هل إله العهد القديم هو اله سريع الندم؟
إله العهد القديم، هل هو اله سريع الندم؟
هذه العبارة الصغيرة “نَدِمَ الله” سببت هجوماً شديداَ وشرساً على الكتاب المقدس فمثلاً:
يقول د.منقذ بن محمود السقار: “تنسب التوراة الى الله النَّدم على أمور صنَعها.والندم فرع من الجهل. ومن ذلك ” نَدِمْتُ عَلى أَنّي قَدْ جَعَلتُ شَاولَ مَلِكاً.لانَّهُ رَجَعَ مِنْ وَرائي وَلَمْ يُقِمْ كَلامِي” (1صم11:15).
وتذكر التوراة أنه لما عَبَد بنو اسرائيل العجل غضب الرب عليهم وقالَ لموسى :
. «..فَالأَن اتْرُكني لِيَحمَى غَضَبِي عَلَيْهِم و أَّفنيهُم. فأُصَيِّرَكَ شَعبًا عظيمًا».
فتضَرَّعَ موسَى أمامَ الرَّبِّ إلهِهِ، وقالَ: اِرجِعْ عن حُموِّ غَضَبِكَ، واندَمْ علَى الشَّرِّ بشَعبِكَ.
اُذكُرْ إبراهيمَ وإسحاقَ وإسرائيلَ عَبيدَكَ الّذينَ حَلَفتَ لهُمْ بنَفسِكَ وقُلتَ لهُمْ: أُكَثِّرُ نَسلكُمْ كنُجومِ السماءِ، وأُعطي نَسلكُمْ كُلَّ هذِهِ الأرضِ الّتي تكلَّمتُ عنها فيَملِكونَها إلَى الأبدِ».
فنَدِمَ الرَّبُّ علَى الشَّرِّ الّذي قالَ إنَّهُ يَفعَلُهُ بشَعبِهِ». (خر9:32-14)
وفي مرة اخرى «كانَ الرَّب مَعَ القَاضي,وَخلَّصَهُم مِن يَد أَعدائِهِم كُلَّ أَيام القَاضي . لأَنَّ الرب نَدِمَ مِن أَجلِ أَنينهِم ». (قض18:2)
ومثله ندم الرب بعد ان قتل مقتلة كبيرة في بني اسرائيل , فقد«فجَعَلَ الرَّبُّ وبأً في إسرائيلَ مِنَ الصّباحِ إلَى الميعادِ، فماتَ مِنَ الشَّعبِ مِنْ دانٍ إلَى بئرِ سبعٍ سبعونَ ألفَ رَجُلٍ.
16 وبَسَطَ المَلاكُ يَدَهُ علَى أورُشَليمَ ليُهلِكَها، فنَدِمَ الرَّبُّ عن الشَّرِّ، وقالَ للمَلاكِ المُهلِكِ الشَّعبَ: «كفَى! الآنَ رُدَّ يَدَكَ». (2صموئيل 15:24-16) .
ومثل هذا الندم في الأَسفار كثيرٌ , أُنظر (تك20:18 , إر11:42,19:26 ,عا6:7) (1)
وَيقول الدكتور مصطفى محمود : «نرى الله يفعل الفعل ثمَّ يندم عليهِ . ويختار رسوله ثم يكتشف أَنَّهُ أخطأ الإختيار. وكأنه لا يدري من أَمر نفسَه شيئاً. ولا يعرف ماذا يخبئه الغيب»(2).
ويضيف أَيضاً: «ربٌ عجيب … ما يلبث أن يندم على ما يَفعَل.. والرب في حالة خطأ وندم بطول التوراة وعرضها … كيف يخطئ الرب ويندم. هوذا خلط ودشت من الكلام تكتبه أقلام وليس وحياً ولا تَنزيلاً.. والأعتراض بأن كلمة «الله يندم »هي كلمة مجازية مثل كلمة «الله يغضب» وهو اعتراض غير سَليم .. لأن النَّدم معناه الرجوع عن الخطأ. ولا يصلح مجازاً ولا فعلاً أن نقول ان الله يُخطئ كما لا يصلح مجازاً أن نقول أنَّ الله يكذب أو يظلم أو يجهل .. هذه كلمات لا يصح اطلاقها عَلى الله ولو مجازاً» (3) .
وأيضاً يقول د.مصطفى محمود : «الصورة الَّتي صورَتها التوراة لله هي صورة مَليئة بالتشويش والتناقض وسوء الفهم .. فهو في معظم صفحات الكتاب اله ندمان يفعل الفعل ثم ما يلبث أن يُدرك انّه اخطأ ويندم عليه ويرجع عنه .. ولا ينفع الاعتذار بأن كلمة يندم واردة بمعنى يغفر .. وهو اعتذار افحش من التُّهمة .. فمعناه أنَّ النبي لا يعرف أبجدية اللغة التي يخاطب بها أَتباعَهُ .. ومعناه في الحالين ان كتاب التَّوراة ليسَ كتاباً محفوظاً من الله .. وانما هو مجموعة عبارات أُلقِيَت على عواهنها وقيلت كيفما اتفق بما فيها من ضلال المخاطر وسقطات اللسان وعجز التعبير ..» (4).
وللرَد على هذه الاتهامات أقول :
أولاً – لماذا يَندم الانسان ؟
يندَم الانسان لانه يتخذ قَرارات ثم يكتشف بعد فترة من الزمن أنَّه أخطأ فيها. أو يقول كلاماً ثمَّ يكتشف أنَّهُ في غيرِ مكانِهِ. او يتصرف تصرفاً ثم يُدرك أنه غير صحيح . وكل هذا بسبب ضعفِهِ البشري . أو لعدم رؤيته الكاملة لنتائج اقواله او أفعالهُ. أو لعدم قدرتهِ على رؤية المستقبل لنقص المعلومات لَديهِ . أَو لظهور متغيرات جديدة لم تكُن في حساباتِهِ . أو كما يقول نيافة الأنبا غريغوريوس : «انَّ الندمَ في الانسان يرجع الى جهل الانسان وقصور علمه.فيندم لأن لم تأت النتائج كما كان يتوقعها.أو كما كانت في حسبانِهِ»(5).
ثانياً – الله لا يندم بالمفهوم البَشري :
يُعلن لنا الكتاب المقدس أكثر من مرة ان الله لا يندم كما يَندم الانسان دليل جهلِهِ وعدم عملِهِ . ودليل ضعفهِ . أما الله فهو يجل عن الجهل ويجل عن الضعف . مكتوب عنهُ : «لَيسَ الله انساناً فَيَكْذِب ولا ابن انسانٍ فَيَندَمْ , هل يَقول وَلا يفعَلُ؟ أَوَ يَتَكَلم ولا يَفيْ؟ » (عد 19:23).
وهي ترد في ترجمة (NIV):
God is not a man . that he should lie. Not a son of man .that he should change his mind. Does he speak and then not act? Does he promise and not fulfill?
ومكتوب أيضاً : «نَصيحُ اسرائيلَ لا يَكذِبْ وَلا يَندَمْ لانَّهُ لَيسَ انساناً لِيَندَمْ » (2صم29:15)
بكل تَأكيد الله لا يندَم لأن النَّدَم رَد فعل لحدَث سابق لَهُ.فالحدث قبل النَّدم . والندم بعد الحدث .
و «قبل وبعد» مرتَبطان بالزَّمن . والله فوقَ الزمَن ليسَ عنده ماضٍ وَحاضر وَمستقبلْ , فكل التاريخ حاضر أمامه . صفحة واحدة .
والله لا يندم لأن النَّدم ينتج عَن معلومات جَديدة ولَيس عند الله معلومات جَديدة.فهو يعرف كل شيء أزلاً «مَعْلومَةٌ عِنْدَ الرَّب مُنذُ الأَزَلِ جَميعُ أَعمالِهِ» (أع18:15) . فهو لا يفاجأ بحدث أو مَوقف . ولا تظهر متغَيرات جديدة لَم تَكُن في حساباته. فليس عنده ما نطلق عليهِ أنه غير متوقع . فكل شيء عريان ومكشوف أمامه.
والله لا يندم لان الندم تغيير في المشاعر تجاه موقف أو امر ما. والتغيير اما أن يكون للأفضَل أو للأسوأ. والله لا يتغير . «لَيسَ عندَهُ تَغيير وَلا ظِلُّ دَورانٍ»(يع 17:1 ) . وقد قال الله عن نفسه: «لأنّي أَنا الرَب لا أَتَغَيَّرْ» (ملا 6:3). وهو القوي القادر على كل شيء . وضابط كل شيء , فَعلامَ يَندَم ؟!!
تخيل أنك ترى الان نملة تسير أمامك على الارض. بالنسبة للنملة المسافة التي قطعتها في المشي ماضٍ. وقد استغرقت في المشي زمناً طويلاً بالنسبة لها. والطريق الذي أمامها مستقبل
طويل. أما بالنسبة لك فأنت ترى ماضيها وحاضرها ومستقبلها . وتعرف ان كان سيُواجهها بقعة ماء . أو طريق مسدود. أو بلّاعة …الخ. هي تفاجئ أما أنت فلا تفاجئ بشيء. فكم بالحري بالنسبه لله . ان التاريخ كله من لحظة البداية وحتى النهاية مكشوف أمامه. كل ما حدث وما سيحدث . ولا يفاجئ بحدث ولا بمعلومة جديدة. لذلك يقول: «لأنّي أنا اللهُ وليس آخَرُ. الإلهُ وليس مِثلي. مُخبِرٌ منذُ البَدءِ بالأخيرِ، ومنذُ القَديمِ بما لَمْ يُفعَلْ، قائلًا: رأيي يَقومُ وأفعَلُ كُلَّ مَسَرَّتي.» (إش 46: 9-10) .
أو تخيل أن هناك شخصاً يرصد بالرادار كل شوارع القاهرة. فيرى كل الأماكن المزدحمة وكل الأماكن الهادئة . بينما أنت تسير بسيارتك في الطريق الى عملك وأخذت قَراراً بأن تَسيرْ في شارع معين فتجده في منتهى الزَّحمة . فتندم وقد تتخذ طريقاً اخر. ولكن من يراك بالرادار هل يفاجئ بذلك ؟ كلا .
أما بالنسبة لله فهو لا يرى الشوارع فقط , انه يعرف القلوب والأفكار والنيات والضمائر, فهو يرى في الظلام كما يرى في النور. وهو فاحص القلوب ومختبر الكلى . لذلك هو لا يفاجئ بتصرف بشري. ولا يتخذ قراراً ثم يكتشف انه كان غير صحيح لان البيانات لم تكن كاملة لديه .
ثالثاً – استخدام التعابير البشرية عن الله :
الكتاب المقدس هو رسالة الله للبشرية. ولذلك هو لا يخاطبنا بلغته. ولا بلغة الملائكة بل بلغتنا واصطلاحاتنا لندرك حقائق الامور . لذلك نجد الروح القدس يستخدم اللغة البشرية للتعبير عن المعاني الروحية والأحداث الالهية حتى يفهمها الانسان. والَّا كان الله يكلم الانسان بلغة لا يفهمها . فكيف يتعامل الله مع الانسان بغير لغة الانسان؟ واستخدام الصفات البشرية في وصف الله تُعرف في علم اللاهوت بمنهج «أنثروبومورفيزم» (Anthropomorphism) اي (تشبيه الله بالانسان) أو تشبيه الله بصفات بشرية بهدف وصول المعاني الالهية للانسان بلغة قريبة الى فهم الانسان .
ولهذا السبب نجد نصوصاً كثيرة في الكتاب المقدس , ينسب الله فيها الى ذاته تشبيهات مألوفة لدى الانسان مثل : «كرسي الله», «يد الله», «عينا الله», «أقسم الرب»,«ذراع الرب», «فم الرب»,«حزن الله»,«نَدِم الله».. الخ , كما لو كان الله انساناً .
انه من فضل نعمته يتكلم معنا مثلما يتكلم الأب مع ابنه الصغير , أو الأم مع طفلها الرضيع .
فعندما تسأله ان كان يريد ماء ليشرب, تقول له «امبو». واذا ارادت ان تعرف ان كان جائعاً ويريد أن يأكل تقول له «مم». لكي تتواصل معه .
وعندما نفند التعبيرات التي اطلقها الوحي على شخص الله سنجد انها مجرد تعبيرات بشرية لتبسيط الحق الالهي لنا . فمثلاً عندما نفكر في تعبير«كرسي الله», بالطبع الله لا يجلس على كرسي, ولا يوجد كرسى يسع الله. فهل الله محدود لدرجة انه يجلس على كرسي؟! وأين هذا الكرسي؟ّ! ألم يقل عن نفسه : «أما أَملأْ أَنا السَّموات والأّرض.يَقولُ الربُّ؟»(ار24:23)
وقال عنه سليمان: «لأنَّهُ هل يَسكُنُ اللهُ حَقًّا علَى الأرضِ؟ هوذا السماواتُ وسَماءُ السماواتِ لا تسَعُكَ» (ا مل27:8)
وقال استفانوس: كَمَا يَقولُ النَّبي:«السَّماء كُرسِيٌّ لِي, وَالأّرضُ مَوطِئٌ لِقَدَمَيَّ»(أع48:7-49)
ولكن الوحي عندما أراد ان يعبر عن سيادة وسلطان الله استخدم هذا التعبير.
وتشبيه الله بصفات بشرية بهدف وصول المعان الالهية للانسان ليس قاصر على الكتاب المقدس فقط. بل نجده في القران أَيضاً. فينسب الى الله قوله : (يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) ﴿سورة يس 30﴾
يقول الشيخ الطنطاوي في تفسيره :
«والحسرة : الغم والحزن على ما فات. والندم عليه ندماً لا نفع من ورائه. كأن المتحسر قد انحسرت عنه قواه وذهبت, وصارَ في غير استطاعته ارجاعها. و «يا» حرف نداء و«حسرة» منادى ونداؤها على المجاز بتنزيلها منزلة العقلاء
والمراد بالعباد : اولئك الذين كذَّبوا الرسل, واثروا العمى على الهدى , ويدخل فيهم دخولاً اولياً أصحاب تلك القرية المهلكة …» (6) .
وأيضاً جاءَ في تفسير الصابوني :
«أي يا أسَفاً على هؤلاء المكذبين لرسل الله المنكرين لاياته ويا حسرةً عليهم , ما جائهم رسول الا كذَّبوه واستهزئوا به…» (7) .
وجاء في كتاب تيسير الكريم المنان في تفسير كلام الرحمن للسعدي :
«أي ما أعظَم شقائهُم, وأطول عنائهم , وأشدَّ جهلهم, حيث كانوا بهذه الصفة القبيحة , التي هي سبب لكل شقاء وعذاب ونكال … »(8)
و «الحسرة » أصعب من الحزن والندم ؟ّ! ومكتوب عن الله أيضاً في القُران : «ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين» (ال عمران54:3) . و «المكر» صفة بشرية بغيضة . ويُنسب الى الله قوله أيضاً : «ان كيدي متين» (الأعراف 183:7) . و«الكيد» أيضاً صفة بشرية سيئة .
وقال الامام فخر الدين الرازي : «جميع الأعراض النفسانية, أعني الرحمة والفرح والسرور والغضب والحياء والمكر والاستهزاء , لها أوائل ولها غايات.مثاله الغضب .فأن اوله غليان دم القلب,وغايته ارادة ايصال الضرب الى المغضوب (عليه) فلفظ الغضب في حق الله لا يحمل على ادلة الذي هو غليان دم القلب, بل على غرضه هو ارادة الأضرار. وكذلك الحياء له أول وهو انكسار يحصل في النفس , وله غرض وهو ترك الفعل , فلفظ الحياء في حق الله يحمل على ترك الفعل لا على انكسار النفس ».
وقال الشيخ محيى الدين بن العربي في الباب الثالث من الفتوحات الملكية : «جميع ما وصف الحق تعالى به نفسه من خلق واحياء واماتة ومنع وعطاء ومكر واستهزاء وكيد وفرح وغضب ورضا وضحك وتبشيش وقدم ويد ويدين وأيد وعين وأعين, وغير ذلك كله نعت صحيح لربنا , ولكن على حد ما تقبله ذاته , وما يليق بجلاله»(9) .
نأتي الان للسؤال الهام :
ما الذي قَصَدهُ الوحي بعبارَة «نَدِمَ الله»؟
لقد قصد الوحي أكثر من معنى :
- يقصد تغير اعلان القضاء :
ان الله لا يغير قضاءه . وحاشا لله أن يتخذ قرارات ويرجع فيها . ألم يقل الرسول يعقوب عن الله : «الذي لَيسَ عندَهُ تَغيير وَلا ظِلُّ دَورانٍ»(يع 17:1 ) . وقال هو عن نفسه في سفر ملاخي : «لأنّي أَنا الرَب لا أَتَغَيَّرْ» (ملا 6:3).
ولو درسنا كل المرات التي وردت فيها عبارة : «فندِمَ الرب» ونسأَل : هل فوجئ الله بمعلومات جديدة؟ أو تصرفات لم تكن في حساباته؟ كلا .
فالله بعمله السابق يعرف كل شيء . فمثلاً عندما يقول في سفر ارميا : «تارَةً أتَكلَّمُ علَى أُمَّةٍ وعلَى مَملكَةٍ بالقَلعِ والهَدمِ والإهلاكِ فترجِعُ تِلكَ الأُمَّةُ الّتي تكلَّمتُ علَيها عن شَرِّها، فأندَمُ عن الشَّرِّ الّذي قَصَدتُ أنْ أصنَعَهُ بها وتارَةً أتَكلَّمُ علَى أُمَّةٍ وعلَى مَملكَةٍ بالبِناءِ والغَرسِ، فتفعَلُ الشَّرَّ في عَينَيَّ، فلا تسمَعُ لصوتي، فأندَمُ عن الخَيرِ الّذي قُلتُ إنّي أُحسِنُ إليها بهِ. » (إر7:18-10) .
فهل الله سيغير قراره ؟ كلا. هل الله لا يعرف بعلمه السابق ان كانوا سيفعلون الخير أم الشر؟ بكل تأكيد يعرف. انما يستخدم هذه اللغة ليحثهم على فعل الخير, وليعلن لهم أنهم احرار في اختيار طريقهم . وانهم سيحصدون نتائج اختياراتهم. لذلك تارَةٌ يتكلم على امةٍ بالهَدمِ والاهلاك . فترجعُ تِلكَ الأُمَّة عَنْ شَرِّها.فَيَندَمُ عَن الشَّر الَّذي تَكَلَّمَ بِهِ . والحقيقة هي أنَّ الله لم يفاجئ بأن هذه الأُمَّة تراجَعَت عن الشر. فهو بعلمِهِ السابق يعرف كل شيء انما توعدها بالخراب حتى تتوب وترجع عن شرها. وعندما تابت لم يغير القضاء بل اعلان القضاء لهم. وكذلك عندما يتكلم عَلى أٌمَّةٍ بِالبِناءِ والغرسِ. فَتَفعَلْ الشَّر في عَينَيهِ, ولا تَسمَعْ لِصَوته, فيندم عَنِ الخَيرِ الَّذي قال انَّه سيحسن اليها بِهِ. ونفس الشيء حدث عمدما قال الرب لموسى : «رأيتُ هذا الشَّعبْ , وَاذا هو شَعبٌ صُلْبُ الرَّقَبة فالآنَ اترُكني ليَحمَى غَضَبي علَيهِمْ وأُفنيَهُمْ، فأُصَيِّرَكَ شَعبًا عظيمًا».فتضَرَّعَ موسَى أمامَ الرَّبِّ مِنْ أَجلِ الشَّعبِ فَنَقرَأْ «فنَدِمَ الرَّبُّ علَى الشَّرِّ الّذي قالَ إنَّهُ يَفعَلُهُ بشَعبِهِ».. (خر9:32-14).
وهي ترد في ترجمة (NKJV)
So the lord relented from the harm which he said he would do to« his people»
هل فوجئ الله بتضرع موسى؟ كلا. هل كان ناسياً لعهده الذي ذكره موسى في تضرعه؟ كلا. انَّما هي لغة بشرية ليحرك بها قلب موسى وكل الشعب ليبتعدوا عن الشر ويعيشوا في مخافة الله. وليدركوا ان هناك خطر قادم ان لم يتوبوا. وارجو منك أن تقرا المزمور 106 وسترى كيف ان هذه العبارة لا تبرهن إلا على عمق محبته ورافته للشعب. فهو يحذرهُم وينذرهم ويتوعدهم بالخراب لكي يرتدعوا ويتوبوا. فنقرأ: «ونَدِمَ حَسَبَ كَثرةِ رَحمَتِهِ» (مز45:106)
. وهذا لا يتعارض مع إلوهية الله وقداسته. فالندم هنا هو الحزن بحسب الرحمة الالهية !
- الحزن والألم :
احياناً يستخدم الوَحي الالهي تعبير «نَدِمَ الرب» ليُعبر عن كيف أن الشر والخطية تُحزِن وتكسر قلب الله . وكم كان يتمنى ان يعيش الأنسان في مخافتِه. ويصنع مشيئته ولكنه خلقه حراً بفعل ما يشاء . فَنَقرأ : «ورأى الرَّبُّ أنَّ شَرَّ الإنسانِ قد كثُرَ في الأرضِ، وأنَّ كُلَّ تصَوُّرِ أفكارِ قَلبِهِ إنَّما هو شِرّيرٌ كُلَّ يومٍ.فحَزِنَ الرَّبُّ أنَّهُ عَمِلَ الإنسانَ في الأرضِ، وتأسَّفَ في قَلبِهِ.» (تك6:6-5)
ونفس الفكرة نجدها بعد اختيار شاول ملكاً حيث نقرأ: « وَكانَ كَلامُ الرَبِّ الى صَموئيل: «نَدِمتُ عَلى اني قَد جَعَلتُ شاول مَلِكاً . لانَّهُ رجِعَ مِنْ وَرائي وَلَمْ يُقِمْ كَلامي » (1صم11:15) .
ونسأل هل فوجئ الله بتصرف شاول؟ كلا. ان الله بعلمه السابق يعرف كل شيء لكنه يستخدم تعبيراً بشرياً ليعبر عن مدى حزنه على تصرف شاول, وترد هذه الاية في ترجمة (NIV) كالاتي :
I am grieved that i have made saul king because he has turned away from me and has not carried out my instructions
فعندما يقول الوحي الالهي عن الله «فَحَزِنَ وَ تَأَسَّفَ فِي قَلبِهِ» أَو «نَدِمْتُ» . فَهِيَ صِياغة انسانية بشرية بارشاد الروح القدس حتى يدركها الانسان. ويفهممها بعقله المحدود. يعبر بها الله للانسان عن حجم الكارثة. فهي كلمات تعبير من ناحية عمق الشر الكامن في الانسان ومدى فساده وابتعاده وزيعانه ورفضه للتوبة والرجوع الى الله خالقَهُ . بل وأصل ومصدر حياته. ورغبته في السير وراء ابليس واغراءاته وشهوات قلبِهِ.
وتعبر من ناحية اخرى عن عمق محبة الله المتألقة النازفة.فبعد أن سُر الله بخلق الانسان وقال عنه انه “حَسَنٌ جِداً ” (تك31:1) فاذا بهذا الانسان موضع سرور الله قَد هوى في بئر الخطيئة والشر . فكان الله يقول ألَيسَ هذا هو الانسان الذي خلقتُهُ على صورتي, وأحطتهُ بمحبَّتي, ومنحته كل المواهب والامكانيات التي تجعله يعمل ما يسرني. فلماذا أهانني بأفعاله الأليمة. وجرحني بزيغانه بعيداً عنّي. وعناد قلبه ورفضه للتَوبة. والاستجابة لعمل روحي في داخله ؟
انه بأختصار تعبير بشري بين مدى نفور الله من الشر والخطية من جانب . ومدى محبة وشفقة الله على الانسان الذي سقط وحلَّ به العقاب الالهي من جانب اخر .
المراجع
- د. منقذ بن محمود السقار . هل العهد القديم كلمة الـلـه؟ ص94.
- د. مصطفى محمود . التوراة ص12.
- د. مصطفى محمود . التوراة ص21-25
- المرجع السابق ص43-46
- الأنبا غريغوريوس. مقالات في الكتاب المقدس ج3 ص115-119
- الشيخ الطنطاوي. الوسيط في تفسير القران الكريم
- الصابوني . تفسير صفوة التفاسير
- السعدي. تيسير الكريم المنان في تفسير كلام الرحمن . تفسير السعدي سورة يس30.
- الشيخ محيي الدين بن عربي الحاتمي . الفتوحات الملكية . ص379