُنْتُ بِإِصبع الله أُخرِجُ الشَّياطينَ فَقَدْ أقبَلَ عَلَيكُمْ مَلَكوت اللَه”. فلم يكن كصانعي المعجزات الآخرين الذين يصنعون أشياء مدهشة ثم تمضي الحياة كما كانت دائماً. كلا، فبالنسبة ليسوع، فإن معجزاته تُشير الى مجيء ملكوت الله. فإن معجزاته عينة تعطينا فكرة عما سيكون عليه شكل ملكوت الله. وهذا يبين أن يسوع يختلف عن باقي صانعي المعجزات الآخرين…”
فقاطعته مرة اخرى قائلاً “توسع قليلاً في شرح هذه النقطة، كيف أن هذا يجعل يسوع مختلفاً؟”
فأجاب وذرنجتون “يرى يسوع معجزاته كإحداث لمجيء شيء غير مسبوق، وهو مجيء ملكوت الله. فهو لا يرى نفسه مجرد صانع معجزات، بل يرى نفسه الشخص الذي فيه ومن خلاله ستتحقق وعود الله. وهذا ليس بادعاء خفي، بل واضح جداً بالتفوق والسمو”.
أومأت برأسي موافقاً، الآن بدت هذه النقطة معقولة بالنسبة لي. مع أنني عدت إلى كلمات يسوع، بحثاً عن مزيد من المفاتيح لحل لغز معرفته لذاته.
فقلت لوذرنجتون “لقد دُعي من قبل اتباعه “رابوني” أو “رابي” (ومعناها الحاخام عند اليهود). أليس هذا يدل على أنه كان مجرد أحد المعلمين اليهود كغيره من الحاخامات الآخرين في عصره؟”
فابتسم وذرنجتون ابتسامة عريضة ثم قال “في الواقع أن يسوع كان يعلم بطريقة جديدة راديكاليتيه. فهو يبدأ تعاليمه بقوله: “الحق أقول لكم” ومعناها “أنا اقسم مقدماً بصدق على ما أوشك قوله – وهذا كان ثورياً جداً”
فسألته “وكيف ذلك؟”
فأجاب “في الديانة اليهودية تحتاج لشهادة شاهدين ليشهدوا، فالأول يستطيع أن يشهد بصدق الشاهد الثاني، والعكس بالعكس. لكن يسوع يشهد لصدق أقواله هو. فبدلاً من أن يبني تعاليمه على شهادة الآخرين، فإنه يتكلم بسلطانه هو.
“من ثمَّ، نجد هنا شخصاً اعتبر نفسه ذا سلطة تفوق سلطة أنبياء العهد القديم. اعتقد أنه ليس يمتلك فقط الإلهام الالهي، كداود الملك، بل أيضاً السلطة الالهية وقوة النطق بالكلام الإلهي مباشرةً”.
بالإضافة إلى استخدام عبارة “الحق أقول لكم” في تعاليمه. استخدم يسوع المصطلح “آبا” عندما كان يشير إلى الله. فسألت وذرنجتون “ما الذي يخبرنا به هذا المصطلح “أبا” عما إعتقده يسوع عن نفسه؟”
فأجاب وذرنجتون شارحاً المصطلح “إن “آبا” تعني الألفة والمودة بين طفل وأبيه. وان المشوق حقاً، أنه أيضاً المصطلح الذي كان يستخدمه التلاميذ لمعلم محبوب في أوائل اليهودية. ولكن يسوع كان يستعمله مع الله، وعلى قدر علمي، كان هو وأتباعه الوحيدون الذين كانوا يصلون لله بهذه الطريقة.
وعندما طلبت من وذرنجتون أن يحدثني بالتفصيل عن أهمية هذا. فقال لي “في المنطقة التي كان يسوع يعمل بها، كان اليهود معتادين أن يؤدوا عملهم مع الالتزام بذكر اسم الله وكان اسم الله هو اللفظة الأكثر قداسة التي يمكن نطقها، حتى أنهم كانوا يخافون من الخطأ في تلفظها. وعندما كانوا يخاطبون الله، فقد يقولوا شيء مثل “القدوس، المُبارك”. ولكنهم ما كانوا يستخدمون إسمه الشخصي. فقلت له “وأبا مُصطلح شخصي”.
فأجاب قائلاً “شخصي جداً، وهو مصطلح التحبب الذي يقول فيه الطفل لأبيه “يا أبي العزيز، ماذا تريدني أن أفعل؟”.
ومع ذلك، فقد شعرت بتضارب واضح في هذا الكلام فقاطعته قائلاً “إنتظر لحظة”، إن إستعمال كلمة “أبا” عند الصلاة لا يتضمن معناها أن يسوع يعتبر نفسه الله لأنه علّم تلاميذه أن يستعملوا نفس الكلمة في صلاتهم، وهم ليسوا الله”.
فأجاب وذرنجتون “في الواقع، أن أهمية “أبا” هي في أن يسوع هو الذي بدأ علاقة عميقة لم تكن متاحة من قبل. فالسؤال هو: ما نوع الشخص الذي يستطيع أن يغير مصطلح العلاقة من الله؟ ما نوع الشخص الذي يستطيع أن يبدأ علاقة تعبر عن عهد جديد مع الله؟”.
بدت هذه التفرقة معقولة لي، فسألته “إذن ما المعنى الذي تعتبره المقصود من استعمال يسوع لكلمة “أبا”؟
فأجاب “معناها يشير ضمناً إلى أن يسوع لديه درجة من الألفة مع الله يختلف عن أي شيء في الديانة اليهودية في تلك الأيام. ثم أرجو أن تسمعني، إليك هذا المعنى الذي أصاب الهدف: إن يسوع يقول من خلال وجود علاقة معه فقط يصبح هذا النوع من لغة الصلاةـ هذا النوع من علاقة الأبا مع الله ـ ممكناً. وحول هذه النقطة تقول مجلدات عن كيف اعتبر يسوع نفسه.
وهنا بدأ وذرنجتون يضيف مفتاحاً آخر لحل اللغز-وهو إشارة يسوع المتكررة إلى نفسه على أنه “ابن الإنسان” ـ لكني أخبرته أن خبيراً سابقاً وهو كريج بلومبيرج سبق أن شرحها لي أن هذه الكلمة كانت إشارة إلى ما جاء بسفر دانيال الإصحاح السابع، فوافق وذرنجتون أن هذا الأًطلاح مهم للغاية في إظهار معرفة الذات الفائقة ليسوع كالمسيا.
وعند هذه النقطة توقفت عن الكلام لأدون مذكرات عما قاله وذرنجتون. فعندما قمت بتجميع مفاتيح اللغز عن علاقات يسوع، ومعجزاته، وكلماته، فإن فهمه لذاته أصبح في بؤرة واضحة.
يبدو أنه ليس هناك إلا قليل من الشك مبني على أقدم الأدلة، بأن يسوع كان يعتبر نفسه أكثر من صانه أعمال عظيمة، وأعظم من معلم، وأعظم من نبي آخر بين أنبياء كثيرين. وكان هناك أدلة كثيرة تجعلنا نستنتج أنه كان يعرف نفسه باصطلاحات فريدة ذات منزلة سامية. ولكن إلى أي حد بالضبط كانت معرفته لذاته شاملة؟
صورة يوحنا عن يسوع
في افتتاحية إنجيل يوحنا، الإصحاح الأول، يستخدم يوحنا لغة ملوكية مهيبة وواضحة لتأكيد الوهية يسوع بجرأة
في البَدءِ كانَ الكلِمَةُ، والكلِمَةُ كانَ عِندَ اللهِ، وكانَ الكلِمَةُ اللهَ هذا كانَ في البَدءِ عِندَ اللهِ. كُلُّ شَيءٍ بهِ كانَ، وبغَيرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيءٌ مِمّا كانَ… والكلِمَةُ صارَ جَسَدًا وحَلَّ بَينَنا، ورأينا مَجدَهُ، مَجدًا كما لوَحيدٍ مِنَ الآبِ، مَملوءًا نِعمَةً وحَقًّا. يوحنا 1: 1-3 ،14.
و‘ني اتذكر قراءة هذه المقدة الملكية الفخمة عندما قرأت انجيل يوحنا لأول مرة. وأتذكر أني سألت نفسي: أتساءل كيف كانت ستكون استجابة يسوع إذا قرأ كلمات يوحنا عنه؟ فهل كان سيتراجع ويقول “ما هذا، لدى يوحنا فهم خاطئ كلياً! لقد زينني وحولني إلى اسطورة لدرجة أني لا أستطيع حتى أن أتعرف على نفسي”، أم تُراه سيومئ بإستحسان ويقول “نعم، أنا كل الذي ذكرت وأكثر؟
فيما بعد صادفتني كلمات العالم ريموند براون، الذي كان له استنتاجه الخاص: “لا أجد أي صعوبة في افتراض أنه إذا قرأ يسوع انجيل يوحنا… كان سيجد هذا الإنجيل تعبير مناسب عن هويته”.
فوجدت أن هذه كانت فرصتي لأسمع مباشرة من وذرنجتون، الذي قضى حياته كلها يحلل التفاصيل بطريقته العلمية فيما يتعلق بمعرفة يسوع لذاته، لأسأله إن كان يوافق على تقييم براون.
ولك يكن في رده أي تردد أو غموض حين قال “نعم، أوافق، وليس دي أي مشكلة في ذلك، فعندما تدرس إنجيل يوحنا، فإنك تدرس صورة مترجمة ليسوع، لكني أعتقد أيضاً أنها صورة منطقية لما كان مفهوماً عن يسوع التاريخي.
“وسأضيف أنا هذا: حتى لو حذفت إنجيل يوحنا، فما زال لا يوجد يسوع لا يعتبر المسيا، يمكن استحضار صورته من محتويات الأناجيل الثلاثة الأخرى. فهي غير موجودة أصلاً.
وفي الحال فكرت في المقولة المشهورة، والتي سُجلت في إنجيل متى، حين اجتمع يسوع بتلاميذه قالً لهم: “وَأَنْتُم مَن تَقولُونَ إنِّي أنَا” فَأَجَابَ سمعَانْ بُطرسُ: “أَنْنَ هوَ المَسيٍحُ ابْنُ اللهِ الحَيْ”. وبدلاً من ان يتجنب الموضوع نجد أن يسوع أكد لبطرس وشهد له بقوة ملاحظته فَقَالَ لهُ يسوع: “طُوبَى لَك يا سٍمعان بْن يَونَا إنَّ لَحمَاً وَدَمَاً لَمْ يُعلِنَا لَكَ لَكِنْ أبي الَّذي في السَّموات (انظر، متى 16: 15-17).
ومع ذلك فإن بعض الصور الشائعة عن يسوع مثل فيلم “الإغراء الأخير للمسيح” تظهره كمضطرب أساساً حول هويته ورسالته. فهو مُحمل بالغموض والقلق المشوب بالذنب.
وهنا سألت وذرنجتون “هل هناك أي دليل أن يسوع كانت لديه أزمة هوية؟”.
فأجاب الأستاذ “ليس هناك أزمة هوية، ولو أنني أصدق بأنه لديه نقاط تأكيد الهوية، في مواضع معينة، عند معموديته، وعند تجربته (من الشيطان)، وعند التجلي، وفي بستان جثسيماني. هذه كلها لحظات حاسمة أكد لله له فيها من يكون وما هي رسالته.
“على سبيل المثال، أنا لا اعتقد أن واجباته لم تبدأ بصفة جدية حتى بعد تعميده، عندما سمع الصوت القائل “أنت ابني الحبيب الذي به سررت!”
“ماذا كان يعتقده عن مهمته؟”
“أدلاك أن رسالته، أنه كان ليحرر شعب الله، لذ، فإن رسالته كانت موجهة لإسرائيل”.
فقلت مشدداً: “خصيصاً لإسرائيل”.
فقال وذرنجتون: “نعم، هذا صحيح. فقليلة هي الأدلة التي تدل على أن طان يقصد الأمم (غير اليهود) أثناء إرساليته، فتلك كانت مهمة الكنيسة التي جاءت فيما بعد. فكما تعرف، إن وعود الأنبياء كانت موجهة لإسرائيل، وإلى إسرائيل كان يجب أن يذهب”.
“أنا والآب واحد”
في كتابه “الإيمان المعقول Reasonable Faith” يشير وليم لين كريج الى وجود كمية كبيرة من الأدلة تدل على انه في خلال عشرين سنة من الصلب كانت هناك كرسيتولوجيا تامة تعلن يسوع كاله متجسد.
اشار المؤرخ الكنسي جار وسلاف بيليكان الى أن أقدم عظة مسيحية، وأقدم تقرير عن شهيد مسيحي، وأول تقرير وثني عن الكنيسة، وأول صلاة طقوسية (1كورنثوس 16: 22) كلها تشير الي يسوع كرَب واله. وقال بيليكان: “من الواضح أنها الرسالة عما آمنت به الكنيسة وعلمت بأن “الله” هو الاسم المناسب ليسوع المسيح”(4).
في ضوء هذا الكلام، سألت وذرندتون “هل ترى أي طريقة ممكنة تمكن هذا من الظهور – خصوصاً بهذه السرعة – لو لم يكن يسوع قد إدعى إدعاءات فائقة ومسيانية حول نفسه؟”.
وهنا كان وذرنجتون مُصراً “لا، لم يكن ذلك ممكناً، ما لم تكن مستعداً أن تجادل بأن التلاميذ نسوا تماماً ما الذي كان يسوع التاريخي، وأنه لم يكن لديهم علاقة بالتقاليد والتعاليم التي بدأت تظهر بعد موت يسوع بعرين عاماً. وبصراحة كمؤرخ أقول إن هذا الكلام ليس له معنى إطلاقاً”.
ثم أضاف قائلاً “عند التعامل مع التاريخ نجد أن كل أنواع الاشياء ممكنة ولكن ليس كل الأشياء الممكنة محتملة على حد سواء.
1كرستولوجي= التعليل اللاهوتي لشخص المسيح
ثم سألني “هل من الممكن أن كل هذه الأشياء قد حدثت بفعل السحر مستمدة من الهواء الخالي في غضون عشرون عاماً من موت يسوع، عندما كان هناك على قيد الحياة شهود على شكل يسوع التاريخي ومازالوا أحياء؟”.
وإذ أجد ذلك الافتراض التاريخي غير محتمل مثل أي شيء آخر من الممكن أن يصادفك. القضية الحقيقية هي ماذا حدث بعد صلب يسوع مما جعل التلاميذ يغيرون رأيهم، أقصد التلاميذ الذين أنكروا وخالفوا تعاليم يسوع وتخلوا عنه؟ ببساطة حدث لهم شيء مشابه لما حدث ليسوع عند عماده، فقد تأكد لهم أن يسوع كان الشخص الذي كانوا يأملونه”.
وماذا كان شكله بالضبط؟ وبينما كنت أختتم وقتي مع وذرنجتون، طلبت منه أن يلخص هذه النقطة. وبعد أن يأخذ كل أبحاثه بعين الاعتبار، ماذا كان استنتاجه الشخصي عن ماذا كان رأي يسوع في ذاته؟ فسألته هذه السؤال ثم جلست مرة اخرى وتركته يوضحه، وهذا هو ما فعله ببلاغته وفصاحته واقتناعه.
“اعتقد يسوع بأنه الشخص الذي عينه الله ليحقق ذروة عمل الخلاص الالهي في التاريخ البشري. اعتقد بأنه أداة الله في تنفيذ هذا الأمر، وأن الله قد فوضه وأعطاه السلطة’ وانه يتكلم باسم الله، وأن الله يرشده لأداء هذه المهمة. لذلك فالذي قاله يسوع هو الذي قاله الله، والذي فعله يسوع هو عمل الله.
“وبحسب المفهوم اليهودي للوكالة هو أن “وكيل الإنسان هو الإنسان نفسه”. تذكر كيف أرسل يسوع رسله وقال لهم” أي شيء يفعلونه معكم كأنهم قد فعلوه معي”. فقد كانت هناك رابطة قوية بين الإنسان وبين وكيله الذي يرسله في مهمة.
“حسناً، اعتقد يسوع بأنه مكلف بمهمة الهية، وهذه المهمة هو أن يخلص شعب الله. ومضمون هذا المعنى أن شعب الله قد ضلوا وأن الله لابد أن يفعل شيئاً – كما كان يفعل دائماً – لكي يتدخل ويعيدهم إلى المسار الصحيح. ولكن هناك فرق هذه المرة، وهو أن هذه كات آخر مرة، فتلك كانت الفرصة الأخيرة.
“هل كان يعتقد يسوع بأنه ابن الله، والممسوح من الله؟ الإجابة نعم، هل كان يعتبر نفسه أنه المسيا النهائي؟ نعم، هذه هي الرؤية التي يرى نفسه بها. هل كان يعتقد بأن أي شخص أقل شأناً من الله يمكنه ان ينقذ العالم؟ كلا، أنا لا أعتقد أنه كان يعتقد ذلك”.
“وهذه هي النقطة التي تجعل التناقض غريباً بقدر الإمكان، وهي الطريقة التي كان الله سينقذ بها العالم بموت ابنه، فأكثر أعمال الانسان إنسانية هي الموت.
فالآن إن الله بطبيعته الالهية لا يموت. لذا كيف كان الله سينفذ هذا العمل؟ كيف كان الله سيكون هو منقذ الجنس البشري؟ كان لابد أن يأتي في صورة إنسان لإنجاز هذه المهمة. وكان يسوع يعتقد أنه هو الذي سيؤدي هذه المهمة.
“وقد قال يسوع في إنجيل مرقس 10: 45 “لِأَنَّ ابْنَ الإِنْسَان أيضِاً لَمْ يَأتِ لِيُخدَم بَلْ لِيَخدِمْ ولِيَبذِلْ نَفسَهُ فِدية عَنْ كَثِيرِينَ”. فهذا إما يكون أعلى شكل من أشكال جنون العظمة أو هو مثال لشخص يعتقد فعلاً، كما قال “أنا والآب واحد”، وبعبارة أخرى “إن لي السلطة لأن أتكلم نيابة عن الآب، ولي القدرة لأن أقوم بأي عمل نيابة عن الآب، وإذا رفضتموني فقد رفضتم الآب”.
“وحتى لو حذفت الإنجيل الرابع وقرأت فقط الأناجيل الثلاثة، فستظل هذه هي النتيجة التي تصل إليها. وهي أيضاً النتيجة التي كان يسوع سيرشدنا إليها لو درسنا الكتاب المقدس وسألناه هذا السؤال”.
“ولابد أن نسأل: لماذا لا يوجد يهودي آخر من القرن الأول لديه اليوم ملايين من الأتباع؟ ولماذا لا توجد حركة يوحنا المعمدان آخر؟ ولماذا من كل شخصيات القرن الأول، بمن فيهم الأباطرة الرومان، يسوع وحده هو الذي يعبده الناس اليوم. بينما الآخرون قد اندثروا وتفتتوا في تراب التاريخ؟
“السبب هو لأن هذا يسوع – يسوع التاريخي – هو أيضاً الرب الحي. ولماذا؟ لأنه مازال موجوداً بيننا فيما هلك الآخرون.
في مكان الله ذاته
مثل وذرنجتون، هناك علماء آخرون كثيرون قد بذلوا غاية الجهد للتنقيب عن أقدم الأدلة عن يسوع فتوصلوا إلى نفس النتيجة.
كتب كريج “ها هو رجل اعتبر نفسه ابن الله بمعنى فريد، الذي ادعى أنه يعمل ويتحدث بسلطة إلهية، وهو الذي كان يعتبر نفسه صانع المعجزات، والذي اعتقد أن مصير الناس الأبدي يتوقف على ما إذا كانوا يؤمنون به أم لا”.
ثم أضاف تعليقاً مروعاً بوجه خاص: “إن مفاتيح اللغز التي تكفي للتحليل اللاهوتي لإدراك يسوع لشخصه، موجودة حتى في العشرين في المائة من أقوال يسوع التي يعترف بها أعضاء نادي مؤتمر يسوع كأصيلة. والدليل الذي يجعلنا نستنتج أن يسوع كان قد أعد نفسه للوقوف في مكان الله نفسه، هو دليل “مقنع تماماً للغاية” قد وافق عليه العالم اللاهوتي رويس جوردن جرونلير.
وقال كريج “إن تأكيد يسوع غير عادي لدرجة أنه مما لا يمكن تجنبه أن تعرض سلامته العقلية على بساط البحث. ويلاحظ أن جيمس دون بعد أن أكمل دراسته التي تعتبر كملحمة عن هذه القضية. فقد اضطر بعد ذلك لتعليق سؤال واحد أخير لا يمكن تجاهله: هل كان يسوع مجنون؟”(8).
في مطار لكنجستون، بينما كنت انتظر رحلة الطائرة للعودة إلى شيكاغو، وضعت عملات معدنية في تليفون عمومي وطلبت موعداً لمقابلة واحد من كبار خبراء البلاد البارزين في علم النفس.
فقد حان الوقت لأن أكتشف ذلك.
مشاورات
اسئلة للتأمل ومجموعات الدراسة
- ماذا تظن أنها بعض المببررات التي جعلت يسوع يتجنب الكشف عن هويته للجماهير؟ وهل يمكنك أن تتخيل بعض الطرق التي كان أي إعلان مبكر عن الوهيته سيحدث ضرراً لمهمته؟
- ماهي بعض الصعوبات التي نواجهها في تحديد ماذا كانت الشخصيات التاريخية تعتقده في نفسها؟ وما مفاتيح حل اللغز التي تعتبرها مفيدة في محاولة تحديد هذه؟ ولماذا كانت مفاتيح اللغز التي قدمها وذرنجتون قد أقنعتك أو أخفقت في إقناعك أن يسوع اعتقد بأنه الله أو المسيا؟
- علم يسوع تلاميذه استعمال المصطلح “أبا” أو “أبانا المحبوب”، في مخاطبة الله، ماذا يعرفك هذا عن علاقة يسوع بالآب؟ وهل هذا النوع من العلاقة جذاب بالنسبة لك؟ لماذا ولماذا لا؟
لمزيد من الأدلة
مصادر أخرى حول هذا الموضوع
Craig، William Lane. “The Self-Understanding of Jesus.” In Reasonable Faith، by William Lane Craig، 233-54. Westchester، 111. Crossway. 1994. Marshall. I. Howard. The Origins of New Testament Christology. Downers Grove. 111. Intervarsity Press، 1976.
Moule. C. F. D. The Origins of Christology. Cambridge: Cambridge Univ. Press، 1977.
Witherington. Ben، III. The Christology of Jesus.
Minneapolis: Fortress، 1990
نJesus.” g of Jesus.” i يسوع بالآب؟ وهل هذا النوع من العلاقة جذاب بالنسبة لك؟ لماذا ولماذا لا؟
يسوع إعتقد بأنه الله أو المسيا
هل كان يسوع مقتنعا حقا بأنه ابن الله