ليس الانسان مسيرا بدوافعه الخارجية للعلامة أوريجانوس
إن زعم أحد ان ما يباغتنا من خارج فيستثير حركاتنا هو علي نحو كذا، حتي انه يستحيل علينا ان نتصدى لما يحثنا علي الخير او الشر، فليُعر مثل هذا انتباهه بعض الشيء الي نفسه، ولينظر باهتمام الي حركاته الخاصة عندما يأخذ سحر رغبةٍ ما بمجامع قلبه، لكي يري هل هو غير واحدِ انه ما من امر يحدث قبل ان يمده الإدراك برضاه، وقبل ان تواطئ إرادته الإيحاء الفاسد(١٨)، حتي ان الشكوى تبدو وقد تقدم بها هذا او ذاك من الفريقين، مشفوعة بذرائع ممكنة القبول، كأنما قاضٍ يتربع في محكمة قلبنا، لكي يؤتي بالحكم بعد بسط الاسباب في امر الواجب فعله انطلاقاً من حكم العقل (١٩).
فمن حزم أمره، على سبيل المثال، في ان يعيش في الإمساك والعفة، وان يمتنع عن اي اقتران بامرأة إذا ما امتثلت أمامه امرأة تستهويه وتدفعه الي فعل يناقض قصده، ليست هذه المرأة سبب عثرته، ولا هي تجره رغم أنفه، مادام في استطاعته (٢٠) ان يكبح دوافع اللذة، إذ يتذكر قراره، ويقهر المتعة التي تسببها له المفاتن التي تستثيره، من خلال استكانته للتوبيخات القاسية التي تنهال بها الفضيلة عليه، وان يثابر بحزم وثبات في مقصده بعد ان يكون قد هزم احاسيس الشبق كلها.
ومن ثم، إذا برز مثل هذه الاثارات لدي أناس نالوا قسطاً أوفر من العلم، وتقووا في العلوم الالهية (٢١)، فان هم فطنوا لحال أنفسهم، واستذكروا جميع ما تأملوا فيه وتعلموه من ذي قبل، واتخذوا لهم سنداً في العقائد القدسية، يأنفوا عن هذه الإغراءات جميعاً ويستكرهوا اسمها، لأنها تستحثهم، ويحسبوا المشتهيات المعادية متصدين لها بالعقل فيهم.
ولما كانت الدلائل الطبيعية تقيم البرهان، على نحو ما، حقيقة هذا كله، أليس نافلاً أن نلقي تبعة أفعالنا على الاحداث الخارجية، وان نقصي الخطأ عن كاهلنا فيما نحن السبب في ذلك ؟! إننا نزعم حينئذٍ أننا نشبه الخشب والحجارة، التي لا تمتلك حركتها في ذاتها، بل نتلقي بواعثها من الخارج (٢٢). وليس كلامنا، وقتئذٍ، بكلام حق ولا هو بكلام لائق؛ إنما هذا الجواب استنباط ليس إلا، يفيد نفي حرية عن الإرادة، إلا ان نعتقد بأن هذه الأخيرة لا توجد حقاً إلا إذا انتفي كل شيء يأتي من الخارج ليدفع بنا نحو الخير أو الشر. وإن جُعلت أسباب الخطايا في شبق الجسد الطبيعي ناقض هذا، بالطبع، ما تبديه لنا انواع التربية كلها.
فكما نشاهد كثيرين ممن عاشوا قديماً في الخلاعة والشبق سجناء قصوفهم وملذاتهم، يبدون قدراً من التحول، عندما يُدعَون الي التعالي عبر التعليم والتهذيب، حتى انهم يصبحون وهم شبقون مفسدون مقسطين عفيفين، ويمسون وهم متوحشون قساة لطيفي الجانب مسالمين (٢٣)، كذلك نري أيضاً آخرين ودعاء ومستقيمي القلوب قد شاهدوا مزاياهم تتعفر بهذه المعاشرة السيئة (٢٤)، لأنهم ربما انسوا الي أناس مقلقين خداعين، فيمسون مشابهين لأولئك الذين لا تنقص عنهم اي دناءة.
هذا ما يحدث في بعض الاحيان لأناس في مقتبل العمر، عاشوا سحابة صباهم في الإمساك أكثر منهم عند تقدمهم في السن، عندما أتيحت لهم حياة أشد تحرراً. إن منطق العقل يدلنا، إذاً، على أن ما يأتينا من الخارج ليس لنا حول عليه، وإنما استخدامه استخداماً حسناً او سيئاً يتعلق بنا، مادام العقل الذي في داخلنا يميز كيف يجب استخدامه، ويحكم فيه.
نصوص كتابية تشهد على حرية الاختيار
لكي يوطد ميخا النبي بسلطان الكتاب ما يظهره منطق العقل، ألا وهو ان العيش عيشة حسنة او عيشة سيئة إنما هو عملنا(٢٥)، دون ان ترغمنا الاحداث الخارجية عليه، او المصائر التي تضيق علينا كما يعتقد البعض، يشهد بهذه الكلمات: «قد بين لك، أيها الانسان، ما هو صالح وما يطلب منك الرب. إنما هو أن تجري الحكم، وتحب الرحمة، وتسير بتواضع مع إلهك» (ميخا 8:6)، كذلك موسي: «جعلت أمامك طريق الحياة وطريق الموت، فاختر الخير وسر في دربه» (تثنية 19:30)، أو اشعياء ايضاً: «إن شئتم واستمعتم اليَ فإنكم تأكلون من طيبات الارض.
وإن ابيتم وتمردتم فالسيف يأكلكم، لان فم الرب قد تكلم» (اشعياء 19:1)، وقد كتب في سفر المزامير: «لو سمع لي شعبي، وسلك اسرائيل في طرقي لأذللت اعداءهم بقليل(٢٩)». ان هذا يدل على ان الاستماع والسير في طرق الله كانا في مقدور الشعب. والمخلص إذ قال: «اما انا فأقول لكم: لا تقاوموا الشرير» (متي 39:5)، وايضاً: «من سخط على اخيه يناله عقاب يوم الدينونة» (متي 22:5)، وايضاً: «من نظر الي امرأة ليشتهيها، فقد زني بها في قلبه(٣٢)»
(متي 28:5)، ماذا تراه يقول عبر هذه الوصايا كلها، واخري غيرها، سوي إنه في مقدورنا مراعاة ما أمر به، وأننا بصوابٍ نخضع للدينونة نتيجة لهذا، إذا ما اخلنا بما نستطيع مراعاة حق الاستطاعة؟ لذلك يقول: «من يسمع أقوالي هذه ويعمل بها يشبه انساناً حكيماً بني بيته على الصخر إلخ.
ومن يسمع أقوالي هذه ولا يعمل بها يشبه إنساناً أحمق بني بيته على الرمل إلخ» (متي 24:7)، وعندما يقول للذين عن يمينه: «تعالوا اليَ يا مباركي ابي، الخ. لأني جعت فأطعمتموني، عطشت فسقيتموني» (متي 34:25)، يقيم الدليل جلياً على أنهم كان في مقدورهم ان يستحقوا هذه الإطراءات، عاملين بالأوامر وحاصلين على المواعيد، فيما وُجد الذين كانوا اهلاً لسماع عكس هذا وإدراكه مذنبين، الذين قيل لهم: «اذهبوا عني، يا ملاعين، الي النار الأبدية» (متي 41:25).
لنر أيضاً بأي كلام يخاطبنا بولس الرسول، نحن الذين نحوز علي سلطان حرية الاختيار، ونمتلك فينا أسباب خلاصنا وهلاكنا، إذ يقول: «أتحتقر غني لطفه وصبره وطول اناته، غير عالم ان لطف الله يدعوك الي التوبة؟ بيد أنك بتصلبك وقساوة قلبك الغير التائب، تدخر لنفسك غضباً ليوم الغضب واعتلان دينونة الله العادلة، الذي سيجازي كل واحد بحسب اعماله: بالحياة الابدية للذين بالصبر على العمل الصالح يطلبون المجد والكرامة والخلود؛ وبالغضب والسخط على الذين هم من اهل المخاصمة، الذين لا ينقادون للحق بل ينقادون للشر.
الشدة والضيق على كل نفس انسان يفعل السوء، اليهودي اولاً ثم اليوناني» (رومية 4:2). أنك ستجد في الأسفار المقدسة تأكيدات كثيرة لا عد لها، تثبت أجلي إثبات حيازتنا الطاقة على حرية الاختيار. اما سوي ذلك فضرب من الخيال ان نُعطي اوامر لنخلص بعملنا بها، او لنهلك بميلنا عنها، إذا لم تكن لدينا القدرة، في ذواتنا، على مراعاتها(٣٧)؟
___________________________________
(١٥) الجملة «لكن هذا لا يتأتى … في اقل تقدير» اضافة عمد إليها روفينس استزادة في الإيضاح. ولكنها إضافة أمينة الي فكر أوريجانس، على حد ما يمكن القارئ أن يتثبت منه لدي مطالعته حوار أوريجانوس مع سلسيوس في شأن الاختلاف بين الانسان والحيوان: فإن هذا الاخير خالٍ من طاقة العقل التي ازدان بها الانسان لما خلقه الله على صورته تعالي. كذلك، فإن الجملة التالية «ولكن، اذ هكذا حال الحيوان … وتستحثنا عليها» توسع في مقولة أوريجانوس الذي يوجز القول في الموضوع عينه.
(١٦) لدي أوريجانوس عبارتان لا يكف عن استخدامها كلما أراد التعبير عن فكرة الحرية: الاولي το εφʼ ημιν مأخوذة عن الواقية، وتشير الي ما هو راسخ في الذات ونابض باحث علي الأفعال؛ والثانية Το αυτεξουσιον تدل علي الطاقة الذاتية علي العمل بدون مؤثر ضاغط.
(١٧) القيا بما يرضي العقل عنه ركن رئيس في الصرح الادبي الذي تنادي الرواقية به.
(١٨) يري أوريجانوس عثرة الانسان قائمة علي أساس من التواطؤ بين الإرادة وقد كبت تحت إيحاء العقل والعقل وقد ضل عن قويم السبيل. فالعقل يشتمل، بالتالي، على نوع تحبيذ يؤثر به كذا وكذا، او على شبه نفور ينصرف به عن كيت وكيت. كذلك، فله “رضاه”، وله “استحسانه”، وله ايضاً “ميله”؛ وهذه كلها مترادفات.
اللفظ الثاني مأثور عند الرواقيين، الذين يرمون به الي شيء من الوفاق بين العقل وموضوع ما يمتثل له.
(١٩) أضاف روفينس الجملة الاتية «… حتى ان المرافعة تبدو … حكم العقل»، تحت تأثير ما سبقها فيما يختص بهيمنة العقل علي تحركات المرء وسطوته عليها.
(٢٠) يميل روفينس الي الاسهاب عموماً؛ لا هذا فقط، بل الي الافصاح عن الفكرة عينها بقول خلافها، كما الحال هنا. فإن أوريجانس يتناول مثل الانسان الذي يكبو عن ضعف امام غواية المرأة؛ اما روفينس فيرسم حالة المرء الذي يتشدد إباء وأنفه.
(٢٢) انظر ٣-١ فان نزع حرية الاختيار من الانسان يلوي به الي ان يمسي شيئاً له نسمة حياة، ولكنه اعزل النفس.
(٢٣) يبدو روفينس فيما تقدم انه يوجز، على غير عادته. فهو يدع جانباً فكرة المهتدين الذين يظهرون غير المهتدين باهتدائهم انهم مفرطون وغير قانتين.
(٢٤) هذا استذكار للآية 1 كو 33:15، في نص روفينس، لا في نص أوريجانوس.
(٢٥) ثمة تعديل أجراه روفينس في نص ترجمته إزاء نص أوريجانوس، الذي يورد تأكيده كالآتي: ” إن العيش عيشة حسنة شأن عملنا، يطلبه الله منا، لا شأن عمله تعالي، ولا عمل أي انسان آخر، او عمل القدر كما يعتقد البعض …” . وقد اجراه روفينس بسبب بدعة بلاجيوس الظاهرة في تعابير أوريجانوس، مع كونها انتشرت متأخرة عن الزمن الذي وضع فيه كتاب المبادئ. لذلك، أقحم روفينس على النص فكرة العيش عيشة سيئة ايضاً، الي جانب العيشة الحسنة، وجعل كلا المسلكين مرتبطين بعمل الانسان. اما أوريجانوس فلا شأن له بادعاءات بيلاجيوس، اذ يؤكد في ٣-١-١٩ على ضرورة النعمة لكي يصيب الانسان خلاصاً.
(٢٩) ” ورددت يدي على مضايقيهم “: تتمة
(مزمور 14:80-15) هذه لم ترد
في ترجمة روفينس . فهي اما اضيفت لاحقاً على نصوص مجموعة الأحاديث المدونة باليونانية، واما أهمل روفينس سهواً ترجمتها من نص أوريجانوس.
(٣٢) متي 28:5. لا يبدو العقاب الذي يتهدد الخطاة على وفاق مع بر الله الا حينما يحمل الانسان وزره. لذلك، فان حرية الاختيار امر ترسيه الاخلاق، وتدعو اليه المجازاة في نهاية الزمان.
(٣٧) ” اما سوي ذلك … على مراعاتها ” اضافة في نص روفينس، لا فائدة ترجي منها.