الأدلة الوثائقية – هل حفظت حياة يسوع بشكل موثوق لنا؟ – لي ستروبل
الأدلة الوثائقية – هل حفظت حياة يسوع بشكل موثوق لنا؟ – لي سترويل
عندما كنت مراسلاً بجريدة”شيكاغو تريبيون” كنت فأر وثائق” كنت أقضي ساعات لا حصر لها منقباً في ملفات المحاكم وأتشمم أنباء الأخبار. لقد كانت مهمة مرهقة ومجهدة ومستهلكة للوقت، لكن مكافأتها تستحق الجهد. إستطعت كسب المنافسة وأُحقق سبقاً صحفياً بأخبار الصفحة الأولى بشكل منتظم.
على سبيل المثال، ذات مرة عثرت على بعض نسخ سرية للغاية الخاصة بهيئة المحلفين الكبرى والتي قد وضعت بشكل غير مقصود في ملف عام، وفي مقالاتي اللاحقة فضحت تلاعب في مناقصات كبرى كانت تدار في خلفية بعض مشاريع الأشغال العامة الكبرى بشيكاغو، بما فيها إنشاء الطرق السريعة الكبرى.
ولكن أكبر مخبأ مذهل للمستندات كشف عنه كان في قضية تعتبر نقطة تحول لي، كانت الخاصة بشركة فورد للسيارات والتي إتهمت بقتل متهور وطائش لثلاثة مراهقين ماتوا حرقاً في سيارة موديل بينتو، وتلك كانت المرة الأولى التي يدان فيها صانع أمريكي جنائياً بإدعاء تسويق منتج خطر.
وعندما فحصت ملفات محكمة مدنية ويناماك الصغيرة جداً، بولاية إنديانا، وجدت عشرات من مذكرات شركة فورد السرية تكشف عن حقيقة أن شركة صناعة السيارات كانت تعرف مقدماً بأن بينتو يمكن أن تنفجر إذا إصطدمت من الخلف وهي تسير بسرعة 20ميل/الساعة. وأشارت المستندات بأن شركة صناعة السيارات قررت عدم تحسين إجراءات سلامة السيارة لتوفر بضعة دولار ثمن كل سيارة، ولزيادة مساحة أمتعتها.
أما محامي شركة فورد، الذي تصادف أنه كان يتمشى في قاعة المحكمة، إكتشفني حين كنت أنسخ صوراً للمستندات. فأندفع بجنون إلى المحكمة ليحصل على أمر قضائي بأن يختم الملف بالشمع حظراً لرؤية الجمهور له.
بيد أن الوقت كان متأخراً جداً. فقد تصدرت قصتي بعنوان كبير “فورد تتجاهل أخطار حريق بينتو، الكشف عن مذكرات سرية” وبعرض الصفحة جريدة التريبيون وإنتشرت في كافة أنحاء البلاد[1].
تأصيل المستندات:
لقد كان الحصول على المذكرات السرية للشركة شيء، لكن التحقق من أصالتها شيء آخر.
فقبل أن يستطيع الصحفي نشر محتوياتها، أو قبل أن يستطيع المدعي العام أن يقبل هذه المستندات كدليل في محاكمة، هناك خطوات يجب أن تؤخذ للتأكد من أنها مستندات أصلية.
وفيما يتعلق بأوراق السيارة بينتو، هل الأوراق المعنونة بشعار شركة فورد هل صادرة عنهم من الممكن أن تكون مزورة؟ وهل التوقيعات عليها قد تكون مزورة؟ وكيف أتأكد من ذلك؟ وبما أن المذكرات، كما كان ذلك واضحاً، قد صورت عدة مرات، فكيف أتأكد من موثوقية محتوياتها وأنه لم يتم العبث بها؟ وبعبارة أخرى، كيف أتأكد بأن كل وثيقة منسوخة مطابقة للمذكرة الأصيلة، التي لا أملكها؟
وما هو أكثر من ذلك، كيف أتأكد من أن هذه المذكرات تحكي القصة كاملة؟ ومع ذلك فهي تمثل جزءاً صغيراً فقط من المراسلات الداخلية لشركة فورد. فماذا يحدث لو كانت هناك مذكرات أخرى، مازالت مخبأة عن جمهور؟ وإذا كشفوا فهل ستلقي ضوءً شاملاً مختلفاً على القضية؟
إن فحص العهد الجديد أيضاً، وعلى حد سواء، بمثل هذه الأسئلة الهامة. فعندما أمسك بيدي كتاباً مقدساً، فإنني أساساً أحمل نسخاً من سجلات تاريخية قديمة. فالمخطوطات الأصلية لسير حياة يسوع ـــ متى، ومرقس، ولوقا، ويوحنا، وكل الأسفار الأخرى للعهدين القديم والجديد، والتي دونت من زمن بعيد قد تحولت إلى غبار. لذا فكيف لي التأكد من أن هذه النسخ الحديثة، والتي هي الناتج النهائي عن عمليات نسخ غير قابلة للعد في كافة أرجاء العصور والأجيال، لها أي شبه بما كتبه الكتاب أصلاً؟
بالإضافة إلى ذلك، كيف يمكنني معرفة إذا ما كانت هذه السير الذاتية الأربع تحكي لنا القصة كاملة؟ وماذا لو كانت هناك سير ذاتية أخرى لحياة يسوع لكنها خضعت لرقابة الكنيسة الأولى ولم تعجبها صورة يسوع التي صورها كتابها؟ وكيف أثق أن سياسات الكنيسة لم تقضي على سيرة حياة يسوع التي كانت دقيقة كتلك الأربعة التي تضمنها العهد الجديد، والتي كان يمكنها تسليط ضوء جديد هام على أقوال وأعمال ذلك النجار المثير للجدل من الناصرة؟
فهاتين المسألتين سواء كانت سير حياة يسوع قد حفظت بشكل موثوق لنا، وإذا كانت هناك سير حياة أخرى عن يسوع ولكنها قد منعت الكنيسة إنتشارها بداعي الحذر. عرفت بأن هناك عالم واحد مشهود له عالمياً بأنه كمصدر موثوق لهذه الأمور. فسافرت بالطائرة إلى نيويورك، وقدت سيارة قد إستأجرتها إلى مدينة يريستون، لكي أزوره دون سابق إخطار لكي لا يستعد.
المقابلة الثانية: بروس م. ميتزجر، دكتوراه فلسفة.
وجدت بروس متزجر، 84عاماً، بعد ظهر يوم السبت في مكانه المفضل والمعتاد، مكتبة كلية اللاهوت برينستون، حيث قابلني بإبتسامة “أنا أحب أن أنفض الغبار على الكتب”.
في الواقع، لقد كتب بعض أفضل هذه الكتب، خصوصاً إذا كان الموضوع عن نصوص العهد الجديد. إجمالاً، لقد ألف أو حرر خمسون كتاب من بينها: العهد الجديد: خلفيته، ونموه، ومحتواه
The New Testament: Its Background, Grouth, and Content؛
نصوص العهد الجديد، The Text Of The New Testament
قانون العهد الجديد، The Canon Of The New Testament
مخطوطات الكتاب المقدس اليونانية Manuscripts Of The Greek Bible؛
التعليق على نصوص العهد الجديد اليوناني Textual Commentary On The Greek New Testament؛
المقدمة للأبوكريفا Introduction To The Apocrypha
دليل أكسفورد للإنجيل The Oxford Companion To The Bible. والعديد منها ترجم إلى لغات أخرى: الملاجاشية والكورية واليابانية والصينية والألمانية. كما إشترك أيضاً في تحرير “إنجيل أكسفورد الجديد ذو الحواشي مع أسفار الأبوكريفا The New Oxford Annotated Bible
والمحرر العام لأكثر من 25 مجلد في سلسلة “أدوات ودراسات العهد الجديدNew Testament Tools and Studies”.
يتضمن تعليم ميتزجر درجة الماجستير من كلية بريستون اللاهوتية، ودرجتي الماجستير والدكتوراه من جامعة بريستون. كما منح درجات دكتوراه فخرية من خمس كليات وجامعات، من بينها جامعة سانت أندرو في سكتلندا، وجامعة مونستر في ألمانيا، وجامعة بوتشيفتستروم في جنوب أفريقيا.
وفي سنة 1969 م عمل كأستاذ مقيم في تندال هاوس، بجامعة كامبردج، بإنجلترا. وعمل كزميل زائر في كليرهول، بجامعة كامبردج، في سنة 1974 م، وفي كلية ولفسون، بأكسفورد، في سنة 1979 م . وهو حالياً أستاذ فخري في كلية بريستون اللاهوتية بعدما أمضى 46عاماً في تدريس العهد الجديد.
وميتزجرهو رئيس لجنة الكتاب المقدس، النسخة القياسية، المراجعة الجديدة، وزميل مراسلة للأكاديمية البريطانية، ويعمل في كيوراتوريام في معهد فيتوس لاتينا في دير بيرون بألمانيا.
وهو رئيس سابق لجمعية الآداب الكتابي، والجمعية الدولية لدراسات العهد الجديد، وجمعية بآتريستيك الأمريكية الشمالية.
إذا تفحصت هوامش أي كتاب موثوق به على نصوص العهد الجديد، فهناك إحتمالات أن ترى بأنه قد إستشهد بميتزجر مراراً وتكراراً. وكتبه واجبة القراءة في الجامعات والمعاهد اللاهوتية حول العالم، ويأخذ بأعلى إعتبار لدى مجموعة واسعة من علماء العديد من المذاهب اللاهوتية.
من عدة نواحي فإن ميتزجر ولد سنة 1914م، يعتبر من نسل جيل أقدم. وعندما ينزل من سيارته البويك الرمادية التي يسميها (عربة تسوقي البنزينية) وهو يرتدي بدلة رمادي داكنة ورباط عنق أزرق من نسيج صوفي مزركش بالرسوم، التي تعتبر غير رسمية كتلك التي يرتديها عند زياراته للمكتبة، حتى في العطلة الأسبوعية. وشعره الأبيض ممشط بعناية، وعيناه لامعتان ويقظتان، مؤطرتان بنظارة بلا إطار. ويمشي أبطأ مما تعود عليه، لكن ليس بصعوبة فهو يتسلق السلم بشكل منهجي إلى الطابق الثاني.
حيث يجري أبحاثه في مكتب غامض قاتم وصارم.
إلا أنه لم يفقد روح المرح. فقد أراني علبة صغيرة الصفيح ورثها كرئيس للجنة الترجمة الموحدة والمراجعة للكتاب المقدس. وفتح الغطاء ليكشف عن رماد كتاب مقدس أحرق في سنة 1952 م أثناء إحتجاج من قبل وآعظ أصولي من مذهب العصمة الحرفية (الفندمنتالت).
يبدو أنه لم تعجبه تغيير اللجنة لكلمة “زملاء” في نسخة الملك جيمس بكلمة “رفاق” الواردة في رسالة العبرانيين 9:1″، ووضح ميتزجر بضحكة مكتومة بأن الواعظ الأصولي “اتهمهم بالشيوعيون!”.
ومع أن حديث ميتزجر متردد أحيانا فإنه يميل إلى الإجابة بعبارات جذابة مثل “تماماً”، ويستمر في البقاء عند حافة منحة لدراسة العهد الجديد. وعندما طلبت بعض الإحصائيات، لم يعتمد على الأرقام التي في كتابه سنة 1992 م عن العهد الجديد، بل أجرى بحثاً جديداً ليحصل على أحدث الأرقام.
وسرعة بديهته لا تجد مشكلة في تذكر تفاصيل عن الناس والأماكن، وهو ملم بكل المحادثات والمناظرات الحالية بين خبراء العهد الجديد. في الحقيقة، فإنهم يواصلون اللجوء إليه لبصيرته وحكمته.
ومكتبه بحجم زنزانة السجن، بلا نوافذ ومطلي بلون رمادي مؤسساتي، به كرسيان خشبيان، وقد أصر على أن آخذ الكرسي الأكثر راحة. وكان هذا جزء من سحر شخصيته. وقد كان طيباً جداً، معتدل ومتواضع للغاية، وله روح لطيفة جعلتني أود عندما أكبر في السن أن أتحلى بنفس هذا النوع الناضج من النعمة.
نسخ من نسخ من نسخ
فقلت لميتزجر” سأكون أميناً معك. عندما، اكتشفت لأول مرة عدم وجود أصول باقية على قيد الحياة للعهد الجديد، تشككت جداً. وفكرت، إذا كان كل ما لدينا هو نسخ من نسخ من نسخ، فكيف يكون لدي أي ثقة بالعهد الجديد الذي بين أيدينا اليوم بأنه يحمل أي تشابه مع الكتب الأصلية؟ فما ردك على ذلك؟
فأجاب: “هذه ليست قضية قاصرة على الكتاب المقدس، بل إنها سؤال يمكنا أن نسأله عن الوثائق الأخرى
التي وصلت إلينا من عصور قديمة. بيد أن الإجابة على هذا السؤال تسير في صالح العهد الجديد، خاصةً إذا ما قورن بالكتابات القديمة الأخرى، حيث عدد النسخ التي بقيت حتى الآن لم يسبق له مثيل”.
فسألته: “لماذا ذلك مهم؟”.
فأجاب: “حسناً، كلما كان لديك نسخ كثيرة تتفق مع بعضها البعض، خاصةً إذا ظهرت من مناطق جغرافية مختلفة، والأكثر من ذلك بأنها تمكنك التحقق وإدراك كيف كان شكل الوثيقة الأصلية. والطريق الوحيدة التي تتوافق فيها هي إنحدارها التسلسلي في شجرة العائلة التي تمثل سلالة المخطوطات”.
فقلت له: ” حسناً، أستطيع أن أفهم أن وجود عدد كبير من النسخ من أماكن مختلفة يمكن أن يساعد. ولكن ماذا عن عمر الوثائق؟ بالتأكيد أن ذلك مهم أيضاً، أليس كذلك؟”.
فأجاب “تماماً لذا، وهذا شيء آخر يميز العهد الجديد. فلدينا نسخ تبدأ خلال جيلين من كتابة النسخ الأصلية، بينما في حالة النصوص القديمة الأخرى، نجد أنه ربما قد إنقضت خمسة، أو ثمانية، أو عشر قرون بين النسخ الأصلية وأقدم نسخة بقيت سليمة”.
“وفضلاً عن المخطوطات اليونانية، فلدينا أيضاً ترجمات للإنجيل في لغات أخرى كالقبطية والسريانية واللاتينية، والتي ترجع إلى زمن أقدم نسبياً. علاوة على ذلك، لدينا ما يمكن تسميته بالترجمات الثانوية التي تلتها بقليل، مثل الأرمنية والقوطية. والكثير غيرها، كالجورجية والأثيوبية وهي تشكيلة هائلة”.
فسألته “كيف تساعدنا هذه الترجمات؟”.
فأجابني “لأنه حتى لو لم يكن لدينا مخطوطات يونانية، فإننا بتجميع المعلومات من هذه الترجمات من تواريخ قديمة نسبياً، يمكننا أن نعيد إنتاج محتويات العهد الجديد حقاً. وبالإضافة إلى ذلك، فإنه حتى لو فقدنا كل المخطوطات اليونانية والترجمات المبكرة، فما زال بإستطاعتنا أن نعيد إنتاج محتويات العهد الجديد من الأعداد الهائلة من الإقتباسات في التعليقات، والعظات، والرسائل، وغيرها من آباء الكنيسة الأوائل”.
فيما بدا ذلك رائعاً، إلا أنه كان من الصعب الحكم على هذه الأدلة منفصلة. فقد إحتجت إلى لبعض
السياق لتقدير العهد الجديد ككتاب فذ ّ فريد من نوعه بشكل أفضل. وتساءلت، كيف يقارن بالأعمال
المشهورة الأخرى من العصور القديمة؟
جيل المخطوطات:
فقلت له عندما تتحدث عن عدد هائل من المخطوطات، كيف يتعارض ذلك مع كتب قديمة أخرى والتي قبلها العلماء بطريقة روتينية عادية على أنها موثوق بها؟ فمثلاً حدثني عن كتابات لمؤلفين من نفس عصر يسوع تقريباً”.
ولما كان ميتزجر قد توقع هذا السؤال فقد أشار إلى بعض المذكرات المكتوبة بخط اليد والتي أحضرها.
وبدأ حديثه قائلاً “تأمل تاسيتوس، المؤرخ الروماني الذي كتب حوليات روما الإمبراطورية في غضون116م تقريباً، فكتبه الستة الأولى موجودة الآن في مخطوط واحد فقط، وقد نسخ سنة850م. تقريباً.
والكتب من 11-16 في مخطوط آخر بتاريخ يعود إلى القرن الحادي عشر. أما الكتب من7-10فهي مفقودة. وهكذا فهناك فجوة كبيرة بين الزمن الذي بحث فيه تاسيتوس معلوماته كتبها والنسخ الحالية الوحيدة.
“أما فيما يتعلق بمؤرخ القرن الأوليوسيفوس، لدينا تسع مخطوطات يونانية من كتابه “الحرب اليهودية”، وهذه النسخ تمت كتابتها في القرون العاشر، والحادي عشر، والثاني عشر. وهناك ترجمة لاتينية من القرن الرابع ومواد روسية من العصور الوسطى من القرن الحادي عشر والثاني عشر”.
لقد كانت تلك الأرقام مفاجئة لي. فلا يوجد إلا أقل عدد من المخطوطات التي تربط هذه الأعداد القديمة بالعالم الحديث. فسألته “بالمقارنة بتلك الأعداد، كم عدد المخطوطات اليونانية للعهد الجديد الموجودة حالياً؟”.
اتسعت عينا ميتزجر وقال “أكثر من خمسة آلاف مخطوط، عمل لها بيان وفهرس “قال ذلك بحماس رافعاً صوته 10درجات”.
لقد كان ذلك بمثابة جيل من المخطوطات مقارنة بكثبان الرمل من أعمال تاسيتوس ويوسيفوس!
فسألته “أليس ذلك غير معتاد في العالم القديم؟ من هو المنافس” ؟.
فقال: “كمية مادة العهد الجديد ُتحرج أي مقارنة بالكتب الأخرى من العصور القديمة، فبجانب العهد الجديد، الكمية الأكبر لشهادة المخطوطات هو إلياذة هوميروس، التي كانت بمثابة إنجيل اليونانيين القدماء. ويوجد منها اليوم أقل من650 مخطوط يوناني.
وبعضها متجزأ إلى أجزاء. وقد وصلت إلينا منها القرن الثاني والثالث الميلادي، وما بعده. وعندما نتأمل أن هوميروس قد أعد ملحمته حوالي سنة800ق.م. يمكنك أن ترى فجوة كبيرة جداً.
كلمة “كبيرة جداً” تعتبر أقل من الحقيقة فالفجوة كانت 1000(ألف سنة) ففي الواقع لم توجد أي وجه
للمقارنة فإن أدلة المخطوطات للعهد الجديد أدلة ساحقة عندما توجد توضع أمام المؤلفات المحترمة التي من العصور القديمة وهي أعمال لا يجد العلماء المحدثين أي إعتراض على إعتبارها أصلية.
وبما أن فضولي وحب إستطلاعي عن مخطوطات العهد الجديد قد تمت إثارته فقد سألت ميتزجر أن يصف لي بعض هذه المخطوطات.
فقال لي: “أقدم المخطوطات كانت أجزاء من البردي، الذي كان من لوازم الكتابة وقتئذ مصنوع من نبات البردي الذي كان ينمو في أراضي دلتا النيل في مصر. ويوجد الآن 99 قطعة متجزأة من ورق البردي تحتوي على فقرة أو أكثر أو كتب من العهد الجديد.
وأهم هذه البرديات التي ظهرت للنور هي برديات تشيستر بيتي والتي إكتشفت سنة 1930م. ومن هذه البرديات نجد أن الأولى تحتوي على أجزاء من الأناجيل الأربعة وسفر أعمال الرسل، ويرجع تاريخها إلى القرن الثالث. والبردية الثانية تحتوي على أجزاء كبيرة لثمانية من رسائل بولس، بالإضافة إلى أجزاء من الرسالة إلى العبرانيين، ويعود تاريخها إلى سنة 200م. والبردية الثالثة تحتوي على جزء كبير من سفر الرؤيا ويرجع تاريخها إلى القرن الثالث.
“وهناك مجموعة أخرى من مخطوطات البردي الهامة إشتراها سويسري مولع بجمع الكتب وهو م.مارتنبودمير. وأقدم هذه البرديات يرجع تاريخه إلى سنة200م.
يحتوي على ثلثي إنجيل يوحنا. وبردية أخرى، تحتوي على أجزاء من أناجيل لوقا ويوحنا، ويرجع تاريخها إلى القرن الثالث”.
وعند هذه النقطة، كانت الفجوة بين كتابة سير حياة يسوع وبين أقدم برديات، كانت ضئيلة جداً. ولكن ما هو أقدم مخطوط نمتلكه؟ إلى أي قرب مدة يمكنا التوصل إلى المخطوطات الأصلية التي يسميها الخبراء” أوتوجراف” أي كتبت بخط يد المؤلف نفسه؟
قصاصة الورق التي غيرت مجرى التاريخ:
فقلت له “ما هو أقدم جزء من العهد الجديد كله نمتلكه اليوم؟”.
ميتزجر لم يكن مضطراً لأن يفكر في الإجابة فقال” أقدم جزء هو عبارة عن جزء من إنجيل يوحنا، يحتوي على نصوص من الأصحاح الثامن عشر وهي خمسة آيات ثلاثة على أحد الوجهين، وإثنان على الوجه الآخر، وتبلغ مساحته 2.5بوصة * 3.5 بوصة”.
فقلت له: “كيف تم اكتشافه؟ “.
فقال تم شراؤه في مصر حوالي سنة 1920م، لكنه ظل بعيداً عن الأنظار عدة سنوات مع أجزاء اخرى مشابهة من البردي. ثم في سنة1934م فيما كان سي. إتش. روبرتس من كلية القديس يوحنا، بجامعة أكسفورد، يُدقق في البرديات بمكتبة جون ريلاندز في مانشستر، بإنجلترا. تعرف في الحال على هذه البردية بأنها تحتفظ بجزء من إنجيل يوحنا. وإستطاع أن يحدد تاريخها من أسلوب كتابتها”.
فسألته: “وماذا كان إستنتاجه؟ وإلى أي زمن يعود تاريخها؟
فأجاب “أستنتج بأن أصلها يرجع إلى 100-150م.وكثير من علماء البليوغرافيا المهمين مثل السيرفردريك كينيون، والسير هارولدبيل، وأدولف ديسمان، ودبليو.إتش. بي. هاتش، وأولريك ويلكين وآخرون، إتفقوا على تقييمه. وكان ديسمان مقتنعاً بأنها تعود على الأقل إلى عهد الإمبراطور هارديان، الذي كان من سنة 117-138م. أو حتى الإمبراطور تراجان، وكان عهده من سنة 98-117م.”
لقد كان هذا إكتشاف مذهل. والسبب أن علماء اللاهوت الألمان المتشككين في القرن الماضي جادلوا بشدة بأن الإنجيل الرابع لم يكن قد دون حتى سنة 160م. على الأقل، وهو تاريخ بعيد جداً عن أحداث حياة يسوع مما يضع هذا التقدير-بحسبهم-القيمة التاريخية. وقد إستطاعوا التأثير على أجيال من العلماء الذين سخروا من موثوقية هذا الإنجيل”.
فقلت معلقاً “هذا بالتأكيد يقضي تماماً على صدق هذا الرأي”.
فقال” نعم، بالتأكيد، فلدينا هنا في تاريخ قديم جداً، جزء من نسخة من إنجيل يوحنا من مسافة بعيدة في جماعة عاشت على نهر النيل في مصر بعيداً عن أفسس في آسيا الصغرى، حيث من المُرجح أن يكون قد كُتب الأصل هناك.
تمت كتابة آراء مشهورة في التاريخ إذ أرجع كتابة إنجيل يوحنا إلى زمن أقرب إلى أيام كان المسيح يمشي على الأرض. فكتبت مذكرة لتذكيري بمراجعة عالم آثار عما إذا كانت هناك إكتشافات أخرى دعمت الثقة بالإنجيل الرابع.
ثروة كبيرة من الأدلة
فيما تمثل مخطوطات البردي أقدم نسخ العهد الجديد، هناك أيضاً نسخ قديمة مكتوبة على ورق البرشمان، الذي كان يصنع من جلود الماشية، والخراف، والماعز، والظبي.
ثم أوضح ميتزجر قائلاً: “عندنا ما يسمى بالمخطوطات الأنشية وهي مكتوبة بالحروف اليونانية الكبيرة. فعندنا اليوم306 من هذه المخطوطات، والعديد منها يرجع تاريخه إلى القرن الثالث.
وأهمها المخطوطات السينائية، وهي النسخة الكاملة الوحيدة للعهد الجديد بحروف الأنشيال،
والمخطوطة الفاتيكانية، التي ليست كاملة تماماً، وكلاهما يرجع تاريخهما إلى سنة 350م.
“وهناك أسلوب جديد في الكتابة، حروفها متصلة، ظهرت سنة ظهرت سنة800م. تقريباً.
وتسمى minuscle أي مكتوبة بحروف صغيرة، ولدينا 2856 من هذه المخطوطات. وهناك أيضاً
كتب الفصول التي تحتوي على العهد الجديد من الكتاب المقدس مرتبة بترتيب معين لكي تقرأ في
الكنائس الأولى في أوقات متناسبة من السنة. وهناك2403من هذه الكتب قد تم إعداد قائمة بها وفهرستها. وبهذا يبلغ مجموع المخطوطات اليونانية 5664 مخطوط.
ثم قال: “بالإضافة إلى الوثائق اليونانية، هناك آلاف من المخطوطات القديمة للعهد الجديد بلغات أخرى.
فهناك من 8000 إلى10000مخطوط لاتيني ]فولجاتا (معترف به)[، بالإضافة إلى8000 باللغة الأثيوبية، والسلافية، والأرمينية. إجمالي هذه المخطوطات يبلغ حوالي24000 مخطوط موجودة حالياً فسألته، وأنا أريد تأكيد واضح لما إعتقدت بأنني سمعته يقوله “إذن، ما هو رأيك؟ بالنسبة لتعدد المخطوطات والفجوة الزمنية بين أصولها ونسخها الأولى، كيف يصمد العهد الجديد أمام الأعمال الأخرى المشهورة من الأزمنة القديمة؟”.
فأجاب “بطريقة جيدة جداً، ويمكنا أن نثق ثقة عظيمة في الإخلاص الذي وصلت به هذه النصوص إلينا، خاصة لو قورنت بأي أعمال أدبية قديمة أخرى”.
يشارك في هذا الإستنتاج علماء بارزين من كل أنحاء العالم. وقد قال المرحوم ف. ف. بروس، الأستاذ البارز الفذ في جامعة مانشستر، إنجلترا، ومؤلف كتاب “وثائق العهد الجديد”: هل يمكن الوثوق بها؟
The New Testament Documents: Are They Reliable?”” ليس هناك أي نص من آداب العالم القديم يتمتع بمثل هذه الثروة الهائلة من أدلة الشهادات النصية الجيدة كالعهد الجديد”[2].
ذكر ميتزجر إسم السير فردريك كينيون، المدير السابق للمتحف البريطاني ومؤلف كتاب “الكتابات القديمة في البرديات اليونانية”The Paleography Of Greek Papyri. وقد قال كينيون أنه” لم يحدث في أي حالة أخرى أن الفترة الزمنية بين تأليف الكتاب وبين تاريخ أقدم مخطوطاته كانت قصيرة كما في العهد الجديد”[3].
وكان إستنتاجه: “آخر أساس لأي شك أن الكتاب المقدس قد وصل إلينا جوهرياً كما كُتب، هذا الشك
قد زال الآن”[4]
ومع ذلك، ماذا نقول عن التناقضات بين المخطوطات المختلفة؟ في الأيام التي مضت قبل
ماكينات التصوير السريعة بسرعة البرق، كانت المخطوطات تُنسخ يدوياً بشكل مرهق من قبل نُسّاخ، حرفاً حرفاً، وكلمة كلمة، وسطر سطر، بطريقة ملائمة لتسبب حدوث أخطاء. والآن أريد أن أحدد بالضبط ما إذا كانت هذه الأخطاء عند النسخ كتابة قد جعلت أناجيلنا الحديثة مشوهة بلا أمل في عدم الدقة.
فحص الأخطاء:
فقلت له: “مع التشابه في طريقة كتابة الحروف اليونانية وبالظروف البدائية التي كان يشتغل بها النُساخ، يبدو أنه من الحتمي تسلل أخطاء النسخ إلى النص”.
فقال ميتزجر مُسلماً “هذا صحيح تماماً”
فقلت له: “وفي الحقيقة أليس هناك حرفياً عشرات الآلاف من الإختلافات بين المخطوطات القديمة التي عندنا؟”.
فقال لي: “هذا صحيح تماماً”.
فسألته: “ألا يعني هذا إذن أننا لا نستطيع الوثوق بها؟”.
وكان سؤالي هذا يبدو سؤالاً إتهامياً أكثر منه إستفزازياً.
فأجاب ميتزجر بحزم” كلا يا سيدي، لايعني ذلك. دعني أولاً أقول التالي: لم تُخترع النظارات حتى سنة 1373م في فينيسيا، وأنا متأكد بأن انحراف البصر كان موجوداً بين النُسّاخ القدماء. وقد تضاعف هذا الأمر بحقيقة أنه كان من الصعب تحت أية ظروف قراءة مخطوطات باهتة قد تقشّرت وزال عنها بعض الحبر الذي كُتبت به. كما كانت هناك مخاطر أخرى، سواء كان ذلك بسبب السهو، مع أنهم كانوا حذرين بشكل شكاك، إلا أن ذلك لم يمنع من تسلل بعض الأخطاء”.
ثم أضاف مسرعاً “لكن هناك عوامل تُبطل هذه الحجة، فعلى سبيل المثال، أحياناً ذاكرة الكاتب تخدعه. فبين الحين والآخر فهو يعيد في النظر إلى النص ثم يكتب الكلمات، فإن ترتيب الكلمات قد يتبدل. فقد يكتب الكلمات الصحيحة لكن بالتسلسل الخاطىء. ولكن هذا الأمر لا يدعو للقلق لأن اللغة اليونانية تتميز بالتعريفات على خلاف اللغة الإنجليزية.
فسألته فوراً “بمعنى….”.
فقال لي “لأن هناك فرق كبير في اللغة الإنجليزية إذا قلت “الكلب يعض الإنسان “أو” الإنسان يعض
الكلب”، فتسلسل الكلمات مهم في اللغة الإنجليزية.
لكن في اليونانية ليس الأمر مهماً. فالكلمة تؤدي وظيفتها كموضوع للجملة بغض النظر عن موقعها في السلسلة، بالتالي، فإن معنى الجملة لا يتحرّف إذا كانت الكلمات لم تكتب بالترتيب الذي نعتبره الترتيب الصحيح. لذلك نعم هناك بعض الإختلافات بين المخطوطات، لكنها عموماً ليست بإختلافات هامة. ومثال آخر لذلك، الإختلاف في تهجىء الكلمات “.
ومع ذلك فمازال العدد كبير “للمغايرات” أو الاختلافات بين المخطوطات، وهو مزعج. فقد رأيت تقديرات وصلت إلى200ألفحالة[5]. ومع ذلك فقد قلل ميتزجر من قيمة هذا الرقم.
فقال “الرقم يبدو كبيراً، لكنه مُضلل نوعاً ما بسبب الطريقة التي تُحسب بها هذه الإختلافات. وشرح ذلك بأنه لو أن هناك خطأ هجائي في كلمة واحدة في ألفين مخطوط، فإن هذا يحسب كأنه ألفين من الأخطاء.
ثم أثرت أهم مسألة: “كم عدد تعاليم وعقائد الكنيسة المعرضة للخطر بسبب هذه الإختلافات؟”.
فأجاب بثقة “أنا لا أعرف أي عقيدة معرضة للخطر”.
فقلت له “ولا واحدة؟”.
فكرر قائلاً “ولا واحدة. إن شهود يهوه يأتون إلينا قائلين “إن إنجيلكم به خطأ في ترجمة الملك جيمس في رسالة يوحنا الأولى5 :7- 8،حيث تتحدث عن “الآبُ، وَالكلمَةُ، وَالرّوحُ القُدسُ. وَهؤُلاءَ الثلاثَةُ هُم وَاحدٌ”. ثم يقولوا “هذا الكلام غير موجود في المخطوطات الأولى”.
“وهذا فعلا ً صحيح. وأظن بأن هذه الكلمات موجودة في سبع أو ثمان نسخ فقط وكلها من القرن الخامس عشر أو السادس عشر. وإني أعترف أن هذا ليس جزءاً مما أوحي إلى يوحنا الأول بكتابته.
“لكن هذا لا يلغي الدليل الذي شوهد بحزم في الإنجيل بالنسبة لعقيدة الثالوث الأقدس. فعند معمودية يسوع يتحدث الآب، وإبنه المحبوب يُعمّد، والروح القدس يحل عليه. وفي نهاية رسالة كورنثوس الثانية يقول بولس “نعمَة رَبّنَا يسُوعَ المَسيحَ، ومَحبّةُ الله، وشَركةُ الرٌوحَ القُدُسَ مَعَ جَميعكُم. آمينَ”. وهناك العديد من المواضع حيث يُذكر فيها الثالوث الأقدس”.
“وبذا فإن الإختلافات، التي يتحدثون عنها، تعتبر أقل من أن تكون جوهرية؟”.
“نعم، نعم، هذا صحيح، والعلماء يعملون بعناية شديدة لمحاولة تبديدها بالرجوع إلى المعنى الأصلي. فأهم هذه التغييرات لا تُسقط أي عقيدة من عقائد الكنيسة. وأي نسخة جيدة للكتاب المقدس بها مذكرات
في الحاشية لتنبيه القارىء إلى القراءات المختلفة لأي نتيجة. ولكن مرة أخرى، هذه الحالات نادرة”.
وهي نادرة لدرجة أن العلماء نورمان جسلر، وويليم نكس يستنتجان، “إن العهد الجديد ، قد ظل موجوداً
في مخطوطات أكثر من أي كتاب من العصور القديمة، وليس هذا فقط بل إنه ظل باقياً وسليماً في صورة أكثر نقاء من أي كتاب آخر عظيم، وفي صورة نقية بدرجة 99.5%”[6]
ومع ذلك، فحتى لو كان صحيحاً أن نقل العهد الجديد عبر التاريخ لم يسبق له مثيل في أي كتاب آخر في موثوقيته، فكيف نعرف أن ما لدينا هو الصورة الكاملة؟
وماذا عن الإدعاءات أن مجالس الكنيسة قد ألغت وأبادت وثائق أخرى شرعية، لأن صورة يسوع
بها لم تعجبها؟ كيف نعرف أن ال 27 سفراً التي هي أسفار العهد الجديد تمثل لنا أفضل والأكثر معلومات يعتمد عليها؟ ولماذا تحتوي أناجيلنا على أناجيل متى، ومرقس، ولوقا، ويوحنا، ولكن هناك عدة أناجيل أخرى قديمة وكثيرة إنجيل فيلبس، وإنجيل المصريين، وإنجيل الحق، وإنجيل ميلاد مريم، لماذا إستبعدت هذه الأناجيل؟
لقد حان الوقت أن نرجع إلى مسألة “قانونية” أي القانون الكنسي، وهي إصطلاح مأخوذ من كلمة يونانية معناها “القاعدة” أو “المبدأ” أو “المعيار”، وهو الذي يصف الكُتب التي أصبحت مقبولة رسمياً في الكنيسة ومتضمنة في العهد الجديد[7]. ويعتبر ميتزجر مرجعاً أساسياً في هذا المجال.
“درجة عالية من الإجماع”
فسألته: ” كيف قرر قادة الكنيسة الأوائل، أي الكتب تعتبر موثوق بها، وأخرى تُنبذ؟ ما المعايير التي إستخدموها ليقرروا أي الوثائق سيتضمنها العهد الجديد؟
فقال “بصفة أساسية، كان لدى الكنيسة الأولى ثلاثة معايير:
“أولاً، يجب أن يكون لدى الكتب سلطة رسولية، بمعنى أن يكون قد كتبها إما الرسل أنفسهم، أو من كانوا شهود عيان لما كتبوا عنه، أو من قبل أتباع الرسل. لذا ففي حالة مرقس ولوقا، مع أنهما لم يكونا من بين التلاميذ الإثني عشر، فبحسب التقليد أن مرقس كان مساعداً لبطرس، وكان لوقا مرافقاً لبولس.
“ثانياً، كان هناك معيار الإلتزام الذي دُعي قانون الإيمان. بمعنى هل كانت الوثيقة مطابقة للمعتقدات المسيحية الأساسية التي تعترف بها الكنيسة كمعيارية؟
وثالثاً: كان هناك معيار قبول الوثيقة، وهل إستخدمتها الكنيسة بشكل مستمر وعام.
فسألته “هل طبقوا تلك المعايير فقط وتركوا الأجزاء التافهة تسقط وتتلاشى حيثما كانت؟”.
فأجاب: “حسناً، لن يكون من الدقة القول بأن هذه المعايير طبّقت ببساطة بأسلوب ميكانيكي، لقد كانت هناك آراء مختلفة جداً حول أي من المعاير يجب أن تعطى أهمية أكبر”.
“لكن من الجدير بالملاحظة أنه مع أن حواشي المعيار ظلت غير مقررة لفترة، إلا أنه كانت هناك درجة عالية من الإجماع فيما يتعلق بالجزء الأعظم من العهد الجديد خلال القرنين الأولين.
وكان هذا صحيحاً بين الكنائس المختلفة والمتناثرة في أماكن كثيرة على نطاق واسع”.
فقلت له: “إذن، فإن الأربعة أناجيل التي عندنا في العهد الجديد اليوم قيست بهذه المعايير، بينما الأناجيل الأخرى لم تطيق عليها هذه المعايير؟”.
فقال لي: “نعم لقد كانت، لو جاز لي أن أعبر عنها بهذه الطريقة، إنها كانت مسألة “البقاء للأصلح” وعند الحديث عن قانونية الأسفار، إعتاد آرثر داربي نوك أن يقول لطلابه في هارفارد “إن الطرق الأكثر إستخداماً للسفر في أوربا هي أحسن الطرق، ولهذا السبب تستخدم للسفر بكثرة” وهذا تشبيه جيد. فالمُفسّر البريطاني وليم باركلي قالها بهذه الطريقة: “إن الحقيقة المجردة للقول إن أسفار العهد الجديد
أصبحت قانونية لأن أحداً لم يستطع أن يمنع ذلك”.
“يمكنا أن نثق أنه لا توجد أي كتب قديمة أخرى يمكن مقارنتها بالعهد الجديد من ناحية الأهمية التاريخية أو العقيدة المسيحية. وعندما يدرس أحد التاريخ القديم لقانونية الأسفار، فسيخرج مقتنعاً بأن العهد الجديد يحتوي على أفضل المصادر لتاريخ حياة يسوع.
وأولئك الذين أدركوا حدود القانون لديهم وجهة نظر واضحة ومتوازنة عن إنجيل المسيح”.
“فقط اقرأ هذه الوثائق الأخرى بنفسك. فلقد كتبت في وقت متأخر عن الأناجيل الأربعة، في القرن الثاني، والثالث، والرابع، والخامس، وحتى السادس، بعد يسوع بفترة طويلة، وتعتبر عامية وتافهة جداً. وتحمل أسماء مثل: إنجيل بطرس، وإنجيل مريم، إلا أنها غير ذات علاقة بمؤلفيها الحقيقيين. ومن ناحية أخرى، فالأربع أناجيل في العهد الجديد قد حازت القبول بسهولة وبإجماع ملحوظ لكونها موثوق بها في القصة التي أخبروا”.
ومع ذلك عرفت بأن بعض العلماء التحرريين، وبشكل خاص أعضاء حلقة يسوع الدراسية
المنتشرة بشكل جيد، يعتقدون بأن إنجيل توما يجب أن يُرفع إلى منزلة رفيعة مساوية للأناجيل الأربعة التقليدية. فهل يقع هذا الإنجيل الغامض ضحية للحروب السياسية داخل الكنيسة، وفي النهاية يُستثنى بسبب تعاليمه الغير مقبولة شعبياً؟ فقررت بأنني من الأفضل أن أتقصّى مع ميتزجر حول هذه النقطة.
كلمات يسوع السرية:
فسألته: “دكتور ميتزجر، إنجيل توما، الذي كان بين وثائق نجع حمادي التي وجدت في مصر سنة 1945م، يدعي بأنها تحتوي على “الكلمات السرية التي قالها يسوع وهو حي وكتبها يهوذا ديديموس يهوذا توما. لماذا إستبعدتها الكنيسة؟”.
وإذ كان ميتزجر له معرفة تامة بالكتاب، فقال: “إنجيل توما ظهر إلى النور في نسخة باللغة القبطية في القرن الخامس الميلادي، وقد ترجم إلى اللغة الانجليزية. وهو يحتوي على114مثلاً منسوبة إلى يسوع ولكن لا يشتمل على أي قصة لما عمله يسوع، ويبدو أنه قد كتب في سوريا باللغة اليونانية سنة140م وفي بعض الحالات أظن أن هذا الإنجيل يذكر بطريقة صحيحة ما قاله يسوع مع تعديلات طفيفة”.
كان هذا تصريح مثير بالتأكيد، فقلت له: “من فضلك توسع في الشرح”
“على سبيل المثال، في إنجيل توما يقول يسوع مدينة مبنية على تل عالي لا يمكن أن تُخفى”. فهنا أضيفت الصفة “عالي” ولكن باقي العبارة تقرأ كما ذكرت في إنجيل متى. أو يقول يسوع “إعطوا لقيصر الأشياء التي لقيصر، وإعطوا الله الأشياء التي لله، وأعطوني الأشياء التي لي “في هذه الحالة أضيفت العبارة الأخيرة.
“ومع ذلك، في إنجيل توما هناك بعض الأشياء المخالفة كلياً للأناجيل القانونية. فيقول يسوع “شقوا الخشب، سأكون هناك. ارفعوا حجراً، ستجدونني هناك “تلك هي عقيدة وحدة الوجود، الفكرة بأن يسوع متحد بمادة هذا العالم-وذلك على نقيض أي شيء في الأناجيل القانونية.
“يختتم إنجيل توما بقول ملاحظة: “دعوا مريم تبتعد عنا، لأن النساء لسن مستحقات الحياة”.
ويحكي عن يسوع أنه قال “انظروا، سأقودها لكي أحولها إلى ذكر، لكي تصبح هي أيضاً روحاً حية، تشبهكم أيها الذكور. لأن كل امرأة تصبح رجلاً ستدخل ملكوت السموات “.
إرتفعت حواجب ميتزجر بحدّة كأنه مندهش لما قاله توما. ثم قال مؤكداً “هذا ليس بيسوع الذي نعرفه
من الأناجيل القانونية الأربعة!”.
فسألته: “ماذا عن التهمة بأن توما إستبعد عمداً بواسطة مجالس الكنيسة بناء على نوع المؤامرة لإسكاته؟”.
فأجاب ميتزجر قائلاً: “هذا كلام غير دقيق من الناحية التاريخية، إذ أن المجامع والمجالس الكنسية عقدت في القرن الخامس وما بعده وكانت تصدق على ما سبق وقبله المسيحيون كبيرهم وصغيرهم على حد سواء. وليس من الحق أن نقول إن إنجيل توما إستبعد نفسه! إذ إنه لم يتوافق مع الشهادات الأخرى عن يسوع التي قبلها المسيحيون الأوائل وإعتبروها جديرة بالثقة”.
فسألته: “لذلك أنت تختلف مع أي شخص يحاول رفع إنجيل توما إلى نفس تلك المنزلة للأناجيل الأربعة؟”.
فأجاب: “نعم، أختلف كثيراً جداً. وأعتقد أن الكنيسة الأولى قد مارست فعل متعقل بنبذه. ويبدو لي أننا باهتمامنا به الآن نكون قد قبلنا شيئاً أقل صحة من الأناجيل الأخرى. والآن لا تفهمني بشكل خاطئ. فأنا أعتقد بأن إنجيل توما وثيقة مثيرة، لكنه ممتزج بمذهب وحدة الوجود وبيانات معادية للإيمان
بالمساواة بين الجنسين وهو ما يستحق بالتأكيد أن نقدم القدم اليسرى لشراكته، إذاً ماكنت تعرف ما أعني.
“يجب أن تفهم بأن القانون الكنسي لم يكن نتيجة سلسلة من المجادلات المتعلقة بسياسات الكنيسة. فالقانون الكنسي هو بالأحرى الإفتراق الذي حدث بسبب البصيرة الحدسية للمؤمنين المسيحيين.
فقد إستطاعوا أن يسمعوا صوت الراعي الصالح في إنجيل يوحنا، ويمكنهم أن يسمعوه بالكاد بطريقة مكتومة ومشوهة في إنجيل توما، مختلطاً بأشياء أخرى كثيرة.
عندما صدر القرار بالقانون الكنسي، فإنه صدّق فقط على الإحساس العام الذي سبق أن قررته الكنيسة. فعليك أن تدرك أن القانون الكنسية وعبارة عن قائمة بالكتب الرسمية الموثوق بها أكثر من كونه قائمة رسمية بالكتب. فهذه الوثائق لم تستمد سلطتها من أنها قد اختيرت، فكل منها له سلطة رسمية قبل تجميعها مع بعضها. فالكنيسة الأولى استمعت فقط وأحست بأنها جديرة بالثقة.
“فالآن، لو قال شخص بأن القانون الكنسي ظهر فقط بعدما أصدرت مجالس ومجامع الكنيسة هذه البيانات، فإن ذلك سيكون كالقول،” هيا لنأت بالعديد من أكاديميات موسيقية لتصدر تصريحاً بأن موسيقى باخ وبيتهوفن رائعة”. سأقول “شكراً لكم على لاشيء! فقد عرفنا ذلك قبل تصريحكم. ونحن نعرفها بسبب الحساسية التي لدينا لما هو موسيقى جيدة وما هو غير ذلك. وهو نفس الشيء مع
بالقانون الكنسي”.
رغم ذلك، فقد أشرت بأن بعض أسفار العهد الجديد، خاصة يعقوب، والعبرانيين، والرؤيا، قُبلت ببطء أكثر في القانون الكنسي من الأسفار الأخرى. فسألته: “من ثمّ، هل يجب أن نشك فيها لهذا السبب؟”.
فأجاب: ” في رأيي، أن هذا يرينا إلى أي حد كانت الكنيسة الأولى حذرة. فلم يكونوا متسرعين بإدخال كل وثيقة تصادف أن بها أي شيء عن يسوع. وهذا يرينا التروي والتأمل والتحليل الدقيق.
” بالطبع حتى يومنا هذا هناك من الكنيسة السورية ترفض قبول سفر الرؤيا ومع ذلك فالناس الذين ينتمون إلى هذه الكنيسة مسيحيين مؤمنين. ومن وجه نظري، إنني أقبل سفر الرؤيا كجزء رابع من الكتاب المقدس”.
ثم هز رأسه قائلاً: ” أظن أنهم يفقرون أنفسهم بعدم قبوله”.
العهد الجديد “اللا نظير له”
لقد كان ميتزجر مقنع. فلم تبق عندي أي شكوك تتعلق بسواء نص العهد الجديد إن كان قد حفظ بشكل موثوق حتى وصل إلينا عبر القرون. أحد أسلاف ميتزجر البارزين في معهد برينستون اللاهوتي، بنيامين وارفيلد، الحائز على أربعة دكتوراه وقام بتدريس علم اللاهوت النظامي حتى وفاته سنة 1921م عبّر عن فكرة العهد الجديد الذي لا نظير له بقوله:
لو قارنا الحالة الحالية لنص العهد الجديد بتلك التي لأي كتب قديمة أخرى، فلا بد أن…نعلن بأنه صحيح بشكل رائع. فالعناية التي نُسخ بها العهد الجديد كانت عناية فائقة، والتي بلا شك ناتجة عن الوقار الحقيقي لكلماته المقدسة…….فالعهد الجديد لا نظير له بين الكتب القديمة في نقاوة نصوصه كما نقلت فعلاً وظلت مستخدمة[8].
من ناحية الوثائق التي قُبلت في العهد الجديد، فعلى العموم لم يكن هناك أي خلاف جدي حول الطبيعة الموثوقة لعشرون من السبع وعشرون سفراً للعهد الجديد من متى إلى فليمون بالإضافة إلى رسالة بطرس الأولى ورسالة يوحنا الأولى. وهذا طبعاً يشمل الأناجيل الأربعة التي تمثل سير حياة يسوع[9].
والسبعة أسفار الباقية، ولو أنها كانت موضع شك من قبل بعض قادة الكنيسة الأوائل، “تم إعتراف الكنيسة بها أخيراً بصورتها الكاملة على العموم” بحسب قول جيسلر وتكس[10].
أما من ناحية “الأسفار المزيفة pseudepigraphia “، وتكاثر الأناجيل، والرسائل، وأسفار الرؤى في القرون القليلة الأولى بعد يسوع، وتشمل أناجيل نيقوديموس، وبرنابا، وبارثلماوس، واندراوس ورسالة بولس إلى اللاوديكيين، ورسالة إسطفانوس وغيرها، ــــ فكلها “خيالية وضلالية… غير أصلية وغير ذات قيمة ككل” وفي الواقع “لايوجد أب أرثوذكسي أو قانون كنسي أو مجلس” إعتبرها رسمية وجديرة بالقبول أو تستحق الإدراج في العهد الجديد[11].
في الحقيقة، لقد قبلت تحدي ميتزجر بقراءة العديد منها بنفسي. فبمقارنتها بتلك التي نالت عناية التدقيق، والإعتدال، وشهود العيان التي نجدها في أناجيل متى، ومرقس ، ولوقا، ويوحنا، فإن هذه الأسفار تستحق فعلاً الوصف الذي وصفها بهيوسابيوس، مؤرخ الكنيسة الأول: ” بأنها سخيفة كلياً، وعديمة التقوى”[12].
فهي بعيدة جداً عن رسالة يسوع ولا تساهم بأي شيء ذو معنى في عملية البحث والتحقيق التي أقوم بها، لكونها كُتبت في وقت متأخر في القرن الخامس، والسادس، وخصائصها غالباً أسطورية مما يؤهلها لتكون غير موثوقة من الناحية التاريخية.
وبعد أن تم إثبات هذه الحقائق، فقد حان الوقت الحقيقي بالتقدم إلى مرحلته التالية. وقد كنت فضولياً: لمعرفة كم من الأدلة الموجودة لهذا النجار من القرن الأول الصانع المعجزات، كم من الأدلة موجودة خارج الأناجيل؟ هل المؤرخين القدماء يؤكدون أو يعارضون إدعاءات العهد الجديد عن حياته،
وتعاليمه، ومعجزاته؟ لقد عرفت أن هذا يتطلب رحلة إلى أوهايو لزيارة واحد من أبرز علماء البلاد في هذا المجال.
فلما توقفنا، شكرت الدكتور ميتزجر لوقته وخبرته وسعة إطلاعه. إبتسم بدفء وعرض عليّ توصيلي إلى الطابق السفلي. لم أرد أن أستهلك مزيد من وقته بعد ظهر يوم السبت، لكن فضولي لم يدعني أغادر برينستون بدون إرضاء نفسي حول مسألة واحدة باقية.
“كل عقود السنين هذه من الثقافة، والدراسة، وتأليف الكتب الدراسية، والتنقيب في التفاصيل الدقيقة لنصوص العهد الجديدـــ ماذا كان تأثير كل هذا على إيمانك الشخصي؟”.
فقال وقد بدا سعيدا ًبمناقشة هذا الموضوع “آه، لقد زاد أساس إيماني الشخصي أن أرى الحزم الذي أوصل هذه الكتب إلينا، بأعداد وفيرة من النسخ، التي بعضها تعتبر قديمة جداً، جداً”.
فبدأت أقول له “وهكذا فإن العلم لم يُضعف إيمانك…”.
فهب واقفا ً قبل أن أتمكن من إكمال جملتي وقال مؤكدا ً” بالعكس، لقد بناه. فقد كن طول حياتي أسأل أسئلة، وقمت بالحفر والتنقيب في نصوص الإنجيل، ودرستها بدقة وعناية، والآن أعرف بثقة أن إيماني بيسوع قد وضعفي المكان الصحيح”.
وهنا توقف عن الكلام فيما كانت عيناه تتفحص وجهي، ثم أضاف للتأكيد” وضع جيداً في المكان الصحيح”.
“مشاورات”
“أسئلة للتأمل ومجموعات الدراسة”
- بعد ان قرأت المقابلة مع الدكتور ميتزجر، كيف تُقدّر موثوقية العملية التي نقل بها إلينا العهد الجديد؟ أذكر بعض الأسباب الي تجعلك تعتبر هذه العملية موثوقة أم لا؟
- تفحص بدقة نسخة من العهد الجديد ثم تفحّص بعض الملاحظات التي في الهوامش والتي تتحدث عن القراءات المختلفة. هل يمكنك ذكر بعض الأمثلة التي تجد؟ وكيف يؤثر وجود هذه الملاحظات على فهمك لهذه الفقرات؟
- هل المقاييس التي تقرر إذا كانت أي وثيقة يجب أن يشمله العهد الجديدـ أتبدو معقولة؟ لماذا ولم لا؟ ـ هل تعتقد بوجوب إضافة معايير أخرى؟ ـ وماهي الأضرار التي يلحقها العلماء المحدثين عند إعادة التصحيح في قرارات الكنيسة الأولى المتعلقة بما إذا كانت الوثيقة يمكن تضمينها بالكتاب المقدس.
- See Lee Patrick Strobel, Reckless Homicide: Ford’s Pinto Trial (South Bend, Ind.: And Books, 1980), 75-92 and Lee Strobel, God’s Outrageous Claims (Grand Rapids: Zondervan, 1997), 43-58. Ford was ultimately acquitted of criminal charges after the judge withheld key documents from the jury, though the automaker was successfully sued in civil cases. Allegations about the Pinto were first reported in Mother Jones magazine.
- F. F. Bruce, The Books and the Parchments (Old Tappan, N.J.: Revell, 1963), 178, cited in Josh McDowell, Evidence That Demands a Verdict (1972; reprint, San Bernardino, Calif.: Here>s Life, 1986), 42.
- Frederic Kenyon, Handbook to the Textual Criticism of the New Testament (New York: Macmillan, 1912), 5, cited in Ross Clifford, The Case for the Empty Tomb (Claremont, Calif.: Albatross, 1991), 33.
- Frederic Kenyon, the Bible and Archaeology (New York: Harper, 1940), 288.
- Nonnan L. Geisler and William E. Nix, A General Introduction to the Bible (1968; reprint, Chicago: Moody Press, 1980), 361.
- Ibid., 367, emphasis added.
- Patzia, the Making of the New Testament, 158.
- Benjamin B. Warfield, Introduction to Textual Criticism of the New Testament (London: Hodder & Stoughton, 1907), 12-13.
- Geisler and Nix, a General Introduction to the Bible, 195. They note that some include Philemon, 1 Peter, and 1 John among the disputed books, but «it is probably better to refer to these as omitted rather than disputed books. »
- Ibid., 207.
- Ibid., 199. This does not include the Apocrypha, which were accepted by particular churches for a particular period of time and today are considered valuable though not canonical. Examples: Shepherd of Hernias, Epistle to the Corinthians, Epistle of Pseudo-Barnabas, Did ache, Apocalypse of Peter, the Acts of Paul and Thecla, and Ancient Homily or the Second Epistle of Clement.
- Ibid.