الروح القدس ووحدانية الثالوث القدوس في تعليم القديس اثناسيوس
الروح القدس ووحدانية الثالوث القدوس في تعليم القديس اثناسيوس
الروح القدس ووحدانية الثالوث القدوس في تعليم القديس اثناسيوس
إلى القديس أثناسيوس يعزى منهج التعريف اللاهوتي للروح القدس على أصول البحث المنهجي العلمي بما لا يقل دقة وأصالة عن منهجه في التعريف بالابن. وبدراسة الرسائل المتبادلة بينه وبين القديس سيرابيون أسقف تمي في ما يخص الروح القدس، كذلك بدراسة كل ما جاء في دفاعه ضد الأريوسيين، يتضح هذا المنهج بخطواته وعمقه واستشهاداته والتزامه بالفكر التقليدي الكنسي الإسكندري على المستوى الكتابي والروحي وبإلهام واضح. فهو يقول لسيرابيون أسقف تمي هكذا:
[إن هذا هو التعليم الذي استلمته الكنيسة من الرسل.] (إلى سيرابيون 32:28)
[لنتأمَّل في تقليد الكنيسة الجامعة وتعاليمها وإيمانها منذ البدء التي أعطاها الرب، وكرز بها الرسل، وحفظها الآباء. على هذه تأسَّست الكنيسة، ومن يسقط منها لا يعتبر مسيحياً … هكذا ينادَى بإله واحد في الكنيسة، الذي على الكل، وبالكل وفي الكل. “الترجمة الأصح: الذي هو كلِّي الأصل (على) وكلِّي السبب (بـ) وكلِّي التنفيذ (في)، وهي الصفات الخاصة المتكاملة بالآب والابن والروح القدس، حيث كلمة (كل) لا تفيد الأشياء أو المخلوقات بل تفيد معنى الكلية، أي المطلق، أي الله في ذاته الكلية المطلقة” على الكل كآب، كبداية، كينبوع؛ بالكل أي بالكلمة، في الكل أي في الروح القدس … فإن كنتم تفصلون وتعزلون الروح القدس عن اللاهوت، لا يكون لكم ذلك الذي هو في الكل، وإن فكَّرتم في ذلك فإن طقس الانضمام إلى الكنيسة (المعمودية والتثبيت) الذي تدَّعون أنكم تمارسونه لا يكون في اللاهوت قطعاً.] (إلى سيرابيون 28:1و29)
والقديس أثناسيوس يواجه أخطاء جماعة المتقلبين “tropici” في عجزهم عن فهم ما هية الثالوث في وحدانية الله، بتوضيحه أن اختلاط الطبائع يستحيل أن يستقيم مع وحدانية الثالوث غير المنفصل؛ فالروح القدس كونه في الثالوث يستحيل أن يكون بطبيعة غير طبيعة الآب والابن عينها. ومن هنا يستحيل أن يُقال أن في الثالوث خالق ومخلوق، بل إله واحد.
وفي معرض دفاعه يوضِّح علاقة الروح القدس بالآب والابن، وهكذا يقدِّم القديس أثناسيوس ولأول مرَّة في تاريخ الكنيسة اللاهوتي منهجاً تعليمياً مفصَّلاً عن عقيدة الانبثاق، فهو في الأساس يقرِّر بوضوح:
[إن الروح القدس منبثق من الآب]([1])
ثم يضع هذا الاصطلاح اللاهوتي الجوهري مراراً كثيرة هكذا: “الذي من الآب ينبثق” وهو تجميع للآيتين: يو 26:15، 1كو 12:2
ويضيف أثناسيوس عن عقيدة إرسال الروح القدس هكذا:
[الروح القدس الذي ينبثق من الآب فهو دائماً عند (في يدي) الآب الذي يرسله والابن الذي يوصِّله والذي به يملأ كل شيء.]([2])
[لأنه إذا استقام تفكيرهم (المجدِّفين على الروح القدس) عن “الكلمة”، استقام تفكيرهم أيضاً عن الروح المنبثق من الآب، الذي بفضل علاقته (أي علاقة الروح القدس) بالابن – أعطاه للتلاميذ وكل مَنْ يؤمن به. وهم بأخطائهم هذه لا يستقيم إيمانهم بالآب أيضاً لأن الذين “يقاومون الروح” كما قال الشهيد العظيم استفانوس (أع 51:7و52) ينكرون الابن أيضاً، والذين ينكرون الابن ليس لهم الآب أيضاً (1يو 23:2).]([3])
أولاً: علاقة الروح القدس الجوهرية بالكلمة:
وإزاء محاولة جماعة المتقلِّبين جحد لاهوت الروح القدس في الوقت الذي يعترفون فيه بلاهوت الابن، يبدأ ينتحي ناحية فرعية – أثناء دفاعه عن لاهوت الروح القدس – في وصف علاقة الروح القدس الجوهرية بالابن خاصة، فيقول: إن الروح القدس حتى قبل التجسُّد كان “الكلمة” يعطيه باعتباره أنه – أي الروح القدس – له خاصة وأنه هو الباراكليت:
[عندما حلَّ الكلمة على الأنبياء تنبَّأوا بالروح.] (إلى سيرابيون 3:4)
[وبكل تأكيد فإن الكلمة قبل أن يتأنَّس كان يعطي الروح القدس للقديسين باعتباره له أو كخاصته (as his own) كذلك لمَّا صار إنساناً فإنه يقدِّس الجميع بالروح القدس ويقول لتلاميذه “اقبلوا الروح القدس”.]([4])
[هل الروح القدس “واحد” والباراكليت “آخر”، حيث يكون الباراكليت هو بعد الروح القدس، وهل الباراكليت لم يذكر في العهد القديم؟ – حاشا! … فكما أن “الكلمة والابن” هما واحد كذلك “الروح والباراكليت” والرب نفسه قال هكذا: “والباراكليت الذي هو الروح القدس الذي سيرسله الآب باسمي” (يو 26:14) وهكذا يتكلَّم الرب عن الواحد نفسه.]([5])
ملاحظة هامة:
وبسبب هذه الهرطقة التي نشأت منذ القرن الثاني القائلة بأن الباراكليت لم يكن موجوداً في العهد القديم، وأن الروح شيء والباراكليت شيء آخر، وقد تبنَّاها جماعة المتقلِّبين والأريوسيين؛ لذلك اهتم مجمع أفسس أن يقرِّر عن الروح القدس أنه: “الناطق في الأنبياء”، وقد انبرى قبل أثناسيوس يوستين، الذي كان أول مَنْ أعطى صفة “روح النبوَّة” للروح القدس التي نردِّدها الآن في الأجبية عندما كان يتكلَّم عن المعمودية([6])، كذلك تعرَّض لها أوريجانوس أيضاً([7]). يقول القديس أثناسيوس:
[إن الكلمة صار جسداً لكي يقدِّم جسده عن الجميع ولكي إذا نحن اشتركنا في الروح القدس نصير شركاء الطبيعة الإلهية (نتألَّه). هذه العطية التي كان يستحيل علينا نوالها إذا لم يكن لبس جسداً من جسدنا المخلوق، ولكننا بنوالنا الروح القدس لا نفقد طبيعتنا الخاصة.]([8])
كذلك فإن أثناسيوس قبل أن يصل بالقارئ إلى المساواة الكاملة للروح القدس في الثالوث مع الآب والابن، يبدأ أولاً يوضِّح العلاقة الجوهرية المتساوية في كل شيء بين الروح القدس والكلمة، حتى ينفي قطعياً قول الهراطقة أن الابن خلقه فيقول:
[كما أن الابن هو في الآب والآب فيه وأنه من جوهر الآب كذلك فإن الروح القدس هو في الآب والابن فيه، ولذلك لا يمكن أن يُقال إن الروح القدس مخلوق أو يوجد منفصلاً عن الكلمة.]([9])
[وكما أن الابن هو في (من) الآب، لذلك هو من جوهر الآب. كذلك بالتالي فإن الروح القدس لأنه في (من) الله فإنه يتحتَّم أن يوجد جوهرياً مع الابن.]([10])
[عندما افتقد “الكلمة” العذراء القديسة مريم، دخل الكلمة ومعه الروح القدس إليها وصاغ الكلمة جسده بالروح القدس وشكَّله لذاته، إذ أراد أن يوحِّد – فيه – كل البشرية (اتحاد) بالله ويحضرها إليه بواسطة نفسه.] (إلى سيرابيون 31:1)
[لا يمكن أن يتجزَّأ الثالوث، هذا نراه في ما قيل للقديسة مريم نفسها، فإن رئيس الملائكة جبرائيل لمَّا أُرسل لكي يعلن حلول الكلمة عليها قال: «الروح القدس يحل عليكِ»، عالماً أن الروح القدس قائم في “الكلمة”. وبعد ذلك مباشرة يقول: «وقوة العلي تظلِّلك (تسكن فيكِ)» لأن المسيح هو قوة الله وحكمة الله.] (إلى سيرابيون 6:3)
[لذلك كم يكون مستحيلاً أن يُقال إن الروح القدس خارج عن أو غريب من الكلمة لأنه كونه في الكلمة فهو في الله.]([11])
[إن الروح القدس هو التعبير الكياني morf» والصورة الموضّحة للابن كما أن الابن هو التعبير الكياني وصورة الآب.]([12])
وأثناسيوس يستخلص من هذه العلاقة الجوهرية والمتساوية في كل شيء بين الكلمة والروح القدس ردًّا مفحماً لجماعة المتقلِّبين، الذين يقولون بلاهوت الكلمة وينكرون لاهوت الروح القدس قائلين إن الكلمة خلقه.
ولكن لا يغيب عن بالنا أن همّ أثناسيوس الأساسي في إثبات لاهوت الروح القدس ليس من صفاته أو علاقته بالكلمة فحسب، بل ومن عمله في الخليقة القديمة والخليقة الجديدة هكذا:
[بينما أن الخليقة كلها هي مجال عمل الروح القدس المتعدِّد الجوانب، فإنه يعمل بصورة خاصة جدًّا وفائقة في المعمَّدين الذين يوحِّدهم في الله:
وبسبب هذه الوحدة يصيرون بحالة ما مؤلهَّين”.]([13])
(1) التقديس:
[إذن فالروح القدس، الذي لا يتقدَّس هو بشيء خارجاً عن نفسه، ولا يستمد قداسته بالشركة بل هو نفسه ينبوع القداسة وفيه تتقدَّس كل الطبائع المخلوقة، كيف يمكن أن تكون طبيعته مثل طبيعة المخلوقات التي تتقدَّس به؟] (إلى سيرابيون 23:1)
(2) طقس الانضمام للكنيسة (العضوية في جسد المسيح):
[لقد أوصى تلاميذه قائلاً: «اذهبوا وتلمذوا جميع الأُمم وعمِّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس»، لكي بالروح القدس وفيه تكمل معرفتنا بالله، ويتم طقس الانضمام للكنيسة (المعمودية والتثبيت معاً)، ويكمل اتحادنا بشخصه وبالآب.] (إلى سيرابيون)
( أ ) الروح القدس لحظة العماد:
[فماذا قبلوا (لمَّا آمنوا) إلاَّ الروح القدس الذي يُعطى للذين يؤمنون ويُولَدون ثانيةً «بغسل الميلاد الثاني» (تي 5:3).] (إلى سيرابيون 4:1)
(ب) الروح القدس لحظة وضع اليد (الميرون = التثبيت):
[كذلك أيضاً بوضع أيدي الرسل كان الروح القدس يُعطى لمَنْ وُلِدُوا ثانية.] (إلى سيرابيون 6:1)
[ومتى تمَّ هذا إلاَّ عندما جاء الرب وجدَّد كل الأشياء بالنعمة؟ فروحنا تجدَّدت … يقول الله إن روحه هو الذي به تتجدَّد أرواحنا.] (إلى سيرابيون 9:1)
(3) ثم يشير أثناسيوس إلى عمل الروح القدس الأساسي في رسامة الأساقفة في الكنيسة:
[كما قال بولس الرسول: «التي أقامكم الروح القدس فيها أساقفة، لترعوا كنيسة الله التي اقتناها بدمه» (أع 28:20).]
(4) يمتد أثناسيوس بمفهوم قوة التقديس في الثالوث إلى عملها الخاص بالروح القدس، ويستنتج مباشرة أن الروح القدس من جوهر الثالوث أي اللاهوت لأنه يقدِّس الإنسان:
[إن الروح القدس يُدعى روح القداسة (المسيح هو القدوس ابن الله)، وأمَّا المخلوقات فهي تحتاج – بطبيعتها – إلى التقديس، أمَّا هو فلا ينال القداسة من آخر بالمشاركة بل يمنحها باشتراكه هو مع الخليقة (الجديدة)، لذلك كيف يمكن أن يُقال أنه يعتبر واحداً من الخليقة؟] (إلى سيرابيون 23:1)
(5) كذلك يستخدم أثناسيوس سر قدرة الروح القدس على إعطاء الحياة (المسيح هو الحياة) في إثبات لاهوته:
[إنه يُدعى الروح المحيي (و «روح الحياة في المسيح يسوع»، لأن منه تنال المخلوقات الحياة؛ علماً بأن الابن هو نفسه الحياة ويُدعى في الإنجيل رئيس الحياة، فكيف يُحسب الروح القدس ضمن المخلوقات وهو الذي فيه تنال المخلوقات الحياة بواسطة الكلمة؟] (إلى سيرابيون 23:1)
(6) وهكذا يرى أثناسيوس أن علاقة الابن بالروح القدس علاقة (“الابن” وروح البنوَّة)؛ (“قدوس”، وروح القداسة)؛ (“حياة” وروح محيي). كذلك يراها (“مسيح”، ومسحة)؛ (“وكلمة” وختم)؛ (“وطيب”، ورائحة زكية):
[لهذا فكما أن الرب يُدعى ابناً هكذا يُدعى الروح القدس روح البنوَّة (روح التبني)، كذلك أيضاً كما أن الابن يُدعى “الحكمة” و“الحق”، فالروح القدس يُدعى “روح الحكمة” و“روح الحق”، وكما أن الابن هو قوة الله ومجد الآب (رب المجد) فالروح القدس يُدعى روح القوة والمجد:
+ «لو عرفوا لما صلبوا رب المجد.» (1كو 8:2)
+ «إذ لم تأخذوا روح العبودية (الناموس) أيضاً للخوفِ، بل أخذتم روح التبنِّي.» (رو 15:8)
+ «أرسل الله روح ابنه إلى قلوبكم صارخاً: يا أبَا الآبُ.» (غل 6:4)
+ «إن عُيِّرتُم باسم المسيح، فطوبى لكم، لأن روح المجدِ والله يحلُّ عليكم» (1بط 14:4)
+ «المعزي … روح الحق» (يو 14: 26و17).] (إلى سيرابيون 25:1)
[الروح يُدعى المسحة، ويُدعى أيضاً الختم، وبه تُختم وتُمسح الخليقة (الجديدة)، فإن كان الروح هو المسحة وهو الختم الذي به يَمسَح “الكلمة” الجميع ويختمهم، فأية مشابهة تكون بين المسحة والمخلوق الذي يُمسح، أو بين الختم والمختوم. يستحيل أن يكون الختم من عداد المختومين به أو تكون المسحة من عداد الممسوحين (الختم شيء والمختوم شيء آخر، المسحة شيء والممسوح شيء آخر، هذه قوة الطبيعة الإلهية الواهبة وهذه ضعف الطبيعة القابلة) إنه الروح الخاص بالكلمة وبه يُمسح ويُختم (المعمَّدون).] (إلى سيرابيون 23:1)
(7) ويؤكِّد أثناسيوس أن الروح القدس هو روح المسيح الخاص، ويستدل على ذلك من أن الذين يُمسحون به تصير لهم رائحة المسيح الزكية لله والذين يُختمون به تنطبع عليهم صورة المسيح الكلمة:
[المسحة لها نفس رائحة الذي يُمسح بها، ولذلك فالذين يقبلون المسحة يقولون: «نحن رائحة المسيح الزكية لله».] (إلى سيرابيون 23:1)
( 8 ) [والختم يحمل نفس صورة المسيح الذي يختم، ولذلك فالذين يُختمون تصير لهم شركة هذه الصورة، ويتحوَّلون إليها بحسب كلمات الرسول: «يا أولادي الذي أتمخَّض بكم (الميلاد الجديد) إلى أن يتصوَّر المسيح فيكم (بالروح القدس)».] (إلى سيرابيون 23:1)
( 9 ) [وحينما نُختم بالروح القدس نصير شركاء الطبيعة الإلهية (طبيعة الختم والخاتم) بحسب كلمات بطرس الرسول، وهكذا تصبح الخليقة (الجديدة) شريكة الكلمة في الروح القدس.] (المرجع السابق)
(10) وينتقل أثناسيوس سريعاً ليصل بالاتحاد الذي يتم بالكلمة في الروح القدس إلى الاتحاد الذي يتم في الثالوث أي الله الواحد:
[وحيث أننا نصير بالروح القدس شركاء المسيح وبالتالي شركاء الله، يتبرهن من ذلك أن المسحة والختم الذي فينا لا يُحسب أنه من طبيعة الكائنات المخلوقة، بل من طبيعة الابن الذي بواسطة الروح الذي فيه يوحِّدنا مع الآب.] (إلى سيرابيون 24:1)
(11) [فإن كان الآب هو الذي يخلق ويجدِّد الجميع بواسطة الكلمة في الروح … فإن الروح الذي فيه يخلق الجميع، كيف يكون هو مخلوقاً؟
إن قبول مثل هذا الافتراء يضطرنا أن نقول مثل هذا بالتالي عن الابن بل وعن الآب نفسه أيضاً.] (إلى سيرابيون 24:1)
ثانياً: علاقة الروح القدس الجوهرية بالآب والابن في الثالوث:
[الثالوث كله إله واحد …، ولا موضع فيه لشيء غريب عن الله.] (سيرابيون 17:1)
[هذا هو إيمان الكنيسة الجامعة، لأن الرب أسَّسها في الثالوث وأصَّلها فيه عندما قال لتلاميذه: «اذهبوا وتلمذوا جميع الأُمم وعمِّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس».] (إلى سيرابيون 6:3)
يبتدئ أثناسيوس ليثبت وحدة الروح القدس مع الآب والابن، معتمداً كلية على الكتاب المقدَّس مقدِّماً الآيات تلو الآيات، معتبراً أن إعلان الله في الكتاب المقدَّس هو المصدر الوحيد لفهم ماهية الروح القدس، مؤكِّداً إن وحدة الأقانيم الثلاثة هي وحدة جوهر ثم وحدة في صفات وفي أعمال، فكل ما يعمله الروح القدس إنما يعمله من خلال وحدته بالآب والابن.
فهو يعتمد على بولس الرسول مثلاً في قوله: إننا في الروح القدس تستنير عيوننا (انظر: أف 17:1و18)، وإننا جميعاً سُقينا روحاً واحداً (انظر: 1كو 13:12). ثم يطبِّق ذلك على ما جاء عن الآب فيقول إن الكتاب المقدَّس يقول إن الآب نور وينبوع، وكذلك الابن أيضاً الذي يتصل بالآب كما يتصل النهر بالينبوع أو الشعاع بالنور (انظر: عب 1).
[وحيث أن الآب نور والابن بهاء هذا النور، فنحن في الابن ننال الروح الذي به نستنير، وحينما نستنير بالروح القدس يكون المسيح نفسه هو الذي ينير علينا لأنه هو النور الذي يضيء لكل إنسان آتٍ إلى العالم.
وبالمثل من حيث أن الآب هو الينبوع، والابن كنهر، يُقال إننا نشرب الروح …، وحينما نشرب الروح فنحن في الواقع نشرب من المسيح، لأنه هكذا قيل عن شعب إسرائيل في البرية إذ كانوا يشربون من صخرة روحية كانت تتبعهم والصخرة كانت المسيح.] (إلى سيرابيون 19:1)
ومن نفس هذه الوحدة بين الأقانيم الثلاثة نحن نقبل روح التبني:
[حيث أن المسيح هو الابن الحقيقي (بالجوهر)، فنحن حينما نقبل الروح القدس نصير أبناءً “بالروح”. ولكن حينما نصير أبناء، فمن الواضح أن ذلك يتم في “المسيح”، لذلك نُدعى أبناء “لله” (بالتبني).] (سيرابيون 19:1؛ ضد الأريوسية 19:3)
ثم من نفس هذه الوحدة في الثالوث نتقبَّل روح الحكمة:
[حيث أن الابن هو حكمة الله، فنحن حينما نقبل روح الحكمة، فنحن نقبل في الحقيقة الابن الذي به نصير حكماء.] (نفس المرجع السابق)
ثم بنفس هذه الوحدة في الثالوث يصير حلول الأقنوم الواحد، أي الروح القدس، لا بمعنى أنه يكون بديلاً عن الابن أو الآب بل أننا به نحقِّق حلول الآب والابن:
[«إن أحببنا بعضنا بعضاً، فالله يثبت فينا. بهذا نعرف أننا نثبت فيه وهو فينا أنه أعطانا من روحه». وحيث أن الله يثبت فينا، فالابن أيضاً يكون فينا، لأنه هو نفسه يقول ذلك «إليه نأتي – أنا وأبي – وعنده نصنع منزلاً».] (نفس المرجع السابق)
هكذا نرى أن جميع الأعمال المنسوبة للروح القدس تكون في الواقع هي أعمال المسيح نفسه:
[كل ما كان الابن يعمله، كان يقول إن الآب الحالَّ فيه هو الذي يعمله. وهكذا على هذا النمط كل ما كان بولس الرسول يعمله بالروح كان يدعوه عمل المسيح فيه.] (نفس المرجع السابق)
ومن ذلك يخرج أثناسيوس بالنتيجة الآتية:
[فحيث أن الثالوث المقدَّس يمتاز بمثل هذه الوحدة وهذا الاتحاد، فمن ذا يستطيع أن يفصل الابن عن الآب، أو الروح القدس عن كل من الآب والابن؟ ومَنْ ذا يجسر أن يتكلَّم عن اختلاف أو مفارقة في طبيعة الثالوث كأن يقول إن الابن من جوهر مخالف لجوهر الآب أو إن الروح القدس غريب عن الابن؟] (سيرابيون 20:1)
هكذا يصل أثناسيوس إلى الحقيقة أن وحدة الروح القدس بكل من الآب والابن هي من نفس نوع الوحدة الكائنة بين الآب والابن، أي وحدة الجوهر والطبيعة. وهكذا يفحم أثناسيوس المعترضين على لاهوت الروح القدس بنفس برهان التحدِّي الذي قدَّمه مراراً للأريوسيين، أن الأحرى بهم أن يفصلوا الشعاع من النور أو الحكمة من الحكيم إن أرادوا أن يفصلوا الروح القدس عن الآب والابن([14]).
[يقولون – مستنكرين – كيف بمجرَّد أن يكون الروح القدس فينا يُقال إن الابن أيضاً فينا؟ أو حينما يكون الابن فينا يكون الآب أيضاً فينا؟ – ثم يستطردون: إن كان الثالوث حقـًّا من ثلاثة أقانيم، فكيف يكون وجود الواحد منهم كافياً لوجود الثالوث كله؟ إن مَنْ يتساءل مثل هذه الأسئلة فالأحرى به أن يفصل الشعاع من النور أو الحكمة من الحكيم!!] (إلى سيرابيون 20:1)
[كما أن الابن حالٌّ في الروح القدس كما في صورته الخاصة، هكذا الآب حالٌّ في الابن.] (نفس المرجع السابق)
ويوضِّح أثناسيوس هذه التعبيرات الخاصة بالعلاقة بين الأقانيم قائلاً:
[إن الكتاب المقدَّس يستخدم مفاهيم الصورة والشعاع والنور والينبوع والنهر … إلخ لكي يسهِّل علينا التعبير عن هذه الحقائق الفائقة، ولكي نؤمن أنه لا يوجد إلاَّ تقديس واحد للنفس وهو الذي يأتي من الآب بالابن في الروح القدس]
وهذا الاصطلاح يعتبر تلخيصاً سهلاً لكل ما أجاب به أثناسيوس على استنكارات المنكرين لوحدة الأقانيم معاً مع احتفاظ كل أقنوم بمميزاته الشخصية، لأن وحدة القوة المقدَّسة في الثالوث هي التي تفسِّر لنا أنه بمجرَّد حلول أحد الأقانيم الثلاثة، يُقال في الحال إن الثالوث كله يكون موجوداً:
[لكي نعتقد أن هناك قداسة واحدة مستمدة من الآب بالابن في الروح القدس، وكما أن الابن مولود وحيد الجنس، هكذا فإن الروح القدس واحد غير متعدِّد، ليس واحداً من كثير (المواهب المتعدِّدة التي له)، بل روح وحيد. وكما أن الابن الكلمة الحي وحيد هكذا ينبغي أن يكون (روح الابن) القوة الحية والعطية، الذي به يقدِّس وينير، ينبغي أن يكون وحيداً كاملاً تاماً، وهو الذي قيل إنه ينبعث من الآب، لأنه من الكلمة المعترف أنه من الآب، وهو الذي قيل إنه يشرق ويرسل ويعطي – وكما أن الابن أُرسل من الآب، كذلك الابن يُرسِل الروح القدس «إن ذهبت أُرسل الباراكليت».] (إلى سيرابيون 20:1)
[ووحدة الثالوث كاملة، لأن الآب يصنع كل شيء بواسطة الابن في الروح القدس.] (إلى سيرابيون 28:1)
وهنا نستطيع أن نفهم سر إصرار بولس الرسول حينما يتكلَّم عن مواهب الروح القدس كيف يرجع كل شيء إلى الله الآب (1كو 6:12) وهذا يأخذه أثناسيوس ويشرحه:
[فما يقسمه الروح القدس لكل واحد، يكون الآب هو الذي يمنحه بواسطة الكلمة، لأن كل ما للآب هو للابن، وبالتالي فالمواهب التي يمنحها الابن في الروح القدس هي أصلاً مواهب الآب.] (إلى سيرابيون 30:1)
ثم إن هذه الوحدة الكائنة بسبب التساوي المطلق في الثالوث – وحدانية الله – هي التي تفسِّر لنا العمل الواحد والتواجد المشترك للأقانيم فينا:
[حينما يكون الروح فينا يكون الكلمة – الذي يمنح الروح – هو أيضاً فينا وفي الكلمة يكون الآب نفسه].
هكذا يؤكِّد القديس أثناسيوس أن الأقانيم الثلاثة متلازمون، ولا يمكن الفصل بينهم كما لا يمكن الفصل بين النور والشعاع أو بين الشعاع وقوته …
وهنا يكمن سر البركة المتلازمة العمل والفاعلية للثالوث التي يصر عليها بولس الرسول: «نعمة ربنا يسوع المسيح ومحبة الله وشركة الروح القدس مع جميعكم.» (2كو 14:13)
[إن النعمة التي يمنحها الثالوث هي بالضرورة من الآب بواسطة الابن في الروح القدس. فكما أن النعمة تأتي من الآب بواسطة الابن، هكذا أيضاً لا يمكننا أن ننال شركة فيها إلاَّ في الروح القدس، فحينما ننال شركة الروح تكون لنا بالتالي محبة الآب ونعمة الابن.] (إلى سيرابيون 30:1)
[ومن هذا يظهر أن عمل الثالوث واحد، فالمواهب التي يتكلَّم عنها الرسول لا يقول عنها إنها تُعطى من كل واحد من الأقانيم الثلاثة على حدة، بل يقول إنها معطاة في الثالوث، وإن جميعها من الله الواحد … فالروح القدس إذن، وهو متحد بالابن، لا يوجد شيء يعمله الابن إلاَّ ويكون معمولاً في الروح. كما أن الابن وهو متحد بالآب يصنع كل ما يصنعه الآب، فالروح إذن غير منفصل عن الابن، حتى أنه حينما تتم كلمة الرب «وإليه نأتي – أنا وأبي وعنده نصنع منزلاً» يكون الروح معهما بالضرورة يأتي ويسكن فينا كما يسكن الابن تماماً.] (إلى سيرابيون 31:1)
وهكذا فإن القديس أثناسيوس، في معرض دفاعه عن لاهوت الروح القدس، يكون قد استوفى أصعب وأدق موضوع وهو علاقة الأقانيم معاً – وخاصة الروح القدس في الثالوث – وفي نفس الوقت يكون قد استوفى أيضاً عمل الروح القدس فينا من داخل الثالوث.
وهو في ذلك بينما يقدِّم تعاليمه كرجل لاهوت، لا يفوِّت علينا قط أن نلمح أنه إنما يشرح خبرته الروحية العميقة وعقيدته الإيمانية التي يعيش بها خلاصه وحياته الأبدية …
– عن كتاب حقبة مضيئة في تاريخ الكنيسة، القديس اثناسيوس الرسولي، للاب متي المسكين.
([1]) Athanas., Exposito Fidei (ek Thesis), parg. 4.
([2]) Ibid.
([3]) Ad Serap. 1, 2.
([4]) Athanas., C. Ar., I, 48.
([5]) Athanas., C. Ar., IV, 29.
([6]) Justin, Apol. I, 61; I, 6, 13; Trypho 49, 54, 61.
([7]) Origen, In Tir, t. 4, p. 695; cited by Newman, op. cit.,
([8]) Athanas., De Decr. 14.
([9]) Athanas., C. Ar., I, 20, 21.
([10]) Ibid., I, 25.
([11]) Ibid., III, 5.
([12]) Ibid., III, 2; IV, 3.
([13]) Ibid., III, 24, 25.
([14]) Athanas., C. Ar., 1. 29; II. 31; III. 4, 6, 15; De Syn. 52.