ما معنى أن المسيح وحّد الطبيعة البشرية في شخصه كوستي بندلي
ما معنى أن المسيح وحّد الطبيعة البشرية في شخصه
أولا: التصميم الإلهي بالنسبة للطبيعة البشرية
إن التصميم الإلهي بصدد وحدة الطبيعة البشرية يعبّر عنه ما ورد في سفر التكوين عن خلق الزوج الإنساني الأول وما أعطاه الآباء من شروحات لهذا النص الفائق الغنى [1].
فقد ورد في سفر التكوين:
“يوم خلق الله الإنسان على مثال الله عمله. ذكرًا وأنثى خلقه وباركه وسماه آدم يوم خُلق”.
(تكوين 5: 1 و2)
إنه لمما يلفت النظر، إذا تمعنا في هذا النص (راجع أيضا تكوين 1: 27) إن الإنسان المذكور هنا هو بآن معا واحد وإثنان (“ذكرًا وأنثى خلقه”). وكأن الإنسانية لا تتحقق إلا بوحدة بين أقطاب متمايزة. وحدة يشكل الزوج البشري نموذجا لها. وبعبارة أخرى، كأن الإنسانية لا تتحقق إلا بمعية لا تلغي التمايز ولكنها تتخطاه بالتواصل. هذا ما أدركه الآباء، فقال الذهبي الفم معلقا على النص الكتابي الذي نحن بصدده:
“في كلامه عن الاثنين، يتحدث الله عن واحد”.
وقال كيرللس الاسكندري:
“الله خلق الكينونة معا”.
ولكن تحقيق الإنسانية على هذا المنوال يعني بآن معا تحقيق “صورة الله” أو “مثال الله” فيها، كما يتضح من النصين الكتابيين المذكورين أعلاه. مما يعني أن الإنسانية، إذا ما حققت الوحدة بين أقطابها المتمايزة – انطلاقا من خبرة الزوج النموذجية – تصبح كاشفة في ذاتها لحقيقة الله نفسه التي على صورتها بنيت، تصبح بعبارة أخرى أيقونة حيّة لله يعتلن فيها سرّ الوحدة الإلهية نفسها. هذا ما لم ندرك معناه جليا إلاّ بيسوع المسيح عندما عرفنا به أن الله وحدة في ثالوث، أي أنه وحدة وجوه متمايزة تجمع بينها “حركة حب أبدية” عبّرت عنها بشكل أخّاذ أيقونة روبليف الشهيرة.
الوحدة البشرية إنما هي إذًا، على صورة الإله الثالوثي، وحدة في تمايز، وحدة تواصل ومشاركة. والحب الزوجيّ إنما هو مكان مميز لعيش تلك الوحدة والمساهمة في مصدرها ونموذجها الإلهي. من هنا قول الذهبي الفم:
“عندما يتّحد الزوج والزوجة في الزواج، لا يظهران بعد كشيء أرضي، بل كصورة الله نفسه”.
وقول تيوفيلوس الانطاكي:
“لقد خلق الله آدم وحواء ليحقق الحب الكبير بينهما، عاكسَين سر الوحدة الإلهية”.
ولكن ما يصحّ في الحب الزوجي بشكل خاص ومكثف، إنما ينسحب بشكل أعمّ على العلاقات البشرية برمتها. فالإنسانية الحقة، تلك التي يتحقق فيها النموذج الإلهي الذي بموجبه بنيت، إنما هي تلك التي تجمع بين التمايز والوحدة فتنسجم هكذا مع مقاصد الله.
فالبشر متمايزون على مختلف الأصعدة:
– فهناك تمايز الأفراد بما يحمله كل منهم من طباع وتربية وعادات وآراء وخبرات وتطلعات…
– وهناك تمايز الجنسين بما يحمله هذا التمايز من فوارق بيولوجية ومن توزيع اجتماعي وتاريخي للأدوار.
– وهناك تمايز الشعوب والحضارات والأعراق واللغات.
– وهناك تمايز الفئات الاجتماعية المرتبط بموقعها الاقتصادي والمهني (عمال وأرباب عمل، الفئات المهنية المختلفة…).
– وهناك تمايز المذاهب والمعتقدات.
إنما وجوه التمايز هذه مدعوة، حسب مقاصد الله، أن تكون فرصة تكامل وإثراء متبادل بين البشر (كما تتكامل الأنغام المختلفة في قطعة موسيقية)، وذلك عن طريق التعاون والتعاطف والتفاعل والتبادل والتفاهم، في جو من الاحترام المتبادل، والعدالة والمشاركة، أي بعبارة واحدة في جو من المحبة التي تؤالف بين الأفراد والفئات على اختلافهم وتجعل من هذا الاختلاف عينه منطلقا للتجاذب والتداخل والتكامل.
ثانيا: الوضع البشري الساقط وتعطيله لمقاصد الله
ولكن الوضع الإنساني الراهن إنما هو وضع سقوط، أي انه وضع يعيش فيه الإنسان دون المستوى الذي خُلق من أجله وسُجّل التوق إليه في صميم كيانه. بعبارة أخرى، الإنسان متخلف عن إنسانيته الأصيلة، متغرب عنها. وكما يشار إلى وضع البلاد المتخلفة بالعبارة الفرنسية sous-développement، يمكن الإشارة إلى الوضع الإنساني الراهن بعبارة sous-humanité.
هذا الوضع فيه تعطيل للتصميم الأصلي – بمعنى الأصيل وبمعنى النابع من الأصل الإلهي – المسجّل في الكيان الإنساني. انه تغرب الإنسان عن ذاته الحقيقية، هو ما يترجم لا محالة بغربة بينه وبين سائر الناس، علمًا بأن هذه الغربة الأخيرة تعبّر من جهة عن غربته عن ذاته ومن جهة أخرى تعمّق هذه الغربة وترسّخها.
إن الوضع الساقط هو بآن معا – وبتفاعل جدليّ – تصديع لكيان كل إنسان وتفتيت للوحدة بين البشر.
الوضع الساقط ناتج، حسب الوحي الإلهي، من محاولة الإنسان – وهي محاولة تتكرر جيلا بعد جيل – الاستئثار بذاته، الاكتفاء بها، بدل تقبّل ذاته هبة حب من خالق كيانه. إن هذا التقوقـع على الذات – وهو تقوقع وهمي وانتحاري لأن الذات لا تستمد وجودها في كل لحظة إلا من حبّ الآخر الإلهي لها – من شأنه أن يعطل بآن معا سلامة هذه الذات التي لا تحيا وتنتعش في العمق إلا إذا بقيت متصلة بربها في حركة تقبّل وعطاء، وسلامة علاقتها بالآخرين إذ لا بدّ أن تشوه الإنطوائية هذه العلاقة وتمسخها، مما لا بدّ له أن ينعكس سلبيا، كما قلنا، على سلامة الذات التي لا تحيا فعلا إلا إذا عاشت مع الآخرين علاقة التبادل والمشاركة.
إن تصدع علاقة الإنسان بالآخرين، الذي هو وجه من وجوه الوضع الساقط، يتخذ الشكل التالي: لقد قلنا أن هناك اختلافًا طبيعيًا قائمًا بين الأفراد والجماعات، وان هذا الاختلاف هو أصلاً مصدر إثراء متبادل إذا بقي المرء منفتحًا على الآخر، متقبلاً إياه على اختلافه. أما موقف الاستئثار والاكتفاء والتقوقع، الذي يتميز به الوضع الساقط، فانه يمحور الإنسان على ذاته بشكل مفرط، متشنج، بحيث يجعله رافضًا لاختلاف الآخر، لأنه لا يسعه أن يرى الوجود إلا من زاويته الخاصة، ولا يقيم وزنًا إلا لهواجسه الذاتية ومصالحه ورغباته. انه يتنكر لاختلاف الآخر وذلك عن طريقين، ألا وهما كره الآخر من جهة، ومحاولة تذويبه في الذات من ناحية أخرى.
1- كره الآخر
هذا الكره يتجلى بالنفور من الذي يختلف عني سواء أكان ذلك بالعرق أو باللون أو باللغة أو بالأمة أو بالحضارة أو الثقافة أو بالمعتقد أو بالدين أو بالميول أو بالمزاج… وكأن مجرد وجود من يختلف عني يعتبر تهديدًا لوجودي لمجرد كون ذلك يشاركني في الوجود وبالتالي لا يسمح لي بأن أستأثر به لوحدي. وكأن وجوده انتقاص لوجودي. وكأن ما يتمتع به من خيرات الحياة إنما هو مستلب مني. وكأن نظرته المختلفة إلى الوجود تنافس نظرتي وتحدّ من قيمتها ومصداقيتها. هذا الوضع البشري المأساوي الممزّق هو ما عبر عنه الفيلسوف الوجوديّ سارتر بعبارته الشهيرة: “الجحيم هو الآخرون”. من هذه الزاوية، الفارق الجنسي نفسه ينشـئ لا تجاذبًا فحسب بل نفورًا وعدوانية أطلقت عليهــا تسميـة “حرب الجنسين” (La Guerre des Sexes)
ذلك أن النفور من الآخر يفرز العدوان بين الأفراد والجماعات البشرية. من هنا مشاجراتي مع الذين يختلفون عني بأفكارهم وميولهم ومزاجهم ومصالحهم. من هنا حسدي من الذي يتمتع بأمر ما لا أتمتع أنا به (ولو كنت أنا متفوقًا عليه من نواح أخرى). من هنا الحروب الحارة أو الباردة، التي ملأت ولا تزال تاريخ البشرية، بين الأمم والحضارات والمذاهب والأديان، وما تسببت به هذه الحروب من مجازر رهيبة. لا بل أن الكراهية قد تبلغ ذروتها بين إنسان وإنسان، بين فئة وفئة، إذا اقتصر الاختلاف على تفاصيل، وكأنه أسهل على المرء أن يقبل بوجود اختلاف كبير بينه وبين سواه في حين أن اختلافا صغيرا، على خلفية من الاتفاق، من شأنه أن يكون أكثر بروزًا وبالتالي أقل احتمالاً بفعل هذه الخلفية عينها. هذا ما سماه فرويد “نرجسية الفوارق الصغيرة”. من هنا تطاحن المذاهب ضمن الدين الواحد واقتتال الأجنحة والتيارات ضمن الحزب الواحد، والنفور الشديد الذي قد يحتدم بين أخوة أو أصدقاء بسبب فارق بسيط بينهم في حين أن كثيرا من التشابه يجمعهم (وكأن لسان حال المرء في هذه الحال هو: لماذا لا يشبهني بكل شيء ولا يكون صورة طبق الأصل عني طالما هو قريب مني بهذا المقدار؟ أو: البعيد جدًا عني بأفكاره لا يهدد مصداقية أفكاري كما يهددها ذلك القريب مني بمجمل أفكاره ما عدا في نقطة محددة، لأن هذا يكشف لي بالضبط أنه يمكن من المنطلقات نفسها أن يكوّن المرء رأيًا مخالفًا لرأيي).
2- تذويب الآخر
هذا الرفض لاختلاف الآخر، النابع من النزعة إلى الاستئثار والاكتفائية، كثيرا ما يتخذ شكلاً مختلفًا، ألا وهو محاولة تذويب الآخر فيّ (أو في جماعتي). النفور يستهدف في آخر المطاف إزالة الآخر من الوجود (مشروعه الأخير هو مشروع قتل: “من أبغض أخاه فهو قاتل نفس”: 1يوحنا 3 :15) والقضاء بالتالي على اختلافه الذي يهدد محورتي واستئثاري. أما التذويب فغايته القضاء على هذا الاختلاف، إنما بشكل مختلف، بشكل تسخير الآخر واختلافه لخدمة مصالحي ومشاريعي وآرائي، واحتوائه فيها، وتحويله إلى مجرد أداة لها، بحيث لا يعود قائمًا بذاته ولذاته، بل بالإضافة إليّ، من أجل دعم أفكاري وتحقيق منافعي. أي إنه، بعبارة أخرى، يصبح مجرد امتداد لي. هذا وبمقدار ما اضطره إلى أن يوجد لا لذاته ومن أجل ذاته، بل من أجل أغراضي أنا، أفقده صفته الشخصية التي تمنحه فرادته وأجعل منه شيئًا من أشيائي. من هنا ان عملية التذويب هذه هي عملية تشييء للآخر، وبالتالي فإنها عدوان لا يقلّ عنفًا عن العدوان الجسدي. إنها قتل، إنما هو قتل معنوي.
هذا التشييء يتجلى بشتى أنواع الاستغلال والاحتواء والاستعباد، على اختلاف ميادينها وأنماطها. ومنها:
أ – على الصعيد السياسي: استئثار فرد أو مجموعة بالحكم وحق القرار. هذا من شأن الأنظمة السلطوية كلها، قديمها وحديثها، التي تقمع الحريات وتصادر حق الناس في تقرير مصيرهم. هذا شأن الاستعمار على أنواعه، بشكله القديم الشامل أو بشكله الجديد الذي يتخذ صورة الاستعمار الاقتصادي والثقافي والإيديولوجي…
ب – على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي: هذا هو شأن العبودية التي كانت تجعل من العبد شيئًا (في القانون الروماني) يتصرف به سيده وفقًا لمصالحه ورغباته، دون إقامة أي وزن لوجوده الشخصي. هذا أيضًا شأن استغلال فئات واسعة من الناس بتشغيلهم من أجل إثراء فئة مهيمنة في حين انهم يحرمون من شروط الحياة الكريمة ويعتبرون أدوات إنتاج ليس إلا تُستأجر بأبخس الأثمان (تذكَّر بعض مخازي الرأسمالية الأوروبية في القرن الماضي من تشغيل أطفال في الثالثة من عمرهم في مناجم الفحم وفرض خمس عشرة ساعة يومية من العمل في المصانع على أولاد في الثامنة من العمر…). وهذا شأن استغلال البلاد الغنية للعالم الثالث ونهبها لموارده من أجل ازدهارها في حين أن شعوب البلاد النامية تعاني من الجوع والبؤس والجهل والمرض والقهر.
ج – على الصعيد الديني: النزعة إلى تذويب الآخر فيّ وفي جماعتي وجدت ولا تزال، في الدين، مجالا مميزًا لممارستها، وذلك لأنه يُتاح لها، في هذا الميدان، أن تتستر بأَنبل الذرائع، ألا وهي ذريعة الإخلاص للحق الإلهي، وأن تبرر ذاتها بحجة تحرير الناس من الضلال وبالتالي إسعادهم… ولو رغم أنوفهم. من هنا اعتماد شتى وسائل الإكراه – جسديًا كان أو معنويًا – لإرغام الآخر على اعتناق معتقدي. ولم تنجُ المسيحية نفسها، للأسف، من هذا الانحراف الذي اتخذ فيها أشكالاً متعددة، منها “التبشير” المسلّح (شارلمان والسكسون، المستعمرون الاسبان وهنود أميركا …) ومنها اضطهاد الهراطقة وغير المسيحيين. وقد يتخذ مشروع التذويب هذا شكلاً أكثر تخفيًا وهو الموقف السلطوي لدى قيادة الجماعة الدينية، والذي هو – مهما خلصت النوايا الواعية لدى الذين يتخذونه – تنكر فعلي لوجود الآخر لأنه يتخذ عنه القرار بدل إشراكه في اتخاذه. وقد تسربت هذه السلطوية إلى الكنيسة الأرثوذكسية نفسها، التي يفرض فيها أن تكون أبعد ما يكون عنها بفعل تراثها الأصيل ولا عجب في ذلك: فان الكنيسة، وان كانت “مقدسة” بطبيعتها، إنما هي كنيسة خطأة يحملون الكنز “في أوان من فخار”. هذا ما تنبه إليه الآن العديد من رعاة هذه الكنيسة وعلمائها المخلصين، فدعوا إلى اليقظة والتوبة، ومنهم الأب دانيال سيوبوتيا، الروماني الأصل، والمطران أنطوان بلوم، الروسي الأصل، الذي حذر من تحويل الوحدة الثالوثية للكنيسة، وهي وحدة محبة لا تبعية فيها، إلى وحدة هرمية سلطوية[2].
د – على الصعيد العائلي: ومن باب تذويب الآخر نزعة الوالدين – التي غالبًا ما تختفي و”تتعقلن” وراء أطيب النوايا وأفضل المبررات – إلى اعتبار أولادهم مجرد امتداد لهم يعكسون أفكارهم وتوجهاتهم وينفذون مآربهم ويحققون أحلامهم، وذلك على حساب خصوصية الأولاد ومصالحهم الحقيقية: هذا ما يتجلى مثلا بإرغام الولد، سواء أكان ذلك بالقوة أو – ما هو أدهى- بالابتزاز العاطفي، إلى تنفيذ كل ما يرغبه الوالدان منه؛ أو فرض مهنة ما أو زواج ما – بأحد الأسلوبين المذكورين – على الابن أو الابنة وفقا لما يلائم الأهل … بالمقابل نجد نزعة الأولاد إلى اعتبار الوالدين موجودين فقط من أجلهم هم، ليؤمّنوا لهم كل ما يرغبونه، بحيث يُختزل الآباء في وظيفتهم الوالدية وتُغيَّب ذاتيتهم الفريدة وما لديها من معاناة.
هـ – على الصعيد الجنسيّ: تذويب الآخر يتخذ، على الصعيد الجنسيّ، شكل اعتبار المرأة على إنها موجودة فقط بالإضافة إلى الرجل من أجل تنفيذ رغائبه وتحقيق مشاريعه والترفيه عنه والسهر على راحته وتأمين ذريته. هذا ما عبّرت عنه المفكرة الوجودية المعاصرة سيمون دي بوفوار بإطلاقها على المرأة تسمية “الجنس الثاني” (Le Deuxième Sexe)، وهو عنوان كتاب شهير لها. هذا ما يستتبع الاعتبار بأن المبرر الوحيد لوجود المرأة إنما هو توفير المتعة الجنسية للرجل وإنجاب الأولاد له ورعايتهم، من أجل تخليد اسمه، وتأمين حاجاته المختلفة (من طبخ وترتيب منزلي وما شابه ذلك…) ليتسنّى له الانصراف إلى مهماته الاجتماعية وتحقيق ذاته من خلالها، في حين انه يفترض – ويفرض على المرأة هذه الفرضية – أن المرأة تجد حتما تحقيق ذاتها في انصرافها لخدمته وخدمة ذريته. وقد يُتخذ من شعار “تحرير المرأة” نفسه ذريعة لاستلابها وتذويب فرادتها، كما هي الحال اليوم في البيئات التي يسودها نمط “مجتمع الاستهلاك”، حيث يُنظر إلى المرأة على أنها سلعة تشترى وتباع في سوق شهوة الرجال (المجلات والأفلام الإباحية وما تشكله من تجارة ضخمة) وتستخدم في الترويج لبضائع أخرى عن طريق تحويل جسدها إلى مجرد أداة للإثارة وتسخيره لأغراض الإعلان التجاري. بالمقابل نجد محاولة المرأة أن تستخدم إغراءها للتسلط على الرجل والتحكم به ونيل مأربها منه، وكأنها ترتضي عند ذاك أن تدخل في لعبة تشييئه لها لتتمكن منه وتتوصل إلى تذويبه في أغراضها… وهكذا يتحول الجنس – الذي رأيناه في مقاصد الله مكانا مميزًا لعيش الوحدة – إلى ساحة للصراع المميت.
إن تغَرّب الإنسان عن سواه، الذي استعرضنا عددًا من مظاهره، لا يؤذي الآخر وحسب، بل يرتدّ على الذي يمارسه أيضًا ليمعن في تعطيل إنسانيته. فالمبغض والمستعبد والمستغلّ يسيء إلى نفسه أيضًا لأنه، بموقفه هذا، يتغرب عن الآخرين ويحرم نفسه من فرح المشاركة وثرائها ويعطل في ذاته طاقات الحنان التي لا إنسانية حقة بدونها ويحكم على نفسه بالعزلة ويوقظ لدى الآخرين ميـولا عدوانية كثيرا ما تنقلب عليـه فتدمره. تلـك هي ظاهرة “القتل الانتحاري” Le Meurtre Suicidaire التي تحدّث عنها المفكر المسيحي المعاصر موريس بلّليه: فالإنسان الذي يدمّر الآخر بتنكره لاختلافه، إنما يدَمّر نفسه بالمقابل، لأنه بحاجة إلى التعاطي مع هذا الاختلاف ليحقق إنسانيته فعلاً ويحيا بالحقيقية. وقد كان كشفًا لي، من هذا القبيل، أن أستمع إلى تعليق أحد الأصدقاء الذي قال، في لقاء صلاتي كان يجمعنا حول كلمة الله، إن عبارة “من أبغض أخاه فهو قاتل نفس” التي ذُكرت أعلاه والتي هي مستمدة من رسالة يوحنا الأولى، إنما عنت له، في شطرها الأخير، أن النفس التي يقتلها البغض ليست نفس الذي يستهدفه البغض وحسب بل نفس المبغض عينه أيضًا، أي أن المبغض يقتل نفس الآخر ونفسه هو بآن.
ثالثا: صورة تصدّع الوحدة البشرية، في الكتاب المقدس
هذا التصدع للعلاقة الإنسانية، وبالتالي تفتت الطبيعة البشرية، النابعان من الوضع البشري الساقط، عبّر عنهما الكتاب المقدس بصور عديدة، منها:
1- إن آدم، بعد السقوط، تغرب عن حواء. ففي حين أنه كان يقول عنها قبل ذلك إنها “لحم من لحمه وعظم من عظامه” (تكوين 2 :23)، نراه بعدئذ يلقي عليها تبعية المعصية ليتنصل هو منها (تكوين 3 :12).
2- إن أول جريمة قتل ارتكبت في البشرية، حسب ما يروي الكتاب المقدس، إنما هي قتل قايين لأخيه هابيل بدافع حسده منه (تكوين 4). وكأن الكتاب يشير بذلك إلى أن كل جريمة قتل يقترفها الإنسان إنما هي قتل أخويّ، لأن الإنسان الآخر، أيًا كان، إنما هو أخي، لذا فإنني، بتدميري إياه، إنما أدمّر ذاتي. الآخر هو “لحمي”، بموجب عبارة رائعة وردت في نبؤة أشعيا (“… أن لا تتوارى عن لحمك”، أشعيا 58: 7). فإن تغربت عنه، إنما أتغرب عن ذاتي؛ وإن آذيته، فإنني أؤذي نفسي.
3- هذا التناحر الأخوي نجد صورة أخرى له في علاقة يعقوب وعيسو، ولدَي اسحق. فيعقوب ينتزع بالخداع والاستغلال حق البكورة من عيسو، وهذا من جهته يتربص بأخيه ساعيا إلى قتله (تكوين 27).
4- قبل ذلك حدثنا الكتاب عن قصة برج بابل (راجع تكوين 11)، وروى كيف أن الناس، عندما شاؤوا أن يقتحموا السماء، أي أن ينصّبوا أنفسهم آلهة دون الله، أن يكتفوا بأنفسهم ويستأثروا بها، لم ينفصلوا عن الله وحسب بل عن بعضهم البعض أيضًا، بحيث أن اللغة، وهي أساسًا أداة التفاهم، غدت أداة الاغتراب والتنافر. فقد تبلبلت ألسنتهم بحيث لم يعد بإمكانهم أن يتلاقوا ويتفاهموا فيما بينهم.
5- ثم أن هناك أشكال العبودية واستغلال الإنسان لأخيه التي يحفل بها الكتاب المقدس منددًا بها. ففرعون والمصريون استعبدوا الشعب العبراني وحكموا عليه بالأشغال الشاقة ومارسوا بحقه إبادة جماعية. وقد ساعد الله هذا الشعب على التحرر من مستعبديه على يد موسى، فأصبحوا من جراء ذلك شعبه المختار. إنما كان مفروضا فيهم، ليكونوا فعلاً شعبه، أن يتصرفوا في الأرض كشهود لصورته يرسمونها في مختلف علاقاتهم الإنسانية. من هنا أن الشريعة كانت تطالبهم بأن يعاملوا بعضهم بعضًا بالعدالة والرحمة وأن يحرصوا على حقوق الأرامل والأيتام والغرباء، متذكرين ما ذاقوه من عبودية في مصر وما حررهم الرب منه ليصبحوا بدورهم محررين لسواهم. ولكن أشكال العبودية والاستغلال انتشرت فيما بينهم واستفحلت، فصار الملوك والأغنياء يتنعمون على حساب بؤس المحرومين، وتصدعت تلك الوحدة الإنسانية التي كان مفروضا في شعب الله أن يكون رائدًا لها ونموذجًا. فتصدى الأنبياء جيلاً بعد جيل لكل أنواع الظلم والقهر والاستئثار، ونالوا بسبب من ذلك ألوان الاضطهاد والهوان. هكذا كان الله، عبر الأنبياء، ساعيًا إلى ترميم صورته في الناس لتعود إلى الطبيعة البشرية تلك الوحدة التي بدونها لا يحقق الإنسان إنسانيته.
رابعا: المسيح يوحّد الطبيعة البشرية في شخصه
هذا الترميم إنما بلغ ذروته في المسيح يسوع الذي وحّد في شخصه الطبيعة البشرية المتصدعة ورسم معالم هذه الوحدة في الكنيسة التي أنشأها لتكون باكورة الإنسانية المتجددة وخميرتها.
1- كيف رمّم المسيح وحدة البشرية في شخصه
أ – من جهة تابع يسوع خط الأنبياء، منددًا بكل ما يصدّع الوحدة بين البشر. فإنه مثلا بيّن، في مثل الغني ولعازر، كيف أن الغنيّ دمّر ذاته بتنكره للعازر الذي كان يعاني من الجوع والمرض على عتبة ولائم الغني، دون أن يبدي هذا اكتراثًا لآلامه. كذلك فإنه تصدى لاستعلاء الكتبة والفريسيين وتسلطهم الديني واهتم بنوع خاص بالذين كان المجتمع اليهودي ينبذهم في ذلك الحين (الخطأة والبرص وذوي العاهات).
ب – ولكنه فعل ما هو أهم وأعمق من ذلك، إذ به تمّت إعادة تكوين الطبيعة الإنسانية على صورة الله التي كانت قد تشوهت فيها وخبت. وقد تمّ ذلك بفعل التجسد والفداء. فابن الله، الذي هو أزليًا في وحدة مشاركة تامة مع الآب: “كل ما هو لي فهو لك وكل ما هو لك فهو لي”: يوحنا 17: 9، صار بشرًا ليضم إليها الطبيعة الإنسانية ويدرجها بالتالي في حياة الثالوث بحيث تصبح ثالوثية حسب مقاصد الله خالقها، فتحيا الوحدة في التمايز، وبالتالي تحقق أصالتها واكتمالها. لقد اتحد ابن الله بالطبيعة البشرية كما تتحد النار بالحديد، فيبقى الحديد حديدًا والنار نارًا ولكن الحديد يتأجج بالنار وكأنه تحول إليها بوهجه وحرارته. هكذا بالتجسد بقي البشر بشرًا ولكنهم اكتسبوا طاقة المشاركة التامة في الحياة الإلهية بما في ذلك أن يعيشوا بتلك الوحدة في التمايز التي خلقوا من أجلها وبها تكتمل إنسانيتهم، والتي هي سمة الثالوث. إن هذه الوحدة الثالوثية التي يزرعها التجسد في الطبيعة البشرية، تعبّر عنها صلاة يسوع الأخيرة قبل الآلام حين يقول:
“أيها الآب القدوس احفظ باسمك الذين وهبتهم لي ليكونوا واحدًا كما نحن واحد
(…)
لا أدعو لهم وحدهم بل أدعو أيضا للذين سيسمعون كلامهم فيؤمنون بي. فليكونوا بأجمعهم واحدًا: وكما أنت فيّ أيها الآب، وأنا فيك، كذلك فليكونوا فينا واحدًا…”
(يوحنا 17: 11، 20-21)
فمن هذا النص يتضح أن الوحدة بين الآب والابن، وهي وحدة تامة في تمايز تام، هذه جاء الابن يبثها بتجسده في الطبيعة الإنسانية.
ج – ولكن ذلك لم يتمّ بشكل سحريّ. بل كان على الإنسانية في يسوع المسيح، أن تتحول شيئًا فشيئًا، دون أن تفقد خواصها البشرية، إلى تلك الألوهة الحالّة فيها (“فيه يحلّ كل ملء اللاهوت جسدياً” كولسي2: 9)، فتصبح بذلك مكانا تتأجج فيه حياة الثالوث وتتحقق فيه وحدته، من هنا أن حياة يسوع البشرية كانت كلها حياة “طاعة” كما يقول الكتاب. أي أنه كان، طيلة حياته، يتجاوب وينسجم، في إنسانيته، مع حياة الإله الثالوثي. وبما أن سمة تلك الحياة في جوهرها إنما هي المحبة (“الله محبة” 1يوحنا4: 16)، فقد كانت المحبة الطاقة المحرّكة لسلوكه البشري برمته. فكان هذا السلوك تعبيرا عن إخلاص كامل لله وللبشر أبنائه. والمحبة تعني البذل، ولا بدّ لهذا البذل، إذا أخذ كل مداه في حياة إنسانية، أن يؤول إلى الموت من اجل المحبوب: “ما من حب أعظم من حب من يبذل نفسه في سبيل أحبائه” (يوحنا 15: 13). من هنا أن “طاعة” يسوع، أي انسجامه الكامل في وجوده الإنساني مع الإله الثالوث، كان لا بدّ لها أن تبلغ ذروتها بالموت (“أطاع حتى الموت، الموت على الصليب”: فيليبي 2: 8)، ذلك الموت الذي قاده إليه إخلاصه الكامل لحقيقة الله ونضاله الجريء من أجل تحرير الإنسان من نير يُفرض عليه باسم الله ورفضه بأن يسخّر الله لينصب نفسه حاكمًا على البشر بالضغط والإكراه، والذي به تحقق ملء الانسجام بين إنسانية يسوع وبين الله – المحبة، إذ به تمكن الله من التعبير عن “حبّه الجنوني” – الذي هو سمة حياته الثالوثية – بانحداره عبر يسوع إلى جحيم الإنسان ليشاركه فيه. ولم يكن هذا الأمر بممكن (لأن الله بطبيعته لا يموت) لو لم تكن إنسانية يسوع طيّعة كليًا بالحب (حب الله والبشر) لمقاصد الله بحيث ارتضت أن تكون معبره إلى عمق مأساة الإنسان.
هكذا فبالصليب ارتقى يسوع بإنسانيته إلى مستوى الحب الثالوثي- الذي كان مشاركًا به بلاهوته منذ الأزل. فانه “تعلم الطاعة، وهو الابن، بما لقي من الألم” (عبرانيين 5: 8) وبذلك “جُعل كاملا” (عبرانيين 5: 9)، أي أن إنسانيته أصبحت، بسبب من شفافيتها الكاملة، المكان الذي تتوهج وتتفجر فيه الحياة الإلهية الثالوثية بملئها. هكذا “تمجدت” إنسانية يسوع (وكانت القيامة مؤشر هذا التمجيد) وأصبحت هيكل الثالوث أي مكان حضوره المنير والمحيي في الكون.
2- كيف ارتسمت هذه الوحدة في الكنيسة
هذه الإنسانية الممجّدة لم تبقَ وقفًا على يسوع، إنما أصبحت بالقيامة متجاوزة لكل حدود الزمان والمكان، وبالتالي منسحبة على الناس أجمعين، ينضمون إليها إذا شاؤوا فتتسرب حياتها إلى حياتهم وتجدد حياتهم بما يتدفق منها من حضور الهي. هذا ما يحصل لكل إنسان بالروح القدس الذي انسكب يوم العنصرة ولا يزال، فائضا على البشر من إنسانية يسوع الممجَّدة ومصوّرًا إياها في كل واحد منهم، راسمًا سمتها فيه، إذا شاء أن يقبل الروح في ذاته وأن يسلم إليه كيانه.
فمن تقبل في ذاته سمات إنسانية يسوع الممجَّدة، تتحقق فيه إنسانية على صورة الإله الثالوثي، أي إنسانية لا منطوية، مكتفية، مستأثرة، وبالتالي مشوَّهة، معطَّلة، مقزَّمة، بل إنسانية تحيا المشاركة في الاختلاف والوحدة في التمايز، فتبلغ بالتالي إلى ملء قامتها البشرية.
هذه الوحدة التي رمَّمها يسوع فينا يعبّر عنها العهد الجديد بأشكال مختلفة:
أ – منها مثلاً ما ورد في إنجيل يوحنا، إذ قال معلقاً على نبوءة فاه بها عظيم الأحبار قيافا من حيث لا يدري:
“فأنبأ أن يسوع سيموت فدى الأمة، وليس فدى الأمة وحسب، بل يموت ليجمع شمل أبناء الله المشتتين”
(يوحنا 11: 51-52)
ب – ومنها ما ورد في أعمال الرسل عن حلول الروح القدس على التلاميذ يوم العنصرة. فعندما امتلأوا من الروح القدس وخرجوا للحال إلى الناس ليبشروهم بالمسيح، كان اليهود المجتمعون في ذلك الحين في أورشليم وقد أتوا من أقطار متعددة من الشتات يسمعون كلامهم كل فئة منهم بلغة البلد الذي أتت منه:
“وكان في أورشليم أناس أتقياء أتوا من كل أمة تحت السماء. فلما انطلق ذلك الصوت، اجتمع الناس وقد أخذتهم الحيرة، لأن كلاً منهم كان يسمعهم يتكلمون بلغته”.
(أعمال 2: 5و6)
وهنا إشارة إلى انه، بالمسيح، حصل عكس ما كان قد حصل في حادثة برج بابل. فهناك تغرّب البشر عن الله: فتغربوا عن بعضهم البعض، وأصبحت اللغة فاصلاً بينهم عوض أن تكون جامعة. أما هنا فبالمسيح انحدرت حياة الله إلى البشر فجمعت شملهم وأصبحت اللغة موحّداً بينهم عوض أن تكون مفرّقاً.
ج – ومنها ما علّم به الرسول بولس عن إلغاء الحواجز بين فئات البشر، الذي تمّ بالمسيح. قال:
“فليس بعد يهودي ولا يوناني، ليس عبد ولا حرّ، ليس ذكر وأنثى: لأنكم جميعاً واحد في المسيح يسوع”.
(غلاطية 3: 28).
“فقد خلعتم الإنسان القديم وخلعتم معه أعماله، ولبستم الإنسان الجديد، ذاك الذي يسير إلى المعرفة الحقيقية في تجدده على صورة خالقه. فلم يبقَ هناك يوناني أو يهودي، ولا ختان أو قلف، ولا أعجمي أو اسكوتيّ، ولا عبد أو حرّ، بل المسيح الذي هو كل شيء وفي كل شيء”.
(كولسي 3: 9-11)
في هذين النصين، يعلن الرسول تهديم الحواجز القائمة آنذاك بين البشر: تلك التي كانت تفصل اليهود عن غير اليهود (“اليونانيين”)؛ تلك التي كانت تنتصب بين المنتمين إلى الحضارة اليونانية وبين الأعاجم (Barbaros)، ومنهم الاسكوتيين، “نسبة إلى بلد على الشاطئ الشمالي للبحر الأسود كان سكانه أبعد الناس عن الحضارة اليونانية”، وبين العبيد والأحرار، وبين الذكور والإناث. أي انه يعلن تهديم حواجز الأمة والدين والطبقة والجنس. مما يعني انه، نتيجة لـِ”الإنسان الجديد” الذي يقيمه المسيح:
- تزول العداوة بين اليهود والوثنيين من جهة، وبين المنتمين إلى الحضارة الرومانية – اليونانية وغير المنتمين إليها من جهة أخرى.
- يزول الامتلاك والاستغلال والاستعباد والاستعلاء بين الأحرار والعبيد، فيستعيد العبيد ملء كرامتهم في نظر الأحرار.
- يزول الاستغلال والتسلط والتناحر والاستلاب في العلاقة بين الجنسين ويسود بينهما التفاهم في الاحترام المتبادل.
د – وعن العداوة التي زالت بالمسيح بين اليهود والوثنيين، كتب الرسول بولس يقول:
“فانه سلامنا فقد جعل من الجماعتين جماعة واحدة وهدم بجسده الحاجز الذي يفصل بينهما، أي العداوة (…) ليخلق في هاتين الجماعتين، بعدما أوقع السلام بينهما، إنسانًا جديدًا ويصلح بينهما وبين الله وقد قضى على العداوة بصليبه، لتصيرا جسدًا واحدًا…”
(أفسس 2: 14-16)
هذه الوحدة التي يقيمها المسيح بيننا لا تلغي الفوارق ولا تزيل الفرادات، وإلا كانت وحدة ذوبانية، استلابية، غير جديرة بالإنسان، محرومة من كل الغنى النابع من تفاعل الخصوصيات وتكاملها. الوحدة التي يحققها المسيح فيما بيننا إنما هي، بالعكس، كما قلنا، وحدة ثالوثية، أي وحدة تمايز.بالمسيح يصبح كل واحد منا وجها فريداً، نسخة لا بديل عنها، للوحدة البشرية الشاملة. أي أننا نحيا الوحدة مع سائر الناس، إنما نحيا هذه الوحدة بأسلوبنا الخاص الفريد، فتتخذ فينا وجهاً متميزاً عن أي وجه آخر، وجهاً يطبع الوحدة الإنسانية بطابع فرادته ويضفي عليها نكهة لا بديل لها:
أ – هذا ما يتضح مما يرويه سفر أعمال الرسل عن نزول الروح القدس على التلاميذ يوم العنصرة. فالروح الواحد الذي حلّ عليهم يومذاك توزع على كل واحد منهم بشكل لسان ناريّ استقر عليه بمفرده، وكأنه بذلك يميزه عن سواه، يجعل منه نغمة فريدة في سيمفونية الوحدة، نغمة تستمد من اندماجها بالسيمفونية ملء قيمتها، إنما السيمفونية لا غنى لها عن دورها الفريد:
“… وظهرت لهم ألسنة من نار قد انقسمت فوقف على كل منهم لسان، فامتلأوا من الروح القدس… “
(أعمال 2: 3 و4)
ب – لذا يعلّم الرسول بولس أننا كلنا إنما نؤلف جسد المسيح الواحد، أي أننا به، وباتحادنا به، نصبح إنسانية واحدة؛ ولكن الجسد فيه أعضاء متنوعة لكل منها دوره الفريد ولكل منها بالتالي كرامته، كذلك فالمواهب المختلفة التي يتلقاها كل واحد من الروح القدس تعطيه موقعاً فريداً في شركة المؤمنين الذين يجمعهم الروح الواحد وتربط المحبة فيما بينهم:
“… فكما أن لنا أعضاء كثيرة في جسد واحد، وليس لجميع هذه الأعضاء عمل واحد، فكذلك نحن في كثرتنا جسد واحد في المسيح لأننا أعضاء بعضنا لبعض. ولنا مواهب تختلف باختلاف ما أوتينا من النعمة: فمن أوتي النبوءة لينبئ وفقاً للإيمان، ومن أعطى فليعطِ بتجرد، ومن يرئس فليرئس باجتهاد، ومن يرحم فليرحم ببشاشة، ولتكن المحبة صادقة”.
(رومية 12: 4-9)
“وكما أن الجسد واحد وله أعضاء كثيرة وأن أعضاء الجسد كلها على كثرتها ليست إلا جسداً واحداً، فكذلك المسيح. إنا قبلنا المعمودية جميعاً في روح واحد لنكون جسداً واحداَ، أيهوداً كنا أم يونانيين، عبيداً أم أحراراً، وإنَّا ارتوينا من روح واحد.
فليس الجسد عضواً واحداً، بل جملة أعضاء. فلو قالت الرجل: “لست يداً فما أنا من الجسد”، أتراها لا تُعدّ من الجسد؟ ولو قالت الأذن: “لست عيناً فما أنا من الجسد” أتراها لا تعدّ من الجسد؟ فلو كان الجسد كله عيناً فأين السمع؟ ولو كان كله أذناً فأين الشمّ؟
ولكن الله جعل في الجسد كلاً من الأعضاء كما شاء. فلو كانت كلها عضواً واحداً فأين الجسد؟ ولكن الأعضاء كثيرة والجسد واحد (…)
(…) فإن تألم عضو تألمت معه سائر الأعضاء، وإذا أكرم عضو سُرّت معه سائر الأعضاء.
فأنتم جسد المسيح وكل واحد منكم عضو منه…”
(1 كورنثوس 12: 12-27)
الكنيسة هي إذاً المجال المميّز الذي تتحقق فيه وحدة الإنسانية التي أتى المسيح ليقيمها بحياته وصليبه وقيامته.وحدة الكنيسة أي جماعة المؤمنين إنما هي على صورة وحدة الثالوث، ليس بمعنى التشبيه وحسب، بل لأن الثالوث حاضر في تلك الجماعة حضوره في إنسانية يسوع التي تكوّن تلك الجماعة امتداداً لها، ويبث حياته ووحدته فيها فيرسم فيها ويحقق صورته. لذا فإننا في القداس نسمع الكاهن يدعونا قائلاً:
“لنحبّ بعضنا لبعض، لكي بعزم متفق نعترف مقرين … بآب وابن وروح قدس ثالوث متساو في الجوهر وغير منفصل”
أي أننا، بمحبتنا بعضنا لبعض، نختبر الوحدة الثالوثية التي هي وحدة في تمايز ونصبح أيقونة لها ويسعنا بالتالي أن نعترف بالثالوث الواحد انطلاقاً مما اختبرناه منه في حياتنا. وحدة الكنيسة هذه تغتذي وتتجدد باستمرار في الاجتماع الشكريّ (الافخارستي) حيث نجدد اتحادنا بالمسيح عبر تناولنا جسده ودمه وبالتالي نجدد اتحادنا بعضنا مع بعض فيه:
“أليس الخبز الذي نكسره مشاركة في جسد المسيح؟ فنحن جسد واحد لأنّه ليس هناك إلا خبز واحد، ونحن على كثرتنا جسد واحد لأننا نشترك في هذا الخبز الواحد”.
(1 كورنثوس 10: 16-17)
وحدة الكنيسة إنما هي علامة وخميرة لوحدة الإنسانية الشاملة التي جاء المسيح يقيمها. المسيح يوحّد البشرية عبر كنيسته التي تحمل إلى العالم حضوره المحيي. إن عمله القياميّ الذي يعيد تكوين البشرية من جديد لا ينحصر ضمن حدود الكنيسة المنظورة بل يتعدى هذه الحدود. ولكن الكنيسة المنظورة تبقى مكاناً مميزاً لحضوره ولعمله التوحيدي في الكون. وقد قال الرب في صلاته الأخيرة إن وحدة الكنيسة إنما هي شهادة للعالم أجمع على العمل الخلاصي الذي أتمّه ودعوة للعالم إلى الإيمان به محققاً لتوقه إلى النجاة من التمزق والدخول في سلام الوحدة وغناها:
“… فيكونوا فينا واحداً ليؤمن العالم بأنك أنت الذي أرسلتني”.
(يوحنا 17: 21)
من هنا أن انقسام المسيحيين الراهن هو على نقيض الشهادة التي يُفرض فيهم أن يؤدّوها أمام العالم، وهو عثرة في سبيل اهتداء الناس إلى المسيح والى الوحدة التي أتى المسيح ليقيمها بينهم. هذا ما وعاه ويعيه مسيحيون كثر، بمرارة وتوبة، وهذا ما كان ولا يزال دافعاً للعمل المسكوني الذي يسعى إلى التقارب بين المسيحيين ويبتغي في آخر المطاف الوحدة التامة فيما بينهم، “من أجل حياة العالم”.
خامسا:كيف نجسّد الوحدة التي يعطينا إياها المسيح
الوحدة البشرية طاقة زرعها المسيح فينا بالمعمودية ولا يزال يغذيها فينا عبر الصلاة وتأمل الكلمة والافخارستيا. إنما ينبغي أن نترجم هذه الطاقة إلى مواقف وأعمال كي تفعل فينا وتثمر، ومن هذه المواقف والأعمال:
1 – أن نجتهد بأن نحيا الوحدة في كل خلية من الخلايا الكنسية التي ننتمي إليها (أبرشية، رعية، فرقة، فريق صلاة أو فريق نشاط…)، مما يعني أن نسعى إلى التفاهم والتعاطف والتعاون إلى أبعد حدّ، متمسكين مع ذلك بفرادتنا ومتجرئين على التعبير عنها لا بقصد التفرد وحب الظهور بل بقصد إغناء المجموعة بما أعطينا أن نتميز به من أفكار وخبرات ومواهب. على أن نحرص الحرص نفسه، بالمقابل، على أن نبرز فرادة الآخرين ونأخذها بعين الاعتبار ونصغي إليها بانفتاح الذهن والقلب ونشجعها على التعبير عن ذاتها ونتحاشى بحرص شديد كل ما من شأنه أن يطمسها أو يرغمها على التواري، من تسلط واستخفاف وسخرية وتجاهل.
وهنا لا بدّ من التشديد على أهمية ممارسة الشورى فيما بيننا، تلك الشورى التي لا بدّ منها لإحقاق الوحدة الحقة التي لا تلغي الفرادات والاختلافات بل تتعهدها بالتفاعل المنفتح الصبور. إن الشورى تقتضي أن يؤخذ رأي كل أخ على محمل الجدّ حتى لو لم يكن هذا الأخ في موقع السلطة أو صف الأكثرية. تلك الشورى تدعو إليها اليوم أصوات عديدة وجليلة في كنيستنا الأرثوذكسية تطالب بإشراك المؤمنين جميعاً في كل أبرشية ورعية في تحضير مواضيع المجمع الأرثوذكسي الكبير المرتقب. ومن هذه الأصوات صوت المتروبوليت ميليتون مطران خلقيدونيا ورئيس المؤتمر الأرثوذكسي الثالث لتحضير المجمع الأرثوذكسي الكبير، وقد خاطب جمهور المؤمنين المحتشدين سنة 1982 في كاتدرائية الرسول بولس في مركز البطريركية المسكونية في شامبيزي (سويسرا) قائلا” لهم:
لقد حققنا هذا الاكتشاف الهام بأنكم أنتم أيضا موجودون (…) أنتم كلكم عمدناكم باسم الآب والابن والروح القدس في بيت عماد الإيمان الأرثوذكسي. (…) علينا أن نستغفر منكم (…) علينا أيضاً أن نباشر الحوار معكم (…) في كل رعية، في كل كنيسة مستقلة. حوار يمتد من الجذور إلى القمة”[3].
2 – أن نسعى إلى ترجمة الوحدة التي ننالها من سر الافخارستيا بحيث تمتد من علاقاتنا ضمن المؤسسة الكنسية ومتفرعاتها إلى واقع الحياة اليومية وعلاقاتها. فلا يجوز لنا أن ندّعي المشاركة معاً في الجسد والدم الإلهيين وأن نكون في الحياة اليومية غرباء عن بعضنا البعض، غير مكترثين بهموم الآخرين وآلامهم، مستأثرين دونهم بما أعطيناه من خيرات مادية ومن طاقات معنوية، مترفعين عليهم ومستعلين. لقد وبخ الرسول بولس بشدة مسيحيي كورنثوس لأنهم، في العشاء المشترك الذي كان يسبق عندهم العشاء الافخارستي، كان يتفرد كل منهم بأكل طعامه الخاص فيجوع الفقراء ويُتخم الأغنياء. وقد نبههم الرسول إلى أنهم، بتصرفهم هذا، يفرغون عشاء الرب من مضمونه الحقيقي وانهم يجرمون إلى جسد الرب الذي يتناولونه بتمزيقهم وحدة جسده الكنسي (راجع 1 كورنثوس 11: 17-34). هذا ما ينبغي أن يكون درساً بليغاً لنا وأن يدفعنا إلى السعي لتوطيد أواصر المشاركة بيننا في الحياة اليومية نحن الذين نساهم معاً في مائدة الرب وفي تأمل كلمته وفي مناجاته معاً بالصلاة وفي نشر تعاليمه بين الأطفال والأحداث، أي أن نحيا الوحدة بيننا في واقع الحياة اليومية نحن الذين نسعى إليها في الاجتماع الليتورجي والنشاطات الروحية ونبشر بها الآخرين.
ولنا عبرة أخرى في ذلك من كيفية تعامل المسيحيين الأولين مع العبودية. فقد كانت هذه أساساً من أسس الحضارة اليونانية الرومانية القديمة بحيث أن إلغاءها كان يفترض انقلاباً جذرياً في ذهنية ذلك المجتمع وفي هيكليته. ولم يكن قد حان الأوان بعد لمثل هذا الانقلاب. ومن هنا أن المسيحيين لم يتصدوا مباشرة لمؤسسة العبودية مع أنهم أعلنوا بطلانها من الأساس (“لا عبد ولا حرّ…”)، بل تركوا خميرة الإنجيل تفعل شيئاً فشيئاً في التاريخ فتؤدي، عندما توفرت الظروف المؤاتية، إلى إلغاء العبودية بعد حين. ولكنهم، مع سكوتهم عن المؤسسة، نسفوها من الداخل لأنهم تعاملوا في ظلها بروح أخوية كانت بالحقيقة تنكراً فعلياً لها ورفضاً صميماً لما تعنيه من هوة قائمة بين الإنسان وأخيه. هذا ما نرى شاهداً له في رسالة بولس إلى تلميذه فيليمون. كان فيليمون هذا مسيحياً من مدينة كولسي تنصّر على يد الرسول. وكان له عبد يدعى أونسيموس (أي “مفيد”) فرّ من بيته وقصد روما حيث التقى بولس، الأسير هناك من أجل الإنجيل، وتنصّر بدوره على يده. وقد عاد أونسيموس إلى سيده حاملاً رسالة من بولس يدعو فيها فيليمون إلى استقبال عبده العائد والتعامل معه لا كما تقتضيه العلاقة الاجتماعية بينهما، وهي علاقة السيد بالعبد، بل باعتباره أخاً له حبيباً. ومما يقوله الرسول:
“أردّه إليك، وهو بمثابة قلبي (…) ولعله لم يبتعد عنك حيناً إلا ليعود إليك للأبد، لا ليكون عبداً بعد اليوم، بل أفضل من عبد، أي أخاً حبيباً، وهو أخ حبيب إلى قلبي، فما أحراك أن تعدّه كذلك، سواء من حيث الصلة البشرية أو من حيث الصلة في الربّ”.
(فيليمون 12 و15 -16)
3 – أن لا ننسى بأن الكنيسة إنما هي خميرة وحدة في الكون، فنتجند لنكون رسل وحدة في المحيط الذي نحيا فيه. فنسعى إلى زرع التفاهم والوئام والتعاون في بيئة العمل التي نتواجد فيها (صف، مكتب، ورشة…)؛ ونجاهد في سبيل وحدة البلد الذي ننتمي إليه، فنتصدى بالقول والفعل للفردانية والمحسوبية والطائفية التي ضعضعته وأضعفته وشرذمته وأوصلته إلى ما يعاني منه حالياً من تمزق وتفتت؛ ونناضل من أجل إحلال بنى اجتماعية وسياسية واقتصادية تكرس العدالة وتكافؤ الفرص.