الرق في المسيحية (العبودية) وجهود الكنيسة في إبطاله
سبق أن أشرنا إلى الرق في العالم الوثني، وما وصل إليه العبيد من مذلة واحتقار وسوء معاملة … هذا في الوثنية، أما اليهودية فقد أظهرت معاملة أفضل للعبيد، فأوصت بعدم إساءة معاملتهم، وأمرت بعتق جميع العبيد اليهود في سنة اليوبيل، التي تقع كل خمسين سنة (لاويين 25: 39-46).
جاءت المسيحية ولم تصدر تشريعاً عاماً وصريحاً ضد نظام الرق، بل على العكس تقابلنا بعض نصوص في رسائل الرسل تدعو العبيد إلى الطاعة الكاملة لسادتهم حسب الجسد، وتقديم الإكرام والخضوع اللائقين بهم[1] … وهذا ما دعا بعض أعداء المسيحية إلى أن يأخذوا عليها هذا الموقف، إنها لم تطالب بالغاء الرق، بل شجعت عليه .
والواقع أن الإنجيل – بروحه العام أكثر من أي نص خاص – قاوم روح التعسف المستمر والتحقير الأدبي نحو فئة الأرقاء … وهو لم يوص في أي موضع منه بالعنف الخارجي أو المقاييس الثورية، لأن ذلك – فضلاً عن كونه يتعارض مع طبيعة المسيحية ورسالتها – فإنه كان عديم الجدوى، بل ضار في تلك الأزمنة. وعوضاً عن ذلك، عالج المشكلة علاجاً جذرياً داخلياً، هادفاً بالدرجة الأولى إلى تلطيف حدة الشر ونزع شوكته، وأخيراً أبطاله كلياً[2].
فالمسيحية تهدف قبل كل شيء إلى تحرير الإنسان – دون النظر إلى رتبة أو وضع إجتماعي – من أشر أنواع العبودية، ألا وهي عبودية الخطية، وتهبه حرية روحية حقيقية، وتؤكد الوحدة الأولى لكافة البشر المخلوقين على صورة الله، وتعلم بالفداء العام، والمساواة الروحية للجميع قدام الله ((ليس عبد ولا حر. لأنكم جميعاً واحد في المسيح يسوع)) (غل 3: 38).
لقد تصرفت المسيحية إزاء مشكلة العبيد، بنفس طريقة الحل الموضوعي المنهجي، الذي عالجت به كثيراً من مشكلات الحياة. إنها تهتم أولاً ودائماً بالعلاج الجذري … تهتم بعلاج أساس المشكلة، لأن في هذا حسم للمشكلة واستئصال لها من جذورها.
ومن ناحية أخرى تهتم أن يكون علاجها سلمياً بما يتفق وطبيعة رسالتها … فنحن نرى أنها إهتمت بعلاج المشكلات الروحية جذرياً فعالجت القتل بالنهي عن مجرد الغضب ((كل مَن يغضب على أخيه باطلاً فهو قاتل نفس)) (1يو3: 15).
وعالجت شهوة الجسد وأنواع الزنا، بالنهي عن مجرد النظرة المصحوبة بشهوة جسدية (مت5: 28) … وهذا يتفق مع منهجها، الذي يقضي بعدم وضع رقعة جديدة على ثوب عتيق، أو خمراً جديدة في زقاق عتيقة … لأنه ماذا يحدث لو لم يراع هذا المنهج؟ الجواب بفم رب المجد … ((يصير الخرق أردأ … والخمر تنصب والزقاق تتلف)) (مت9: 16، 17).
هذا هو ما علمته المسيحية إزاء مشكلة الرق والعبيد … لقد نادت بالإصلاح الأدبي، دون أن تدخل في صراع مع الدولة وتشريعها الخاص بالعبيد … لم يكن من رسالتها الروحية، ومبادئها التي حددتها لنفسها، أن تعلن أو تطلب – من الوجهة القانونية – إنهاء نظام الرق.
لو فعلت ذلك لجعلت من نفسها قوة سياسية، وتدخل في صراع مسلح، وتعرّض ما يؤخذ بالسيف إلى أن يفقد بالسيف … ما كان أسهل على المسيحية، أن تصدر شعارات براقة تخص الرق وتحريرهم[3]، حتى ما تكسبهم إلى صفوفها، لكنها لم تفعل شيئاً من ذلك . كان ذلك معناه قيام الرق بثورات عارمة، لم تكن جديدة عليهم، فقد قاموا بعدة ثورات قبل ذلك وسحقتها قوات الدولة وانتهت إلى لا شئ .
كانت إيطاليا في ذلك الوقت قد سحقت لتوها إحدى ثورات الرق بكل صعوبة، وكانت يقظة لأية محاولة أخرى[4]. إن تحريك مثل هذه الثورات كان لا يؤدي إلى التقدم خطوة واحدة نحو الحرية .. بل في هذه الحالة، كان أمام المسيحية طريقان : إما أن تزول، وإما أن تتوقف عن أن تكون ديانة الروح.
ومن ناحية أخرى، فإن العبد الذي حطم قيود عبوديته المادية، ونال الحرية قبل أن يتحرر داخلياً (روحياً) لا يكون قد تحرر حقاً … فقد يبقى على كل رذائل العبودية، ويستخدم حريته المكتسبة وقوته، إستخداماً إستبدادياً خاطئاً … وفي هذه الحالة كانت العبودية ستظل باقية بكل فظاعتها، مع تغير واحد، هو أن المضطهدين ستحولون إلى مُضطِهدين.
كان من الأهمية بمكان إذن، أن تحرص الكنيسة على عدم إحداث هزة في المجتمع يتعرض معها الجميع، وتتعرض رسالتها إلى خطر محقق … لم تبطل الكنيسة الرق بنص صريح، لكن من الإنصاف القول إنها قوضت هذا النظام بما أحدثته من تغييرات جوهرية في حياة الإنسان . والنتيجة، أنه حينما يفيق ذلك المخلوق البائس – الذي كان يعامل كآلة صماء أو كجسد بلا نفس – لكرامته الأدبية، وحقوقه وواجباته، تبطل الحجة لإبقائه في العبودية . والمسيحية وقد ظهرت أولاً حامية للعبد في ضعفه، كانت تميل دائماً إلى تحريره الكامل.[5]
جهود الكنيسة لإبطال الرق:
- كان أول ما ينبغي عمله هو إصلاح حالة الرق بتبني قضيتهم وحمايتهم من سوء معاملة سادتهم … كان السادة غير المؤمنين خارجين عن سلطان الكنيسة، أما المؤمنون فكانت توصيهم باللطف وطول الأناة والعدل، وتناشدهم أن يعاملوا عبيدهم معاملة حسنة، ((وأنتم أيها السادة، افعلوا لهم (الرق) هذه الأمور، تاركين التهديد، عالمين أن سيدكم أنتم أيضاً في السموات، وليس عنده محاباة)) (أف6: 9).
لقد إعاد القديس بولس ثانية، العبد اللاجئ إليه – إنسيموس – إلى مولاه الأرضي فليمون، بعد ان جذبه إلى معرفة المسيح. لكنه أوصى فليمون ان يقبل العبد ويعامله فيما بعد كأخ محبوب في المسيح، بل كأحشاء الرسول (فل12: 16) … من المستحيل أن نتصور إمكان وجود علاج أفضل من ذلك. ومن المستحيل أن نجد في الأدب القديم، مايوازي رسالة بولس الرسول القصيرة إلى فليمون، والمملوءة لطفاً ورقة وإنسانية، فضلاً عن المشاركة الرقيقة لعبد مسكين.[6]
- كانت المعاملة القاسية التي يلقاها العبد من سيده المؤمن، سبباً كافياً لطرد ذلك السيد من جماعة المؤمنين. كما كانت المسيحية تسقط لقب مسيحي عمًن يسيئون معاملة تابعيهم وخدمهم.[7]
- ولم يكن مجرد إعطاء الحماية والمعاملة الحسنة للعبيد كافياً، بل كان على السادة أن يسموا بهم أدبياً، فيعلمونهم الحق، ويقودونهم إلى النور. وكان على السيد المسيحي أن يكون مستعداً أن يضع نفسه ليكون معلم عبده طواعية، تحركه غيرته نحو أخيه العبد إلى ذلك الواجب … وكان السادة يتممون هذا الواجب المقدس الصعب عن حب. هذا الأمر دعا الفيلسوف الوثني كلسوس لأن يسخر من المسيحية لعنايتها بالعبيد.
- فرد عليه أوريجانوس موضحاً أن المسيحية آثرت الإتجاة إلى منبوذي العالم القديم، مبتدئة بالعبيد، الذين لم يفكر فيهم أحد. وقال له: [نحن نشعر أننا مدينون للعقلاء والجهلاء .. نحن لا نرفض أحداً، ولا حتى العبد العادي. فنحن نميل نحوه كما إلى طفل أ او امرأة جاهلة، آملين أن نجعله في وضع أفضل [.[8]
- ما أن يقبل العبيد والإماء الإيمان المسيحي، حتى كانوا يحصلون على عضوية الكنيسة كاملة، ويرفعون فيها إلى مستوى الأحرار. كانوا يعتبرون إخوة وأخوات للمؤمنين بكل ما في هذه الكلمة من معنى. وقد أشار بولس في رسالته إلى كولوسي إلى ((أبفراس العبد الحبيب معنا، الذي هو خادم أمين للمسيح)) (كو1: 7) … ليس في الكنيسة أي أثر للفوارق الإجتماعية بين المسيحيين في أوقات العبادة. والفاصل الوحيد كان هو الذي يفصل الموعوظ عن المؤمن، والجنسين عن بعضهما[9] …
- بل ربما كان العبد في حالة أفضل روحياً، حينما يكون هو مؤمنا وسيده ما يزال موعوظاً … والعبد الذي يسجد جنباً إلى جنب مع سيده في عبادة نفس الإله، لا يمكن أن يستمر فيه الاحساس بعدم الكرامة، أو مركب النقص الذي يرتبط بوضعه الإجتماعي. وفد أوجبت قوانين الرسل على السيد أن يحب عبده كابن أو كأخ بسبب إيمانهم الواحد.[10]
- كان في إمكان العبد أن يقبل أية وظيفة كنسية، حتى الأسقفية، إذا دعى إلى ذلك (28)… ولدينا مثل على ذلك، كلستوس Callistus الذي كان عبداً مسيحياً لسيد مسيحي، ووصل إلى منصب أسقف روما (217-222) وذكر في قوانين الرسل أن أنسيموس الذي كان عبداً لفليمون رسم أسقفاً على بيرية.[11]
- وبفضل جهود الكنيسة في التعليم ورعايتها الروحية، أخذ كثير من السادة المسيحيين يعتقون عبيدهم المسيحين … وكثيراً ما كان يتم عتق العبيد وتحريرهم في الكنيسة، في ايام الأعياد الكبيرة، وعلى الأخص عيد القيامة، تذكاراً لعمل المسيح الفادي الذي حررنا من أسر إبليس … وكان ينظر إلى هذا العمل كعمل من أعمال الرحمة المقبولة لدى الله.[12]
- ونظراً لأن الحياة الدينية للعبيد المسيحيين الذين يعملون مع سادة غير مسيحيين كانت في خطر، فالكنيسة في بعض الأحيان، كانت تشجع السادة الوثنيين على تحرير عبيدهم المسيحيين مقابل فدية مالية تدفعها الكنيسة.[13]
- من الناحية الأدبية، كانت شخصيات الرق تتمتع بكل احترام الأحرار داخل الكنيسة. كان يجب إحترام الإماء، ولا يتعدى عليهن بسبب ضعفهن. وكانت الكنيسة تحمي الروابط الزوجية للعبيد، وتنتظر منهم فضائل كما من الأحرار. وكنتيجة لذلك حازت فضائلهم نفس التقدير والاحترام وقد صار منهم شهداء وشهيدات.[14]
- أما من جهة العبيد أنفسهم، فقد اهتمت الكنيسة بحياتهم ونفسياتهم وروحياتهم وكانت تقوم بتعليمهم وتلقينهم الإيمان[15].
وإن كانت المسيحية لم تستطع – بقرار أو نداء أو تعليم – أن تحرر الرق كلهم دفعة واحدة، لكنها كانت أولى الأنظمة التي جعلت من طاعة العبيد التي بلا سند، واجباً ادبياً يؤدي بفرح، بعد أن كانت الأنظمة القديمة تحرص على طاعة العبيد عن طريق الإرهاب والتخويف[16]
وهكذا أوصى القديس بولس العبيد بالصبر، وان يبقوا في حالتهم، ويعزوا أنفسهم بالفكرة أنهم عتقاء الرب … ((الدعوة التي دعي فيها كل واحد فليلبث فيها. دعيت وأنت عبد فلا يهمك. بل وإن إستطعت ان تصير حراً فاستعملها بالحري. لأن مَن دعي في الرب وهو عبد فهو عتيق الرب. كذلك أيضاً الحر المدعو هو عبد للمسيح)) (1كو 7: 20-22).
ومن ناحية أخرى عاونت المسيحية في تخفيف العار الذي كان مرتبطاً بالعمل كما كانت نظرة المجتمع القديم – لقد أكدت المسيحية وجوب العمل[17] وطالما كان العمل مرتبطاً بالعبودية، فقد إستراح العبيد من الخزي الذي لحقهم ولصق بهم[18].
وفد لاحظ العالم دي روسي De Rossi، الذي كرس جهوده لدراسة سراديب روما والمقابر المسيحية الأولى أن لقب ((عبد)) لم يشاهده إطلاقاً في الكتابات على المقابر المسيحية.[19]
[1] أنظر: كو3: 22؛ ا تي 6: 1؛ ا بط 2: 18.
[2] Schaff, Vol. p.445.
[3] كان عدد الرق في حكم الإمبراطور كلوديوس (حوالي منتصف القرن الأول الميلادي)، يوازي نصف سكان الإمبراطورية الرومانية كلها، أي حوالي ستين مليوناً حسب تقدير المؤرخ جيبون Gibbon.
[4] Hill, pp. 235-237.
[5] De Pressensé, Vol. 1, pp. 430-433.
[6] Schaff; Vol. 1, p. 446.
أمرت قوانين الرسل بأن يمنح العبيد راحة من العمل في بعض المواسم والتذكارات الدينية، وقد حددتها كالآتي: السبت والأحد أسبوعياً، وأسبوع البصخة، والأسبوع التالي لتذكار القيامة، وفي تذكارات الميلاد والغطاس والصعود وحلول الروح القدس وتذكارات استشهاد بعض الشهداء وفي مقدمتهم إستفانوس. انظر: Constitutions of the Holy Apostle, 8.33.
[7] Constitutions of the Holy Apostle, 4. 6.
[8] Origen, C. Celsum, 3. 49.
[9] Constitutions of The Holy Apostles, 2. 58; De Pressense, Vol. 1. , pp. 434-436.
[10] Constitutions of the Holy Apostles, 4.12.
[11] Ibid, 7. 46.
[12] Latourette, pp.261-263.
[13] Constitutions of the Holy Apostles, 4.9.
[14] من أمثلة ذلك ك بلاندينا من شهداء ليون، وفيليسيتاس رفيقة بربيتوا في قرطاجنة، وبروفيري عبد بامفيلوس البيروتي – انظر كتاب الاستشهاد في المسيحية، .Harnack, Missions, pp. 168, 169
[15] Aristides, Apol., 15.
[16] انظر : كو3: 22 ؛ ا تي 6: 1 ؛ ا بط 2: 18، وأيضاً: Karl Kautsky; Foundations of Christianty, p. 350.
[17] أنظر: أع 18: 1-3 ؛ أف 4: 28 ؛ 2 تس 3: 7-10.
[18] Latourette, pp. 261-263.
[19] Harnack, Mission …, p. 168.
الرق في المسيحية (العبودية) وجهود الكنيسة في إبطاله
انجيل توما الأبوكريفي لماذا لا نثق به؟ – ترجمة مريم سليمان
هل أخطأ الكتاب المقدس في ذِكر موت راحيل أم يوسف؟! علماء الإسلام يُجيبون أحمد سبيع ويكشفون جهله!
عندما يحتكم الباحث إلى الشيطان – الجزء الأول – ترتيب التجربة على الجبل ردًا على أبي عمر الباحث
عندما يحتكم الباحث إلى الشيطان – الجزء الثاني – ترتيب التجربة على الجبل ردًا على أبي عمر الباحث