جوهر الحياة المسيحية على ضوء معرفة الله ومعرفة النفس – أيمن فايق
جوهر الحياة المسيحية على ضوء معرفة الله ومعرفة النفس
أولاً – مدخل للموضوع
أن حياة المسيحية الحقيقية لا تعتمد على الشكل الخارجي للإنسان وتنفيذه للطقوس والعقائد وحفظة البنود المعلنة من خلال القوانين والمعرفة المسيحية كمعلومات فكرية جدلية!!!
فحياة المسيحي الحقيقية هي في الداخل، في داخل كيانه الشخصي، فهي باختصار شديد وأكثر تحديد، هي الحياة في الله…
أي أن المسيحي الحقيقي هو من حياته في الله، بمعنى أني لو قلت أني مسيحي حقيقي، يعني الله في داخلي أكثر من أي شيء آخر، وسعيي كله أن ألتقية وأفتش عنه في الداخل وليس في الخارج بسبب أن الكلمة صار جسداً وحل فينا، ونحن هياكل الله وروح الله يسكن فينا، وفي داخلنا طبيعياً – حسب الخلق – صورة الله المطبوعة في الداخل والذي أعاد شكلها الأصيل تجسد الكلمة واستعلانه في ملء الزمان…
الإنسان بطبيعة خلقه هو صورة الله، له كيان روحي مستمد من خالقه العظيم، وهذا هو سر حنينه الدائم إلى خالقه، ولكي نتعود نعيش في هذا المجد العظيم ونعود لأصل الصورة فينا لابد من أن ننزل إلى داخلنا، أي نقطع مسيرة الدخول لأعماق قلوبنا لنلتقي مع الله المطبوع سراً في داخل القلب بصورة مجيده وضعنا عليها تراباً على مر الأيام وأخفيناها حتى أننا في حالة قلق دائم واضطراب في هذا الزمان نحمل الأوجاع لأننا لم ندخل لهذا العمق ونعرف أنفسنا في جمال صورتها الحقيقية المخلوقة عليها والمطبوعة فيها!!!
فكل ما يتعب النفس أنها أخفت سرها وضاع معه حل مشاكلها وضيقاتها الكثيرة والتي تشعر أن ليس لها سبب محدد، لأن مهما ما بلغ الإنسان من مراكز أو معرفة عقلانية يظل يشعر بنقص يزيد كلما ابتعد عن حقيقة جوهره الأصيل!!!
وطبعاً الرجوع للنفس والعودة إليها ليس شيئاً سهلاً، بل صعب للغاية، لأننا في الواقع أصبحنا غرباء عن أنفسنا، نجهل حقيقتها المخفية فيها!!
فمن السهل التعرف على العالم الخارجي والمحيط بنا، ومن السهل أيضاً التعرف على الحياة المسيحية من جهة الفكر والبحث والمعرفة، لأن كل هذا يأتينا عن طريق الحواس والعقل، وكل شخص يستوعب حسب قدراته العقلية، أما من جهة الداخل فصعب للغاية لأنه لا يأتي على مستوى العقل أو الفكر أو القدرة على المعرفة والفهم إنما على مستوى اللقاء الحي!!!
فالحياة المسيحية الحقيقية هي باختصار وتركيز:
الرجوع إلى النفس للدخول بالنعمة في الله، فحضرة الله بملء نوره العظيم هو أعمق ما في الإنسان من عظمة ومجد، لأن الإنسان خلق في هذه الحضرة وهي أساس دعوته وأصل حياته كلها، ونبع حريته وكمال سعادته الحقيقية، بل هي مصيره الأبدي الذي لا يقدر أن يحيا بدونه قط !!!
إذن فالمنهج الحقيقي والأصيل للمسيحي الحقيقي هي حياته الداخلية، واستمرار وجوده في الحضرة الإلهية على مستوى اللمس من جهة كلمة الحياة [ الذي كان من البدء الذي سمعناه الذي رأيناه بعيوننا الذي شاهدناه ولمسته أيدينا من جهة كلمة الحياة ] (1يوحنا 1: 1)
والعائق الرئيسي الذي يفصل الإنسان ويشوه طبعه ويشوش فكره ويجعل النور الإلهي منطفئ فيه هو الأهواء التي هي أصل الخطايا وسبب تحركها فيه، لأنها سبب الانفصال عن الله وتشويه الطبع الإنساني الأصيل، والإنسان أن لم يتحرر من هذه الأهواء لن يستطيع أن يكتشف في داخله اللؤلؤة الكثيرة الثمن فيبيع كل شيء لاقتنائها حتى نفسه يحسبها رخيصة عنده من أجل اقتناء هذا الكنز العظيم !!!
ثانياً – تمهيد -دعوة الإنسان العليا
الكنيسة تعرف شخص يسوع المسيح، لأنه رأسها وهي جسده من لحمه وعظامه، فهو مُستعلن فيها، يتجلى فيها، ويحضر حضوراً سرياً فائقاً في كل أسرارها المقدسة… والكنيسة كل عملها وشغلها الشاغل فقط هو إظهار وتمجيد واستعلان شخص ربنا يسوع، وتقديمه للعالم مُخلّص شافي النفس ومُحييها، وللمؤمنين إلهاً حياً محيياً من خلال سرّ الكلمة والإفخارستيا…
والكتاب المقدس في الكنيسة هو استعلان صوت المسيح الحسي والمحيي، الذي نادى لعازر هلم خارجاً فسرت فيه قوة حياة تقيم من الموت، وهو هو نفس ذات الصوت التي تنادي به الكنيسة أولادها بفم شخص ربنا يسوع المسيح القائم من الموت، فقراءة الكلمة في الكنيسة هو سرّ قوة الحياة لكل من يسمع هذا الصوت بإيمان دون أن يرتاب فيه:
+ الحق الحق أقول لكم أنه تأتي ساعة وهي الآن حين يسمع الأموات صوت ابن الله والسامعون يحيون (يوحنا 5: 25)
وعلى هذا الأساس نتقدم إلى سماع الكلمة من فم الله الذي نطق بها ولازال ينطق بها في كل زمان، وبالطبع زماننا هذا الآن، والكتاب المقدس لو بلغنا سره الإلهي وأصغينا لهذا الصوت المُحيي، سنجد أن لغته لغة حوار بين طرفين، الله والإنسان، ومن صميم هذا الحوار – حوار المحبة – نجد اللذة المتبادلة والحب المتدفق الحاصر للإنسان (محبة المسيح تحصرنا)، ومن صميم هذا الحب الفائق نجد الدعوة الإلهية لكل إنسان يقترب من هذا المجد الفائق :
دعوة من الله للإنسان للتمتع بالشركة مع العريس السماوي، دعوة الوحدة والاتحاد والالتصاق كثمرة التجسد الإلهي
“وجعل يسوع يكلمهم أيضاً بأمثال قائلا:
يشبه ملكوت السماوات إنسانا ملكا صنع عرسا لابنه. وأرسل عبيده ليدعوا المدعوين إلى العرس فلم يريدوا أن يأتوا. فأرسل أيضا عبيداً آخرين قائلا قولوا للمدعوين هوذا غذائي أعددته ثيراني ومُسمناتي قد ذبحت وكل شيء مُعد تعالوا إلى العرس. ولكنهم تهاونوا ومضوا واحد إلى حقله وآخر إلى تجارته. والباقون امسكوا عبيده وشتموهم وقتلوهم.
فلما سمع الملك غضب وأرسل جنوده وأهلك أولئك القاتلين وأحرق مدينتهم. ثم قال لعبيده أما العرس فمستعد وأما المدعوون فلم يكونوا مستحقين. فاذهبوا إلى مفارق الطرق وكل من وجدتموه فادعوه إلى العُرس. فخرج أولئك العبيد إلى الطرق وجمعوا كل الذين وجدوهم أشراراً وصالحين فامتلأ العرس من المتكئين.
فلما دخل الملك لينظر المتكئين رأى هناك إنساناً لم يكن لابساً لُباس العرس. فقال له يا صاحب كيف دخلت إلى هنا وليس عليك لباس العرس فسكت. حينئذ قال الملك للخدام اربطوا رجليه ويديه وخذوه واطرحوه في الظلمة الخارجية، هناك يكون البكاء وصرير الأسنان. لان كثيرين يدعون وقليلين ينتخبون.” (متى 22: 1 – 14)
الدعوة غالية وكريمة جداً، وثوب المدعوين هو شخص الكلمة المتجسد: “لأن كلكم الذين اعتمدتم بالمسيح (في المسيح) قد لبستم المسيح” (غلاطية 3: 27)
هذا هو ثوب البرّ المنسوج بعمل الله وحده بدم ربنا يسوع الذي سفك على عود الصليب، ثوب برّ مجاني مهدى من الملك نفسه بلا قيد أو شرط، إلا لمن يقبل الدعوة ويتوب ويعود للحضن الحلو ويكتسي بالنعمة…
“ولكن الآن في المسيح يسوع أنتم الذين كنتم قبلاً بعيدين صرتم قريبين بدم المسيح. لأنه هو سلامنا الذي جعل الاثنين واحداً ونقض حائط السياج المتوسط. أي العداوة، مُبطلا بجسده ناموس الوصايا في فرائض لكي يخلق الاثنين في نفسه إنساناً واحداً جديداً صانعاً سلاماً. ويُصالح الاثنين في جسد واحد مع الله بالصليب قاتلا العداوة به. فجاء وبشركم بسلام أنتم البعيدين والقريبين. لان به لنا كُلينا قدوما في روح واحد إلى الآب. فلستم إذاً بعد غرباء ونزلاً، بل رعية مع القديسين وأهل بيت الله. مبنيين على أساس الرسل والأنبياء ويسوع المسيح نفسه حجر الزاوية. الذي فيه كل البناء مركباً معاً ينمو هيكلاً مُقدساً في الرب. الذي فيه أنتم أيضاً مبنيون معاً مسكناً لله في الروح” (أفسس 2: 13 – 22)
وما هي طبيعة الدعوة ؟
“تعالوا لأن كل شيء قد اُعد”. لأن الله الآب قد أعد في المسيح لجميع الناس تلك العطايا التي مُنحت للعالم بواسطته، التي هي غفران الخطايا، والتطهير من كل دنس، وشركة وعطية الروح القدس، والتبني فيه، واستعلان ملكوت الله في الداخل:
+ وأُعطيكم قلباً جديداً وأجعل روحاً جديدة في داخلكم وأنزع قلب الحجر من لحمكم وأُعطيكم قلب لحم، وأجعل روحي في داخلكم، وأجعلكم تسلكون في فرائضي وتحفظون أحكامي وتعملون بها (حزقيال 36: 26 و27)
+ ولما سأله الفريسيون متى يأتي ملكوت الله أجابهم وقال: “لا يأتي ملكوت الله بمراقبة. ولا يقولون هوذا ههُنا أو هوذا هُناك، لأن ها ملكوت الله داخلكم (لوقا 17: 20 و21)
“مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح الذي باركنا بكل بركة روحية في السماويات في المسيح. كما اختارنا فيه قبل تأسيس العالم لنكون قديسين وبلا لوم قدامه في المحب. إذ سبق فعيننا للتبني بيسوع المسيح لنفسه حسب مسرة مشيئته. لمدح مجد نعمته التي أنعم بها علينا في المحبوب. الذي فيه لنا الفداء بدمه غفران الخطايا حسب غنى نعمته. التي أجزلها لنا بكل حكمة وفطنة.
إذ عرفنا بسر مشيئته حسب مسرته التي قصدها في نفسه. لتدبير ملء الأزمنة ليجمع كل شيء في المسيح ما في السماوات وما على الأرض في ذاك. الذي فيه أيضا نلنا نصيباً مُعينين سابقاً حسب قصد الذي يعمل كل شيء حسب رأي مشيئته. لنكون لمدح مجده نحن الذين قد سبق رجاؤنا في المسيح الذي فيه أيضا أنتم إذ سمعتم كلمة الحق إنجيل خلاصكم الذي فيه أيضا إذ آمنتم خُتمتم بروح الموعد القدوس. الذي هو عربون ميراثنا لفداء المقتنى لمدح مجده” (أفسس 1: 3 – 14)
+ وحينما نعي هذه الدعوة المقدسة المهيبة والمفرحة جداً لكل نفس، لن نتعجب أو نندهش من الذين باعوا كل شيء – بسهولة – ورضوا أن يخسروا كل ما للعالم وأن يحسبوه مع القديس بولس خسارة ونفاية من أجل أن يربحوا اللؤلؤة الواحدة الوحيدة الكثيرة الثمن، بل – نحن أنفسنا – سنبيع كل شيء بسهولة وبلا تردد ، ونبغض الخطية فتسقط من تلقاء ذاتها دون معاناة أو صراع داخلي، إذ قد ربحنا الواحد الوحيد ربنا يسوع وصار الكنز الخفي الذي للنفس المخفي في داخلها، بل صار هو ثوبها النفيس الذي يستحيل أن تفرط فيه أبدا أو تطرحه عنها !!!
فلنختتم هذه المقدمة بكلمات القديس مكاريوس الكبير:
الديانة المسيحية ليست إذن شيئاً عادياً “هذا السرّ عظيم” (أفسس 5: 32)، لذلك فاعرف قدرتك وسموك لكونك دُعيت إلى الكرامة الملوكية “جنس مختار كهنوت ملوكي وأمة مقدسة”(1بط2: 9)، لأن سرّ المسيحية هو غريب بالنسبة لهذا العالم. والمجد المنظور الذي للإمبراطور أو الملك وكل غناه، إنما هو أرضي وفاني ومضمحل وأما ذلك الملكوت وذلك الغنى السماوي فهو إلهي سماوي ومملوء مجداً وهو لا يفنى ولا يضمحل لأن مثل هؤلاء المسيحيون يملكون مع الملك السماوي في الكنيسة السماوية “وهو البكر من الأموات” (كولوسي 1: 18)، وهم أيضاً أبكار، ولكن رغم أن هذه هي حالتهم وهم مختارون ومقبلون أمام الله، فإنهم يعتبرون أنفسهم أقل الكل وليس لهم أي استحقاق، وقد صار أمراً طبيعياً عندهم أن يعتبروا أنفسهم كلا شيء.
عظات القديس مكاريوس الكبير 27 : 4 صفحة 249
في الجزء الثاني سنتحدث عن: [ ثالثاً – مقدمة: معرفة الكتب وقوة الله ]
جوهر الحياة المسيحية على ضوء معرفة الله ومعرفة النفس
المذيع محمود داود يُعلن إيمانه بالمسيح