Site icon فريق اللاهوت الدفاعي

شرح بعض المباديء حول الثالوث القدوس من كتاب المباديء لأوريجانوس

شرح بعض المباديء حول الثالوث القدوس من كتاب المباديء لأوريجانوس

شرح بعض المباديء حول الثالوث القدوس، من كتاب “المباديء” لأوريجانوس

الابن مولود من الاب ولادة روحية منذ قبل الكون

دنا الوقت الذي نجمل فيه على سبيل التذكر كل نقطة مما خضنا فيه على حدة، بعد ان جلنا على قدرة طاقتنا فيما جرى قوله أعلاه، فنرجع اول ما نرجع اليه الى الاب والابن والروح القدس. فالله الاب إِذ لا يرى وغير منفصل عن ابنه، لم يلد الابن ولادة النفاس[2] كمل يتهيأ لبعضهم. فلو كان الابن، بالحقيقة، نفاساً من الاب يتحتم على الوالد والمولد كليهما أن يلبثا في جسد، ما ادام لفظ نفاس يعبر عن اقامة نسل شبيه بطريقة الحيوانات، أو الانام، المعتاد لاجل الانجاب. أننا لا نقول قول بعض المنشقين، إذاً، بأن جزء من جوهر الله أنقلب أبناً[3]، أو بأن الابن قد جاء به الابُ العالم من العدم[4]، اي من خارج جوهره[5]، بحيث أنه وُجدت برهة لم يكن فيها موجوداً. ولكننا نقول آنفين من كل مدلول جسدي بأن الكلمة والحكمة ولد من الاب الذي لا يرى ولا جسم له، بدون اي شهوة جسدّية، كما تنبثق الارادة من الادراك[6]، معرضين هكذا عن كل معنى جسديّ، أنه لم يبدو عبثاً إعتقادنا بأن الابن إذ يدعى أبن المحّبة وهو أبن الإرادة كذلك، ولكن يوحنا يشير الى ان الله هو ايضاً نور[7]، يبين بولس ان الابن هو ضياء النور الازلي[8].فكما لم يسع النور قطّ ان يوجد بدون ضيائه، كذلك الابن لا يسع احداً ان يدركهُ بدون الاب، هو الذي يدعي ختم جوهره وتعبيره الناطق وكلمته وحكمته. كيف يمكن القول، بالتالي، ببرهة لم يكن الابن فيها؟[9] فهذا يعود بك الى قول انه وجدت برهة لم تكن فيها الحقيقة، ولا الحكمة، ولا الحياة، فيما جوهر الاب قائم في هذه الوجوه جميعاً أتم قيام. أنها في غير وسعها أن تعزف عنه، بل لا يمكنها أن تفارق جوهره. ورغم القول بانها متعددة في نظر العقل، وكلنها واحدة بجوهرها[10]، وفيها يكمن ملء الألوهة[11].

لا كلام زمانيّ ومكاني يلائم الكلام على الله

حريّ ان يؤخذ برويَّةٍ[12] بتأكيدنا أنه ما من برهة قط لم يوجد الابن فيها. ذلك أن هذه الالفاظ عينها تحمل في طيتها معنى المفردة الزمنية: قط، لبرهة. إلاّ أنه ينبغي الاصاخة الى ما يقال عن الاب والابن والروح القدس منزهاً عن كل زمن، وكل دهر، وكل أزلية[13]، لأنه الثالوث وحده يفوق كل معنى يمكن فهمه، لا زمني وحسب بل أزلي. فأن سائر الكائنات، ما خلا الثالوث، تقاس بالدهور والازمان[14]. وعليه لا أحد يعتقد أن أبن الله هذا محصور في موضع ما من حيث كونه الاله الكلمة الذي كان منذ البدء لدى الله[15]: لا من حيث انه الحكمة، ولا من حيث إنه الحق ولا من حيث انه الحياة، والبر والتقديس والفداء. ذلك بأن اسماء الابن هذه كلها الى تحتاج الى موضع لكي تقوم بعمل ما، أو لتأتي فعلاً، وإنما يجب فهم كل منها كأنه يمت بصلة إلى قدرته وفعله.

—————————————

[1] قد يخيل للقارئ أن أوريجانس تطلع في ختام مؤلفة هذا الى أنشاء فصل يوجز فيه القول في موضوع ما تعرض له من معضلات، هي في نظرة مبادئ علم الكلام وخطاب الحكمة على المستوى البشري. وفي واقع الامر ان أوريجانس اضفى على الفصل الاخير مسحة من هذا القبيل، اذ جعل له عنوان “أجمال” ولكنه لا يوجز في القول، بل يرجع بلمحة خاطفة الى المبادئ الاساسية التي بسط مضامينها على امتداد الابحاث التي اجراها. ويعمل فيها ثانية مبضع الفاحص عله يدقق في تعابيرها، ويشدد على رؤوس البراهين التي تنطوي عليها، حتى انه يناسب عمله هذا توصيفاً تعبير “عَوْدٌ على بَدْء”. وبالفعل، ينكب أوريجانس في هذه الصفحات الاخيرة على المسائل التي طرحها، ثم خاض غمارها مرتين، سواء في القسم الممتد بين 1-1 و2-3، أو في القسم الاخر الممتد بين 2-4 و3-6. ان مواضيع الثالوث الالهي، والكائنات العاقلة، والعالم المبروء هي المبادئ التي يدور نقاشها حولها. وكلنه يبدل في ترتيبها عندما يعالجها في هذا الفصل الاخير، أذ يتناول مسألة العالم بعد الكلام على الثالوث المقدس.

في القسم الاول، أذ يخوض أوريجانس في قضية الثالوث الشائكة، فينفي إبتداء ولادة الابن من الاب على الطريقة البشرية، أذ لا شيء من هذا في العقيدة القويمة، كما ان هذه الولادة الفائقة للعقل والطبيعة ينتفي عنها قسمة في الجوهر بين الوالد والمولود منه. انها ولادة منذ الازل؛ لذا لا يطابق الحديث عنها بتعابير زمنية محاول تفسيرها (4-4-1) كذلك، ألوهية الابن، بما انها تامة وكاملة في مكان يحصرها، بحيث ان كلمة أهل لان يوجد في كل انسان يصيب قدراً من القداسة سامياً (4-4-2). من ناحية اخرى، للكلمة والروح القدس شركة مع الاب في الخلق، ولم يكن التجسد يوماً ليعني انقطاع الكلمة عن الوجود في غير يسوع، اذ لا تحصر الطبيعة الالهية، ولا تتجزأ (4-4-3). ولم يكن الكلمة ايضاً ليتحد في جسد يسوع وحسب، بل في نفسه ايضاً، حتى انها قد تنقت من كل إِثم وَوُجِدَت بلا عيب عندما حلَ يسوع في الجسد. وهي، من هذا الوجه، مثال به يجد المؤمنون قدوة لحياتهم فيصبحون جميعاً واحداً به (4-4-4). إِن الاشتراك في أبن الله، اي في حياته، على مثاله، يجعل منا أبناء، ويغدق علينا القاب الابن؛ ذلك بان الشركة مع أحد الأقانيم المقدسة شركة أيضاً مع سائر الاقانيم. وما يصح قوله في شان البشر هنا يستوي ايضا لدى الكلام على الملائكة.

في القسم الثاني: يتطرق أوريجانس مسائل العالم المرئي، ويولي المادة انتباهاً مميزاً (4-4-5). فاللفطة لا يظهر في اسفار الكتاب، إلا انه يمكن بناء بعض التعاليم على هذا المضمار، ويبسط أوريجانس نظراته الى المادة مقتبساً عن الرواقيين تحديدهم لها: انها مكون لا شكل له، قادر ان يحمل سمات متنوعة، فيظهر بالتالي وفق أشكال مختلفة (4-4-6). ولكن واقع الحال أن المادة لا تنفصل عن سماتها، إن قدرة الادراك على التجريد تفرّق بينها. ولهذا سبب عينه، ادعى ان بعضهم ان المادة واحدة وسماتها؛ بل انها لا وجود لها إلا في سماتها، فإجتازوا بادعائهم في هذا الراي السائد في ايامهم والقائل بخلق المادة. ولكن المادة غير سماتها، كما ان الانسان غير أفعاله المتغيرة حسب ظروفه (4-4-7) ويلجا أوريجانس الى الكتاب بحثاً عن دعم لموقفه، فالله قد برأ الخلائق بأعداد معدودة كي تستطيع ان تتلقى إيحاءاته لها وإحساناته، وكي تتمكن من معرفته كما ينبغي. ثم لا يلبث أن يتطرق الى مسألة طالما خاض فيها عبر الكتاب: القيام في أجسام، هل هو عنصر أساسي من العناصر التي تتكون منها الخلقية، وعلامة على حالها العرضية والمتغيرة؟ أم هو مرتبط بحال الخطيئة التي تقع فيها الخلائق العاقلة، ولكنة سيتلاشى متى تلاشت الخطيئة، مع انه قد تظهر الحاجة اليه ثانية إذا حدثت سقطة اخرى؟ (4-4-8)

في الختام، يدنو أوريجانس من مسالة حديثة لم يسبق له انه خاض غمار مناقشتها؛ أنها مسألة خلود الخليقة العاقلة. فيبرهن على صحتها عبر حجتين تستندان كلتاهما الى فكرة الشركة. فيقول أوريجانس ان للنفس البشرية شركة مع الوقائع المدركة والالهية نفسها التي تتمتع بها القوات الملائكية، فهي لا تموت كما تلك. كذلك، إذ للنفوس ما للملائكة من صلة بطبيعة الثالوث الالهية، وتشترك معها بجزء بسيط من مسعاها، فهي جميعاً إذا ذات علاقة بموضوع عدم فساد وعدم الموت. وهذا الامر لا ينفي قطعاً ان في هذا الخلود درجات متفاوتة. ولكن الخطيئة لا تستطيع قط ان تلغي إلغاء شركة النفس البشرية في حياة الله (4-4-9). اما الزعم بأن الفساد سينزل بنفس الانسان فإنما تجديف على أبن الله، الذي هو صورة الله، وقد خلق البشر كلهم على صورته تلك. ليس بالجسد حاملاً هذه الصورة، بل الفضائل التي تزداد بها النفس. هذه الفضائل ثابتة في الله، لا تتبدل، ومتغيرة في النفس البشرية اذ قد تتقدم بها الى الامام، او ترجع بها على اعقابها. انها اساس قربى الانسان مع خالقه، بل هي طاقة التي يحوز عليها لكي يخطوا بها من الوقائع المحسوسة الى تلك الغير محسوسة، المدعوة روحية، فيكتسب معرفة صافية هي في الله معرفة كلية. إن ذلك الانسان يغدو ذا حسّ روحيّ مرهب شُبه بالأحاسيس التي تمتلكها الاجساد (4-4-10).

[2] ورد اللفظ 1-2-6 ان المعنى الذي يتوسله أوريجانس عبر هذه الكلمة الولادة على الطريقة    البشرية، حيث يلازم فعل الولادة إنقسام بين الوالد والمولد منه، فانفصالٌ على التوالي. وإذا حصل الامر في الله دل على مكوثه في الجسم، وعلى انفصال الابن عن الاب، لا على بقائه فيه بعد الولادة، أما الرغبة في استبدال لفظ “النفاس” بلفظ “صدور” فلا تفيد كثيراً، لما هذا اللفظ من دلال فلسفية ولاهوتية غير مواتية. فأن يشير الى ولادة لم تتم بفعل حر من قبل الوالد، وكأني بها حصيلة مسيرة مستقلة لا قبل لإرادته بأن تسود عليها. علاوة على هذا، ليس معنى الصدور ما يتصدى أوريجانس له في مقالته هذه، بل معنى الاقامة في جسم بالنسبة الى الله الاب، وأبنه يسوع المسيح.

من ناحية أخرى، يشتمل لفظ “النفاس” على إنقسام أولاً بين الاب الوالد، والابن المولود منه، على إنفصال ثانياً بينهما. هذان الانقسام والانفصال سمتان حتميتان في كل ولادة. لذا، حقيق أوريجانس ان يبادر الى نفيهما، عن الاب ما ان ينشئ يتكلم على المسألة في خطابه. أنه يقوم بهذا، بالفعل، فيصف الاب بأنه “لا يُرى، وغير منفصل عن ابنه” ولا يذكر أوريجانس أن الاب “غير منقسم” بل “لا يرى” فلمَ هذا؟ في الحقيقة، هناك، هفوة أرتكبها روفينس سهواً وهو ينقل عن اليونانية كلام أوريجانس، ثم عدها نصاً أصيلاً عندما كرر إستعمالها. ففي نص حفظه لنا مرسيلس أسقف أنقيرة يرد هذا المقطع عينه باليونانية، وفيه أن ألاب αδιαιρετοσ، غير منقسم. يقابل هذه اللفظة باللاتينية المفردة indivisibilis، وتعني المفهوم السابق نفسه. بيد ان روفينس كتب invisibilis، اي “لا يرى” تحت أثر يو 8:14؛ 1:18. الا أننا نعتقد أنهذه الهفوة لم تكن لتقع على يد روفينس وهو ينقل الى اللاتينية نص أوريجانس اليوناني، لان الخطأ الذي حصل قد تم ضمن اللغة الواحدة، أي اللاتينية، لا في الانتقال من اليونانية الى اللاتينية. ولهذا، فأما وقع خطأ على روفينس وهو يحرر نصه ثانية عن نص أولي، وأما قد وقع على يد ناسخ.

[3] هذا ما تنادي به بدعة المدعو فالنتينس.

[4] إن خلق الابن من العدم عقيدة المدعو باسيليوس، أحد أعلام الغنوصية. ولكن العبارة مكسوة بنفحة مضادة لبدعة أريوس الذي لم يخرج على الملأ بتعاليمه في ايام أوريجانس. لذا يغلب الاعتقاد بأن روفينس أعمل يده في صياغة الجملة، لكي يصد الأريوسيين عن مزاعمهم، مفيداً من سعي أوريجانس لكي يصد الغنوصية عن تبجُحاتها.

[5] لو كانت العبارة إنشاء روفينس أتضح لنا معناها العادي الأروسية: فإلابن مولود من جوهر الآب، وله جوهر الآب نفسه، أما أذا كانت أنشاء أوريجانس فأن المعنى يشوبه الالتباس، بسبب تشدد أوريجانس المتواتر على أن ألابن حاضر في الآب، والاب كذلك في الابن، ولكنهما متميزان “بجوهرهما” فأن لفظ “الجوهر” عند أوريجانس لم يكن بعد قد نال توصيفه؛ إنه والاقنوم لهما المدلول نفسه، ويستعان بهما على السواء لأجل الكلام على الشخص، لذلك، نعجب على قول أوريجانس هذا، لو قاله حقاً هنا!

[6] أنظر هذه الصورة المحبذة عند أوريجانس لابتعادها عن كل تصوير جسدي في 1-2-6؛ 1-2-9.

[7] 1يو5:1.

[8] عب 3:1.

[9] عبارة صيغت لأجل استخدامها في الجدال الأريوسي، ورد الاحتجاج القائل بأن الإبن غير مساوٍ للاب في الجوهر. لقد سبق إستعمالها 1-2-9.

[10] حول وحدة جوهر المسيح وتعدد صفاته، أو ألقابه، أنظر 1-2-1.

[11] كول 9:2.

[12] لا مرية في ان الحيطة واجبه عند الكلام على اللاهوت، لأنه التحديد الزمني لا يوافق وصف الطبيعة الالهية، التي لا يجوز مقاربتها إلا بمفهوم الازلية.

[13] إذا كانت المفردتان “زمن” و “دهر” تحملان بعض الاشارة الوقتيه المحددة، فلا تليقان بالثالوث، هل يرى أوريجانس في المفردة الاخرى “أزلية” شيئاً من هذا القبيل؟ أما تراه يعمد هنا الى اسلوب المبالغة لكي ينزع عن الالوهة اي شبه الكلام يحده في الوصف، او يحيط به في إسار المدارك البشرية؟ هذا ما يتضح، على كل حال، فيما يلي الجملة.

[14] يبدأ الزمن بفعل الخلق ويحل في القياس عند الصيرورة. إن الكلام أوريجانس هذا يشير الى ان التمييز في الابن بين زمن كان في الاب بدون فرادة شخصيُة، وزمن تالٍ ولد فيه فعُرف كشخص، لا يستوي للوصف اللاهوتيّ المستقيم الرأي. وكان بعض الاباء المدافعين عن العقيدة قد قالوا بهذا.

[15] يو: 1:1 ي.

شرح بعض المباديء حول الثالوث القدوس، من كتاب “المباديء” لأوريجانوس

Exit mobile version