تاريخ الكنيسة في العصور الوسطى والظلم والعنف – لي ستروبل
تاريخ الكنيسة في العصور الوسطى والظلم والعنف – لي ستروبل
“لقد إستغلت المسيحية عبر التاريخ (من قِبَّل بعض الأشخاص) كمبرر لأكثر الأهوال الحمقاء القاسية الوحشية المعروفة للإنسان. والأمثلة التاريخية لا تصعب على التذكر: الحملات الصليبية، محاكم التفتيش، إحراق السحرة، الهولوكوست…. لم أر في المسيحية الكثير حتى أعتبر أنها تستحق أن أدين بها.”
كين شى – ملحد [1]
“لقد كانت المسيحية عطية للبشرية…. وكان لها تأثيرّ مفيد على الجنس البشرى… فمعظم الذين يعيشون اليوم في بيئة مسيحية ظاهرية بأخلاقيات مسيحية لا يُدركون كم ندين ليسوع الناصري… فكم من الخير والرحمة الموجودة في هذا العالم قد تدَّفقت بمقدار عظيم منه هو.”
جيمس كينيدى -مسيحي[2]
كان وين أولسون على الدوام هو الأكثر مرحاً في مجموعته. كقاض مهيب محترم له عينان زرقاوان شاحبتان، وهالة من الشعر الأبيض، كان أولسون يُمتع كل واحد بقصص مضحكة للغاية من خبراته الغريبة أحياناً من محكمة جنايات كوك كاونتي. كان يتمتع بذكاء حاد وبقدرة مذهلة على المرح، وبأكبر قدر من المودة المُشجعة التي يمكن أن يتصف بها مسئول في شيكاغو.
كان أولسون غير مشهور، لكنه كان قاضياً حى الضمير فيما يبدو. لقد أحب بشكل خاص أن يرى إسمه في الصحافة، لذلك كان عادةَّ ما يُقدِّم لى القصص عندما كنتُ مراسل الشيكاغو تريبيون في مبنى المحاكم الجنائية على الجانب الغربي من شيكاغو.
فى نهاية اليوم، أحياناً ما كنا نسترخي في مكتبه ونتبادل النكات. وعادةَّ ما كنا نُطلق بعض الضحكات بعد تناول المشروبات في مقهى Jeans، وهو مقهى مشهور، حيث كان يستضيف كل من لديه قصص عن كيف تمكن من دفع نفقات كلية الحقوق من خلال العمل طبالاً في فرقة بولكا Polka. ولأنه كان شخصاً إنبساطياً بشكل كبير، فلم يحتمل أن يكون وحيداً.
ذات مرة إتصل بطاقم الصحافة، ودعاني لحفل زفاف. ذهبتُ إلى مكتبه، ووجدتُ أولسون المرح يُشرف على زواج مفاجئ لقاطع طريق مقيد اليدين – كان قد حُكم عليه تواً بثلاث سنوات في السجن – وصديقته الحامل. وعلى الفور إختارني أولسون كشاهد العريس.
وقال مبتسماً بعدما قاد المساعدون العريس خارجاً بعد إحتفال لمدة دقيقتين: “عذراً، لا يوجد شهر عسل”.
كقاضي مخدرات يسمع قضايا إجرامية روتينية، لم يكن أولسون في وضع يمهد أية طرق قضائية جديدة. فعلى الأقل، لم يكن الأمر عمداً. ومع ذلك، ففى إجازة عيد الشكر لعام 1980، أصبح أولسون دون علمه متورطاً في حادث غير مسبوق في القضاء الأمريكي.
بعدما غادر أولسون مقر المحكمة، متوقعاً إجازة راحة لمدة أربعة أيام، إقتحم فريق من عملاء وكالة الإستخبارات الأمريكية FBI في سرية مكتبه المُظلم، ووضعوا جهاز تنصت مُصرّح به قانونياً. وقد أشار ذلك للمرة الأولى في تاريخ الولايات المتحدة أن الإستخبارات الفيدرالية قد تتصنت على قاض مقيم، وهو شرفِّ لو كان أولسون قد عرفه لكان قد تخلى عنه لأي إنسان آخر.
تيرانس هيك – المُدَّعى المعين للعمل في محكمة أولسون – كان في الواقع عميل سرى، وجزء من تحرى حكومى سرى يُدعى “عملية جرى لورد” Operation Greylord”. بعدما عاد أولسون من الأجازة، عندما كان أي إنسان تحت المراقبة يدخل مكتبه، كان هيك يستخدم جهاز إرسال مختفي لإرسال رسالة مُشفرّة لأحد عملاء الـ FBI المتمركز في سيارة تركن بالخارج. وكان العميل بعد ذلك يرسل لمُتحر آخر كَى يقوم بتفعيل جهاز التنصت حتى يتمكن العملاء من الإصغاء لما كان يدور خلف الأبواب المغلقة. [3]
على العموم، تم تسجيل أكثر من 250 ساعة من المحادثات – وقد أكدت الشكوك الحكومية أن القاضي كان يحيا حياة مزدوجة. فلقد إتضح أن أولسون المحبوب، المنبسط، وصاحب الشعبية الجارفة في المحكمة، مبتزاً فاسداً بشكلٍ رهيب، فقد كان يبيع العدالة لمن يدفع أكثر.
مُسجلّ على الشرائط إلى الأبد، كان أولسون يقبل الرشاوى من المساعدين ومُحّرفى العدالة في كل مرة. وفى أحد المواقف سُمع وهو يقول: “أحبُ الناس الذين يأخذون الرشاوي لأنك تعرف تماماً أين تقف.” [4] في الواقع، في غضون أيام بعد وضع جهاز التنصت، إستمع العملاء في إندهاش أولسون وقد سوَّى بوقاحةٍ قضية مخدرات مع محامٍ غير شريف.
أولسون: أنا جامع نقود.
المحامي: هل 200 دولاراً كافية أيها القاضي؟ لقد خصصتُ 765 دولاراً. لو لم تكن كافية فأخبرني. مهما كانت الصفقة….
أولسون: حسناً، لقد قمتُ بصفقةٍ مع شخص، لكنى سأعطيها لك، فأنت يمكنك القيام بعمل أفضل.
المحامي: لقد أعطيتك اثنتين ] 200 دولاراً [. لو لم تكن كافية فأخبرني. مهما كانت الصفقة….
أولسون: أحبُ من يدفع لى نصف… ما يحصل عليه… ففى بعض الأيام لا أحصل على شئ. ومن المُخجل أن يأتى شخص إلى هنا ولا يكون معه شيئاً. [5]
تركتُ شيكاغو تريبيون لتحرير صحيفة أخرى عندما إنتشرت الأخبار المذهلة، أولسون يُتهم بـ 55 فقرة إتهامية من الرشوة والإبتزاز. هززتُ رأسى. لقد خدعني، وخدع رفاقه، وخدع العامة لسنواتٍ طويلة جداً. شعرتُ بالخيانة والغضب إثر إستخفافه المتكبر بنفس القوانين التى أقسم على التمسك بها. لقد إنقلب عليه الحظ تماماً، فالقاضي الذي كان يتحكم ذات مرة في مصير الآخرين كأنه ملك وجد نفسه الآن محكوماً عليه بـأثنتى عشرة سنة في سجن فيدرالي.
ولم يذهب إلى السجن وحده. فعشرات القضاة والمحامين المنحرفين وجدوا أنفسهم أيضاً مجروفين في شبكة عملية جرى لورد – أكثر تحقيق سريٍ ناجح في تاريخ نظام محاكم كوك كاونتى – وهو تحري أثار أسئلة، بالتشابه، لها علاقة أيضاً بالمسيحية.
فاسد حتى النخاع؟
كان أحد الموضوعات التى طرأت على السطح خلال عملية جرى لورد هو: عندما يُكتب تاريخ شيكاغو، فهل سيُنظر إلى جرائم أولسون ومسئولي المحكمة الفاسدين الآخرين على أنها تشابهات في نظام شريف آخر للعدالة؟ وبأسلوب آخر، هل جهاز العدالة الإجرامي بلا شوائب أساساً ونزيه فيما عدا تلك اللطخات النادرة التى حدثت عندما حاول قاضي محتال أن يرتشي لنفسه؟
أم أن أولسون ورفاقه عُرضة للفساد المنظم المنتشر حتى إنهم أفسدوا DNA العدالة في كوك كاونتى؟ هل نظام المحكمة مُعرَّض حتى النخاع للإبتزاز والمحاباة، حتى إن قضية أولسون كانت حقاً نافذة لـ “العمل المعتاد” داخل القضاء المحلي؟
نفس هذه الأسئلة يمكن طرحها بخصوص المسيحية بشكل أساسي. فالمسيحيون يميلون لرؤية حالات سوء إستغلال الكنيسة والعنف خلال القرون كتشابهات في أية مؤسسة إيجابية أخرى.
ومع ذلك، فالنقاد أكثر استعداداً لإعتبار الصور الزائفة كالحروب الصليبية، ومحاكم التفتيش، ومحاكمات ساحرات سالم كتفسير لمشكلة أعمق: أن المسيحية نفسها مُلَّطخة حتى النخاع برغبةٍ متعطشة للسلطة لفرض إرادتها على الآخرين – حتى ولو كان من خلال العنف والأستغلال إن كان هذا ضرورياً. قال أحد أشهر ملحدى التاريخ الحديث – برتراند رسل – إن هذا يصعب تجنبه:
بمجرد أن يُفترض أن الحق المطلق سوف تتضمنه أقوال رجل معين، فسوف تكون هناك مجموعة من الخبراء لتفسير أقواله، وهؤلاء الخبراء يستوعبون القوة بشكل معصوم، وذلك لأنهم يمسكون مفتاح الحق. ومثل أية طائفة متميزة أخرى، يستخدمون قوتهم لمصلحتهم الشخصية… إنهم يصيرون خصوماً بالضرورة لكل تقدمٍ أخلاقي ومعرفي. [6]
وبالطبع فإن الأهوال التى اُرتكبت تحت أسم يسوع كانت بمثابة موانع صواعق بالنسبة لخصوم الإيمان. قال الفيزيائي الحائز على جائزة نوبل ستيفن وينبرج: “بالدين أو بدونه، يمكن أن يكون لديك أخيار يفعلون خيرات وأشرار يفعلون شروراً. ولكن بالنسبة للأخيار الذين يفعلون شروراً، فهذا يتطلب الدين”. [7]
لقد كانت سوء الإستغلالات التي قامت بها الكنيسة أحد العوامل التي دفعت كين شى لإتخاذ خطوة جمع لفظتين متناقضتين لتأسيس مؤسسة إسمها “ملحدون ليسوع Atheists for Jesus” التي تعترف بما تدعوه أن يسوع هو”رسالة المحبة والوداعة”دون قبوله كالله، ودون قبول الكنيسة كبيته.
كان نفور تشارلز تمبلتون من كثير مما حدث من قِبَل الكنائس واضحاً في حوارنا كما هو في كتاباته. فبينما قرر أن الدين المُنظم قد قدم “خيراً لا يُقاس”، إلا إنه إتهم أنه “نادراً ما كان على أفضل أحواله. فكثيراً جداً ما كان تأثيراً سلبياً… وعبر القرون وفى كل قارة، كان المسيحيون – تابعي رئيس السلام – هم سبب الصراع والمتورطين فيه”. [8] فعلى سبيل المثال شبه الكنيسة خلال العصور الوسطى كونها “منظمة إرهابية”. [9]
هل هذا التخمين مؤكد بالبيانات التاريخية؟ هل من الممكن أن يدافع المسيحيون عن أنفسهم ضد المجازر الدموية الوحشية للحروب الصليبية والتعذيب الوحشي لمحاكم التفتيش؟ هل أمثلة العنف والإستغلال هذه تقدم طرازاً متواصلاً للسلوك يجب أن تحفز بشكل مبرر الباحثين الروحيين لتجنب الدين المنظم؟
هذه أسئلة مُربكة، ولكن لحسن الحظ لم آضطر للسفر بعيداً جداً للحصول على الإجابات. فقد كان واحدٌاً من أشهر مؤرخى المسيحية يسكن على بعد أقل من نصف الساعة من بيتى حينما كنتُ أسكن في ضاحية شيكاغو.
اللقاء السابع: جون د. وودبردج – دكتوراه في الفلسفة:
بعد الحصول على شهادة الماجستير في التاريخ من جامعة ميتشجن الحكومية، حصل وودبريدج الذي يجيد التكلم بلغتين على شهادة الدكتوراه من جامعة تولوز في فرنسا. وحصل على عضوية ومنحة فولبرايت من المنحة الحكومية للدراسات الإنسانية National Endowment for the Humanities American Council of Learned Societies. وقام بالتدريس في عدد من الجامعات المدنية، بما فيهم قسم الدين، Hautes Etudes، السوربون، باريس. والآن يعمل أستاذاً باحثاً في تاريخ الكنيسة في مدرسة اللاهوت الإنجيلية في دير فيلد، إلينوى.
تتضمن كتب وودبريدج العديدة المتعلقة بالتاريخ أعمال تقنية مثل “التمرد في فرنسا فيما قبل الثورة: مؤامرة أمير كونتى ضد لويس الخامس عشر 1755 – 1757″، الذي نشرته مطبعة جامعة جون هوبكنز، والمزيد من الجهود مثل القادة العظماء للكنيسة المسيحية Great Leaders of the Christian Church؛ أعظم من منتصرين More Than Conquerors؛ سفراء للمسيح Ambassadors for Christ. وكتب أيضاً كتباً عن اللاهوت والدراسات الكتابية مثل التفاسير، والسلطان، والقانون Hermeneutics, Authority and Canon؛ والكتاب والحق Scripture and Truth، وكلاهما إشترك في تأليفهما مع كارسون؛ والسلطان الكتابي Biblical Authority. بالإضافة إلى ذلك، عمل كمحرر أعلى لـ المسيحية اليوم لمدة عامين.
وودبريدج عضو كثير من الجمعيات التاريخية الرئيسية في الولايات المتحدة وفرنسا، بما فيها الجمعية التاريخية الكاثوليكية الأمريكية American Catholic Historical Association؛ الجمعية الأمريكية لتاريخ الكنيسة American Society of Church History؛ والجمعية الأمريكية لدراسات القرن الثامن عشر American Society of Eighteenth Studies؛ والجمعية الفرنسية Societe francaise du XVII siecle؛ وجمعية التاريخ الحديث والمعاصر Societe d’histoire moderne et contemporaine.
عندما قابلتُ وودبريدج في بيته الهولندي المزخرف بصورة تقليدية، أختبرتُ قليلاً من الشعور بتكرار الموقف. وبعد ذلك أدركتُ أنه يحمل تشابهاً غريباً للممثل بيتر بويل. كان الرجل الأصلع – أب ثلاثة أطفال، والبالغ من عمره 55 عاماً – يرتدى سويتر أبيض فوق قميص أزرق ذات أزرار. جلسنا أمام أحدنا الآخر على مائدة غرفة طعامه، وكانت عليها أوراق لكتاب كان يستكمله بينما كان في إجازة.
لم تكن هناك طريقة لبدء مناقشتنا. ليس في هذا الموضوع. فرغم أن لقاءنا كان قبل شهور قليلة من قيام البابا يوحنا بولس الثانى بتقديم إعترافه التاريخي العام، وطلب غفران الله عن الخطايا التي ارتكبتها أو تغاضت عنها الكنيسة الكاثوليكية الرومانية خلال الألفيتين الأخيرتين[10]، سحبتُ قصاصة من جريدة عن إعتراف أقدم تاريخاً من البابا، وأشرتُ إليه بينما طرحتُ التحدي الأول.
الإعتراف بخطايا الكنيسة:
بدأتُ قائلاً: “فى العام 1994 دعا البابا يوحنا بولس الثاني الكنيسة للإعتراف بـ “الجانب المظلم من تاريخها”، وقال: “كيف يمكن أن يبقى المرء صامتاً عن أشكال كثيرة للعنف المُرتكبة تحت إسم الإيمان – حروب الدين، محاكم التفتيش، والأشكال الأخرى من إنتهاكات حقوق البشر؟” [11].
أليس صحيحاً أن الكنيسة عبر القرون قد أغفلت بشكلٍ مقصود هذه المساوئ؟
بينما كان وودبريدج يستمع، جلس ومرفقيه على المائدة، ويديه مربعتين وقام بتحليل سؤالي قبل لحظاتٍ من الرد.
أجابني قائلاً: “أعتقد أن تصريح البابا كان شجاعاً؛ لأنه يعترف أن الكنيسة الكاثوليكية الرومانية قد تغافلت عن بعض الأشياء التي أُرتكبت تحت إسم المسيح، وهي عُرضة بوضوح لنقد المسيحية بوجهٍ عام.
“ورغم ذلك، اُضيفُ سريعاً أننا يجب أن نحرص على إستخدام تعبير “الكنيسة”، لأن هذا يعطى إنطباع أنه كانت هناك مؤسسة واحدة تمثل المسيحية. سوف أضعُ حداً فاصلاً من التمييز بين الناس الذين هم جزء من “الكنيسة” – الناس الذين هم الخراف الذين يسمعون صوت الراعي وهم مسيحيون حقيقيون – و”الكنائس المؤسسية”، قالها وهو يؤكد على جمع الكلمة قبل الأخيرة.
أضاف: “والآن بوضوح هناك الكثير والكثير من المسيحيين الحقيقيين الذين هم في الكنائس المرئية، ولكن بسبب أن شخصاً ما هو جزء من كنيسة ليس معناه بالضروري أنه تابعاً ليسوع. بعض الناس مسيحيين ثقافيين وليسوا مسيحيين أصليين.”
فنظرتُ متشككاً وتساءلتُ: “أليس هذا جزء من تعديلية القرن الحادي والعشرين؟ فهذا يجعل من الأسهل للنظر إلى الماضي، والقول بأن كل الأهوال التى أُرتكبت تحت إسم المسيحية قد إرتكبت حقاً من قِبَل أولئك الذين قالوا إنهم كانوا مسحيون، لكنهم لم يكونوا هكذا في الحقيقة. هذا يبدو مجال مناسب للمراوغة.”
فأصر قائلاً: “لا” فهذا التمييز ليس جديداً. ففي الحقيقة يعود الأمر إلى يسوع نفسه. مدَّ يداه لكتابه المقدس الذي كان مختبئاً بين بعض الأوراق المتناثرة، وقرأ كلمات يسوع من إنجيل متى:
“لَيْسَ كُلُّ مَنْ يَقُولُ لَي: يَا رَبُّ يَا رَبُّ يَدْخُلُ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتَ. بَل الَّذي يَفْعَل إرَادَةَ أبَي الَّذي فَي السَّمَوَاتَ. كَثَيرونَ سَيَقُولُونَ ليِ فَي ذَلكَ الْيَوْمَ: يَا رَبُّ يَا رَبُّ ألَيْسَ باسْمَك تَنَبَّأنَا وَبَاسْمَكَ أخْرَجْنَا شَيَاطينَ وَبَاسْمِكَ صَنَعْنَا قُوَّاتٍ كَثِيرَةً؟ فَحينَئَذٍ أُصرَّحُ لَهُمْ: أنِّي لَمْ أعْرَفْكُمْ قَطُّ! اذْهَبُوا عَنِّي يَا فَاعَلَي الإثْم![12]
وبعدها قال وودبريدج: “وهكذا تكلم يسوع عن هذا التمييز منذ ألفي عام. وبالطبع خلال القرون أرتكب الكثير تحت إسم المسيحية لا يعكس تعاليمه.
“على سبيل المثال، حاول أدولف هتلر أن يصبغ حركته كحركة مسيحية، لكنه لم يقدم بوضوح ما أشار إليه يسوع. وعندما طُلب من اللاهوتي كارل بارث أن يبدأ محاضرة في ألمانيا بالقول “مرحي هتلر Heil Hitler”، أجاب: من الصعب أن أقول: “مرحى هتلر” قبل تفسير الموعظة على الجبل! “فهذان الشيئان لا يتوافقان معاً. ولذلك إن قبلنا هذا التمييز، يمكننا أن نحلل بوضوح أكثر بعض الأشياء المنسوبة للإيمان المسيحي.”
بُقيتُ ملتبساً فتساءلتُ: “هل تقصد إذاً أنه كان شئ شرير قد اُرتكب في التاريخ، فلا يمكن أن يكون قد إرتكبه مسيحيون أصليون؟”
فأجابني: “لا، لا، لا أقولُ ذلك. فالكتاب المقدس يوضح أنه بسبب طبيعتنا الخاطئة، فإننا نستمر في عمل الأشياء كمسيحيين لا يجب أن نعملها. نحن غير كاملين في هذا العالم. ولسوء الحظ، فإن بعض الأفعال الشريرة التي اُرتكبت عبر التاريخ ربما تكون في الحقيقية قد إرتكبها مسيحيون. وعندما حدث ذلك، يكونوا قد تصرفوا على خلاف تعاليم يسوع.
“وفي نفس الوقت، يجب أن نميز أنه كان هناك غالباً صوت أقلية إعترف بمساوئ ما مارسته بعض الكنائس المؤسسية. على سبيل المثال، كنتُ أقرأ للتو هذا الصباح أنه خلال إحتلال إسبانيا لأمريكا اللاتينية، كان هناك كاثوليك رومان يُرَّوعون لكون السكان الأصليين كانوا يُستغلون لأغراضٍ إقتصادية تحت إسم المسيح. وقالوا: “لا، لا يمكنكم عمل ذلك!” كان هؤلاء المسيحيون مستعدون لإعلان مساوئ ممثلي الدولة أو الكنيسة.”
“نعم، من المناسب تماماً الإعتراف بأن بعض الأشياء التي إرتكبها مسيحيون هي في حقيقتها خطايا. فالكتاب المقدس يخبرنا أن نعترف عن خطايانا. والإعتراف يجب أن يكون واحداً من الصفات المميزة للمسيحيين – فهو إستعداد للتصريح بالخطأ، وطلب الغفران، والسعي لتغيير طرقنا في المستقبل. في الواقع، ليس البابا وحده الذي يقوم بذلك. ففي الإتفاقية المعمدانية الغربية كانت هناك مبادرة حديثة للإعتراف بأن المعمدانيين الغرب الأوائل قد أخطأوا بشكلٍ رديء بخصوص موضوع العبودية. ومنذ عدة سنوات إعتذرت مجموعة لوثرية كندية لليهود لمناهضة السامية في كتابات مارتن لوثر.”
“كمؤرخ، هل يمكنك توضيح لماذا يتخذ المتشككون المساوئ من تاريخ الكنيسة بإعتبارها حُججاً ضد المسيحية، أو كطريقة للهجوم على الإيمان؟”
فأجابنى: “يمكنني أن أفهم ذلك. لسوء الحظ، فإن بعض الأحداث المعينة في التاريخ قد نشأ عنها السخرية في بعض الناس تجاه المسيحية. وفي نفس الوقت، هناك عدد من الآراء المضللة حول ما فعله المسيحيون وما لم يفعلوه. فبعض النقاد هاجموا المسيحية الثقافية، وقد فشلوا في فهم أنها مسيحية حقيقية.
“لقد كانت هذه واحدة من مشكلاتنا لقرون. كان فولتير ناقداً رئيسياً للمسيحية، ومع ذلك عندما ذهب إلى إنجلترا، إلتقى ببعض المسيحيين من الكويكرز Quakers والمطهريين Presbyterian، وتأثر بإيمانهم للغاية. لذلك من الممكن أن يكون هناك شكل مؤسسي للمسيحية أحياناً ما يصد الناس، بينما من الممكن أن تكون التعبيرات الحقيقية عن الإيمان جذابة للغاية عندما يقابلها الغير مسيحيين.”
بهذه الخلفية قررتُ الرجوع إلى فجر المسيحية ثم الإنتقال للأمام عبر التاريخ بإثارة بعض أكثر الأحداث إزعاجاً التى نُسبت إلى الإيمان.
لماذا إنتشرت المسيحية؟
لقد تعجب المؤرخون ووضعوا النظريات حول السرعة المدهشة التى إنتشرت بها المسيحية في الإمبراطورية الرومانية رغم الإضطهاد الوحشي. طلبتُ من وودبريدج أن يخمن التعليقات التي قالها الملحد الذي صار مسيحياً باتريك جلين:
جزء من سبب الإنتشار السريع للمسيحية، كما أشار المؤرخون، كان ببساطة أن المسيحيين الأوائل أناساً ودعاء. فوداعة المسيحيين وخدمتهم للفقراء والمسحوقين جذبت تابعين جدد. قال مؤرخ: “المسيحيون أدهشوا القدماء بإحسانهم.”
أومأ وودبريدج مستجيباً، وقال: “نعم، أعتقد أن إشارة جلين للإنتشار السريع للمسيحية دقيق. فترتليان Tertullian يكتب في نهاية القرن الثاني: “نحن مجرد أبناء الأمس، ومع ذلك نملأ مدنكم، وجزيرتكم، وقصركم، ومجلسكم، وساحتكم، وقد تركنا لكم فقط معابدكم.” ولذلك ففي غضون 150 عاماً إنتشرت المسيحية بسرعة كبيرة جداً جداً.
“وتفسير واحد لإنتشارها السريع – كما أشار جلين – هو أن مسيحيين كثيرين لم يكونوا يعتنون فقط بخاصتهم، بل كانوا يعتنون بالجيران، والفقراء، والأرامل، والمجروحين، وكانوا محبين جداً بصورة أساسية. لقد أظهروا العطف تجاه الأطفال، الذين كانوا يُعاملون غالباً بقسوة من قِبَل الرومان واليونانيين عند ميلادهم، ولا سيما الأطفال من البنات. كان أسلوب حياة المسيحيين يناسب تعاليمهم، ولذلك كان الكثير من المسيحيين الأوائل لا يخافوا أن يقولوا: “تمثلوا بنا كما نتمثل نحن بالمسيح.”
وبقول هذا، أضاف وودبريدج شيئاً بقليلٍ من الخجل: “لسوء الحظ، في الكرازة المعاصرة يقول البعض: “لا تنظروا إلينا، أُنظروا إلى المسيح”، لأننا نخشى ما سيجده الناس إن تعرَّضت حياتنا للفحص. لم يكن هذا مناسب للكثير من هؤلاء المسيحيين الأوائل – فقد كان هناك تناغم بين معتقداتهم وسلوكهم.”
سحب وودبريدج ورقة وقال: “يمكننا أيضاً الحصول على بعض الأفكار حول سبب نمو المسيحية بسرعةٍ مذهلة من بعض غير المسيحيين الأوائل.” ثم قرأ بصوتٍ عالٍ ملاحظات لوسيان Lucian، وهو هجائي يوناني من القرن الثاني، وناقد للمسيحية:
هذه المخلوقات المُضللة تبدأ بالإقتناع العام أنها خالدة إلى الأبد؛ وهذا يفسر إحتقار الموت وتكريس النفس طوعاً، الأمر الشائع جداً عندهم، وأنه قد أوصى لهم – من قِبَل مُشرعهم الأصلى – أنهم جميعاً أخوة منذ لحظة تحولهم. وهم ينكرون آلهة اليونان ويعبدون الحكيم المصلوب، ويتبعون نواميسه. كل هذا يلزمونه بالإيمان، وتكون النتيجة أنهم يحتقرون كل المسرات العالمية على حدٍ سواء، معتبرين إياها مجرد ملكية عامة. [13]
“إنه يؤكد حقيقة أن المسيحيين عاملوا الواحد الآخر كأخوة، وشاركوا ممتلكاتهم بحرية مع بعضهم البعض. أضف إلى ذلك عاملاً مهماً آخر يشير إليه: فالمسيحيون آمنوا أن الموت هو أن تكون مع المسيح. ويقول يوستينوس الشهيد Justin Martyr في الدفاع الأول the First Apology: “يمكنكم أن تقتلونا، ولكن لا يمكنكم أن تجرحونا.” [14] معظمنا يعتقد أن القتل هو جُرح طويل المدى، ولكن من وجهة نظرهم، فإن القتل لا يهم كثيراً جداً. وهذا ما قاله بولس: “لَيَ الْحَيَاةَ هَيَ الْمَسيحُ وَالمَوْتُ هُوَ ربْحٌ.” [15]
“ولذلك عندما تأخذ في الإعتبار تكريس المسيحيين الأوائل الشجاع للإيمان، وإستعدادهم للشهادة من خلال إستشهادهم لحق المسيح، وأسلوب حياتهم الوديع المتعاطف، وإهتمامهم بالواحد الآخر وبالمعوزين والمجروحين والمحرومين في المجتمع، وتكريسهم للصلاة، وقوتهم بالروح القدس، يمكنك أن تبدأ في فهم لماذا إنتشر الإيمان بسرعة مدهشة.”
فتساءلتُ: “أساساً، هل كان تبّنى المسيحية كديانة الدولة الرومانية أمراً جيداً أم رديئاً؟”
“من ناحيهً، كان من الرائع جداً أن تتوقف الإضطهادات – ومن هنا كان ذلك أمر جيد.” قالها وودبريدج مبتسماً. “ولكن فيما أصبحت الكنيسة مرتبطة بالدولة عن قرب، فقد بدأت الكنيسة إستخدام الدولة كوكالة إضطهادية، وقد صار ذلك أمر رديء للغاية. وبالإضافة إلى ذلك، فقد تسربت روح العالم إلى الكنيسة.”
“كيف ذلك؟”
“لقد إنتشرت شائعة أن قسطنطين قد وعد أنه لو صرتَ مسيحياً، لحصلت على رداءٍ جميل وقطع من الذهب. حسناً، فهذه ليست أمور صعبة كي تصير مسيحياً. ومن هنا كان الباب مفتوحاً على مصراعيه لمن قد يكونون إعترفوا بالمسيحية، لكنهم لم يقبلوا يسوع حقاً.”
“وبأسلوبٍ آخر مسيحيون ثقافيون أكثر مما يكونوا تابعين حقيقيين ليسوع؟”
“تماماً.”
بترسيخ الأساس المتعلق بالمسيحية المبكرة، قلبتُ الصفحة في قائمة أسئلتى، وبدأتُ التركيز على الوصمات الرئيسية الخمسٍ في التاريخ المسيحي التي أزعجتني بالأكثر عندما كنتُ متشككاً – الحروب الصليبية، محاكم التفتيش، محاكمات ساحرات سالم، إستغلال الإرساليات، ومناهضة السامية.
الخطية الأولى: الحروب الصليبية:
قلتُ لوودبريدج: “لنتقدم إلى الأمام. لقد حاولتْ الحملات الصليبية المسيحية لمدة قرنين أن تطرد المسلمين من الأراضي المقدسة.” فتحتُ كتاباً تاريخياً وقلَّبت صفحاته حتى وجدتُ المكان الصحيح، وقلت: “لقد وصف تقريرٌ مرعب دخول الحملات الصليبية أورشليم في الحملة الصليبية الأولى هكذا…” وقرأتُ لوودبريدج الوصف التالي من شاهد عيان:
بعض رجالنا… قطعوا رؤوس أعدائهم، والبعض الآخر أطلقوا عليهم السهام حتى يسقطوا من الأبراج، والبعض عذبوهم لفترة أطول بطرحهم في اللهيب… كان من الضروري أن يسلك المرء طريقه فوق جثث الرجال والخيول. لكن هذه كانت أمور طفيفة مقارنةً بما حدث في هيكل سليمان (حيث)… كان الرجال يركبون خيولهم وسط دماء ترتفع إلى ركابهم وسيور اللجام. في الحقيقة كانت هذه دينونة عادلة ساعية من الله أن يمتلئ هذا المكان بدماء غير المؤمنين لأنه عانى مراراً من تجديفاتهم [16].
أغلقتُ الكتاب بقوةٍ وبنفورٍ، ونظرتُ بحدةٍ إلى وودبريدج، وسألته بصوتٍ مشحون بالهجاء: “هل تتفق أن الحملات الصليبية كانت عادلة وسامية؟”
فقال بصرامة: “هذا النوع من سفك الدماء كريه ومنفر. هل حدث؟ نعم حدث. هل التفكير فيه يسبب حسرة الفؤاد؟ نعم. لستُ أحاول تبريره أو تفسيره. ومع ذلك فإن سؤالك: “هل كانت الحملات الصليبية عادلة أم لا؟” يتطلَّب إجابة إما – أو، وأعتقد أنه سيكون من المفيد بصورة أفضل أن نقدم سياقاً أكثر تفصيلاً.”
جلستُ في مؤخرة مقعدي، وقلتُ: “هيا”.
بدأ وودبريدج: “أطلق البابا أوربان الثّاني Pope Urban II الحملة الصليبية الأولى في العام 1095 عندما ألقى عظة مشهورة جداً، فإستجابت الحشود بالهتاف: “الله يشاء هذا!” وإستمرت الحملات الصليبية حتى خسارة آخر حامية مسيحية في الأراضي المقدسة في العام 1291 عندما أخذ المسلمون مدينة إسمها عكا مرة أخرى. وعادت أورشليم ليد المسلمين قبل العام 1187.
“إستدعى البابا البارونات وآخرين للذهاب إلى الأرض المقدسة وإستعادتها من المسلمين الذين كانوا يحتلونها، والذين إعتبروا أعداء المسيح. ولذلك إن وضعنا أنفسنا مكان محاربي الحروب الصليبية الأوائل، يمكننا أن نفهم أنهم كانوا يعتقدون أنهم يقومون بشئ سام للمسيح. ولكن عندما تدرس تفاصيل ما حدث بالفعل، فسوَّف ترتبك كثيراً. في الحقيقة، في حملة صليبية واحدة، وهي الحملة الرابعة، لم يصل المشاركون حتى إلى الأرض المقدسة. لقد وصلوا إلى القسطنطينية، فإستولوا عليها، وأسسوا هناك مملكتهم الخاصة. وكانت النتيجة سفك الدماء بشكلٍ رهيب. فـ “المسيحيون” الغربيون قتلوا المسيحيين الشرقيين.
“بالإضافة إلى العنف، كانت هناك مشكلةّ رئيسية أخرى هي الدافع وراء بعض من ذهبوا. كانت هناك مشكلةٌ رئيسية أخرى هي الدافع وراء بعض من ذهبوا. ففي العام 1215 علَّم البابا إننوسينس الثّالث Pope Innocence III الناس بالفعل أنه لو إنطلقوا في الحروب الصليبية، فهذا سيضمن لهم خلاصهم. لقد كانت تلك المشورة تشويه وآضح للمسيحية الحقيقية. فهي تسخر من تعاليم الكتاب المقدس، ولا يمكنها بحالٍ من الأحوال أن تتوافق مع المعتقدات المسيحية التاريخية.
“لقد صار من الأصعب تخمين دوافع الحروب الصليبية بعد أن إسترد المسلمون أورشليم. وبعض الحملات الصليبية اللاحقة ورطت المسيحيين للذهاب إلى الأراضي المقدسة في محاولةٍ لحماية المسيحيين الآخرين الذين كانوا في ضيقات شديدة. ورغم ذلك من العدل أن نقول إنه رغم نوايا أي إنسان، فإن الجشع والقتل العام الذي إرتبط بالحملات الصليبية قد تركَّ وصمة قبيحة على سمعة الإيمان المسيحي.
“وهذا ليس مجرد منظور متحرر للقرن الحادي والعشرين. ففي القسم الأول من القرن الثالث عشر كان بعض المسيحيين يقولون نفس الشئ. فقد كان أحد أسباب إنحلال نموذج الحملات الصليبية هو التقاليد الزائفة العديدة المرتبطة بالحملات الصليبية. لقد حاول البابوات في القرون اللاحقة إطلاق حملات صليبية أخرى، لكنهم لم ينالوا الدعم الشعبي والسياسي. فالتعارض الأصلي بين المسيحية الحقيقية وتقرير ماكانت عليه الحملات الصليبية أسهم لضياع الاهتمام أو الحماسة لخوض حروب صليبية جديدة.
“وهذا يعود بنا إلى التفرقة بين الأشياء التى تُؤدى تحت إسم المسيح وتلك الأشياء التى تمثل حقاً تعاليم يسوع. فعندما تحاول التوفيق بين تعاليم يسوع مع مجازر الحروب الصليبية، فلن يكون هناك طريق للتوفيق بينهما.”
فتساءلتُ: “ماذا تقول لغير المسيحي الذين يقول إن الحروب الصليبية توضح فقط أن المسيحيين يريدون أن يظلموا الآخرين، وأنهم عنفاء كالآخرين”؟
تأمل وودبريدج في السؤال للحظات قبل الجواب، وبدأ قائلاً: “سأقولُ إن هذه العبارة فيها بعض الحق فيما يخص الحروب الصليبية. فقد كان هناك أناسٌ إرتكبوا ما لم يجب أن يرتكبوه تحت إسم المسيح. ومن هنا فسوف أوَّضح أنه ليس كل شئ يُرتكب تحت اسم المسيح يجب أن يُنسب في الحقيقة إلى المسيحية.
“ولكني لن أحاول أن أراوغ فكرة أن هناك أهوالاً قد حدثت أثناء الحروب الصليبية. فهي بحاجة للإعتراف بأنها تتعارض تماماً مع تعاليم ذاك الذي كان محاربو الحروب الصليبية يتبعونه إفتراضاً. من المهم أن تعاليم يسوع ليست هي المغلوطة ليست هي المغلوطة ههنا، بل أفعال أولئك الذين قد ضلّوا لأي سببٍ عما علّمه هو بوضوح: علينا أن نحب أعداءنا. فنظرية “الحرب العادلة” لا بدَّ أن تتفاعل مع هذا المفهوم.
“ليس هناك من ندد بالرياء أو بالوحشية أكثر من يسوع. ومن هنا، إن كان النقاد يؤمنون أن ملامح الحروب الصليبية يجب إستنكارها بإعتبارها ريائية وعنيفة – فحسناً، يجب أن يتحدوا مع المسيح. يجب أن يوافقوه.”
الخطية الثانية: محاكم التفتيش
بدأت محاكم التفتيش في العام 1163م عندما أمر البابا ألكساندر الثّالث Pope Alexander III الأساقفة إكتشاف برهان الهرطقة والتصرف ضد الهراطقة. وما تبع ذلك كان حملة من الرعب، بإجراءات سرية، وسلطة أعلى مخصصة للمفتش وإفتقاد كامل للقضاء المستحق، حيث كان المتهمون لا يعرفون أسماء متهميهم، ولم تكن هناك هيئة دفاع، وكان التعذيب يستخدم لإستخراج الإعترافات. وأولئك الذين رفضوا أن يتوبوا أحيلوا إلى الحكومة لمواجهة الحرق على الأوتاد.
تساءلتُ: “ما الذي دفع إلى محاكم التفتيش؟ والأهم، كيف أمكن لمسيحيين حقيقيين أن يشتركوا في مثل هذه الأهوال؟”
فشرح وودبريدج: “يمكن أن تعود جذور محاكم التفتيش إلى إهتمام البابوية العميق بمشكلة الهرطقة، خاصةً في فرنسا الجنوبية بين الـ Albigeneses. في الواقع، لا جدال أن الـ Albigeneses كانوا مؤيدو التعاليم والممارسات الهرطقية. ولم تفلح معهم الوسائل التقليدية للإقناع كإيفاد الإرساليات لهم. وكانت محاكم التفتيش مدخل أو إستراتيجية بديلة لمحاولة منع هذه الهرطقة من الإنتشار. وقد كانت هناك عوامل سياسية فعالة أيضاً، فسكان فرنسا الشمالية كانوا يبحثون عن أي مبرر للتدخل في المقاطعات الجنوبية.
“وقد كانت هذه هي المرحلة الأولى لمحاكم التفتيش؟”
“نعم. كانت هناك أساساً ثلاث موجات من محاكم التفتيش. الأولى تلك التي ذكرتها. والثانية بدأت في العام 1472 م عندما ساعدت إيزابيللا Isabella وفرديناند Ferdinand في تأسيس محكمة التفتيش الإسبانية، التي كان سلطان البابا أيضاً من ورائها[17]. والموجة الثالثة بدأت في العام 1542 م عندما قرر البابا بولس الثالث Pope Paul III تصيد البروتوستانت، ولا سيما الكالفنيين.”
“لديكم هكذا كاثوليك يدعون أنفسهم مسيحيين يضطهدون بروتوستانت يدعون أنفسهم مسيحيين.”
“نعم، وهذا يُوَّضح من جديد أنه لا يمكن حقاً أن تتكلم عن “الكنيسة الواحدة”. فالأمور تتعقد بشكل أكبر بسبب أن المعاصرين قد عرَّفوا الهرطقة عادةً بفتنة سياسية. فلو أن شخصاً قد أُعتبر هرطوقياً، فقد كان يُعتبر أيضاً مثيراً للفتنة سياسياً. ومثال ذلك، في محاكمة مايكل سيرفيتوس Michael Servetus، قدمته الحكومة أخيراً إلى الموت. كان أحد الإتهامات هو أنه هرطوقياً، ولكن ماذا كان خوف الدولة أيضاً مثيراً للفتنة سياسياً. لقد كان الدين والسياسة مرتبطان معاً.”
“هل من الممكن أن بعض المسيحيين الحقيقيين كانوا حقاً ضحايا محاكم التفتيش؟ إننا نعتقد – على نحو نموذجي – أن المسيحيين يرتكبون الأهوال ويتساءلون كيف يمَّكن لمسيحيين حقيقيين أن يعذبوا أي إنسان، ولكن هل من الممكن حقاً أن يكون المسيحيون الحقيقيون قد كانَّوا هم المقتولين؟
“نعم، هذا محتملٌ جداً. فنحن لا نعرف هويات كل من ماتوا، ولكن على الأرجح كان كثيرون منهم ممن يحملون الإيمان الحقيقي. بالطبع هناك برهان أن الكنيسة الكاثوليكية قد فقدت صوابها في إطلاق محاكم التفتيش هذه. وأحياناً ما إستخدم البروتستانت إستراتيجيات غير مناسبة لإخماد الهرطقة أيضاً.”
“هل كانت محاكم التفتيش تشابه أم جزء من نمط أوسع من المساوئ والظلم من قِبَل الكنائس عبر التاريخ؟”
“أعتقد أن محاكم التفتيش تراجيدياً لا يمكن للمسيحيين الفرار منها. لكنى لا أعتقد أنها تمثل تاريخ الكنائس المسيحية. فمن الإفراط الشديد أن نقول إن هذا النوع من النشاط الكاره هو جزء من نموذج.
لمعظم سنوات وجودها، كانت هناك كنائس مسيحية كثيرة في موقف أقلية، ومن ثم ليست حتى في موقف يدعوها لإضطهاد أي إنسان في الواقع، والكلام عن الإضطهاد، وقع ملايين المسيحيين بأنفسهم ضحايا الإضطهاد الوحشي عبر العصور، مستمرين في بعض الأماكن إلى هذا اليوم. في الحقيقة، كان هناك بوضوح شهداء مسيحيون في القرن العشرين أكثر من أي قرنٍ آخر. وإلى يومنا هذا عينه، فإن المسيحيين يُقتلون بسبب إيمانهم حول العالم. لهذا أقولُ لا، فمحاكم التفتيش حتى الآن مجرد إستثناء في تاريخ الكنيسة، وليست هي القاعدة.”
ذكّرتنى ملاحظات وودبريدج بعمود مجلة عن المسيحيين وهم في فترة الإضطهاد. فبينما يفكر معظم الناس في نموذج الإنسان المسيحي العادي اليوم، وهو أحد مواطني الولايات المتحدة، ويعيش بعيداً عن أي خطر من جهة إيمانه، أوضح الصحفي ديفيد نيف David Neff الأمر.
قال: “المسيحي النموذجي يعيش في دولة نامية، ويتحدث لغة غير أوروبية، ويوجد تحت تهديد متواصل من الاضطهاد – القتل، والحبس، والتعذيب، والإغتصاب.” [18]
الخطية الثالثة: محاكمات ساحرات سالم:
محاكمات ساحرات سالم في نهاية القرن السابع عشر عادةً ما تُذكر كنوع من الهستيريا المسيحية. ففي الإجمال شُنق 19 فرداً، ودُفع واحدً للموت لرفضه الشهادة. [19]
تساءلتُ: “أليس هذا نوعاً آخر من كيف أن المعتقدات المسيحية يمكنها أن تُعرقل حقوق اخرين؟”
“نعم، هذا مثال، إن كانت المسيحية الحقيقية في الواقع هي المتورطة هنا. فعندما تُفرَّغ الأحداث المؤدية للمحاكمات، فسوف ترى أن هناك عوامل كثيرة قد عجلَّت بحدوثها. فهناك موضوعات متصلة بأشخاص يتآمرون للحصول على أراضي من أشخاص آخرين. وهناك موضوعات مرتبطة بالهستيريا، وهناك موضوعات مرتبطة بالإيمان بالظهورات النجمية؛ حيث يشهد الناس أن أحداً قد فعل شيئاً بينما كانوا هم في مكانٍ آخر. عندما تدرس السياق القانوني للمحاكمات، فهناك متغيرات ستأخذك إلى موضوعاتٍ لا علاقة لها بالمسيحية.”
“هل تقصد أن الكنائس كانت بريئة؟”
“ربما لن يكون هذا تبريئاً كاملاً لتأثير المسيحية على المحاكمات، لكن المؤرخين الذين يعملون مع أمور من هذا القبيل يعرفون أنهيجب إلا تكون أحادي السببية في تَّصنيف مثل تلك الأحداث. فالحياة أكثر تعقيداً من مجرد أن تقول “المسيحية” كانت مسئولة. فرغم أنه كانت هناك محاكمات سحرة في أوروبا، إلا أن ذلك كان انحرافاً، وليس جزءاً من نموذج أكبر في المستعمرات. عليك أن تتحرى التوازن النفسي لبعض الناس المتورطين في محاكمات السحرة، وتفكر في تقريرهم الزائف حول الأمور.
“مرةً أخرى علينا أن نؤكد أن محاكمات ساحرات سالم شكّلت حدثاً مروعاً. لستُ أحاول أن أقلِّل من خطورتها. لكن المؤرخون يدركون أن الحبكة أكثر تعقيداً من مجرد إلقاء اللوم على الكنائس؟
فأشرتُ قائلاً: “كان أحد الإفتراضات المُسبقة في ذلك الوقت هو أن الساحرات موجودات. فماذا عنك؟ هل تؤمن بوجود ساحرات؟”
فاجابنى: “نعم، أؤمن بوجودهن. في الواقع، منذ عدة سنوات كنتث أشاهد التليفزيون الفرنسي عندما كان روبرت ماندرو – وهو مؤرخ لامع جداً – يقترح أنه حالماً يستنير الناس، لا يعودوا يؤمنون بالساحرات فيما بعد. ثم قالت إمراة: “سيد ماندرو، أنا متأثرة جداً بكل ما قلته، لكنى أريد أن أقول لك إنى ساحرة.” وبالطبع فالسحر يمارس في فرنسا، والولايات المتحدة، وفي كل مكان.
“لذلك جزء من مشكلة التعامل مع محاكمات ساحرات سالم إفتراض أن ذلك كله كان هراء، وأنه لا وجود لمثل ذلك من ساحرات وسحر. فالحقيقة الجوهرية هي وجودهما، وحتى الكثير من غير المسيحيين يدركون ذلك.
“هل هذا يبرر ما حدث في سالم؟ لا بالطبع. ولكن عندما تُخترق التعقيدات، فعن هذا الموقف لا يمكنه أن يُكتب بلا تروٍ كمثال أن المسيحية قد إندفعت للقتل. فالحياة والتاريخ ليسا بمثل هذه البساطة.”
“ماذا أنهى المحاكمات؟”
“هذا ليس معروفاً بصورةٍ عامة، لكن إنسانٌ مسيحي هو الذي لعب الدور الرئيسي. فقد ندَّد قائدٌ مطهري يُدعى إنكريس مازير Mather Increase بقوة ضد ما كان يجري، وكان ذلك بداية النهاية. والمفارقة هي أن صوتاً مسيحياً هو الذي أخرس الجنون؟
الخطية الرابعة: إستغلال الإرساليات
الإرساليات تصل دون دعوة. فرغم النوايا النبيلة، تكون جاهلة بالمكان الذي تستقر فيه، وغير مبالية بقلوب وبقيم الناس الذين جاءت إليهم. تتدخل في أمور لا تعنيها شيئاً. تفترض أن الروحانية التقليدية للسكان الأصليين ناقصة، بل وحتى شيطانية. تُرشي أو تُجبر الناس لترك طرقهم التقليدية حتى إنه في مسيرة محاولة “خلاص” الناس تختم الأمر بالقضاء عليهم. [20]
قرأت هذا الإتهام لوودبريدج، تابعاً إياه بهذه الأسئلة: “ألم تسهم الإرساليات عبر التاريخ في زوال الثقافات الأصلية؟ ألم تختم الأمر بإستغلال نفس الناس الذين إدَّعت أنها أرادت مساعدتهم؟ وبالقياس، ألم تسبب الإرساليات الأذى أكثر من الخير؟”
كان هذا الموضع قريب إلى قلب وودبريدج؛ فقد كانت عائلته تتمتع بتقليدٍ طويل من الخدمة في الحقل المُرسلي. لكنه لم يبدو أنه إتخذ هذا التحدي شخصياً، بل إستجاب بإتزانه وصراحته المميزة.
قال: “دعني أبدأ بالإحتلال الإسبانى لأمريكا اللاتينية كمثال، لأنه يشرح كيف يمكن أن يصبح هذا الموضوع معقداً.”
عندما أومأتُ بثبول ذلك، إستطرد: “هل كان هناك إستغلال للسكان الأصليين هناك؟ لسوء الحظ، نعم. ولكن هل كان ذلك نتيجة الإرساليات؟ حسناً، التاريخ يخبرنا أن الحركة الإرسالية كانت غالباً مرتبطة بسياسة إقتصادية للقوى الإستعمارية معروفة بإسم الروح المذهبية التجارية Mercantilism”.
“هل تُعرَّف ذلك”.
“كانت الروح المذهبية التجارية هى الإعتقاد بأن الدولة صاحبة الذهب الأكثر هي الأقوى. وكان يُعتقد أن الميزان السياسي للقوة في أوروبا تُحدده جزئياً أية دولة تستكشف بنجاح أمريكا اللاتينية وغيرها. ونتيجة ذلك، أصبحت دوافع الروح المذهبية التجارية، لسوء الحظ، مختلطة بالمشروعات الإرسالية. وفي الحقيقة إرتكب الأسبان الفظائع في أمريكا اللاتينية، لكن كثير منها كانت تُحرّضها المجازفات وأنواع الروح المذهبية التجارية بينما قامت إرساليات كثيرة بعمل أشياء تستحق الثناء.”
فتح وودبريدج كتاباً كان بالقرب منه، وقال: “في الواقع يتحدث المؤرخ أنتوني جرافتون من جامعة برنستون عن الأشياء القيمة التي قامت بها الإرساليات. وقرأ لي من كتاب عوالم جديدة، النص القديم New World, Ancient Text:
أصرَّت الكنيسة الرومانية علىَ إنسانية الهِنود، وقد وصلت أعداد كبيرة من الإرساليات – خاصةً الأخوة المتسولين المثاليين الذين أصروا على الإتيان بما رأوه بالناس البسطاء الأنقياء من العالم الجديد إلى المسيح. لقد بنوا الكنائس والمجتمعات الدينية[21].
وآصل وودبريدج: “إن جرافتون ليس مبشراً، لكنه درس بعناية الحركة الإرسالية ويعترف بالقدر الكبير من الخير الذي قامت به الإرساليات. لسوء الحظ، فإن الإرساليات كجماعة تُناقَش كعملاء للروح المذهبية التجارية؛ ومن ثم تنال اللوم على بعض الفظائع التي قام بها الإسبان في أمريكا اللاتينية.”
“وكما لاحظتُ مبكراً، فقد كانت هناك في القرن السادس عشر مناقشان في إسبانيا حول ما إذا كان ما يدور في أمريكا اللاتينية أمراً مسيحياً أم لا. وكان هناك مدافعون كبار عن الهنود الذين صمموا أنه يجب عدم إستغلالهم. فإندفع أحد الشخصيات البارزة – بارتولومي دى لا كاس Bartolome de Las Cases – لإتجاهه الإصلاحي بعد قراءة فقرة من سفر يشوع بن سيراخ في الكتاب المقدس الكاثوليكي الروماني تقول: “خبز المحتاج حياته. مَنْ يسلبه رجل دماء[22]، وبقراءة هذا، عارض مع كاثوليك رومان آخرين الأمور الحاقدة التي كانت تدور في أمريكا اللاتينية.”
أثارت تعليقاته ذاكرتي لرؤية تمثال خارج مبنى الأمم المتحدة في مدينة نيويورك منذ عدة سنوات. الآن فهمتُ الخلفية: فرانسيسكو دي فيتوريا Francesco de Vitoria – مؤسس القانون الدولي – كان واحد من اللاهوتيين الذين دافعوا عن الكرامة الكاملة لهنود العالم الجديد، وعارضوا بشجاعة إستغلالهم في المحكمة الإسبانية.”
“ولذلك بينما يكون من الحقيقي أن “الحضارة المسيحية” قد أسهمت أحياناً ببعض الأشياء التي أشرتَ إليها مبكراً؛ فقد كانت هناك أيضاً الآلاف من أعمال الخير التي كانت تمجد الله. فالكنيسة الكاثوليكية لها سجل مؤثر للإعتناء بالفقراء خلال العصور الوسطى. ففي كاليفورنيا، كانت خدماتها على طول الساحل تهتم بالناس. وعندما تقرأ مذكرات عدداً من الإرساليات البروتستانتية التي ذهبت إلى أراضٍ أخرى، فمن الصعوبة جداً بمكان أن تستنتج أنهم كانوا يصممون بوعيٍ على ظلم أو تدمير كل ملامح الثقافات الأصلية.”
بينما كانت إجابة وودبريدج تُقدّم بعض السياق، أردتُ أن أضغط عليه لإجابةٍ أكثر شخصية. فقلتُ: ” لقد تضمنت عائلتك مرسلين، فماذا كانت إختباراتهم؟”
“حسناً، لقد قرأتُ مذكرات جدي الذي كان واحد من أوائل المرسلين البروتوستانت إلى الصين. وبالطبع لم أفهم أنه كان يفعل ما قلته أنت مبكراً. ولكن بدلاً من ذلك، كانت لديه رغبة ملتهبة أن يعرف الشعب الصيني المسيح. وقد كان مهتمَّ جداً بفقر الشعب الصيني وببعض ممارستهم التي كانت ضارة للغاية بإنسانية الأفراد. لقد أحترم ملامح ثقافتهم، وأرتدى ضفيرة الشعر الطويلة عند الضرورة حتى يكون مقبولاً عندهم.
“لا بدَّ من الإشارة إلى أن نقاد الإرساليات أحياناً ما تكون لديهم مثالية جان جاك روسو أن الشعوب الأصلية كانوا سعداء دائماً ويعيشون حياة كاملة، وأنه لم يكن هناك أي من تحضير الأرواح السلبية أو الشيطانية في ثقافتهم. ولكن عندما تقرأ تقارير الناس الذين يذهبون لمناطق معينة، فإنك ترى أن بعض هؤلاء الناس الأصليين كانوا في ظروف روحية وجسدية رهيبة، وأن المرسلين قد ساعدوهم بشكل عظيم.
“قرأت أيضاً خطابات كتبتها أمي التي عملت كمرسلة في أفريقيا قبل زواجها. كانت تركب دراجة بخارية في أعماق الغابات، وتنتقل من قرية إلى أخرى. عملت في مستعمرة جذام تهتم فيها بالمرضى. وتمنتْ أن تُظهر لهم محبة المسيح، وتراهم قد نالوا الشفاء. وخدمتْ لدرجة المخاطرة الشخصية الكبيرة بسبب الملاريا، الأخطار الأخرى المرتبطة بالحياة في غابة.
“ولذلك أقولُ نعم، أحياناً ما يكون هناك تحول لثقافةٍ ما، لكن غالباً ما يكون هذا التحول قد آتى ببعض الخير. فعندما صار السكان الأصليون مسيحيين، إختبروا محبة وفرح المسيح. وهذا شئ رائع. عندما تزحف الدوافع الأخرى لأذهان الذين يسعون لتغيير ثقافة ما، كالسعي للربح الاقتصادي أو لمعنى مقلوب للتفوق العنصري، فإن أموراً سيئة جداً ستنتج عن ذلك.”
فعلّقتُ قائلاً: “ربما يكون بعض نقاد الإرساليات لا يرون قيمة في البشارة المسيحية؛ ومن ثم لا يرون فائدة للناس الذين يصيرون تابعين ليسوع.”
فصرَّح: “هذا صحيح! غالباً ما يكون هذا هو الإفتراض المسبق المختبئ. ولكن إن إفترض واحد أن الإنجيل هو قوة الله للخلاص، فإن ربح ثقافات العالم المختلفة التي تسمع الإنجيل سوف لا يُحصى.”
“لي زميل دراسة يعتبر لاهوتي إفريقي بارز. إضطر لمحاربة الإعلام القائل بأن المسيحية هي أيدولوجية إمبريالية غربية هدفها تدمير الديانات الإفريقية. إن منظوره مختلف تماماً. فهو يفهم الإسهامات الرائعة التي أسهمت بها المسيحية للمجتمعات الإفريقية. وقد جلب هذا الرجاء، والفداء، وهناك أفارقة ليس لهم حصر ممتنون جداً للإنجيل. وفي نفس الوقت، لا ينكر أن حاملي البشارة المسيحية كانوا أحياناً لا يعيشون حسب تعاليم المسيح في تعاملاتهم مع الأفارقة.”
الخطية الخامسة: مناهضة السامية:
كانت مناهضة السامية واحدة من أقبح الآفات في تاريخ المسيحية؛ فهي حالة ساخرة لأن يسوع كان يهودياً وصرَّح بأنه مسيا إسرائيل ومسيا العالم المنتظر. كان تلاميذه يهوداً، واليهود أيضاً كتبوا العهد الجديد بأكمله ما عدا سفر الأعمال وإنجيل لوقا اللذان كتبهما الطبيب لوقا.
فى العام 1998 م إعتذرت الكنيسة الكاثوليكية الرومانية عن “أخطاء وإخفاقات” بعض الكاثوليك لعدم مساعدة اليهود أثناء المذبحة النازية، بينما عبَّر الكاردينال جون أوكنر من نيويورك عن “الأسف العميق” لمناهضة السامية في الكنائس طوال السنين قائلاً: “نريدُ بكل إخلاصٍ أن نبدأ مرحلة جديدة.” [23] .
وقد سلم وودبريدج بأسف أن مناهضة السامية قد شوَّهت التاريخ المسيحي. وكان السؤال الرئيسي هو لماذا حدثت في المقام الأول.
فقال: “كان أحد العوامل هو أن معظم اليهود لم يعتقدوا أن يسوع كان هو المسيا. وقد أدى رفض اليهود لقبوله، وذلك لإعتبار اليهود في أذهان بعض المسيحيين أعداء المسيح. أضف إلى هذا أن اليهود قد تم إعتبارهم مسئولين عن صلب يسوع، فيكون لديك مكونان قويان لـ “مناهضة السامية المسيحية.”
لم يكن هذا كافياً بالنسبة لي، فصّمتُ: “لا بدَّ أن يكون هناك أكثر من ذلك.”
فأجابني: “نعم، أؤمن بذلك. لقد حاول هايكو أوبيرمان المؤرخ اللامع في جامعة أريزونا تعيين عدداً من العوامل الأخرى. فعلى سبيل المثال، عندما تصل إلى العصور الوسطى وعصر الإصلاح، كانت هناك شائعات زائفة كثيرة عن اليهود التي أضافت حتى وقوداً لنيران مناهضة السامية.”
“أية شائعات؟”
“أن اليهود كانوا متورطين في تسميم الآبار في زمن الموت الأسود Black Death في العام 1348: وقد دنسوا المقادس المسيحية بقدر استطاعتهم كما كانت لديهم ذبائح سرية Sacrificial Deaths؛ وقد تلاعبوا بالأسفار المقدسة المسيحية؛ إلخ. والآن تذكر أن هذه الإتهامات لم تكن صحيحة. ومع ذلك فقد أثارت مشاعر الغضب والإستياء.”
ولكن لم يبدو أن هذا يرضي وودبريدج. فتأمل في الجانب الآخر كما لو كان يبحث عن تفسيرٍ آخر، وأخيراً نظر إليَّ في إحباطٍ واضح.
وقال: “يبدو لي أن هذا لا يوفي الموضوع حقه. فقد كان المرء يعتقد – أو بالأحرى يرجو – أن المسيحيين منذ العصور الوسطى وصولاً إلى مارتن لوثر قد أدركوا أن تعاليم يسوع كانت تمنعهم تماماً من عمل أو قول بعض الأشياء التي قيلت واُرتكبتُ تحت اسمه.”
فقلتُ: “لقد ذكرتَ لوثر. ومناهضته للسامية مُوثقة بشكلٍ جيد. كيف نشأ ذلك؟
“بوضوحٍ، عرف لوثر بعض الشائعات عن اليهود. ومع ذلك، باكراً في حياته، كان محباً للسامية – محباً لليهود بشكلٍ ظاهر – وبسبب هذا الحب تمنى أن يكون هناك تحول كبير يقبلون فيه يسوع كالمسيا بالنسبة لهم. وعندما رفضوا ذلك، صار لوثر أكثر عصبية في سنواته اللاحقه، وتفوه ببعض الكلمات القبيحة جداً عنهم.”
لقد أربكتني إجابته، فقلتُ: “لقد كنتُ أعتقد أن مناهضته للسامية كانت ألماً مدى الحياة.”
“يؤكد بعض الدارسين أن هناك استمراراً لآرائه عن الشعب اليهودي طوال حياته، لكني سأؤكد أن تصريحات لوثر العدائية الخبيثة قد جاءت في نهاية حياته. فربما كان يُطلقها عن إحباطٍ عميق شديد لأنهم لم يأتوا إلى المسيح.
ورغم كل ما قّيل، فإن بعض تصريحاته مرعبة تماماً لدرجة أنه من المناسب تماماً للوثريين أن يرفضوا الإعتراف بها، وعلى كل المسيحيين أن يرفضوها تماماً. فالمسيحيون ببساطة لا يمكنهم أن يكونوا مناهضين للسامية. فيجب أن يكون هذا أمر غير وارد بالنسبة لأي تابع ليسوع.
“والآن، من الناحية الآخرى، في العصور المعاصرة، غالباً ما كان المسيحيون المبشرون بعض أعظم أصدقاء إسرائيل. والإتجاه العام الذي أراه في كنائس كثيرة تجاه الشعب اليهودي هو إتجاه الإحترام.”
“ماذا تقول لإنسان يهودي يقول لك إنه لم يفكر أبداً في المسيحية بسبب تاريخها المُناهض للسامية؟”
فأومأ وودبريدج بخفةٍ، وقال بحزنٍ في صوته: “لقد صُدمتُ بذلك من قبل. فقد كنتُ أقوم بالتدريس في جامعة مدنية، فقالت لي طالبة يهودية شابة: أريدُ عمل بحثاً عن لوثر؛ فجدي قال لي إن لوثر كان يكره اليهود. هل هذا حقيقي؟” فقلتُ لها: “على الأرجح ذلك، ولكن انطلقي وحضّري البحث”، فعادت إلىَّ ببحثٍ جعلني أبكي. لقد وجدتُ أشياءً لم أعرفُ حتى أن لوثر قد قالها، إنها أشياء سيئة للغاية.”
“ماذا تقول لمثل هذه الشابة؟”
“إنني آسف جداً جداً على ما قاله لوثر، فهذه الأشياء تتعارض حتماً مع تعاليم المسيح، وهذه واحدة من المشكلات التي نواجهها كمسيحيين – فنحن لا نعيش دائماً وفقاً لمثاليات يسوع.
ويمكنني أن أقول: “أدركُ مدى صعوبة ذلك، لكني أرجو أن تفكر فيما قاله وفعله يسوع، وأفحص المسيحية على أساس ما تُعلّمه حقاً.”
حاول وودبريدج أن يسهب كلامه، لكنه لم يستطع تذكر شيئاً آخر مساعداً كي يضيفه. فقال: “أخشى ألا يكون هذا عرضاً ممتازاً، لكن هذا ما أقوله من قلبي.”
بدأت قائلاً: “بعض اليهود يؤمنون أن هتلر كان مسيحياً…، فوثب من مكانه وقاطعني.
قال: “آه، نعم، هذا صحيحٌ تماماً. مرةً اخرى علينا أن نميز بين المسيحية الثقافية والمسيحية الحقيقية. فخلال صعود الإشتراكيين القوميين National Socialists، حاول هتلر أن يلتف حول المسيحية وحول مارتن لوثر. وقد كانت حيلة أيدلوجية ماكرة. لكن النقاد المسيحيون، مثل كارل بارث وآخرين، لم يقبلوا للحظة أن هتلر كان يمثل المسيحية المستقيمة.
“دعني أقدم لك تفسيراً تاريخياً آخر. آمن كثير من اليهود في عامي 1665 م و1666 م أن إنساناً معيناً كان هو المسيا، لكنه آنذاك تحول إلى الإسلام، وهذا ما خيب طموحات كثير من اليهود. والآن إن قيل لمؤرخ يهودي اليوم: “هل تريد تعيين ذاك الرجل بإعتباره المسيا؟؟ سيقول لك: “بالطبع لا، لقد كان محتالاً.”
“حسناً، بنفس الإطار، سنقول نحن المسيحيون إن هتلر لم يكن أى نوع من المسيا المسيحي. فالناس غالباً ما يدَّعون أشياء زائفة. لقد كان إنسان محتال شرير، ولم يكن مسيحياً حقيقياً، ولا ممثلاً عن التعاليم المسيحية الحقيقية.”
بورتريه للمسيحية:
كان يمكننا الإستمرار لمناقشة لطخات تاريخية أخرى عن المسيحية، بما فيها ظلم النساء الذي حدث رغم إتجاه يسوع المغاير للثقافة تجاههن، والطريقة التي إقتبس بها كثير من الناس في الجنوب الكتاب المقدس في محاولة ملفوفة لتبرير العنصرية والعبودية. لكنني كنتُ قد قضيتُ وقتاً طويلاً أستجوب فيه وودبريدج. وبدون محاولة الدفاع عن الأمور التي لا يُدافع عنها، سعى لتقديم بعض السياقات والتفسيرات. ولتقرير أية أحداث من هذه كانت الإستثناءات أو القاعدة بالنسبة للمسيحية، فقد آن آوان إستكشاف الجانب الآخر من التاريخ المسيحي.
قلتُ: “بقبول كل ما تكلمنا عنه، ما هي النتيجة الأخيرة؟ هل العالم أسوأ أم أفضل حالاً بسبب وجود المسيحية؟”
فأنتصب وودبريدج في مقعده وأصرَّ قائلاً: “أفضل حالاً. ولا جدال في ذلك. فهذه حالات تاريخية قابلة للأعتذار لا يجب أن تُخفى عن العيون. يجب أن نعتذر عنها، ويجب أن تُبذل الجهود لتأكيد عدم تكرارها. ومع ذلك، في نفس الوقت، كان الإنتشار الواسع للتاريخ المسيحي نافع جداً للعالم.”
فعلُّقت قائلاً: “أفترض أنه من السهل في التحدث عن خطايا المسيحية نسيان دور الإلحاد في سحق الحقوق الإنسانية. أخذتُ كتاباً وقرأتُ لوودبريدج بعض الملحوظات التي كتبها المسيحي المعروف لويس بالاو.
إن الصدمة المدوية للإلحاد الشامل أرسلتْ موجات جذرية عبر أوروبا وفيما ورائها، وهي تُقرِّر بشكل مباشر لفناء وقتل أكثر من مائة مليون إنسان في القرن الماضي وحده. لقد دفعت الإنسانية ثمناً باهظاً فادحاً للإختبارات المرعبة للمقاومة الممتعمدة للإيمان، مُنفذة على يد لينين، هتلر، ستالين، ماوتسي تونج، وآخرين – حيث كان كل منهم متأثر بشكلٍ عميق بكتابات قادة الإلحاد… وبعد رؤية نمو الإلحاد… فمن الأوضح أكثر مما مضى.. أنه بدون الله نحن ضائعون.[24]
فأجاب وودبريدج: ” أتفقُ أنه بدون الله نحن ضائعون. وهذا ليس مجالاً للقول بأن الملحد لا يمكنه الحكم جيداً؛ لأنه من وجهة النظر المسيحية، فإن الملحد يستفيد من نعمة الله العامة. ولكن بقبول إفتقاد البنية في الإلحاد لعمل قرارات أخلاقية، فمن السهل أن نفهم لماذا أختبر العالم أهوال هذه الأنظمة. حينما لا يكون هناك مقياس أخلاقي مطلق، فإن القوة الغاشمة غالباً ماتكسب.”
“فى رأيك ما هي الطرق الإيجابية التي أسهمت فيها المسيحية للحضارة؟”
ضبط وودبريدج جلسته في مقعده. وتأمل في سؤالي للحظات ثم أجاب بصوتٍ نقل إخلاصه وإعجابه وحماسة مشاعره الحُبية العميقة للكنيسة.
قال: “إنى أرى تأثير المسيحية كصورة زيتية جدارية متألقة لها مناظر كثيرة، كل منها مرسوم بألوان جميلة لامعة واضحة. فبدون المسيحية، سيكون هناك قدر مرعب من البهتان، ومجرد خطوط قليلة متناثرة متفرقة هنا وهناك ليس لها أي معنى. لكن المسيحية تضيف الكثير جداً من المعنى، والرجاء، والجمال، والثراء للصورة.”
مأسوراً بالمجاز تساءلتُ: “ماذا تُبين الصورة؟”
“المنظر المركزي بعينه سوف يُصور قصة يسوع وفدائه عن خطايانا. فأخيراً – مرةً واحدة إلى الأبد – تعامل مع موضوعات ذنبنا، ووحدتنا، وإغترابنا عن الله. وبموته الكفاري وقيامته فتح السماء لكل من يتبعه. هذا هو أعظم إسهام قامت به المسيحية على الإطلاق. وهو مُلخص في يوحنا 16:3 “لأنَّهُ هَكَذَا أَحّبَّ الله العَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْبَهُ الْوَحِيدّ لّكّيْ لَا يَهْلَكَ كُلُّ مَنْ يُؤمَنُ به بَلْ تكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأبَدَيَّةُ.”
“أيضاً تُقدَّم لنا المسيحية إعلاناً عن معنى الحياة ووجود الأخلاقية الكونية. فبدون هذا الإعلان، يكون من الصعب جداً وجود أية قيمة للمعنى. وينتهي بك الحال مثل ألبرت كامو الذي قال في الفقرة الإفتتاحية من أسطورة سيزيف: “لماذا لا أنتحر أنا أو أيِّ إنسان آخر؟” حسناً، المسيحية تفسر لماذا لا. إنها تعطينا إطاراً من الإرشاد للحياة، وإتباع طريقاً أخلاقياً، والرجوع إلى الله، وأمور أخرى بأسلوب ذات معنى عميق وقوي.
“لمسات الفرشاة في الصورة سوف ترسم المناظر التي تكشف عن الدوافع الإنسانية الشاملة التي ألهمتها حياة المسيح وتعليمه. فالكاثوليك الرومان، والأرثوذكس، والبروتوستانت إشتركوا جميعاً في مساعدة الفقراء، والمحرومين، والمعوزين. وكانوا مستعدون للعمل ضد مصالحهم الشخصية لخدمة الآخرين. وبفقد كل هذا – كل العمل الإرسالي، وكل المستشفيات، وكل مؤسسات الإعانة، وكل الأعمال الخيرية لإطعام الجوعي، وكساء الفقراء، وتشجيع المرضى – ستكون ضربة قاضية للعالم.
“بالإضافة إلى ذلك، فإن تأثير الفكر المسيحي يضيف مناظر أخرى، ويُضفي الظل والعمق للصورة. فالمسيحيون سلّموا عقولهم لله. ولو حذفتّ إسهاماتهم الأدبية، والموسيقية، والمعمارية، والعلمية، والفنية، سيصير العالم أكثر بلادة وضحالة بشكل كبير. فكر في المؤسسات التعليمية العظيمة التي بناها المسيحيون – بما فيها هارفارد، وييل، وبرنستون – التي تم التفكير فيها أصلاً وبنائها من أجل تقدم الإنجيل.
“وأخيراً هناك قوة الروح القدس التى تُلّون كل شئ صالح. هل يمكنك أن تتخيل كيف سيكون العالم لو أنسحب الروح القدس؟ من الردئ بشكلٍ كاف الطريقة التي عليها الأمور الآن، ولكن إن لم تكن هناك قوة الروح القدس الحافظة؛ فما بالك أن الجانب المرعب من الحياة سينطلق كي يكون أكثر نشاطاً مما هو عليه الآن.
فتساءلتُ: “فيما تنظر إلى صورة التاريخ هذه، هل ترى إيجابيات المسيحية تغلب الحالات السلبية التي ناقشناها؟”
فقال بلا تردد: “نعم. فأنا منفطر الفؤاد على الأوقات التي لم نحياها نحن المسيحيون وفقاً لتعاليم يسوع، ومن ثم فقد خلقنا حواجز للإيمان. لكني ممتّن للغاية للرجال وللنساء المجهولين الذين دعّموا الإيمان عبر القرون بتواضع وبشجاعة، والذين خدموا في الخفاء، وكرسوا حياتهم لمساعدة الآخرين، وتركوا العالم مكاناً أفضل حالاً، وصارعوا لعمل الحق رغم الضغط الرهيب لعمل العكس.
وأستنتج قائلاً: “عندما أُفكرُ في التاريخ المسيحي، فهؤلاء هم أول من يخطروا على ذهنى. إنهم الأبطال الذين عادةً ما يتم نسيانهم كثيراً جداً.
توقف، ثم بابتسامةٍ تواقة – منحهم أعظم تقدير: “إنهم ما كان يره يسوع.”
عطايا المسيحية:
كانت كلمات وودبريدج الملتهبة لا تزال ترن في ذهني عندما عدتُ إلى البيت، مرهقاً من يوم طويل. إسترخيتُ في مقعدي المفضل وإلتقطتُ مجلة لأتصفحَّها. وهناك – من قبيل الصدفة تماماً – وجدتُ مقالاً فيه كثير من الدارسين يكتبون في الأيام الأخيرة من القرن العشرين، ويتأملون شكل الحضارة بدون المسيحية. وقد أكملتْ ملحوظاتهم ما توَّقف عنده وودبريدج؟[25]
مايكل نوفاك أطرى عطية المسيحية للكرامة. وكتب: “كل من أرسطو وأفلاطون إعتقداً أن معظم البشر بالطبيعة عبيد ومناسبين فقط للعبودية. ومعظمهم ليست لهم طبيعة تستحق الحرية. اليونانيون إستخدموا “الكرامة” لمجرد القلة، لا لكل البشر. وعلى النقيض أصرَّت المسيحية أن كل إنسان محبوب من قَبل الخالق، ومخلوق على صورة الخالق، ومُحدَّد له الصداقة الأبدية والأشتراك معه.”
أشار إلى الأفكار الحضارية للحرية، والضمير، والحق التى يمكن إسنادها إلى المسيحية. وأكدَّ قائلاً: “بدون الأساسيات المسيحية الموضوعة لنا في العصور الوسطى والقرن السادس عشر، لصارت حياتنا الإقتصادية والسياسية معاً لا أكثر فقراً فحسب، بل أيضاً أكثر وحشية.”
ركز ديفيد. ن. ليفنجستون – أستاذ في كلية علوم الأرض في جامعة الملكة في بلفاست، آيرلندا الشمالية، على عطية المسيحية للعلم. وكتب: “إن فكرة أن المسيحية والعلم كانا على الدوام في تصادم هو تشويه جسيم للسجل التاريخي. ففي الحقيقة آمن روبرت بويل – دارس الكيمياء الإنجليزى العظيم – أن العلماء أكثر من غيرهم قد مجدّوا الله في البحث عن مهامهم لأنه قد وُهبَ لهم أن يستجوبوا خليقة الله.”
وأشار إلى أن أولئك الذين في عصر الإصلاح “آمنوا أن الله قد أعلن ذاته للبشرية بطريقتين؛ في الكتاب المقدس وفي الطبيعة. وقد مكنهم ذلك من الإشتراك في التحري العلمي للعالم الطبيعي.” وكانت النتائج إسهامات متدفقة من قبّل العلماء الذين أثارهم الإيمان المسيحي.
ووصف ديفيد لايل جيفري – أستاذ الأدب الإنجليزى في جامعة أوتاوا – عطية المسيحية للتعليم. وقال: “قد يكون من الصعب أن نقول إن الثقافة التعليمية في أوروبا ومعظم إفريقيا والأمريكتين غير منفصلة عن القوة التحولية ثقافياً للمسيحية. ففي معظم أوروبا، كما في إفريقيا، وأمريكا الجنوبية، وأماكن أخرى كثيرة من العالم، كان ميلاد التعليم والأدب أساساً – وليس مصادفة – يتوافق مع وصول الإرساليات المسيحية.”
ومع ذلك، ربما يكون الأكثر إثارة هو أن إستكشاف المؤرخ مارك نول لعطية المسيحية للتواضع، وهو إسهام قليل الملاحظة، كان له علاقة خاصة في ضوء مناقشتي مع وودبريدج عن الجانب القبيح للتاريخ المسيحي. كتب نول:
طوال المسيرة الطويلة للتاريخ المسيحي، كان الأمر الأكثر إحزاناً – بسبب تكراره المستمر – هو كم نخيب نحن المسيحيون العاديون كثيراً جداً عن الوصول للمثاليات المسيحية بشكلٍ مأساوي للغاية. وطوال المسيرة الطويلة للتاريخ المسيحي، كان الأمر الأكثر تمييزاً – بسبب أنه أحد معجزات النعمة – هو كيف عاش مؤمنون كثيرون ضد تعظم المعيشة لتمجيد المسيح. ومن بين كل “علامات التناقض” هذه، فإن أكثر الأمور الخليقة بالمسيح تماماً كانت تلك الحالات التي كان ينطلق فيها المؤمنون الأقوياء – بسبب الثروة، والتعليم، والقوة السياسية، والثقافة الرفيعة، أو الوضع المفضل – إلى المُحتقرين، والمتروكين، والمهملين، والضائعين، والغير معروفين، أو الواهنين. [26]
قال إن القوة تُغذي عبادة الذات. فهى تُفسد ونادراً ما تعتذر. وإستفاض مارك نول لسرد أحداثاً عديدة عبر التاريخ فيها الرجال الأقوياء، كلياً أو جزئياً بسبب إيمانهم المسيحي، قد وضعوا أنفسهم طوعاً في توبة عامة لسوء إستخدامهم القوة – وهذه شهادة دائمة مقابلة للثقافة لقوة الإنجيل.
أثارت إهتمامي قصة واحدة بشكلٍ خاص لأنها كانت تتعلق بحدثٍ غامض لكنه متألق في ختام حلقة ناقشها وودبريدج وأنا معاً: محاكمات ساحرات سالم.
واحد من القضاة – تطهرى لامع إسمه صامويل سيوول من بوسطن أصبح منزعجاً للغاية من الدور الذي لعبه في تلك الكارثة. فقد تحرك ضميره المسيحي أخيراً للعمل عندما سمع إبنه يقرأ فقرة كتابية مشهورة: “فّلّوْ عَلِّمتُمْ مَا هُوَ: إنِّي أُرّيدُ رَحْمَةَّ لَا ذَبيحَةَّ لَمَا حَكَمْتُمْ عَلَى الأبْريَاءَ!”[27]. لقد فطرت الكلمات قلب سيوول.
وفي خدمة الكنيسة في 14 يناير من العام 1697م، أعطى القس تصريحاً ليقرأه بينما وقف سيوول النادم بخجل أمام الجمع. كان التصريح يعترف بذنب سيوول على أكثر ممَّا حدث، قائلاً إنه “يتمنى أن يُلقى عليه لوم وخزي ذلك، طالباً عفو الناس، ولا سيما متمنيّاً الصلوات حتى أن الله الذي له سلطان غير محدود يغفر تلك الخطية وكل الخطايا الأخرى.” لقد دفع تصرفه المتواضع من الآسى والتوبة الكثير من القضاة الآخرين للإعتراف بإخفاقاتهم أيضاً.
أغلقتُ المجلة ووضعتها على مائدة القهوة. وفكرتُ في نفسي أن ذلك ربما يكون أحد أكثر تراثات المسيحية روعةً – إستعداد القادر لإحناء ركبة التوبة عندما تُرتكب الأخطاء. ومع ذلك فقد كان تذكار آخر لقوة الإيمان في تغيير الحياة والتاريخ لصالح الخير.
مشاورات
أسئلة للتأمل ومجموعات الدراسة
- قبل قراءة هذا الفصل، ما الحدث الذي أزعجكَ بالأكثر في التاريخ المسيحي؟ لو كان وودبريدج قد ناقشه، فكيف أحسن التعامل معه؟ هل موقفك من هذا الموضوع هو نفس الموقف أم مختلف؟
- هل تعتقد أن الخطايا التاريخية التي ناقشها وودبريدج هي تماثلات في تاريخ الكنيسة أم انعكاسات شئ مخطئ تماماً في DNA الإيمان؟ ما الحقائق التي ساعدتك في تكوين رأيك؟
- هل أصبح العالم أفضل بفضل المسيحية؟ لماذا؟ لماذا لا؟ على نفس القياس، هل كانت إسهامات الإلحاد إيجابية أم سلبية بالنسبة للبشرية؟
لمزيد من الأدلة
مصادر أخرى حول هذا الموضوع:
- Mark A. Noll. A History of Christianity in the United States and Canada. Grand Rapids, Mich.: Eerdmans, 1992.
- Bruce L. Shelley. Church History in Plain Language. Dallas: Word, 1982, 1995, updated 2nd
- Rodney Stark. The Rise of Christianity. Princeton, N. J.: Princeton University Press, 1996.
- James Kennedy and Jerry Newcomb. What If Jesus Had Never Been Born? Nashville: Nelson, 1994.
1-ken Schei, Available: www.atheists-for-jesus.com/about.htm
2-D. James Kennedy, Why I Believe (Dallas: Word,1980), 118,121.
3-Maurice possely, The Chicago Tribune, April26, 1985
4-Maurice possely, The Chicago Tribune, April 27, 1985
5-Maurice possely, The Chicago Tribune, February 21, 1985
6-Bertrand Russell, Why I am Not a Christian (New York: Simon and Schuster, 1957), 25-26
7- International Herald Tribune, April26, 1999
8-Charles Templeton, Farewell to God, 127,129
9-Ibid., 154
10-See: Richard Boudreaux, The los Angeles Times, March 13, 2000
11-Peggy Polk, the Chicago Tribune, June 5, 1995
12-Matthew 7:21-23
13-patrick Glynn, God: The Evidence, 157
14- See: Lucian, the Death of Peregrine, 11-13, in the Works of Lucian of Samosata, trans. By H. W. Fowler and F. G. Fowler, 4 vols. (Oxford: The Clarendon Press, 1949), vol.4.
15-See: Justin Martyr, First Apology: Ante-Nicene Fa-thers, ed. By Alexan-der Roberts and James Donaldson (Grand Rapids, Mich Eerdmans, 1973)
16-philippians 1:21
17-Bruce L. shhelley, Church History in plain language (Dallas, Tex: Word, 1982, 1995, updated2d edition) 189
18-As the Third millennium approached, Spanish priests and nuns pub-licly asked forgiveness for see: The Chicago Tribune, November 14, 1999
19-David neff, christianity Today, April 29, m1996, 14
20- Mark A.Noll, A History of christianty in the United States and Canada (Grand Rapids: Eerdmans, 1992), 51
21- Dale and sandy Larsen, saven myths About Chris-tianty (Downers Grove, 111: InterVarsity press, 1998), 110.
22-Anthony Grafton, with April Shleford and Nancy Siraisi, New Worlds, Ancient Text (Cambridge, Mass: Belknap press, 1992), 132.
23-Ibid., 136.Ecclesiasticus, or Sirach, is not considered to be divinetly inspired scripture by protesants, although to is part of the Roman Catholic and Orthodox canons it is also known as after its author, a scholar who apparently wrote the bok between 195 and 171B.C.
24- The Chicago Tribune, Septem-ber 21, 1999.
25-Luis palau, God is Relevant (New York: Dobleday, 1997), 23, 82
26- See: Michael Novak, David N Livingstone, Da-vid lyle Jeffery, et al., Christianty Today, December 6, 1999, 50-59
27- Ibid, 56