إله العهد القديم، هل هو اله يطلب ذبائح بشرية؟ شبهة والرد عليها
إله العهد القديم، هل هو اله يطلب ذبائح بشرية؟ شبهة والرد عليها
إله العهد القديم، هل هو اله يطلب ذبائح بشرية؟ شبهة والرد عليها
“وحَدث بَعد هذهِ الأُمور أَنَّ الله امتَحنَ ابراهيمَ,فقالَ لهُ:”يا أبراهيمَ! “. فقالَ:”هاَنَذَا” فقالَ: “خُذِ ابنكَ وَحيدَكَ.الَّذي تحبَّه.اسحاق.وَاذهَبْ الى أَرضْ المُريَّا,واصعدهُ هُناكَ مُحرقَةً على احد الجبال الذي اقولُ لكَ” (تك 1.2:22).
هذه القصة تطرح العديد من الاسئلة, ولعل اهم سُؤال هو :
كيف يطلب الله من ابراهيم أن يُقدم ابنهُ ذبيحة؟ وهل يُريد الله أن نُقدم له ذبائح بشرية؟ويقول زيتون كوسيدوفسكي:”أما قصة اسحق وكبش الفداء… حيث يُعرض يهوه ابراهيم لإمتحان فظيع القَساوة. لا يتوافق ابداً مع كون الرب لطيفاً بِعبادهِ رحيماً بهم”(1).
وللاجابة على هذا السؤال أقول :
(1) لقد كان ابراهيم يعيش في وسط مجتمع يعبد عبادة بريرية, ففي بلاد ما بين النهرين وسورية. كانوا يقدمون اولادهم البكر قَرابين للالهة. وكان الكنعانيو يقدمون أبنائهُم وبَناتَهُم ذبائح للاله مولك.وكانت هذه العادات أيضاً سائدة كذلك في كل اسيا الصُّغرى في ذلك الزَّمان. فَيَذكر هيريرت لوكير(2) أن ماريوس قدم ابنته ذبيحة بعد الانتصار على الكمبريين “الجومريين” وكذلك نَذر ملك كريت عقب عاصفة هوجاء أَن يُقدم للاله نبتون أول من يخرج من القصر للقائه بعد عودته سالماً.وكذلك قدَّمَ اجاممنون ابنته افيجينيا للاله. ويقول ارثر كندال(3) ان ملك مواب قدم ابنهُ ذبيحة بشرية لاسترضاء الاله كموش وليصنع خلاصاً من يد اسرائيل ويهوذا وادوم (2مل 3:27) . ويقول زينون كوسيدوفسكي: اننا نعرف اليوم ان قصة اسحق ليست الا صدى لطقس من طقوس عبادة بريرية. وقد استطعنا من خلال الاكتشافات الأثَرية الوصول الى منشئه. ففي بلاد ما بين النهرين وسورية وأرض كنعان. عُرِفَ طقس قديم جداً يقول على تقديم الأَولاد البكر قرابين للالهة. وخلال التَّقنيات في جازر– مركز العبادات والطُّقوس الكنعانية الأُم – وُجِدَتْ أوعية تَحتوي على هياكل عظمية لاطفال بعمر ثمانية أّيَّام قُدِّموا قَرابين للالهة. كما كانَ الأَولاد يقَدمون قَرابين للالهة بمناسَبة اِعمار المعابد والمَباني العامَّة..(4)
وسطَ هذا الجو الفاسد أعلن الله بوضوح انَّه يبغض الذبائح البشرية. بل ويَدين بشدة من يفعل ذلك. وحذَّر شعبهُ من ممارستها فقالَ لهمْ :
“مَتَى قَرضَ الرَّبُّ الهُك مِنْ أَمامِكَ الاُمم الذينَ أّنتَ ذاهبٌّ لِترثَهُمْ وَوَرِثتَهُمْ وَسَكنتَ أَرضَهمْ فَاحتَرِزْ من أن تُصاد ورائَهمْ منْ بعدِ ما بَادُوا مِن أَمامك ومِن أَنْ تَسأَل عَنْ الهَتَهُم:كَيْفَ عَبَدَ هَؤلاء الأُمَمْ فَأَنا أَيضَاً أَفَعل هكَذَا؟ لا تَعملْ هَكذا لِلرَب الهك لانَّهُمْ قَدْ عمِلوا لالهَتهم كُلَّ رَجسٍ لدَى الرَّبْ مِمَّا يَكرَهَهُ اذْ أَحرَقُوا حَتى بَنيهم وَبَناتِهِمْ لالهَتِهِمْ. كُل الكلامْ الَّذي اوصيكُم بهِ احرصوا لِتَعْمَلوهُ.لا تَزِدْ عَلَيهِ وَلا تُنقِص مِنهُ ” (تث29:12-32) . وَقال أًيضاً : “متَى دَخَلتَ الأَرضَ الَّتي يُعطيكَ الربُّ الهَك.لا تَتَعَلَّم ان تفعلَ مِثلَ رَجْسِ اولئكَ الاُمَمْ. لاَ يوجَد فِيكَ مَن يُجيزُ ابنهُ او ابنَتهُ في النَّارِ …. ” (تث 9:18-10).
وَعندما ضَربَ الرب فرعون وشَعبهُ بالضربة العاشرَة وَهِيَ (مَوتُ الأَبكار). طلبَ الرَّب من شعبهِ ان يكون كل بكر فاتح رَحم لهُ. لكنَّه أَوصى بوضوح عدَّة مرات ان كل بكر من البَهائِم الطَّاهرة يُقَدَّم ذبيحة. بَينَما كل بكر من البَشَر يُفتَدى بِذبيحة حيوانية. وبذلك يكون كأنَّهُ قُدِّم للربْ ذَبيحة. شهادة على فداءْ الربْ لهُم وتخليصهُم من العبوديَّة فنقرأ:
“ويَكون مَتى أَدخَلكَ الرَّب أَرضَ الْكَنعانِيينَ كَما حَلَفَ لَكَ وَلِأبائِكَ وأَعطاكَ ايَّاها انكَ تُقدم لِلرَبْ كُلَّ بِكرٍ فاتح رَحمٍ وكلَّ بكرٍ من نتاجِ البَهائِم الَّتي تَكون لَكَ. الذُّكور للرّبْ. وَلكن كُلُّ بكرِ حمارٍ تَفديهِ بِشاةٍ. وَانْ لَمْ تَفدِهِ فتَكسِرُ عُنقهُ. وَكُلُّ بكرِ انسانٍ من اولادكَ تَفديهِ.
“وَيَكون متى سألكَ ابنُكَ غَداً: ماهذا؟ تَقولُ لَه : بيدٍ قَوية أَخرَجَنا الرَّبُّ من مِصرَ مِن بيتِ العبوديَّةِ. وَكانَ لمَّا تَقَسَّى فرعَون عَن اطلاقِنا انَّ الربَّ قتَلَ كلَّ بِكرٍ في أَرض مِصرَ مِن بكرِ النَّاسِ الَى بِكرِ البَهائِم. لِذلكَ انا اذبَحُ للرَّبِ الذُكورَ مِن كُلِّ فاتِحِ رَحمٍ وَأَفدي, كلَّ بكرٍ مِنْ أَولادِي” ( 11:13-15) .
وكرر الوصية مرة اخرَى :
“لِي كلُّ فاتِح رَحمٍ وكُلُّ مَا يُولَدُ ذَكَراً مِنْ مَواشيكَ بِكراً مِن ثَورٍ وَ شَاةٍ. وَأَمَّا بِكرُ الحِمارِ فَتَفديهِ بِشاةٍ. وَ انْ لَمْ تَفدهِ تَكسِرُ عُنقَهُ. كُلُّ بِكرٍ مِن بَنيكَ تَفديهِ وَلاَ يَظهَروا أَماميْ فَارِغينْ” (خر 19:34-20)
ويكرر ايضاً:
“كُلُّ فاتِح رَحمٍ مِنْ كُلِّ جَسَدٍ يقَدِّمونَهُ لِلرَبْ مِنَ النَّاسِ ومِنَ َالبَهائِم يَكونُ لَكَ. غَيرَ أنَّكَ تَقْبَلُ فِداءَ بِكرِ الأنسانِ وبكر البَهيمةِ النَّجِسةِ تَقبَلُ فِداءَهُ. وَفِداؤهُ مِنِ ابنِ شهرٍ تقبَلهُ حَسَبَ تَقويمكَ فِضَّة خمسَةُ شَواقِلَ عَلى شاقِلِ القدس. هو عِشرونَ حيرَةٌ” (عد16,15:18 ).
وقد كان الأنبياء يحذِّرون الشَّعبَ بشدة من هذه الممارسات الوثنية.
(2) بلا شَك عندما كان الوثنيون يُقدِّمون أبكارَهم ذَبائح لآلهتهم. كانَت هذه التقدمات لا تحمل حُباً من جانب مُقدِّميها بقدر ما تكشف عن روح القلق والخوف الذي يَملأ قُلوبهم من هذه الالهة. فكانوا يَوَدُّون استرضاء هذه الالهة المُتَعَطِّشة الى الدِّماء لتجنب غضبهم! لهذا فأن الله طالَبَ ابراهيم خَليلَهُ بهذهِ التقدمة ليُعلن للوثنيين قلب ابراهيم المُحب لله.اذ هو مستعد أَن يُقدم أّثَمن ما لَديه, وفي نَفس الوَقت اذ قدَّم الله كبَشاً عوض اسحق اعلن عَدَم قبولَهُ الذبائح البَشَريَّة. ليس عَن ضعف في محبة المؤمنين لله. وانَّما في تقدير الله للانسان.اذ لا يَطلُب سَفك دمَّهُ وهلاكهُ! فالله لا يطيق الذبائح البَشريَّة.اذ هو مُحبٌ للبشرْ,يشتهي حياتَهم لا هلاكَهُم.
(3) لم يكن الله ينوي قط أّن يَذبح ابراهيم ابنَهُ.انَّما كل ما أّرادهُ هو اظهار عظَمة ايمان ابراهيم , وعظمة طاعة اسحق. وفعلاً ظهر ايمان ابراهيم الى الدَّرجة التي كان مستعداً ان يضحي بأبنَهُ الَّذي انجبهُ في شَيخوخَتِهِ على مذبَح الايمان.
ويؤكد القديس أغسطينوس قائلاً: “لم يكُن ابراهيم يؤمن قَط بأَن الله يقبلُ الذبائحَ البشريَّة.ومع ذلك عندَما دَوى صوت الوصية الالهية (بتقديم اسحق)أَطاع بغيرْ جِدالْ.اذ كانَ يؤمن تماماً انهُ اذ يُقدِّم ابنه محرقة سَيقوم ثانية كقول الرب له “لأَنَّه باسحاق يُدعى لَكَ نَسلٌ” (تك 12:21).
لذلك اذ كان الأَب مُتمسكاً بالوعد منذُ البداية الذي يتحقق خلال هذا الابن الذي أمر الله بذبحهِ لم يشك قَط ان ذاك الذي كانَ قبلاً لم يترج ولادتَهُ يمكن أن يَقوم بَعدَ تقديمه محرقة”. فهناك فرقٌ كبيرٌ بين تقديم ابراهيم لابنه اسحق ذبيحة وبَين الذَّبائح البشرية التي كانت تُقدَّم للأَوثان. فقد امن ابراهيم بالله الذي وهبَهُ اسحق بعدما كانَ رحمُ سارة مماتاً وحسب ولادته أشبه بقيامة من الأموات فلا يصعب عليه ان يقيمه بعد تقدمتهُ محرقة,أمَّا الوثنيون فكانوا يقدمون أبكارَهُم لاسترضاء الهتَهُم المُحِبَّة لسفك الدِّماء. يقدِّمونَهُم بِلا رَجاءْ !
وَيَرى العلامة اوريجانوس (5) أن هذه التجربة كشفت اعماق ابراهيم وأَفكارهُ الخفية من جهة ايمانَهُ بالقِيامَة. اذ يَقولْ: “بالروح عرَف كاتب الرسالة الى العبرانيين ايمان ابراهيم وَأَفكارَهُ معلناً ايَّاها بِقولِهِ :”بِالايمان قَدَّمَ ابراهيم اِسحاق وَهُوَ مُجَرَّبْ.قدَّمَ الَّذي قَبِلَ المواعيدَ,وحيدَهُ الَّذي قيلَ لَهُ:”انَّهُ باسحاقْ يُدعَى لَكَ نَسلٌ” اذْ حَسِبَ اَّن الله قادِرٌ عَلَى الاقامَةِ مِنَ الأَمواتِ أّيضاً“(عب17:11-19). وهذهِ هي أَول مرة يظهر فيها الايمان بالقيامَة. هكذا كَشَفَتْ التَّجرِبة عَن قلب ابراهيم أب الاباء كإنسان يؤمن بالقيامَة مِنَ الأَمواتْ. لقد كانَ واثقاً أنهُ حَتى لَو ذبح ابنَهُ.فان الله قادِر أن يُقيمَهُ من المَوت. وَبهذا الايمان قال لِغُلامَيهِ: “اجلِسا انتُما هَهُنا مَعَ الحِمارِ وَامَّا انا والغلامُ فَنَذهبُ الى هُناكَ وَنَسجُدُ ثُمَّ نَرجِعُ الَيكُمَا”(تك5:22).
(4) إن امتحان الله لابراهيم لا يعني ان الله لا يعرف قلبه. لأنَّهُ يعرفُ كل اسرارنا الدَّاخلية. لكنه سمح بالتَّجربة لكي يُذكيهِ أَمام الكل ويعلن ايمانه الرائع الخفي. فيكون نموذَجاً ومثالاً حياً للآخَرينْ. وكَما يقول القديس أغسطينوس:”جُرِّبَ ابراهيمْ بتقديم ابنه الحبيب اسحق ليزكي طاعته الورعة. ويجعلها معلَنة لا لله بل للعالَم كله”.
الدارس المُدقق يعرف ان الله كان قد اعدَّه واهَّله قبل أّن يدخل في التجربة, فعندَما يبدأ الوَحي في عرض التَّجربة يقول:”وَحَدَث بعدَ هذه الأُمور أنَّ الله امتَحَنَ ابراهيمْ بالقَول”. وَما هي “هذهِ الأُمورْ” هي ظهور الله له في بَلوطات ممرا وتأكيد الوَعد له من جهة اسحق. وبعدما صَنعَ ميثاقاً مع ابيمالك مُظهِراً له كيفَ أعطاهُ مهابة ورهبة حتَى أَمام المُلوك.
وكأن الله لم يسمح لابراهيم بالتجربة إلا بعد أّن أعده لها بطرق كثيرة. وكما يقول الرسول :”وَلكِنْ الله امينٌ الَّذي لا يَدَعَكُمْ تُجَرَّبون فَوقَ ما تَستطيعوا أَنْ تَحتَمِلُوا” (اكو13:10). وقَد هَيأ قلبَهُ وفكرَهُ وأعدَّ كل حياتَهُ لقبولِ التَّجربة ايضاً بطريقة خفيَّة وكان سنداً له.وفي النهاية تَجلى في حياته بطريقة او أُخرى.وهكذا مع كل تجربة يقول الرب نَفسه بِمُساندَتِنا قَبلَ التجربة وأّثناءها وبَعدَها.حتَّى يحقق غايتَهُ فينا ان قبِلنا عملهُ في حياتِنا. فهوعندما يسمَحْ لنا بالتجارب لا يتركنا فريسة في يد العدو.بل يعدَّنا ويؤهلنا للانتصار قبل الدخول في التجربة.الم يقل لبطرس:”سِمعانٌ سِمعانٌ هُوَذا الشَّيطانُ طَلَبَكُم لِكَي يُغَربِلُكُم كالحِنطَةَ! ولكنِّي طَلَبتُ مِنْ أّجلِكَ لِكَيْ لا يَفنَى ايمانُكَ.وَأَنْتَ مَتَى رَجَعْتَ ثَبٍّتْ اخوتكَ”(لو31:22-32). لقَد طلب الرب يسوع من أّجلهِ قبلَ أَن يُغريه الشيطان.
- المراجع
(1)زينون كوسيدوفسكي. الاسطورة والحقيقة في القصص التوراتية.ترجمة الدكتور محمد مخلوف ص62.
(2)هريرت لوكير.كل نساء الكتاب المقدس ص243.
(3)ارثر كندال.التفسير الحديث للكتاب المقدس. ج7.8 ص 145
(4) زينون كوسيدوفسكي. الاسطورة والحقيقة في القصص التوراتية.ترجمة الدكتور محمد مخلوف ص63.
(5) الأب تادرس يعقوب ملطي.تفسير سفر التكوين .ص148